الباحث القرآني
طالب:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران ١١٨ - ١٢٠]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾، ذكرنا نفي الظلم عن الله وذلك لكمال عدله.
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ يمر علينا مرارًا كثيرًا أن الخطاب بمثل هذا:
أولًا: تصديره بالنداء يدل على أهميته والتنبه له.
ثانيًا: توجيهه إلى المؤمنين له ثلاث فوائد:
أولًا: الإغراء على الامتثال، كأنه يقول: إن كنت مؤمنًا فافعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنًا فلا تفعل كذا وكذا، إن كنت مؤمنًا فصدق بالخبر، ففي توجيهه إلى المؤمنين إغراء بماذا؟ بالامتثال.
ثانيًا: أن امتثاله من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يخاطب الشخص بوصف ثم يُوجَّه إليه حكم متعلق بهذا الوصف إلا كان ذلك دليلًا على أن امتثال هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يصح أن توجه لفاسق كلمة تتعلق بالمؤمن.
الفائدة الثالثة: أن الإخلال به نقص في الإيمان، إذا وجه الله الخطاب إلى المؤمنين فهذا دليل على أن الإخلال به نقص في الإيمان.
ثم إنه لا بد أن يكون هناك فائدة عظيمة إذا وجه الله الخطاب للمؤمنين؛ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:« إذا سمعتَ الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ -يعني استمع لها- فإمَّا خيرٌ تُؤمَر به وإما شَرٌّ تُنْهَى عنه»[[أخرجه ابن المبارك في الزهد (٣٦)، وسعيد بن منصور في السنن (٥٠) من حديث عبد الله بن مسعود.]].
الفائدة الثالثة: أن الإخلال به نقص في الإيمان، إذا وجه الله الخطاب إلى المؤمنين فهذا دليل على أن الإخلال به نقص في الإيمان.
* ثم إنه لا بد أن يكون هناك فائدة عظيمة: إذا وجه الله الخطاب للمؤمنين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله يقول:» ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ «فأرعِها سمعك -يعني استمع لها- فإما خير تؤمر به، وإما شر تُنهى عنه» »[[أخرجه سعيد بن منصور في التفسير (٥٠) من حديث ابن مسعود.]].
في هذه الآية يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾ [آل عمران ١١٨] هذا نهي؛ (لا) ناهية، ولهذا جزمت الفعل فقال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾.
والمراد بالبطانة: القوم المقرَّبون إلى الشخص؛ مأخوذ من بطانة الثوب لأنها أقرب إلى البدن أو إلى الجسد من ظهارته، فالثوب له بطانة وله ظهارة، البطانة أقرب، فالمعنى: لا تتخذوا قومًا مقربين إليكم تُفضون إليهم بالأسرار وتخبرونهم بالأحوال وبما تريدون أن تقوموا به.
وقوله: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: من غيركم، كما في قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [يس ٧٤] أي: من غيره. والمعنى: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ أي: من غيركم، بأي شيء؟ بالدين أو بالهدف أو بماذا؟
نقول: المراد بذلك كل من يغايرك في أمر من الأمور، وهذا يختلف؛ قد يكون في الدين مثلًا، وقد يكون في الدنيا، فإذا كان الأمر يتعلق بالدين فحينئذ لا نتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، لا نتخذ المنافقين أولياء من دون المؤمنين لأنهم غيرنا، إذا كان يتعلق بتجارة فلا نتخذ أحدًا بطانة يخدعنا في تجارتنا؛ لأنه مغاير لنا في هذا الاتجاه، وهذه في الحقيقة قاعدة موجهة لكل مؤمن، وهي صالحة حتى للكافر، حتى للكافر مثلًا لا يتخذ بطانة من دونه -أي: من غيره- ممن يضره اتخاذه بطانة.
وقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ هذه أربع جمل ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ هذه واحدة، ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ كم؟
* الطلبة: اثنين.
* الشيخ: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾، ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾، هذه الجمل هل هي أوصاف لبطانة؛ يعني بطانة متصفة بهذه الصفات، أو هي جمل تعليلية للبطانة؛ أي: لا تتخذوا بطانة من دونكم فإنهم لا يألونكم خبالًا ويودون ما عنتم... إلى آخره؟
في هذا احتمالان: يحتمل أن هذه الجمل أوصاف، عرفتم؟ ويحتمل أنها جمل استئنافية معلِّلة، لبيان التعليل؛ يعني لا تتخذوا بطانة من دونكم لأنهم لا يألونكم خبالًا... إلى آخره، وعلى القول الأول يكون معنى الآية: لا تتخذوا بطانة من دونكم على هذا الوصف؛ أي بطانة من دونكم لا يألونكم خبالًا ودوا ما عنتم... إلى آخره، فإن قلنا بأن هذه الجمل أوصاف فإن قوله: ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ يعتبر وصفًا خامسًا؛ لأن ﴿مِنْ دُونِكُمْ﴾ الجار والمجرور صفة أيش؟ لبطانة، وعليه فيكون نهى الله أن نتخذ بطانةً مَن اتصفوا بهذه الصفات الخمس: أنهم من دوننا، أنهم لا يألوننا خبالًا، يودون ما عنتنا، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر.
نرجع الآن إلى الكلمات:
قوله: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ (أَلَا) بمعنى بذل الجهد؛ أي: لا يألون جهدًا في خبالكم؛ يعني أنهم يبذلون كل جهد في خبالكم، والخبال هو الفساد في الرأي والعقل، ولهذا يقول الناس للرجل الفاسد عقله ورأيه يقولون: إنه خِبْلٌ، فمعنى ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ يعني: لا يألون جهدًا في خبالكم، يبذلون كل جهد لفساد أموركم؛ لأنهم قوم ليسوا منكم، وهم بعيدون عنكم ﴿بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾.
وقولهم: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾ ﴿وَدُّوا﴾ الود: خالص المحبة؛ يعني أنهم يحبون بكل قلوبهم ما عنتم؛ أي الذي عنتم؛ أي: الذي شقَّ عليكم. ويحتمل أن تكون (ما) مصدرية؛ أي: ودوا عَنَتكم، والعَنَت: المشقة والشدة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة ٢٢٠] أي: ألحق بكم المشقة، وقال تعالى: ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾ [التوبة ١٢٨] أي: ما شق عليكم.
فالمعنى أن هؤلاء البطانة لا يألون جهدًا في فساد أمورنا، ويودون بكل قلوبهم العَنَت علينا والإشقاق والإتعاب، العنت الفكري والبدني والمالي، وكل شيء يمكن أن يلحقنا فيه مشقة فهؤلاء يودونه.
الوصف الثالث: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ ﴿بَدَتِ﴾ أي: ظهرت، و﴿مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ (من) لبيان محل البُدُوِّ، فهي ابتدائية؛ يعني: ظهرت من أفواههم، كأنما يريدون أن يكتموا هذه البغضاء ولكنها تبدو، لا بد أن تفهم من أقوالهم وإن كانوا لا يريدون هذا، ولهذا لم يقل: قد أبدوا البغضاء من أفواههم، بل قال: ﴿قَدْ بَدَتِ﴾، وهو دليل على أنها جاءت فلتة من أفواههم، وإلا فهم يتكتمون، يتكتمون في البغضاء من أجل أن يتوصلوا إلى مآربهم في اتخاذهم أيش؟
* الطلبة: بطانة.
* الشيخ: بطانة، لكن لا بد أن تبدو البغضاء من أفواههم.
﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أي: مما يبدو من أفواههم؛ يعني عندهم من البغضاء في القلوب أكثر بكثير مما تبديه الألسن، هؤلاء القوم المتصفون بهذه الصفات نهانا الله أن نتخذهم بطانة، والنهي عن اتخاذهم بطانة يستلزم إبعادهم عنك والحذر منهم وأن لا تركن إليهم.
ثم قال: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ أي: أظهرناها حتى صارت بيِّنة مثل فلق الصبح. و﴿الْآيَاتِ﴾: العلامات، وهل المراد العلامات التي وصف بها هؤلاء أو هي أعمّ فتشمل جميع ما بيَّن الله لنا؟ الأَوْلى أن نجعلها عامة؛ نقول بيَّن الله تعالى لنا العلامات الدالة على الحق وعلى الباطل في هذه المسألة وفي غيرها.
وقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ يدل على أنه سبحانه وتعالى له عناية خاصة في المؤمنين تبين لهم الآيات التي قد تخفى عليهم، بل هي خافية عليهم.
وقوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يعني أنه لا يظهر بياننا للآيات إلا لمن كان له عقل يعقل به نفسه وهواه، أما غير العاقل فإنه لا ينتفع؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس ٩٦، ٩٧]. ويحتمل أن الشرط: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ عائد على قوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ﴾، والمعنى على هذا التقدير: إن كنتم تعقلون فلا تتخذوا بطانة من دونكم. أما على الأول فيكون التقدير: إن كنتم تعقلون فقد بيَّنَّا لكم الآيات فاعقلوها. ومر علينا أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا يتنافيان فالأَوْلى أن تحمل عليهما؛ فيكون من العقل أن لا نتخذهم بطانة، ومن العقل أن نتبين ما بينه الله لنا من الآيات.
* * *
قال: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ [آل عمران ١١٩] في قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ قراءتان؛ المد: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾، والقصر: ﴿هَأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ ، وكلاهما قراءتان سبعيتان، ينبغي للقارئ أن يقرأ بهذه مرة وبهذه مرة، يعني بهذه أحيانًا وبهذه أحيانًا، إلا أمام العامة، فأمام العامة لا ينبغي أن تقرأ إلا بقراءة المصحف الذي بين أيديهم؛ لأنك لو قرأت بقراءة غير قراءة المصحف الذي بأيديهم اتهموك بالخطأ أو شككوا في أيش؟
* الطلبة: في القرآن.
* الشيخ: في القرآن، شكوا في القرآن؛ كيف قرآن تغير آياته؟! وربما إن كانوا عامة دهماء ربما يضربونك، يقول: أنت غيرت كتاب الله؛ لأن العامة الدهماء مشكلة لا يميزون. إذن ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ قراءة، والثانية: ﴿هَأَنْتُمْ﴾ .
و﴿هَا أَنْتُمْ﴾ (ها) للتنبيه، قيل: إنها منقولة عن مكانها وإن الأصل: أنتم هؤلاء تحبونهم، وقيل: بل هي للتنبيه وإنها في مكانها؛ لأن التنبيه ينبغي أن يكون في أول الكلمات، فهي في مكانها.
وقوله: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ﴾ ﴿أُولَاءِ﴾ منادى، وأصله: يا هؤلاء.
﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ أي: تحبون هذه البطانة الذين لا يألونكم خبالًا، والذين ودُّوا ما عنتم، والذين قد بدت البغضاء من أفواههم، والذين ما تخفيه صدورهم أكبر، تحبونهم؛ وذلك لأن المؤمنين يغلب عليهم سلامة القلب وطهارته وعدم ظن السوء في غيرهم، وكان هؤلاء يتوددون إليهم ويدَّعون أنهم يصلونهم، فيحبهم المؤمنون، بناء على أي شيء؟ على تغريرهم بهم.
﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ يعني: وهم لا يحبونكم مع أنكم تحبونهم، وكيف يحبوننا وقد بدت البغضاء من أفواههم.
وقوله: ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ هذا معلوم لنا، لكن ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ هذا غير معلوم، لكن الله أعطانا له قرائن، وهي ما تبديه أيش؟ أفواههم، فإذا كانوا لا يحبونكم فكيف تحبونهم؟! الإنسان العاقل الحازم هو الذي يعامل من كانت هذه صفته بمثل ما كان عليه.
﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ الكتاب هنا اسم جنس يشمل جميع الكتب، ﴿تُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ﴾ القرآن، ﴿بِالْكِتَابِ﴾ التوراة، ﴿بِالْكِتَابِ﴾ الإنجيل، ﴿بِالْكِتَابِ﴾ الزبور، ﴿بِالْكِتَابِ﴾ صحف إبراهيم، تؤمنون بهذا كله، وهم لا يؤمنون بذلك.
طيب، من هؤلاء؟ يصدق هذا على اليهود والنصارى والمنافقين، كلهم لنا بهذا الوصف، لكن اليهود يدَّعون أنهم مؤمنون بالتوراة، والنصارى يدَّعون أنهم مؤمنون بالإنجيل، والمنافقون لا يؤمنون بشيء.
﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا﴾ نفاقًا ومداهنة؛ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ولهذا قال: ﴿وَإِذَا خَلَوْا﴾ يعني وحدهم أو إلى شياطينهم ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ أي: من شدة الغيظ، لكن من شدة الغيظ لما يرون من نعمة الله عليكم، أو من شدة الغيظ لعدم اتباعكم لهم، أو من الأمرين جميعا، بل ربما نقول: يشمل أيضا ما ادعوه في أنهم أمضوا مع المسلمين وقتًا ولم يتمكنوا من نيل مآربهم.
وقوله: ﴿عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ﴾ الأنامل هي أطراف الأصابع، وعضُّها يعبر به عن شدة الندم والحزن، ويعبر به عن شدة الغيظ؛ أحيانًا الذي يتوعدك تجده يعض أنامله ويومي برأسه ويقول: عسى أدركك، عسى أدركك. عشان يتوعدك، نقول: هذا عض أنامله من الغيظ. والثاني انكسرت سيارته فعض أنملته، هذا من شدة الندم، لكن هنا بيَّن الله عز وجل أنهم يعضون الأنامل من شدة الغيظ، يتمنى أن تكون أنت الذي بين أسنانه حتى يقضمك.
﴿وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ الأنامل التي تُعض هل هي طرف الأصابع ولَّا وسط الأصابع؟
* طلبة: وسط الأصابع.
* طلبة آخرون: أطراف الأصابع.
* الشيخ: يعني الأعلى؟ على كل حال الظاهر أنها تختلف بحسب أعراف الناس؛ أحد يعض الأعلى، وبعض الناس يعض الوسط.
* طالب: لأن الأوسط يستحمل.
* الشيخ: وهو عندكم؟
* طالب: رؤوس الأصابع.
* الشيخ: رؤوس الأصابع، إي نعم، أظن عندنا الأوسط.
* طالب: الأوسط يا شيخ يستحمل عن الأعلى.
* الشيخ: لا دعنا مِن يستحمل أو ما يستحمل، هذه عادة، ما هي تُعلَّل العادات، إنما هم بعض الناس يعض وسط الأصبع وبعضهم يعض الطرف، المهم هي كلها تنبئ عن شدة، إما شدة الحزن وإما شدة الغيظ.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ ﴿قُلْ﴾ الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام، أو لمن يتأتى خطابه، وهو الأقرب؛ لأنه كان يخاطب المؤمنين بالأول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾؛ يعني: فقل أيها المؤمن لهؤلاء: ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾، هذا الأمر للإهانة وبيان عدم المبالاة بهم.
و﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ الباء قيل: إنها للغاية والمصاحبة؛ يعني: ابقوا على غيظكم إلى أن تموتوا، وقيل: إنها للسببية؛ أي: موتوا بسبب غيظكم فإنه لا يهمنا، والثاني أقرب، فالأول: دعاء عليهم ببقاء الغيظ إلى الموت، والثاني: دعاء عليهم بتعجيل الموت بسبب الغيظ، فيكون هذا أقرب للصواب وأشد في التحدي والبعد عنهم.
﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ الجملة استئنافية يبين الله تعالى فيها أنه عليم بذات الصدور؛ أي: بصاحبة الصدور، وهي القلوب؛ لأن القلوب هي محل العقل والإدراك والتدبير للجسد، وإنما قلنا: إن ذات الصدور هي القلوب؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦]، والقلب هو محل العقل ومحل التدبير، ولهذا قال النبي ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير.]] وهي محل النية والإرادة؛ لأن النبي ﷺ قال: «إنما الأعمال بالنيات» »[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١)، ومسلم (١٩٠٧ / ١٥٥) من حديث عمر بن الخطاب، واللفظ للبخاري.]].
طيب، إذن ﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أي: بالقلوب، بصاحبة الصدور، هذا تفسير لفظي، والمراد القلوب.
* * *
ثم قال: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ [آل عمران ١٢٠] ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ الخطاب لمن؟ للمؤمنين، وهنا أتى بصيغة الجمع، وأتى بصيغة المفرد في قوله: ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾، وسبق أن جاء بصيغة الجمع، وهذا من التفنن في الخطاب، ومن فوائده الانتباه، الانتباه أن الإنسان إذا اختلف الأسلوب عنده انتبه، وليس كما إذا كان الأسلوب على وتيرة واحدة.
﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ﴾ حسنة، أيُّما حسنة؟ دينية أو دنيوية، بدنية أو مالية أو أهلية؟
* الطلبة: شاملة.
* الشيخ: شاملة، ووجه الشمول أن ﴿حَسَنَةٌ﴾ نكرة، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فأي حسنة تصيب المؤمنين فإنها تسوءُهم لأنهم أعداء، سواء كانت هذه الحسنة في المال أو البدن أو الأهل أو النصرة أو أي حسنة كانت، فإن هؤلاء تسوءُهم الحسنة إذا مسَّتكم.
وقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ السيئة هنا ما يسوءُكم؛ يعني: إن أصابكم ما يسوءُكم في البدن أو الأهل أو المال أو الدين ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ يعني: يلحقهم الفرح بسببها.
وهنا يقول: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ في الحسنة، و﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ﴾ في السيئة، فهل هذا من باب اختلاف التعبير أو هناك فرق معنوي؟
قال بعض العلماء: إن هذا من باب اختلاف التعبير، وإن معنى قوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ أي: إن تصبكم حسنة، قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ [النساء ٧٩].
وقال بعض العلماء: بل بينهما فرق؛ لأن المسَّ أخف من الإصابة، المسُّ أخف من الإصابة، وبناء على ذلك أنهم يُساؤون من الحسنة وإن كانت قليلة جدًّا، ويفرحون بالسيئة إذا أصابت وأوجعت.
وهذا الفرق بالنسبة لقوله: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ وجيه، لكن بالنسبة لقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ لو قلنا بهذا الفرق لكان فرحهم بالسيئة لا يكون إلا إذا كانت؟
* طالب: شديدة.
* الشيخ: شديدة، وهذا فيما يظهر خلاف حالهم، وبناء على ذلك يترجح القول بأن مسَّ وأصاب بمعنى؟
* طالب: واحد.
* الشيخ: بمعنى واحد، لكن اختلف التعبير لفائدة، وهي التنبيه؛ لأنه إذا اختلف الأسلوب فلا بد أن يحدث للإنسان المخاطب انتباه، بخلاف ما إذا كان على وتيرة واحدة.
وقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ هل يدخل في ذلك هزيمتهم في الجهاد؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، يدخل، ويدل لهذا قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء ٧٢، ٧٣].
وقوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ إن تصبروا على ما ينالكم منهم وتتقوا فيما تعاملونهم به؛ لأن الإنسان مطلوب بالنسبة لهؤلاء الكفار، مطلوب بأمرين؛ الأول: الصبر على ما فعلوا، والثاني: أن يتقي الله فيما يفعل بهم.
﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ ﴿كَيْدُهُمْ﴾ الكيد هو المكر، والمكر هو التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم. فخرج بقولنا: التوصل بالأسباب الخفية ما إذا توصل بأمر معلوم للإيقاع بخصمه، فإن هذا لا يُسمَّى مكرًا؛ مثل أن يأتيه على وجه صريح فيقتله، لكن إذا أتاه على وجه خفي فقتله نقول: هذا مكرٌ وكيدٌ.
وقوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النفي، فتشمل أي شيء يكون، فالكفار إذا عاملناهم بالصبر والتقوى فلن يضرونا شيئًا.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾.
* طالب: نرى في المؤمنين أن منهم رعاع وغثاء، هل جميع أهل الكتاب الذين يحذرنا الله سبحانه وتعالى منهم على هذه الدرجة، وأن من المؤمنين منهم يبحثون عن ملذاتهم وشهواتهم فقط، ولا يدافعون عن دين الله ولا ينصرون..
* الشيخ: هذه على كل حال تأتي بالفوائد.
* طالب: أحسن الله إليك يا شيخ كيف يكون الكفار يأخذون بطانة منهم وهم كفار؟ يعني أي بطانة فهي كافرة.
* الشيخ: كيف؟
* طالب: يعني كل ملتهم واحدة.
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: فقلنا إن المفروض لو كانت خائنة الفرقة الثانية فينبغي لا يأخذوها بطانة، الكفار ملة واحدة، كيف؟
* الشيخ: إي، لكنهم قد يخون بعضهم بعضًا لمصالحهم الدنيوية؛ ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ﴾ [البقرة ١١٣].
* طالب: أحسن الله إليك، إذا الإنسان، إذا الرجل عض على الأنامل من الغيظ هل يعتبر من التشبه؟
* الشيخ: لا لا، ما هو من التشبه؛ لأن هذا شيء طبيعي.
* الطالب: ذكره من صفات المنافقين.
* الشيخ: لا، ذكره لأنهم يعضون أناملهم عليهم، كونه على المؤمن هذا نعم تشبُّه.
* الطالب: لكن الفعل ما هو تشبه.
* الشيخ: لا لا، فعل مجرد ما هو.
* طالب: كيف يُفرق بين (آلَى) التي بمعنى اليمين والتي بمعنى التقصير؟
* الشيخ: اللي بمعنى التقصير (أَلَا) ما هي (آلَى)، اللي بمعنى يمين (آلَى).
* طالب: وفي الجمع؟
* الشيخ: الجمع؟ قل: المصدر، (أَلَا إِلًا) التي بمعنى التقصير، و(آلَى) مصدرها إيلاء.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، ذكرنا أن هذا يحتمل أن يكون اليهود أو النصارى أو المنافقون، أحسن الله إليك، هؤلاء ما يجوز أن نحبهم على كل حال سواء أحبونا أم أبغضونا..
* الشيخ: نعم، هذه تأتي في الفوائد.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، قال: ﴿وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ﴾ [آل عمران ١١٩] ولم يقل: ولا يؤمنون بالكتاب كله، مع أنه قال: ﴿تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ [آل عمران ١١٩] ؟
* الشيخ: إي، لأنهم ربما يؤمنون ببعض كتابهم.
* الطالب: طيب الإيمان –شيخنا- ما يتجزأ؛ لأن الذي آمن ببعض الكتاب لا يوصف بالإيمان.
* الشيخ: لا، قصدي ببعض الكتب، يعني الكتاب اسم جنس.
* الطالب: حتى ولو أمن به.
* الشيخ: وحتى أيضا المنافقون يؤمنون بالكتاب إذا كان في مصلحتهم.
* الطالب: بس ما يسمى إيمان حقيقة.
* الشيخ: نعم، لكن يقال إنه مؤمن به؛ ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور ٤٩].
* الطالب: أحسن الله إليك، لو آمن بالتوراة (...) آمن بالقرآن وكذب بالتوراة..؟
* الشيخ: هو الحقيقة أن من كفر بمحمد ﷺ بعد بعثته فهو كافر حتى بالتوراة، هذا هو الحقيقة، حتى بالإنجيل.
* طالب: أقول يا شيخ: (...) ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ﴾ فمثلا الآن المنافقين في هذا العصر كأن الله عز وجل يشير بهذه الآية يعني نبتعد عن هذا الـ..
* الشيخ: هذا يأتينا في الفوائد إن شاء الله (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: هم متلازمات، لكن هل المراد: إن كنتم تعقلون هذه الآيات التي بيناها، أو: إن كنتم تعقلون فلا تتخذوهم بطانة، فيكون من أسباب انتفاء العقل اتخاذهم بطانة رأسًا ما هو باللازم، وفرق بين دلالة اللازم ودلالة التضمن.
* * *
* طالب: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران ١٢٢، ١٢٣].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾
هذه الآية تكلمنا على أولها وقلنا: إن هؤلاء الذين من دون المؤمنين والذين اتخذوهم بطانة إذا مسَّت المسلمين حسنة أساءتهم، والمراد بالحسنة هنا حسنة الدنيا من الرزق والعافية والغنائم وغيرها، وكذلك النصر على الأعداء، وإذا أصابهم سيئة -أي: ما يسوءُهم من خذلان أو فقد مال أو جوائح أو غير ذلك- فإنهم يُسَرون بها.
يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ تصبروا على ما ينالكم منهم، ومعلوم أن الصابر ينتظر الفرج لأنه سيصبر على ما ناله من الأذى في هذا الوقت المعين، ولكنه ينتظر الفرج.
﴿وَتَتَّقُوا﴾ بأن تلتزموا تقوى الله عز وجل في معاملة هؤلاء وفي غيرها.
﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ يعني: وإن آذوكم فإنه لا يضركم. والكيد سبق لنا أنه التوصل إلى الإيقاع بالخصم بالأسباب الخفية، وهو بمعنى المكر وبمعنى الخداع، وهو ثابت لله عز وجل، يعني أن الله يوصف بالمكر والخداع والكيد في مواطنها، بخلاف الخيانة فإن الله لا يوصف بها لأنها صفة ذم بكل حال.
يقول: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾ قراءتان؛ إحداهما: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ﴾، والثانية: ﴿لَا يَضِرْكُمْ﴾ ؛ من الضَيْر، والضَيْر بمعنى الضرر وبمعنى الضيم، فهو ضرر بضيم، ومنه ما جاء في حديث رؤية الله سبحانه وتعالى «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تَضَارُّونَ» و«لَا تُضَارُونَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٥٨١)، ومسلم (١٨٣ / ٣٠٢) من حديث أبي سعيد الخدري.]] أي: لا يلحقكم ضير. هنا يقول: ﴿لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ﴾، وقراءة: ﴿لَا يَضِرْكُمْ﴾ ، فتكون القراءتان كل واحدة منهما أفادت معنى غير الأخرى؛ لأن مطلق الضرر دون مطلق الضير، فالضير أشد، فهم لا يلحقوننا بضرر ولا بضير.
وقوله: ﴿شَيْئًا﴾ نكرة في سياق النفي فتكون عامة؛ يعني: أي شيء يكون، ولكن هل يلحقهم من ذلك أذى؟
الجواب نعم؛ لقوله تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران ١٨٦] ولكن لا يلزم من الأذى الضرر، ولهذا قال الله في الحديث القدسي: « يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي »[[أخرجه مسلم (٢٥٧٧ / ٥٥) من حديث أبي ذر.]]، وأثبت أن بني آدم يؤذونه فقال: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٨٢٦)، ومسلم (٢٢٤٦ / ٢) من حديث أبي هريرة.]]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ [الأحزاب ٥٧].
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ الإحاطة هنا إحاطة العلم والقدرة والسلطان، فهو محيط بهم كإحاطة السور بمن في داخله؛ أي: لا يتمكن أن يفروا من قضاء الله عز وجل وعلمه وسلطانه وقدرته.
وقوله: ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ (ما) هذه موصولة فتفيد العموم، ومر علينا في النحو أنه لا بد لكل اسم موصول من عائد يعود عليه حتى يتبين أن الجملة التي بعده صلة له؛ لأنه لا يمكن أن نعرف أن الجملة لها صلة بما قبلها إلا برابط أو عائد، في باب المبتدأ يسمونه رابطًا، وفي باب الموصول يسمونه عائدًا، فأين العائد في قوله: ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾؟
* الطلبة: محذوف.
* الشيخ: العائد محذوف؛ أي: بما يعملونه محيط.
* * *
ثم قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [آل عمران ١٢١] من هنا إلى قريب آخر السورة كله في غزوة أُحُد وما يتعلق بها؛ فقوله: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ﴾ ﴿إِذْ﴾ هذه ظرف، وعاملها محذوف تقديره: اذكر إذ غدوت. و﴿غَدَوْتَ﴾ بمعنى خرجت غُدوةً؛ أي: في أول النهار كما كان الأمر كذلك؛ فإن النبي ﷺ خرج إلى غزوة أُحُد في أول يوم السبت الموافق للحادي عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، في هذا اليوم غدا النبي ﷺ من أهله.
وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِكَ﴾ (مِن) ابتدائية؛ يعني أن مبتدأ هذه الغدوة من أهله من المدينة، خرج النبي عليه الصلاة والسلام غاديًا إلى أُحُد بعد أن استشار الصحابة رضي الله عنهم هل يخرج أو لا.
وسبب هذه الغزوة أن قريشًا لما قُتِل من صناديدهم من قُتِل في بدر -وقد مر علينا في قراءة صلاة العصر أن الذين قُتِلوا منهم سبعون رجلًا من كبرائهم، وأُسِر منهم سبعون رجلًا- أرادوا أن يأخذوا بالثأر من النبي ﷺ، فخرجوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يريدون قتاله، وكانوا ثلاثة آلاف معهم العدة الكثيرة، يريدون غزو النبي ﷺ ليقضوا عليه، فعسكروا حول المدينة. فلما بلغ ذلك النبي ﷺ استشار الصحابة هل يخرجوا إليهم أو لا، أما شباب الصحابة الذين لم يحضروا بدرًا فأشاروا على النبي ﷺ أن يخرج وقالوا: نخرج نقاتلهم، وأما بعض الصحابة فسكت، وأما المنافقون فقالوا: لا نخرج، لا نخرج إليهم، بل ندعهم، فإن بقوا بقوا على شر حال، وإن ملُّوا رجعوا إلى مكة، وإن دخلوا المدينة قاتلناهم؛ نقاتلهم نحن بالسيوف ويقاتلهم النساء والصبيان بالحجارة ومن على السطوح. هكذا قال المنافقون؛ لا نُصحًا لله ورسوله، ولكن جبنًا وخورًا وخداعًا وغشًا. فدخل النبي عليه الصلاة والسلام بيته ولبس لأمة الحرب وتهيأ عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الصحابة: لعلنا استكرهنا رسول الله ﷺ على الخروج، يعني ندموا قالوا: ليتنا لم نتكلم بهذا. فلما خرج وقد لبس لأمة الحرب -يعني ما يوضع على الرأس- وتهيأ قالوا: يا رسول الله، إن شئت أن لا نخرج فعلنا. فقال: «مَا كَانَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ لَبِسَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ»[[أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١١٤٢) بنحوه.]] فمضى. خرج من المدينة ومعه ألف مقاتل، ففي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أُبيٍّ رأس المنافقين بنحو ثلث الجيش وقالوا: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾، قال الله تعالى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [آل عمران ١٦٧]، فانخزلوا، ولكن الصحابة رضي الله عنهم لثباتهم وإيمانهم لم يضرهم ذلك شيئًا، استمروا حتى نزلوا أُحُدًا، ولما نزلوا عبّأهم النبي عليه الصلاة والسلام أحسن تعبئة ورتبهم، واختار منهم خمسين رجلًا من الرماة وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ». جعلهم في سفح الجبل على شعبة منه، قال: «لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ لَنَا أَمْ عَلَيْنَا»[[أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١١٤٢) بنحوه.]]. فبقوا يحمون ظهور المسلمين. فحصل القتال في أول النهار وكانت الدائرة على المشركين، فولوا الأدبار، فجعل المسلمون يجمعون الغنائم، فلما رأى أهل الجبل حال المسلمين وأن المشركين قد ولوا الأدبار وصار المسلمون يجمعون الغنائم قالوا: ننزل لنساعد إخواننا في جمع الغنائم، انتهى الحرب، فذكَّرهم أميرهم قول النبي ﷺ: «لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ سَوَاءٌ كَانَتْ لَنَا أَمْ عَلَيْنَا»[[أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (١١٤٢) بنحوه. ]]، ولكنهم أصروا إلا أن ينزلوا، فنزلوا، فلما رأى فرسان قريش أن الثغر خالٍ وليس هناك أحد يحمي المسلمين من ورائهم كرُّوا عليهم بخيولهم من خلفهم ودخلوا، وكان على رأسهم قائدان عظيمان وهما: خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل -رضي الله عنهم- قبل إسلامهم، فاختلط الناس بالمسلمين من ورائهم، وحصل ما قضى الله وأراد سبحانه وتعالى لحكمة عظيمة، وقُتِل من المسلمين سبعون رجلًا، وجُرِح النبي عليه الصلاة والسلام وكُسِرت رباعيته وشُجَّ وجهه، وحتى كانت ابنته فاطمة تأتي بالحصير تحرقه وتذُرُّ رماده على جرح النبي ﷺ، ولكن الدم يندفع. المهم أنه حصل من الابتلاء والامتحان ما الله سبحانه وتعالى قد قضاه وقدره لحكمة عظيمة، حتى يعلم الناس أن الله تعالى له الحكم وإليه المنتهى، وحتى يعلم الناس أنه لا نصر مع المعاصي أبدًا، هم عصوا النبي عليه الصلاة والسلام شرعًا، وفرَّطوا فيما يلزمهم قَدَرًا، عصوا الرسول شرعًا وفرَّطوا فيما يلزمهم قَدَرًا، كيف ذلك؟ عصوا النبي عليه الصلاة والسلام لأنه قال لهم: «لَا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ»، وتركوا ما يلزمهم قَدَرًا وهو حماية المسلمين من خلفهم؛ لأن هذا من الأسباب النافعة. وترك الأسباب النافعة سفه في العقل ونقص في الدين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بأن نأخذ بالأسباب، أعظمها التوكل على الله، لكن لا بد أن نفعل الأسباب الحسية المادية، فهم -رضي الله عنهم وعفا عنهم- حصل منهم ما حصل فصارت النكبة العظيمة، الشهداء رضي الله عنهم حملهم أهلوهم إلى المدينة ليدفنوهم في البقيع، ولكن النبي ﷺ أمر أن يُرَدُّوا إلى مصارعهم يُدفنوا هناك في أُحُد، ففعلوا. والحكمة من ذلك -والله أعلم- أن المقتول في سبيل الله يُبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك، ولا يُغَسَّل لئلا يزول هذا الدم من على جسدهم، ولا يكفَّن، وإنما يُدفن في ثيابه التي قُتِل فيها، كل هذا من أجل أن يتحقق خروجه يوم القيامة من المكان الذي صُرِع فيه وعلى الهيئة التي كان صُرِع عليها، المهم أن الله تعالى يذكِّر نبيه ﷺ هذه الغزوة العظيمة التي فيها من الأسرار والحِكَم ما يتبين به أن ذلك هو عين الصواب وعين الخيرة للمؤمنين.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد من الحِكَم في هذه الغزوة ما لا تجده في أي كتاب آخر، فعليك بمراجعته فإنه مفيد.
يقول: ﴿إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ ﴿تُبَوِّئُ﴾ الجملة هذه حالية؛ يعني: حال كونك تبوِّئ. ومعنى (تبوِّئ) أي: تُنْزِل، والتبوُّء معناه النزول؛ كما جاء في الحديث الصحيح: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[[أخرجه البخاري (١٢٩١)، ومسلم في المقدمة (٤ / ٤) من حديث المغيرة.]] أي: فليُنْزِل نفسَه في مقعد من النار، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ [الحشر ٩] أي: نزلوها.
قال: ﴿تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ مَن المؤمن؟
المؤمن هو المقر بما يجب الإيمان به مع القبول والإذعان، وبهذا شهادة من الله عز وجل أيما شهادة على أن هؤلاء الذين شهدوا هذه المعركة أيش؟ مؤمنون.
﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ الله أكبر! ﴿مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾، ويثبتون ويقعدون كثبوت القاعد، ولهذا قال: ﴿مَقَاعِدَ﴾ ولم يقل: منازل، لماذا؟ من أجل أن تكون هذه الأماكن التي بُوِّئوها مكان ثبات كثبات القاعد في مجلسه، وليس المعنى أن الرسول ﷺ جعل لهم هذه المنازل وقال: اجلسوا، لا، هم يتكيفون كما يناسب مصلحة الحرب، لكنها سُمِّيت مقاعد من أجل الثبات فيها.
﴿لِلْقِتَالِ﴾ يعني لقتال الأعداء، وتعلمون أن المقاتل لن يبقى في مكانه دائما بل هو يكر ويفر حسبما تقتضيه المصلحة.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ سميع عليم أي: سميع لما تقول لهم، عليم بأحوالكم.
وقد نقول: إن كلمة ﴿سَمِيعٌ﴾ أعم من كونها لما يقول لهم حين ترتيبهم وتبويئهم فتكون أشمل، وهذا هو الأحسن؛ لأنه كلما كان اللفظ شاملًا كان أحسن وأعم.
﴿عَلِيمٌ﴾ أي: عليم بما يحدث من قول وفعل وحال وحاضر ومستقبل.
ثم قال عز وجل: ﴿إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ ﴿إِذْ﴾ هذه قال المفسرون أو المعربون: إنها بدل من (إذ) الأولى، يعني يكون التقدير على هذا: اذكر إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا.
﴿هَمَّتْ﴾ الهم يُطلق على مجرد حديث النفس، ويُطلق الهم على العزم؛ يعني أن الإنسان قد يهم؛ يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل، يقال: هذا همٌّ، ويطلق على العزم المصمم الذي ينفذ إن لم يوجد مانع.
وهنا الطائفتان -وهما بنو سلمة وبنو حارثة- هموا أن يفشلوا، والفشل هنا بمعنى الجبن والخوف؛ يعني أن هاتين الطائفتين وقع في قلوبهما الهم بالانهزام، وسببه ما جرى من المنافق عبد الله بن أُبَيٍّ الذي انخزل وانخذل بنحو ثلث الجيش، وتعرفون أنه إذا انخزل أو انخذل ثلث الجيش فإن هذه ثلمة كبيرة في الجيش، فهاتان القبيلتان همَّتا أن تفشلا، أن تجبنا وترجعا، ولكن الله تعالى ثبتهما، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ فثبتهما سبحانه وتعالى فلم يفعلا ما عزما عليه.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا﴾ هذه ولاية خاصة، وولاية الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية التي بمعنى التدبير -تدبير الشؤون- هذه ولاية عامة، والتي بمعنى العناية –يعني: التي تقتضي العناية- هذه ولاية خاصة، هذه الولاية لا شك أنها خاصة؛ لأن الإنسان إذا همَّ بمعصية أو بالذنب ثم حصل له من عند الله ما يمنعه منه فهذه ولاية خاصة لا شك، كثيرًا ما يهم الإنسان بالذنب أو بترك الواجب -يعني بالذنب من فعل معصية أو ترك واجب- فيجد في قلبه إذا همَّ بالفعل المحرم يجد في قلبه انحلالًا عن هذه الهمَّة وعدولًا عنها، هذه ولاية من الله، أو أحيانًا يهم بترك الواجب فيقيض الله له من يعينه عليه حتى يفعل، هذا أيضا ولاية خاصة، فهاتان القبيلتان لما همَّتا تولَّاهما الله عز وجل بعنايته فلم تفشلا وبقيتا مع الجيش، وكان بعض هاتين الطائفتين يقول فرحًا: لقد كان -يعني من حظهم- أن الله سبحانه وتعالى أخبر عنهم بهذا الخبر؛ لأنه أخبر بأنهما همَّتا أن تفشلا، وأخبر بخبر آخر سارٍّ ومنقبة لهما وهو أن الله وليهما، فكان هذا بهذا.
﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلقة بـ﴿يَتَوَكَّلِ﴾، وقدمت لإفادة الحصر؛ يعني: على الله لا على غيره فليتوكل.
والتوكل قال أهل العلم: هو صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به وفعل السبب الذي أمر به. هذا التعريف طويل لكنه جامع؛ صِدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به وفعل الأسباب التي أمر بها. أُعيدها ثالثة: صِدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به وفعل الأسباب التي أمر بها.
أَعِدْها علينا.
* طالب: هو صدق الاعتماد على الله في دفع المضار وجلب المنافع مع الاعتماد.
* الشيخ: مع الثقة به.
* الطالب: مع الثقة به.
الشيخ: وفعل الأسباب التي أمر بها.
* الشيخ: طيب، إذن لا يكفي أن تَصْدُق الاعتماد على الله حتى يكون في قلبك ثقة بأن الله سيعينك ويكفيك، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق ٣]، ولا يكفي أيضًا أن تعتمد على الله وتثق به حتى تفعل الأسباب التي أمر بها؛ لأنك إن لم تفعل الأسباب التي أمر بها كنت متواكلًا لا متوكلًا. ويُذكر «أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: إن قومًا من أهل اليمن جاؤوا حُجَّاجًا وليس معهم زاد فقالوا: نحن المتوكلون. فقال: إنهم ليسوا بمتوكلين، ولكنهم متواكلون»[[أخرجه البخاري (١٥٢٣) من حديث ابن عباس.]]. بمعنى أنهم مفرِّطون مهملون، فلو أن أحدًا قال: أنا سأعتمد على الله تعالى في جلب الرزق في أن الله سيرزقني، وهو قادر على فعل الأسباب ولكن لم يفعل، قلنا: أنت مهمل متواكل، افعل السبب؛ ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك ١٥]. قد يقول: ربما يموت قريب لي فأرثه فهذا من رزق الله. نقول: وإذا ما مات، وإذا لم يمت، تقتله؟ حتى لو قتله ليأخذ ماله حُرِم من الميراث لأن القاتل عمدًا لا يرث، فالحاصل أنه لا بد لصحة التوكل من فعل الأسباب التي أمر الله بها، أما الأسباب التي لم يأمر الله بها فإنه لا يجوز للإنسان أن يتعاطاها.
وقوله: ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ أمر المؤمنين أن يتوكلوا على الله؛ لأنه لا يمكن أن يحقق التوكل إلا المؤمن، فالتوكل من مقتضيات الإيمان، والإيمان الحقيقي من أسباب التوكل على الله.
نرجع الآن لنأخذ الفوائد حتى لا نذهب بعيدًا، آخر فائدة كتبناها؟
* طلبة: (...).
* الشيخ: نعم، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ إلى أخره.
* في هذه الآية الكريمة: تحريم اتخاذ البطانة التي ليست منا؛ لقوله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا﴾، والأصل في النهي التحريم.
* ومن فوائدها: أن هذا التحذير ليس خاصًّا بولاة الأمور، بل كل إنسان لا يجوز له أن يتخذ بطانة من دونه، حتى الواحد الفرد منا لا يجوز أن يتخذ بطانة من دونه، بمعنى أنها ليست على طريقه ولا على منهاجه، فلو أن رجلًا مسلمًا صادَقَ كافرًا واتخذه بطانة يُسِرُّ إليه بالأمور لقلنا: إن هذا حرام عليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾ [الممتحنة ١].
* من فوائدها: أن تجنب البطانة السيئة من مقتضيات الإيمان؛ لأن الخطاب وُجِّه إلى من؟
* الطلبة: إلى المؤمنين.
* الشيخ: إلى المؤمنين.
* ومن فوائدها: أن اتخاذ البطانة؛ بطانة السوء، من نواقص الإيمان، صح؟ بناء على القاعدة التي أصلناها فيما سبق: أن ما كان الإيمان مقتضيًا له فإن فواته يكون نقصًا في الإيمان.
وهل يكون من نواقض الإيمان؛ من نواقض، ما هو نواقص؟
* الطلبة: قد يكون.
* الشيخ: قد يكون، ربما يكون من نواقض الإيمان، لو اتخذ هذه البطانة فيما يخرج من الإسلام لكان ذلك من نواقض الإيمان.
* من فوائد هذه الآية: أن الذين من دوننا لا يألوننا خبالًا، وهذا بناء على أن الجملة أيش؟ استئنافية للتعليل، وقد ذكرت لكم في التفسير أن من العلماء من قال: إنها صفة لما قبلها، وإن الذين من دوننا إذا كانوا لا يألوننا خبالًا فلا بأس أن نتخذهم بطانة، ولكن الظاهر الأول؛ أن الجملة استئنافية للتعليل؛ يعني أن الذين من دوننا لا يألوننا خبالًا.
ولنضرب لذلك مثلًا بالمؤمنين يتخذون بطانة من الكافرين، فإن الكفار لا شك أنهم لا يقصرون في طلب الخبال لنا، طيب: «يُذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إليه أبو موسى يريد منه أن يولي كاتبًا نصرانيًّا على بيت المال؛ لأنه -أي: هذا الكاتب النصراني- كان جيدًا في الحساب، فكتب إليه عمر أن لا تفعل، وأمره بعزله، فأعاد عليه مرة ثانية يطلب منه أن يبقيه كاتبًا، فكتب إليه عمر: مات النصراني، والسلام»[[أخرجه البيهقي في الكبرى (٩ / ٢٠٤) وشعب الإيمان (٨٩٣٩) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنحوه.]]. المعنى؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: يعني إذا مات هل معناه يتعطل بيت المال أو حساب بيت المال؟ قَدِّرْ أنه مات، أمَّا أن نأتمنه على بيت مال المسلمين وقد خان الله ورسوله فلا يمكن.
وبه نعرف أنه لا يجوز أن يولَّى أعداؤنا من الكفار أو غير الكفار أسرار أمورنا؛ لأننا إذا ولَّيناهم أسرار أمورنا فقد أخذناهم بطانة.
* ومن فوائد هذه الآية: بيان عناية الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين؛ حيث حذرهم إلى أمور قد تخفى عليهم، وذلك باتخاذ البطانات السيئة.
* ومن فوائد هذه الآية: أن أعداءنا يودُّون لنا ما يشق علينا؛ لقوله: ﴿وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ﴾.
وهنا سؤال: هل يودُّون ما شق علينا في الدنيا أو في الدين؟
* الطلبة: يشمل الأمرين.
* الشيخ: يشمل الأمرين؛ فيودون ما يدمر جيوشنا، يودون ما يدمر اقتصادنا، يودون ما يدمر معارفنا، يودون ما يدمر ديننا، والظاهر عندي -والله أعلم- أن أهم شيء لديهم هو تدمير الدين؛ لأنهم يعلمون أن ديننا إذا قوِيَ صار فيه تدمير لهم، لكن اقتصادنا إذا قوِيَ لا يكون فيه تدمير لهم؛ لأنهم هم أقوى منا اقتصادًا وأقوى منا جيوشًا وأقوى منا عُدَّةً، لكن الدين هو الذي يدمرهم، ولذلك نقول: إن كل ما يشق علينا في أمر الدين والدنيا يتطلبونه، يريدون أن يضايقونا في الدين بقدر ما يستطيعون، يودون أن يضايقونا في الاقتصاد بقدر ما يستطيعون، يودون أن يضايقونا في السلاح بقدر ما يستطيعون، يرسلون لنا من الأسلحة ما عفا عليه الأثر من الأسلحة التي زالت منفعتها في الوقت الحاضر، وصارت بالنسبة لأسلحة الوقت الحاضر كالسكين بالنسبة للأسلحة أو الهراوة، يعني ليس فيها فائدة، لكن هم لا يهمهم، هم يريدون أن يكملوا اقتصادهم وأن يشغلوا مصانعهم، ولا يهمهم أن ننتفع أو ننضَرَّ.
* ومن فوائد هذه الآية: أن أعداءنا إذا تأمل الإنسان أحوالهم وجد من أفواههم ريح البغضاء؛ لقوله: ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ بما يتكلمون به، وربما تبدو البغضاء من أفعالهم أحيانًا بالمضايقة، فهم أحيانًا يُبدونها من أفواههم، وأحيانًا من أفعالهم بالتهديد ونحو ذلك، بالتهديد الفعلي لا القولي.
* ومن فوائدها؛ من فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما في قلوب الأعداء من العداوة والبغضاء والحقد والحنق أكثر مما يبدو، وهذا أمر لا يطلع عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وهو الذي أخبرنا بذلك: ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ أكبر مما تبديه أفواههم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان أن الأوصاف الذاتية أو الفعلية تتفاضل؛ لقوله: ﴿أَكْبَرُ﴾ وهو قد تكلم عن البغضاء، والبغضاء وصفٌ في القلب ذاتي لا يمكن للإنسان أن يعرفه إلا بآثاره، فهنا بيَّن أن البغضاء متفاوتة، وكذلك المحبة متفاوتة، ولا شك في المحبة، كلٌ لا يشك فيها؛ لأنها جاءت في القرآن وفي السنة: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [التوبة ٢٤]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (١٥)، ومسلم (٤٤ / ٧٠) من حديث أنس.]].
لكن البغضاء أيضًا تتفاوت؟ نقول: نعم، حتى البغضاء تتفاوت، بعضها أعظم من بعض.
* من فوائد هذه الآية: منة الله سبحانه وتعالى علينا ببيان آياته؛ لقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ﴾، والآيات التي بيَّنها الله قسمان: آيات كونية، وآيات شرعية، وبيانه لها إما بالمشاهدات الحسية وإما بالتأملات العقلية؛ فالآيات الشرعية تكون بالتأملات العقلية، والآيات الكونية بالمشاهدات الحسية التي قد تكون طريقًا إلى التأملات العقلية أيضًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه كلما كان الإنسان أشد عقلًا أو أقوى عقلًا كان أفهم لآيات الله، تؤخذ؟
* طالب: من قوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾، إذن كلما كان الإنسان أعقل كانت الآيات له أبين وأظهر.
ثم قال الله تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾، عندكم أسئلة؟ طيب.
* طالب: الشخص المريض يا شيخ الأفضل أن يبحث عن العلاج ولّا يتوكل على الله ويدعو الله أن يشفيه؟
* الشيخ: هذا فيه خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال: إن ترك الدواء أفضل، ومنهم من قال: بل الدواء أفضل، ومنهم من قال: إذا غلب عليه النفع من الدواء فهو أفضل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي، وأمر الله بحفظ النفس، وهذا هو الأصح أنه إذا كان هذا الدواء معروفًا بأن فيه شفاء لهذا المرض فإن الأفضل تناوله؛ لأن هذا من نعمة الله، كما أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان وجوبًا فكذلك هذا إذا غلب على ظنه النفع فالأفضل أن يتداوى.
* الطالب: حديث المرأة التي كانت تتكشف وقال النبي ﷺ: «إِنْ صَبَرْتِ فَلَكِ الْجَنَّةُ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٦٥٢)، ومسلم (٢٥٧٦ / ٥٤) من حديث ابن عباس.]]، فهم يفضلون أن لا يتعالج ويبقى على..
* الشيخ: إي نعم، هذه قضية عين، ربما أن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أنها قد تتغير لو أنها شُفِيتْ بالمرة، ولهذا بعض الأحيان يكون المرض للإنسان أحسن من الناحية الدينية.
* طالب: أحسن الله إليك، ذكرنا أنه لا يجوز أن نولي أعداء الله أسرارنا، لكن -أحسن الله إليك- يكون أحيانًا تكون البلاد في حاجة إلى ذلك، يعنى التكنولوجيا على سبيل المثال؟
* الشيخ: لا لا، ما هي بأسرار الصناعة، الصناعة هم أعلم منا بها، يعني هم الذين يخفون عنا أسرارهم؛ لأنهم يطلعون على شيء لا نطلع عليه، لكن أسرارنا: ماذا نريد أن نفعل في ترتيب جيوشنا، في مصالح شعوبنا، في مصالحنا الذاتية، إذا كان هذا خاصًّا، أما مسألة الصناعة فهم في الوقت الحاضر، وربما يأتي اليوم الذي نكون نحن أحسن منهم، لكن في الوقت الحاضر هم الذين يخفون أسرارهم عنا.
* طالب: كان عدد الكفار في غزوة أُحُد وبدر ثلاثة أضعاف عدد المسلمين، فما ساغ للنبي ﷺ أن يستعين بأحد يا شيخ من أحد القبائل؟
* الشيخ: الكفار يعني؟ والسؤال؟
* طالب: أقول يعني لم يستعن النبي ﷺ بأحد؟
* الشيخ: إي نعم، ما اضطُرَّ إلى هذا، الرسول ما اضطُرَّ إلى هذا.
* طالب: عددهم ثلاث مرات.
* الشيخ: إي نعم، هو ربما، ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً﴾ [البقرة ٢٤٩] لكن إذا كان ما فيه مناسبة إطلاقا، ما فيه مناسبة، ماذا يصنعون؟ إذا كان ما فيه مناسبة؛ يعني مثلًا أن نعلم علم اليقين أننا في مقابلتنا لهم أو في اعتدائهم علينا لا نستطيع المدافعة إطلاقًا، أما ثلاثة مع تسعة مثلًا فيه إمكان، فيه إمكان للغلبة.
* طالب: شيخ، بالنسبة للمستشفيات مثلا يكون المدير نصراني (...) يعني..
* الشيخ: كيف يعني؟
* الطالب: (...) أسرار المسلمين؟
* الشيخ: المستشفيات.
* الطالب: يكون مدير المستشفى نصراني مثلًا.
* الشيخ: والمستشفى إسلامي ولّا..؟
* الطالب: يكون في بلد المسلمين.
* الشيخ: في بلد المسلمين، لا، هذا ما يجوز، هذا ما يجوز أن يولَّى أسرار المسلمين، تتكشف النساء، ولا يؤمَن؛ لأن النصارى في بلاد أفريقيا يقولون لنا: إنهم يعطون المرضى دواء، والمريض يظن أنه شفاء، ولكنه دواء عقم. يعقمون النساء، قاتلهم الله، هكذا قيل لي، والله أعلم، لكن ما نأمن الكفار، كيف نأمنهم؟! ربما يعطوننا إبَرًا تقضي علينا على المدى البعيد. نعم.
* طالب: (...) الأدوية العربية أم الأدوية يعنى (...)؟
* الشيخ: والله إذا أمكن الأدوية الطبيعية أحسن، لأن غالب الأدوية الطبية يكون فيها مواد كيماوية قد تكون ضارة على الإنسان، ولهذا ربما يتناول الدواء هذا الرجل فيضره وذاك الرجل فينتفع به، حسب ما فيه من المواد.
* طالب: (...) يعني ما كانت فيه مناسبة أن النبي ﷺ يستعين بالمشركين، ويعني ثبت أنه رد المشرك حينما ذهب ليحارب معه، وأيضًا كانت الروم في أحد الغزوات تسعة أعشار المسلمين في الغزو وأيضًا ما استعان بالمشركين.
* الشيخ: نعم، صحيح.
* الطالب: كيف يكون يعني تسعة أعشار..
* الشيخ: مثل أيش اللي تسعة أعشار؟
* الطالب: الروم.
* الشيخ: مثل أيش؟ في أي غزوة؟
* الطالب: في غزوة عين جالوت تقريبا، غزوة الـ.. غزوة مؤتة يا شيخ.
* الشيخ: أنا أفهم أن عين جالوت ما هي بعهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
* الطالب: مؤتة يا شيخ، مؤتة.
* الشيخ: إي.
* طالب: والقادسية أيضًا.
* الشيخ: نعم، أولًا: هو نفسه ما غزا في مؤتة، أرسل جيشًا للروم وحصل أن الروم تجمعوا، ما ظن المسلمون أنهم بهذا التجمع، ولهذا حازهم خالد بن الوليد إلى الجبل ففتح الله عليه.
* الطالب: ولذلك ما استعان (...).
* الشيخ: يلَّا، توكلنا على الله.
* طالب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد:
فصل في غزوة بدر الكبرى
فلما كان في رمضان من هذه السنة بلغ رسول الله ﷺ خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة، وكانوا نحو أربعين رجلًا، وفيها أموال عظيمة لقريش، فندب رسول الله ﷺ الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهره حاضرًا بالنهوض، ولم يحتفل لها احتفالًا بليغًا؛ لأنه خرج مسرعًا في ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ: فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، فكان رسول الله ﷺ وعليٌّ ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرًا، وزيد بن حارثة وابنه وكبشة موالي رسول الله ﷺ يعتقبون بعيرًا، وأبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرًا، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة.
* الشيخ: عندي (بالروحاء) الرَّوْحاء؛ بفتح الراء وسكون الواو: قرية على نحو أربعين ميلًا من المدينة، إي نعم.
* * *
* الطالب: فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وسار، فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير.
وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله ﷺ وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخ أهل مكة، فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلَّف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوَّض عنه رجلًا كان له عليه دَيْن، وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب، فلم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي فلم يخرج معهم منهم أحد، وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى: ﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٧]، وأقبلوا كما قال رسول الله ﷺ: «بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَه»[[زاد المعاد (٣ / ١٧٢). ينظر المغازي للواقدي (١ / ٩٥)، والسيرة لابن هشام (١ / ٦٢١) بلفظ: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك».]]، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين، وعلى حميَّةٍ وغضبٍ وحَنَقٍ على رسول الله ﷺ وأصحابِه؛ لما يُريدون مِن أخذ عيرهم وقتل من فيها، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه، فجمعهم الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال: ٤٢].
«ولما بلغ رسولَ الله ﷺ خروجُ قريش استشار أصحابه، فتكلَّم المهاجِرون فأحسَنُوا، ثم استشارهم ثانيًا فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله، كأنك تعرِّض بنا. وكان إنما يعنيهم لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم ليعلم ما عندهم، فقال له سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأُجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصِلْ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخُذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذتَ منَّا كان أحب إلينا مما تركتَ، وما أمرت فيه من أمرٍ فأمْرُنا تَبَعٌ لأمرك، فواللهِ لئن سِرْتَ حتى تبلغ البَرْكَ من غمدان، لنسيرنَّ معك، وواللهِ لئن استعرضتَ بنا هذا البحر خضناه معك. »
«فقال له المقداد: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك. فأشرق وجه رسول الله ﷺ»[[أخرجه البخاري (٣٩٥٢) من حديث ابن مسعود مختصرًا، وابن جرير في تفسيره (١١ / ٤١) من حديث ابن عباس بطوله.]].
* الشيخ: أولًا: المهاجرون قالوا وأحسنوا مع أنهم سيقاتلون قومهم من قريش، ثم تكلم الأنصار، هذا الكلام العجيب الذي يدل على قوة الإيمان وعلى قوة امتثالهم لأمر النبي ﷺ وحمايتهم له، وأنهم مهما فعل فهُمْ تبع له رضي الله عنهم، فهذا يا إخواني هو الذي يمثل الإسلام حقيقة والمسلمين حقيقة، إذا أمر الله ورسوله بأمر لم يكن لهم الخيرة من أمرهم، وهم تبع للرسول عليه الصلاة والسلام يفدونه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم، وهكذا يجب علينا أن نفدي بقدر ما نستطيع كتاب ربنا وسنة نبينا ﷺ؛ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا؛ لأنها هي أغلى ما عندنا في الدنيا، لذلك أريد أن نأخذ من هذا عبرة وأن يكون لنا على بال حيث قالوا له هذا الكلام العظيم: «لئن استعرضتَ بنا هذا البحر خضناه معك»، مع أن خوض البحر هلاك، لكن هم سيتبعون النبي ﷺ في كل شيء، رضي الله عنهم وأرضاهم، نعم.
* * *
* الطالب: «فأشرق وجه رسول الله ﷺ، وسُرَّ بما سمع من أصحابِه وقال: «سِيرُوا وأَبْشِروا؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ»[[ذكره ابن هشام في السيرة (١ / ٦١٥)، وابن جرير في تفسيره (١١ / ٤١) من حديث ابن عباس.]]. فسار رسولُ الله ﷺ إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق..
* الشيخ: «سِيرُواوأَبْشِرُوا» كأن النصر بيده عليه الصلاة والسلام، كأنه ممسكه؛ لأن الله تعالى هو الذي وعده: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ﴾ [الأنفال ٧] الطائفة الأولى: أبو سفيان والعير، والثانية: قريش، ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ [الأنفال ٧] وغير ذات الشوكة مَن؟ العير، ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال ٧] الحمد لله. نعم.
ثم يقول: « رَأَيْتُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ» هذه أيضا بُشرى، أبشروا. أو « رَأَيْتُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ» حقيقة؛ يعني علم اليقين وحق اليقين؛ لأن رؤيا النبي ﷺ وحيٌ.
* * *
* الطالب: فسار رسولُ الله ﷺ إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا وأحرز العير كتب إلى قريش أن ارجعوا؛ فإنكم إنما خرجتم لتُحرِزوا عِيركم. فأتاهم الخبر وهم بالجحفة، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل: واللهِ لا نرجع حتى نقدم بدرًا فنقيم بها ونطعم مَن حضرنا مِن العرب وتخافنا العرب بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شريق عليهم بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زُهرة، فلم يشهد بدرًا زُهري، فاغتبطت بنو زهرة بعدُ برأي الأخنس فلم يزل فيهم مطاعًا معظَّمًا، وأرادت بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع. فساروا، وسار رسول الله ﷺ حتى نزل عشيًّا أدنى ماءٍ من مياه بدر فقال: «أَشيرُوا عَلَىَّ في المَنْزِل». فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله؛ أنا عالم بها وبقُلُبها، إن رأيتَ أن نسيرَ إلى قُلُبٍ قد عرفناها، فهي كثيرة الماء، عذبة، فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونُغوِّر ما سواها من المياه »[[ذكره ابن هشام في السيرة (١ / ٦٢٠).]].
وسار المشركون سِراعًا يريدون الماء، وبعث عليًّا وسعدًا والزبير إلى بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش ورسولُ الله ﷺ قائم يُصلِّى، فسألهما أصحابُه: مَن أنتما؟ قالا: نحن سُقاةٌ لقريش. فكره ذلك أصحابه وودُّوا لو كانا لعير أبي سفيان، فلما سلَّم رسول الله ﷺ قال لهما: «أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ؟». قالا: وراء هذا الكثيب. فقال: «كَمِ الْقَوْمُ؟». فقالا: لا علم لنا. فقال: «كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟». قالا: يومًا عشرًا، ويومًا تسعًا. فقال رسول الله ﷺ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ تِسْعِ مِئَةٍ إِلَى الْأَلْفِ»[[أخرجه البيهقي في الدلائل (٩٦٥) من حديث يزيد بن رومان.]]. فأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلًا شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلًّا طهَّرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ، وصلَّب به الرملَ، وثبَّتَ به الأقدام، ومهَّد به المنزل، وربط به على قلوبهم، فسبق رسول الله ﷺ وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطرَ الليل وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله ﷺ وأصحابه على الحياض، وبُني لرسول الله ﷺ عريش يكون فيها على تلٍّ يشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة، «وجعل يشير بيده: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إن شاء الله» »[[أخرجه مسلم (٢٨٧٣ / ٧٦) من حديث عمر.]].
الطالب: ونزل رسول الله ﷺ وأصحابه على الحياض، وبُني لرسول الله ﷺ عريش يكون فيها على تل يشرف على المعركة، ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللهُ»[[أخرجه مسلم (٢٨٧٣ / ٧٦) من حديث عمر بن الخطاب.]]. فما تعدى أحد منهم موضع إشارته.
فلما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ» وقام ورفع يديه واستنصر ربه وقال: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ». فالتزمه الصدّيق من ورائه وقال: يا رسول الله، أبشر، فوالذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك»[[أخرجه البخاري (٢٩١٥) من حديث ابن عباس، ومسلم (١٧٦٣ / ٥٨) من حديث عمر بن الخطاب.]].
واستنصر المسلمون الله واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرعوا إليه، فأوحى الله إلى ملائكته ﴿أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال ١٢]، وأوحى الله إلى رسوله: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال ٩]، قُرئ بكسر الدال وفتحها، فقيل: المعنى أنهم ردف لكم، وقيل: يردف بعضهم بعضها أرسالًا، لم يأتوا دفعة واحدة.
فإن قيل: هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف، وفي سورة آل عمران قال: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران ١٢٤، ١٢٥] فكيف الجمع بينهما؟
قيل: قد اختُلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف والذي بالخمسة على قولين:
أحدهما: أنه كان يوم أُحد، وكان إمدادًا معلقًا على شرط، فلما فات شرطه فات الإمداد، وهذا قول الضحاك ومقاتل، وإحدى الروايتين عن عكرمة.
والثاني: أنه كان يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرواية الأخرى عن عكرمة، اختاره جماعة من المفسرين.
وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾ [آل عمران ١٢٣ - ١٢٥] إلى أن قال: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ [آل عمران ١٢٦] أي هذا الإمداد ﴿إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾.
قال هؤلاء: فلما استغاثوه أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا، فكان هذا التدريج ومتابعة الإمداد أحسن موقعًا وأقوى لنفوسهم وأسر لها من أن يأتي بها مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقة الأولى: القصة في سياق أُحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضًا في أثنائها؛ فإنه سبحانه قال: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران ١٢١- ١٢٢] ثم قال: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، فذكّرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة أحد وأخبر عن قول رسوله لهم: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ﴾. ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط وذلك مطلق، والقصة في سورة آل عمران هي قصة أُحد مستوفاة مطولة، وبدر ذُكرت فيها اعتراضًا، والقصة في سورة الأنفال قصة بدر مستوفاة مطولة، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال.
يوضح هذا أن قوله: ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا﴾ [آل عمران ١٢٥] قد قال مجاهد: إنه يوم أحد، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قولُه: إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر، وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد. والله أعلم.
فصل: وبات رسول الله ﷺ يصلي إلى جذع شجرة...
* الشيخ: ... هذين القولين ولم يرجح أيهما أصح، ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾، فإن جعلنا الإمداد بالثلاثة والخمسة في أحد فلا إشكال، وإن جعلناه في بدر ففيه إشكال؛ لأن الله قال في قصة بدر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى﴾ [الأنفال ٩، ١٠]، لكن إشكال إذا جعلناها في بدر، فكيف الجمع بين ثلاثة وخمسة وألف؟
أجاب بعضهم بأن الله أمدهم بألف ثم بثلاثة ثم بخمسة، ولكن إذا تأملت السياق وجدت أنه مختلف، وأن الإمداد في أحد إنما كان بشرط؛ وهو أن يصبروا ويتقوا، ولم يحصل منهم صبر، بل حصل من بعضهم معصية، ومعلوم أن المعلق على شرط لا يتم إلا بوجود شرطه، وهذا مما يؤيد أن هذا الإمداد الذي هو مشروط كان في أحد، ولما لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط.
وعلى هذا يكون الإمداد في بدر بألف من الملائكة مردِفين أو مردَفين، ويكون الإمداد في أحد بثلاثة أو خمسة لكنه مشروط بشرط لم يتحقق، وإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق المشروط. وعلى هذا فالملائكة لم تقاتل في أحد، ولم يُمد المسلمون بأحد منهم في أحد. وسنأتي إن شاء الله في التفسير ما يبين أن الراجح هو هذا.
* * *
* الطالب: فصل: وبات رسول الله ﷺ يصلي إلى جذع شجرة هناك وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية، فلما أصبحوا أقبلت قريش في كتائبها واصطف الفريقان، فمشى حكيم بن حِزام وعتبة بن ربيعة في قريش أن يرجعوا ولا يقاتلوا، فأبى ذلك أبو جهل وجرى بينه وبين عتبة كلام أحفظَه.
* الشيخ: حصل منه غيظ، أغاظه، أحفظه: يعني أغاظه، يعني أثار حفيظته، وهو كناية عن إغضابه وإغاظته.
* الطالب: وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو فكشف عن استه وصرخ: واعمراه، فحمي القوم ونشبت الحرب، وعدّل رسول الله ﷺ الصفوف، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ في قوم من الأنصار على باب العريش يحمون رسول الله ﷺ.
وخرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار: عبد الله بن رواحة وعوف ومعوِّذ ابنا عفراء، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام، وإنما نريد بني عمنا. فبرز إليهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة، فقتل علي قِرنه الوليد، وقتل حمزة قرنه عتبة، وقيل: شيبة، واختَلف عبيدةُ وقرنُه ضربتين، فكرّ علي وحمزة على قرن عبيدة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا حتى مات بالصفراء.
وكان علي يقسم بالله لنزلت هذه الآية فيهم: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ [الحج ١٩].
* الشيخ: الآن قريش عندها حمية الجاهلية، ما الذي أحماهم على القتال؟
هو طلب الثأر حين صرخ هذا الرجل وأخرج استه وجعل يندب أخاه يقول : واعمراه، ثانيًا: لما برز إليهم ثلاثة من الأنصار أبوا أن يبارزوهم أنفة وكبرًا، وقالوا: أكفاء كرام ولكننا نريد بني عمنا. يعني قريشا.
خرج إليهم ثلاثة: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثاني: عبيدة بن الحارث، والثالث: حمزة بن عبد المطلب.
والمبارزة تُفعل في الحرب؛ لأن فيها تقوية للصف، إذا قتل صاحبهم قرنه صار في ذلك تقوية لنفوسهم، وإن كان بالعكس صار في هذا إضعاف لنفوسهم. ولهذا قال أهل العلم: إذا طلب العدو المبارزة فإنه لا يجوز لقائد الجيش أن يأذن لأحد بالمبارزة إلا وهو يعلم -يعني علم ظن وغلبة ظن- يعلم أن هذا المبارز سوف يغلب قرنه، أما مع الاحتمال فلا يجوز؛ لأنه لو غلبه لكسر قلوب المسلمين.
فهؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم كما رأيتم، يقول: قتل علي قرنه الوليد، وقتل حمزة قرنه عتبة أو شيبة على خلاف، وعبيدة بن الحارث قتل قرنه إما عتبة وإما شيبة. ولكن كرّ علي وحمزة لما اختلف عبيدة وقرنه ضربتين، كل واحد ضرب الآخر، وهؤلاء قد فرغوا من صاحبيهما، كروا على صاحب عبيدة وقتلوه.
وفي هذا دليل على جواز قتل القرن إذا حصلت مثل هذه المبارزة، لا يقال: لماذا قتلاه وهو لم يبرز معهما؟ نقول: لأنه برز مع صاحبهما، ولأن دمه هدر فإنه محارب.
* * *
* الطالب: ثم حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب، واشتد القتال، وأخذ رسول الله ﷺ في الدعاء والابتهال ومناشدة ربه عز وجل، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق وقال: بعض مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك.
فأغفى رسول الله ﷺ إغفاءة واحدة، وأخذ القومَ النعاسُ في حال الحرب، ثم رفع رسول الله ﷺ رأسه فقال: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ»[[دلائل النبوة للبيهقي (٩٧٩) من حديث ابن عباس وحكيم بن حزام.]].
وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيد رسوله والمؤمنين، ومنحهم أكتاف المشركين أسرًا وقتلًا، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين.
فصل: ولما عزموا على الخروج ذكروا ما بينهم وبين بني كنانة من الحرب، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة، فقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه. فخرجوا والشيطان جار لهم لا يفارقهم. فلما تعبؤوا للقتال، ورأى عدو الله جند الله قد نزلت من السماء فر ونكص على عقبيه، فقالوا: إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت: إنك جار لنا لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب.
وصدق في قوله: إني أرى ما لا ترون، وكذب في قوله: إني أخاف الله.
وقيل: كان خوفه على نفسه أن يهلك معهم. وهذا أظهر.
* الشيخ: صحيح، الثاني هو الأظهر؛ أن قول الشيطان: إني أخاف الله ليس خوف عبادة، لكنه خاف أن يهلك، لا أن يعذب، وهذا كقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر ١٦]، هذا ليس خوف عبادة؛ لأنه لو كان يخاف الله خوف عبادة لعبده ولم يستكبر عن عبادته، لكن هذا خوف هلاك، كما يخاف الرجل من الذئب، فإن هذا خوف ليس خوف عبادة، فالصحيح هو ما قال ابن القيم: إنه أظهر.
* * *
* الطالب: ولما رأى المنافقون ومن في قلبه مرض قلة حزب الله وكثرة أعدائه، ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ [الأنفال ٤٩]. فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه، لا بالكثرة ولا بالعدد، والله عزيز لا يغالب، حكيم ينصر من يستحق النصر، وإن كان ضعيفا، فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه.
ولما دنا العدو وتواجه القوم...
* الشيخ: (...)﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ﴾ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال ٤٩] ولكن كما قلنا فيما سبق: إن من التوكل أن يأخذ الإنسان بالأسباب الشرعية التي أُمر بها شرعًا، حتى يهيئ المحل للنصر؛ لأن من قال: أنا متوكل على الله ولم يخرج بشيء مما يقاتل به، فإن توكله ليس بصحيح، بل هذا من جنس السخرية بالله عز وجل والاستهزاء به؛ لأن الله تعالى قرن الأشياء بأسبابها، لكن إذا فعل الإنسان ما يقدر عليه مع قيام الأمر الشرعي وحقق التوكل فإنه ينصر.
* * *
* الطالب: ولما دنا العدو وتواجه القوم قام رسول الله ﷺ في الناس فوعظهم وذكّرهم بما لهم في الصبر والثبات من النصر والظفر العاجل، وثواب الله الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجب الجنة لمن استشهد في سبيله، فقام عمير بن الحمام فقال: «يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: «نَعَمْ». قال: بخ بخ يا رسول الله. قال: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟». قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل»[[ أخرجه مسلم (١٩٠١ / ١٤٥) من حديث أنس بن مالك. ]]، فكان أول قتيل.
وأخذ رسول الله ﷺ ملء كفه...
* الشيخ: هذا هو الإيمان، انظر إلى هذا الرجل رضي الله عنه لما أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بأنها جنة عرضها السماوات والأرض؛ ما صار عنده أدنى شك، تيقنها كأنما يرآها رأي عين، ولهذا لما أخرج التمرات وجعل يأكل قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بها وقاتل حتى قتل، الله أكبر، سبحان الله العظيم.
* * *
* الطالب: وأخذ رسول الله ﷺ ملء كفه من الحصباء، فرمى بها وجوه العدو، فلم تترك رجلًا منهم إلا ملأت عينيه، وشُغلوا بالتراب في أعينهم، وشغل المسلمون بقتلهم، فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال ١٧].
وقد ظن طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع. ومعنى الآية أن الله سبحانه...
* الشيخ: من هذه الطائفة؟
* طالب: الأشاعرة.
* الشيخ: لا.
* الطلبة: الجبرية.
* الشيخ: الجبرية، لا، الجبرية عكس هذا، الجبرية يقولون: إن الإنسان ليس هو الفاعل، إن الإنسان آلة، فليس هو الصائم ولا المزكي ولا الحاج ولا الرامي: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾، فهنا قال: ﴿مَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ كيف هذا؟ قد يقول قائل: تناقض هذا: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ قد يقول قائل: بل رمى إذ رمى، لكن نقول: الرمي فعل، وإيصال الرمية إلى المرمي هذا شيء آخر غير الفعل، فالإنسان مثلًا قد يرمي فيوجد هواء شديد مثلًا يرد السهم، وقد يرمي ويكون هناك هواء مدابر للسهم فيحمله إلى أبعد، فالرمي الذي هو الفعل ممن؟
* الطلبة: من الرسول ﷺ.
* الشيخ: والرمي الذي هو الإصابة من الله، فقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ يعني أوصل هذا التراب إلى أعينهم، ولو كان الأمر بفعلك ما وصل إلى أعينهم، لكان يصل إلى أدناهم إن وصل، أما إلى أعين كل واحد منهم وهم ما بين تسع مئة وألف فهذا ليس بطاقة النبي عليه الصلاة والسلام.
* * *
* الطالب: ومعنى الآية أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف ونفى عنه الإيصال.
وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس فوقه يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيًا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله ﷺ، فقال: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»[[أخرجه مسلم (١٧٦٣ / ٥٨) من حديث ابن عباس.]].
وقال أبو داود المازني: إني.
* الشيخ: عندي يقول: (أخرجه مسلم في الجهاد) فالحديث صحيح، إذن فهنا يتبين أن الملائكة قاتلت مع المسلمين، وهذا القتال قتال يُعلم بأثره؛ لأن الرجل سمع صوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، وهذا اسم لهذا المَلَك الذي ضرب الرجل المشرك، وظهر أثر الضربة على هذا المشرك.
* * *
* الطالب: وقال أبو داود المازني: إني لَأَتْبَعُ رجلًا من المشركين لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري.
وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: «اسْكُتْ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ»[[أخرجه أحمد في المسند (٩٤٨) من حديث علي بن أبي طالب.]].
وأُسر من بني عبد المطلب ثلاثة: العباس، وعَقيل، ونوفل بن الحارث.
وذكر الطبراني في معجمه الكبير عن رفاعة بن رافع، قال: لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هاربًا حتى ألقى نفسه في البحر ورفع يديه وقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي. وخاف أن يخلص إليه القتل، فأقبل أبو جهل بن هشام فقال: يا معشر الناس، لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم؛ فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عُتبة وشيبة والوليد؛ فإنهم قد عجِلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا أُلفين رجلًا منكم قتل رجلًا منهم، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم سوء صنيعهم.
واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك، وأرضى عندك، فانصره اليوم. فأنزل الله عز وجل: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال ١٩].
ولما وضع المسلمين أيديهم في العدو يقتلون ويأسرون، وسعد بن معاذ واقف على باب الخيمة التي فيها رسول الله ﷺ، وهي العريش، متوشحًا بالسيف في ناس من الأنصار، رأى رسول الله ﷺ في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال رسول الله ﷺ: «كَأَنَّكَ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ؟». قال: أجل والله كانت أول وقعة أوقعها الله بالمشركين، وكان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال»[[انظرتفسير الطبري (١٦٣٢٠) .]].
ولما بردت الحرب، وولى القوم منهزمين، قال رسول الله ﷺ...
* الشيخ: وهذا هو الذي جاء به القرآن؛ كما تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [الأنفال ٦٧] فسعد بن معاذ هو كما تعلمون أنه سيد الأوس رضي الله عنه أحب أن يقتلوا وألا يؤسروا، ولكن كان رأي النبي عليه الصلاة والسلام ورأي أبي بكر أن يؤسروا ويؤخذ منهم الفداء بدون قتل، والقصة مذكورة في سورة الأنفال.
* * *
* الطالب: ولما بردت الحرب، وولى القوم منهزمين، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟». فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، وأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل؟ فقال: لمن الدائرة اليوم؟ فقال: لله ولرسوله، وهل أخزاك الله يا عدو الله؟ فقال: وهل فوق رجل قتله قومه؟[[متفق عليه؛ البخاري (٣٩٦٢)، ومسلم (١٨٠٠ / ١١٨)، من حديث أنس بن مالك.]] فقتله عبد الله ثم أتى النبي ﷺ فقال: قتلته. فقال: «اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟» فرددها ثلاثًا. ثم قال: «اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ أَرِنِيهِ». فانطلقنا فأريته إياه، فقال: «هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ»[[أخرجه أحمد في المسند (٤٢٤٧) من حديث عبد الله بن مسعود.]].
وأسر عبد الرحمن بن عوف.
* الشيخ: في هذا الحديث دليل على فوائد:
أولًا: أن الله تعالى أذل هذا الخبيث الذي هو رأس الكفر ورأس قريش والمحرض على قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وسمعتم ما قال في أول الغزوة.
والثاني: أن الذي قتله شابان صغيران، ليسا من علية القوم.
والثالث: أن الذي أجهز عليه رجل من رعاة الغنم، حتى إنه في بعض الروايات لما قال له: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن مسعود، قال: «لقد ارتقيت مرتقًى صعبًا يا رُويعي الغنم»[[دلائل النبوة للبيهقي (١٠٢٠) من حديث ابن عباس.]]، يعني يمسك برأس رجل من علية القوم فيذبحه ذبح الشاة وهو من رعاة الغنم، لكن هكذا الدين إذا أظهره الله عز وجل، يكون رعاة الغنم هم الأشراف والملوك.
وفيه أيضا: استثبات النبي عليه الصلاة والسلام من عدوه، وأن الإنسان إذا بحث عن عدوه أين راح، أين ذهب، فإن هذا من الحزم والعزم، ليس هذا من الذل أو الذعر أو الخوف، بل هذا من الحزم والعزم أن ننظر ماذا فعل العدو، ولهذا طلب النبي عليه الصلاة والسلام من يتحسس عنه وعن أخباره، ولما قال: قتلته كرر ثلاث مرات قال: «اللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟» يعني تحلف بالله الذي لا إله غيره، حتى مثل بين يديه.
* * *
* الطالب: وأسر عبدُ الرحمن بن عوف أميةَ بن خلف وابنه عليًّا، فأبصره بلال، وكان أمية يعذبه بمكة، فقال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوتُ إن نجا. ثم استوخى جماعة من الأنصار، واشتد عبد الرحمن بهما يحرزهما منهم، فأدركوهم، فشغلهم عن أمية بابنه، ففرغوا منه، ثم لحقوهما، فقال له عبد الرحمن: ابرك. فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيوف رجل عبد الرحمن بن عوف، قال له أمية قبل ذلك: من الرجل المعلَّم في صدره بريشة نعامة؟ فقال: ذلك حمزة بن عبد المطلب، فقال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. وكان مع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، فلما رآه أمية قال له: أنا خير لك من هذه الأدراع. فألقاها وأخذه، فلما قتله الأنصار كان يقول: يرحم الله بلالًا فجعني بأدراعي وبأسيري .
* الشيخ: رضي الله عنه، ليش فجعه بذلك؟ لأنه ما أصاب أسيرًا ولا أدراعًا، الأدراع ذهبت والأسير قُتل.
* طالب: وانقطع يومئذ سيف عكَّاشة بن محصن، فأعطاه النبي ﷺ جِذلًا من حطب فقال: «دُونَكَ هَذَا»[[دلائل النبوة للبيهقي (١٠٤١) بلفظ: «قاتل بها يا عكاشة».]]، فلما أخذه عكاشة وهزه عاد في يده سيفا طويلًا شديدًا أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر.
* الشيخ: الله أكبر الله أكبر.
* الطالب: ولقي الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج في السلاح لا يرى منه إلا الحدق، فحمل عليه الزبير بحربته، فطعنه في عينه، فمات، فوضع رجله على الحربة، ثم تمطى، فكان الجهد أن نزعها، وقد انثنى طرفاها. قال عروة: فسأله إياها رسول الله ﷺ فأعطاه إياها، فلما قُبض رسول الله ﷺ أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قبض عثمان وقعت عند آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير وكانت عنده حتى قتل.
وقال رفاعة بن رافع.
* الشيخ: يقول غرائب (...) فعل الزبير يدل على أمرين: القوة الشديدة والثاني الإصابة، لأنه جعل السهم على عينه، لا يرى منه إلا الحدق، العين، جعل السهم على عينه وأصابها، ومع ذلك دخل السهم في عينه حتى إنه بشدته وطأ على الرجل نزعها، وبشدته أخرجها، وقد انثنت أيضا من شدة الضربة، وهذه سبحان الله إذا رأيت هذه القوة في السابقين تقول: كيف هذا؟! الله أكبر.
* * *
* الطالب: وقال رفاعة بن رافع: «رُميت بسهم يوم بدر، ففُقئت عيني، فبصق فيها رسول الله ﷺ ودعا لي، فما آذاني منها شيء»[[أخرجه الحاكم (٥٠٩٥)والطبراني في الكبير (٤٥٣٥) من حديث رفاعة بن رافع.]].
* الشيخ: الله أكبر.
* الطالب: ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله ﷺ حتى وقف على القتلى، فقال: «بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَخَذَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ»[[أخرجه ابن عساكر (٣٨/٢٥٩) من حديث أنس بن مالك.]]، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر، فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ» .
* الشيخ: أحسن من هذا: يا عتبةُ ويجوز الفتح، لكن الأفصح الضم.
* الطالب: فقال: «يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ» .
* الشيخ: (ابنَ)، (عتبة) مبنية على الضم، و(ابن) منصوبة لأنها مضافة.
* الطالب: ««يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا فُلَانُ، وَيَا فُلَانُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا». فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ما تخاطب من أقوام قد جيَّفوا؟ فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْجَوَابَ» » [[أخرجه البخاري (٣٩٧٦) من حديث أبي طلحة، ومسلم (٢٨٧٤ / ٧٧) من حديث أنس بن مالك. ]].
ثم أقام رسول الله ﷺ بالعرْصة ثلاثًا، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثًا.
ثم ارتحل مؤيدًا منصورًا قرير العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانم، فلما كان بالصفراء قسم الغنائم، وضَرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة، ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط.
ودخل النبي ﷺ المدينة مؤيدًا مظفرًا منصورًا، قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهرًا.
وجملة من حضر بدرًا من المسلمين ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، من المهاجرين ستة وثمانون، ومن الأوس أحد وستون، ومن الخزرج مئة وسبعون، وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج، وإن كانوا أشد منهم وأقوى شوكة، وأصبر عند اللقاء؛ لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة، وجاء النفير بغتة، وقال النبي ﷺ: «لَا يَتْبَعُنا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا»[[أخرجه مسلم (١٩٠١ / ١٤٥) من حديث أنس بن مالك.]]. فاستأذنه رجال ظهورهم في علو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم فأبى. ولم يكن عزمهم على اللقاء، ولا أعدوا له عدته، ولا تأهبوا له أهبته، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلًا؛ ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس، وفرغ رسول الله ﷺ من شأن بدر والأسارى في شوال.
فصل : ثم نهض بنفسه صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه بسبعة أيام إلى غزو بني سليم، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة، وقيل: ابن أم مكتوم، فبلغ ماء يقال له: الكُدر، فأقام عليه ثلاثًا ثم انصرف ولم يلق كيدًا.
فصل: ولما رجع فَل المشركين إلى مكة موتورين محزونين، نذر أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله ﷺ. فخرج في مئتي راكب حتى أتى العُرَيْض في طرف المدينة، وبات ليلة واحدة عند سلام بن مِشكم اليهودي، فسقاه الخمر، وبطن له من خبر الناس، فلما أصبح قطع أصوارًا من النخل، وقتل رجلًا من الأنصار وحليفًا له ثم كر راجعًا، ونذر به رسول الله ﷺ فخرج في طلبه، فبلغ قَرقرة الكُدر، وفاته أبو سفيان، وطرح الكفار سَويقًا كثيرًا من أزوادهم يتخففون به، فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السَّويق، وكان ذلك بعد بدر بشهرين، فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بقية ذي الحجة، ثم غزا نجدًا يريد غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأقام هناك صفرًا كله من السنة الثالثة، ثم انصرف ولم يلق حربًا.
فصل: فأقام بالمدينة ربيعًا الأول، ثم خرج يريد قريشًا، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فبلغ بُحران معدنًا بالحجاز من ناحية الفُرْع، ولم يلقَ حربًا، فأقام هنالك ربيعًا الآخر وجمادى الأولى ثم انصرف إلى المدينة.
فصل: ثم غزا بني قينقاع، وكانوا من يهود المدينة، فنقضوا عهده، فحاصرهم خمسة عشر ليلة حتى نزلوا على حُكمه، فشفع فيهم عبد الله بن أُبي، وألح عليه، فأطلقهم له، وهم قوم عبد الله بن سلام، وكانوا سبع مئة مقاتل، وكانوا صاغة وتجارًا.
فصل في قتل كعب بن الأشرف، وكان رجلًا من اليهود، وأمه.
* طالب: عبد الله بن سلَام أو سلَّام؟
* الشيخ: لا عبد الله بن سلَام، بالتخفيف. هو قرأ: سلَّام؟
* الطالب: لا، الأول: سلَّام.
* الشيخ: حتى هذاك أظن بالتخفيف، الظاهر أنه بالتخفيف.
* الطالب: وكان رجلًا من اليهود، وأمه من بني النضير، وكان شديد الأذى لرسول الله ﷺ، وكان يُشبِّب في أشعاره بنساء الصحابة، فلما كانت وقعة بدر ذهب إلى مكة وجعل يؤلب على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين. ثم رجع إلى المدينة على تلك الحال، فقال رسول الله ﷺ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ». فانتدب له محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة، واسمه سِلكان بن سلامة، وهو أخو كعب من الرضاع، والحارث بن أوس، وأبو عَبْس بن جَبْر، وأذن لهم رسول الله ﷺ أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به، فذهبوا إليه في ليلة مقمرة، وشيعهم رسول الله ﷺ إلى بَقيع الغَرْقَد، فلما انتهوا إليه قدّموا سلكان بن سلامة إليه، فأظهر له موافقته على الانحراف عن رسول الله ﷺ، وشكا إليه ضيق حاله، فكلمه في أن يبيعه وأصحابه طعامًا، ويرهنوه سلاحهم، فأجابهم إلى ذلك.
ورجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم، فأتوه، فخرج إليهم من حصنه، فتماشوا فوضعوا عليه سيوفهم، ووضع محمد بن مسلمة مِغْوَلًا كان معه في ثُنَّته فقتله، وصاح عدو الله صيحة شديدة أفزعت من حوله، وأوقدوا النيران، وجاء الوفد حتى قدموا على رسول الله ﷺ من آخر الليل وهو قائم يصلي، وجُرح الحارث بن أوس ببعض سيوف أصحابه، فتفل عليه رسول الله ﷺ فبرئ، فأذن رسول الله ﷺ في قتل من وجد من اليهود لنقضهم عهده ومحاربتِهم الله ورسوله.
فصل في غزوة أحد : ولما قتل الله أشراف قريش ببدر..
* الشيخ: قصة كعب بن الأشرف فيها دليل على جواز المخادعة للكافر المباح الدم، وهذا كافر مباح الدم فيجوز أن تخادعه لأي شيء شئت، «ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما طالب مبارزة عمرو بن ود وخرج إليه صاح به علي وقال: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو بن ود يظن أنه قد لحقه أحد، فضربه علي في حال التفاته، ضربه حتى ميز رأسه من جسمه»، هذه مخادعة، لكنها مخادعة جائزة؛ لأن هذا الرجل إنما خرج من أجل أن يقتلك، فأنت تحيل عليه لتقتله.
* طالب: نرى أن النبي ﷺ استشار المهاجرين (...) استشارت الأنصار، هل القائد يستشير جميع الجيش؟
* الشيخ: لا، هذه العلة بيّنها، أن الأنصار رضي الله عنهم إنما بايعوه على أن يحموه مما يحمون به نساءهم وأبناءهم في ديارهم، ومعلوم أن بدر ليست من ديار المدينة، فخاف أن يكون في نفوسهم شيء، ولهذا تكلم سعد بن معاذ والمقداد بن الأسود، وهما رجلان عن الجميع، ولم يستشرهم كلهم.
* طالب: الرسول ﷺ بشر المؤمنين بالنصر، ورأى مصارع القوم، ولما جاءت المعركة دعا الله وألح في الدعاء، شنو الحكمة والعبرة؟
* الشيخ: الحكمة أن هذا الوعد له سبب، هو موعود بسبب، من سببه هذا الدعاء، كما أن الله وعد الرسول عليه الصلاة والسلام الوسيلة ومع ذلك نحن ندعو له بها، فالرسول وُعد لكن بسبب ومن أسبابه الدعاء.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، تعليل ابن القيم رحمه الله بأن الشيطان إنما هرب خوفًا من أن يخلص إليه القتل، ما حكم وجهه مع قول الله عز وجل: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الحجر ٣٦، ٣٧]؟
* الشيخ: إي نعم وجيه، ولهذا -إن صحت القصة- لما هرب إلى البحر جعل يدعو الله بأن يحقق له ما وعده بالإنظار إلى يوم البعث. وأنت تعلم أن الإنسان عند حصول الحوادث قد ينزعج وينسى، «أليس النبي عليه الصلاة والسلام لما انكسفت الشمس خرج يجر رداءه، قال أنس أو الراوي: يخشى أن تكون الساعة»[[متفق عليه؛ البخاري (١٠٥٩) ومسلم (٩١٢ / ٢٤) من حديث أبي موسى الأشعري.]]، ومعلوم أن الساعة لها مقدمات، لكن مع شدة الانزعاج يحصل هذا الشيء.
* طالب: أحسن الله إليك، ما نعقل من قصة كعب بن الأشرف إذا كان بين المسلمين وقوم معاهدة وأخلف هؤلاء المعاهدون يعني صاروا يسبون المسلمين؟
* الشيخ: ينتقض عهده نعم، نقول: ينتقض عهده لا شك، إلا إذا كان زعيمًا ويكون عن قومه.
* الطالب: نندب من يقتله؟
* الشيخ: نعم.
* الطالب: في مثل هذه الأحوال يعني دول الكفار أقوى من المسلمين وفي كثير يعذب المسلمين ولا يمكن محاربة هؤلاء الكفار، ألا يندب إلى قتل مثل هذا؟
* الشيخ: هم بالحقيقة هؤلاء ما ظهر منهم الأذية ظهورًا بينًا.
* الطالب: يعني مثل الكاتب ذاك اللي كتب في سب الرسول ﷺ وعاش في بريطانيا ألا يستحق واحد يقتله؟
* الشيخ: بلى، كيف؟! لا، يستحق.
* الطالب: نقيس على ذلك؟
* الشيخ: إي نعم، كل من أساء إلى المسلمين من أهل الذمة حتى لو هم عندنا في بلادنا، إذا أساؤوا إلى المسلمين بزنا أو قتل أو غيره انتقض عهده، وصار ما له عهد، صار كالحربي يجوز لكل واحد أن يقتله.
* الطالب: وما على العلماء أن يفتوا بوجوب قتله؟
* الشيخ: هذا معروف عند الفقهاء، أي واحد يقرأ كتاب الجهاد في كتب الفقه يعرف هذا.
* الطالب: لكن العوام ما يدرون، وغالب الذي (...).
* الشيخ: صحيح، العامة ما يعرفون.
* طالب: أحسن الله إليكم، من ثبت كفره وزندقته من المسلمين هل يجوز غيلته؟
* الشيخ: إذا كان قد تعدى شره، إذا كان تعدى شره، ولم تخش الفتنة فربما نقول بجواز قتله، وقد نقول بمنع قتله خوفًا من أن يُطلع عليه؛ لأن الإنسان مهما تكتم قد يُطلع عليه. وإذا اطلع عليه ربما يكون فساد كبير.
* طالب: ينقض عهده بمفرده أم ينقض عهد كل الذميين الذين في هذا المكان؟
* الشيخ: نعم؟
* الطالب: إذا نقض العهد هذا الذمي بسب المسلمين؟
* الشيخ: هو فقط.
* الطالب: ولو كان رئيسًا؟
* الشيخ: إذا كان رئيسًا فقد يقال: إن هذا نقض للجميع؛ له ولمن تبعه.
* طالب: يا شيخ، إن الرسول ضرب عقبة بن أبي معيط هل هو الدليل ولا غيره؟
* الشيخ: على أيش؟
* طالب: لما أسره في بدر ضربه في..
* الشيخ: إي نعم، إي هذا لأنه مخير فيهم، الأسرى يخير فيهم الإمام بين أمور أربعة: بين القتل، والاسترقاق، والمن عليهم مجانًا، والمن عليهم بفداء، أربعة أشياء. على كل حال هذه المسائل ينبغي أن تجعل لولاة الأمور، يعني مثلًا نحن لو رأينا أحدًا في بلد فيه حكام مسلمون، وعلمنا أنه مرتد كافر فإنا نجعل هذا الأمر لولاة الأمور؛ لأنه يحصل فتنة، أما إذا صار في بلاد كفر فهذا نعم لا بأس أن نقتله؛ لأن بلاد الكفر لا يحكمون بالكتاب والسنة.
* طالب: يا شيخ عندنا في بلادنا بعض السادة يعني هؤلاء من أصحاب الكهنة أو من السادة وكذا يأتونهم الناس فيبصقون عليهم ويعتقدون بالشفاء، ويستندون لحكم أن النبي ﷺ عدة مرات بصق على بعض الصحابة ودعا لهم فشفاه، يقول هذه بركة ليست (...) لكن الله هو اللي الشافي لكن هذه البركة ولي دليل ..
* الشيخ: لكن هل بركة هذا المشعوذ بركة الرسول؟! سبحان الله! أقول: بركة هذا المشعوذ بركة الرسول ﷺ؟ ولاحظوا يا جماعة أن هؤلاء أولياء الشياطين، لاحظوا أن أولياء الشياطين قد تعينهم الشياطين فيما يريدون، قد تعينهم فيظن العامة أن هذا من الولاية فيغترون بهم.
* * *
* الطالب: .. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد:
فصل في غزوة أحد:
ولما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها، ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم، وجاء -كما ذكرنا- إلى أطراف المدينة في غزوة السَّويق، ولم ينل ما في نفسه أخذ يؤلب على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين، ويجمع الجموع، فجمع قريبًا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريبًا من جبل أحد بمكان يقال له: عَيْنَيْنِ، وذلك في شوال من السنة الثالثة، واستشار رسول الله ﷺ أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أُبي، وكان هو الرأي، فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمُقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة، فألح أولئك على رسول الله ﷺ فنهض ودخل بيته ولبِس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك، وقالوا: أكرهنا رسول الله ﷺ على الخروج فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله ﷺ: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ»[[أخرجه أحمد (١٤٧٨٧)، والدارمي (٢٢٠٥) من حديث جابر. ]].
فخرج رسول الله ﷺ في ألف من الصحابة، واستعمل ابن أم مكتوم على المدينة بمن بقي في المدينة، وكان رسول الله ﷺ رأى رؤيا وهو بالمدينة، رأى أن في سيفه ثُلمة، ورأى أن بقرًا تُذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة، فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول البقرة بنفر من أصحابه يُقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشوط بين المدينة وأُحد انخزل عبد الله بن أُبي بنحو ثلث العسكر، وقال: تخالفني وتسمع من غيري. فتبعهم عبد الله بن..
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. هذه الرؤيا، رؤيا النبي ﷺ وحي، بل «الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»[[أخرج البخاري (٦٩٨٩) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم (٢٢٦٣) من حديث أبي هريرة.]] كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ. ولكن ما المناسبة أنه رأى في سيفه ثلمة؟
المناسبة -والله أعلم- أن الإنسان إنما يعتز في العادة وعند العرب بقبيلته وأهل بيته، والسيف سبب للعزة؛ لأن الإنسان به يدافع وبه يهاجم، والثلمة هو استشهاد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وأما البقرة التي تذبح فإنها الصحابة رضي الله عنهم، ومُثلت له بالبقر لأن البقر من أنفع ما تكون من بهيمة الأنعام؛ يُحرث عليها، ويحلب منها، وتنمى، وهي هادئة بين الإبل وبين الغنم، ليس فيها سكينة الغنم الزائدة ولا شر الإبل الطائشة، فهي بين بين.
وأما إدخال يده في درع حصينة فهو تأولها عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أنه يأوي إليها، ومعلوم أن الدرع تقي المقاتل سهام الأعداء وسيوفهم، فإذا لجأ إلى المدينة فقد وقاه الله سبحانه وتعالى شر أعدائه بلجوئه إليها.
وفي هذا دليل على أن الرؤيا قد تكون بعيدة كل البعد من الواقع، وإنما تكون إشارات يضربها الملك للنائم يراها ويفهمها، أحيانًا تكون قريبة كرؤيا الملك لسبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فهذا واضح أنها في الزرع، في الجدب والإخصاب؛ لأنها قريبة، وأحيانًا، وهو قسم ثالث: يرى الإنسان الرؤيا فتقع بدون تأويل، أي تقع كما هي، كما رآها، وهذا أيضًا مشهور إلى وقتنا هذا؛ فإن بعض الناس إذا رأى رؤيا جاءت كما هي، بدون أن تكون أمثالًا مضروبة أو إشارات أو تلميحات.
* طالب: معنى الثلمة؟
* الشيخ: الثلمة في السيف يعني كسرة في حده، كما يعرف الآن يقال: مثلًا سكين منثلمة، سيف منثلم، جدار منثلم.
* * *
* الطالب: فخرج يوم الجمعة، فلما صار بالشوط بين المدينة وأُحد انخزل عبد الله بن أُبي بنحو ثلث العسكر، وقال: تخالفني وتسمع من غيري. فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر بن عبد الله، يوبخهم ويحضهم على الرجوع ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم وسبهم، وسألهم قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى وسلك حرة بني حارثة، وقال: «مَنْ رَجُلٌ»..
* الشيخ: سأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى؛ وذلك لأنه لا حاجة إلى ذلك، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام عرف أن اليهود أهل غدر، وأنهم لا يؤمنون، ولهذا لا يجوز أن نستعين بكافر إذا لم يكن هناك حاجة، ولا نستعين إذا كنا لا نأمنه، لا نأمنه على أسرارنا، أو نخشى أن يخذلنا عند القتال، فالمهم أن الرسول ﷺ منع هؤلاء أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود لهذا السبب.
* * *
* الطالب: وسلك حرة بني حارثة وقال: «مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ». فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين، وكان أعمى، فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله. فابتدره القوم ليقتلوه فقال: «لَا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ».
ونفذ رسول الله ﷺ حتى نزل الشِّعب من أُحد في عُدوة الوادي، وجعل ظهره إلى أحد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم، فلما أصبح يوم السبت تعبَّى للقتال وهو في سبع مئة، فيهم خمسون فارسًا، واستعمل على الرماة -وكانوا خمسين- عبد الله بن جُبير، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر، وكانوا خلف الجيش، وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. فظاهَر رسول الله ﷺ..
* الشيخ: يقول الله عز وجل: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ فالنبي عليه الصلاة والسلام قد صفهم وبوأ منازلهم في صبح يوم السبت، فمن العلماء من قال: إنه بالحادي عشر، ومنهم من قال: في السادس من شوال، وقد اتفقوا على أنه في شوال.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":118,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ بِطَانَةࣰ مِّن دُونِكُمۡ لَا یَأۡلُونَكُمۡ خَبَالࣰا وَدُّوا۟ مَا عَنِتُّمۡ قَدۡ بَدَتِ ٱلۡبَغۡضَاۤءُ مِنۡ أَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَمَا تُخۡفِی صُدُورُهُمۡ أَكۡبَرُۚ قَدۡ بَیَّنَّا لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ","هَـٰۤأَنتُمۡ أُو۟لَاۤءِ تُحِبُّونَهُمۡ وَلَا یُحِبُّونَكُمۡ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱلۡكِتَـٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡا۟ عَضُّوا۟ عَلَیۡكُمُ ٱلۡأَنَامِلَ مِنَ ٱلۡغَیۡظِۚ قُلۡ مُوتُوا۟ بِغَیۡظِكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ","إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةࣱ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَیِّئَةࣱ یَفۡرَحُوا۟ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ لَا یَضُرُّكُمۡ كَیۡدُهُمۡ شَیۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطࣱ","وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ","إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ"],"ayah":"وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق