الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١٢١ ] ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿وإذْ غَدَوْتَ﴾ أيْ: خَرَجْتَ: ﴿مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ﴾ أيْ: تُنَزِّلُ: ﴿المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ﴾ أيْ: أماكِنَ ومَراكِزَ يَقِفُونَ فِيها: ﴿لِلْقِتالِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ذَهَبَ الجُمْهُورُ وعُلَماءُ المَغازِي إلى أنَّ هَذِهِ الآياتِ نَزَلَتْ في وقْعَةِ أُحُدٍ، والسِّرُّ في سَوْقِ هَذِهِ الوَقْعَةِ الأُحُدِيَّةِ وإيلائِها البَدْرِيَّةِ، (p-٩٥٤)هُوَ تَقْرِيرُ ما سَبَقَ. فَإنَّ المُدَّعى فِيما قَبْلَها المَساءَةُ بِالحَسَنَةِ والمَسَرَّةُ بِالمُصِيبَةِ، وسُنَّةُ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ في بابِ النَّصْرِ والمَعُونَةِ ودَفْعِ مَضارِّ العَدُوِّ، إذا هم صَبَرُوا واتَّقَوْا، والتَّغْيِيرُ إذا غَيَّرُوا. أيْ: اذْكُرْ لَهم ما يُصَدِّقُ ذَلِكَ مِن أحْوالِكم الماضِيَةِ حِينَ لَمْ يَصْبِرُوا في أُحُدٍ، فَأُصِيبُوا، وسَرَّتْ الأعْداءَ مُصِيبَتُكم، وحِينَ صَبَرُوا واتَّبَعُوا فَنُصِرُوا وساءَ العَدُوَّ نَصْرُهم. وفي تَوْجِيهِ الخِطابِ إلَيْهِ ﷺ تَهْيِيجٌ لِغَيْرِهِ إلى تَدْقِيقِ النَّظَرِ واتِّباعِ الدَّلِيلِ، مِن غَيْرِ أدْنى وُقُوفٍ مَعَ المَأْلُوفِ كَذا يُسْتَفادُ مِن تَفْسِيرِ البِقاعِيِّ. وهَذِهِ الآيَةُ هي افْتِتاحُ القِصَّةِ، وقَدْ أُنْزِلَ فِيها سِتُّونَ آيَةً، وأُشِيرَ في هَذِهِ السُّورَةِ إلى بَعْضِ الحِكَمِ والغاياتِ المَحْمُودَةِ الَّتِي في هَذِهِ الوَقْعَةِ، كَما سَيُذْكَرُ، وكانَتْ في شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ بِاتِّفاقِ الجُمْهُورِ، وكانَ سَبَبُها أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قُتِلَ أشْرافُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ، وأُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ لِمَ يُصابُوا بِمِثْلِها، ورَأسَ فِيهِمْ أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ؛ لِذَهابِ أكابِرِهِمْ، وجاءُوا إلى أطْرافِ المَدِينَةِ في غَزْوَةِ السَّوِيقِ، ولَمْ يَنَلْ ما في نَفْسِهِ، أخَذَ يُؤَلِّبُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَلى المُسْلِمِينَ، ويَجْمَعُ الجُمُوعَ قَرِيبًا مِن ثَلاثَةِ آلافٍ مِن قُرَيْشٍ والحُلَفاءِ والأحابِيشِ. وجاءُوا بِنِسائِهِمْ لِئَلّا يَفِرُّوا لِيُحامُوا عَنْهُنَّ، ثُمَّ أقْبَلَ بِهِمْ نَحْوَ المَدِينَةِ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِن جَبَلِ أُحُدٍ، واسْتَشارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أصْحابَهُ: أيَخْرُجُ إلَيْهِمْ أمْ يَمْكُثُ في المَدِينَةِ ؟ وكانَ رَأْيُهُ أنْ لا يَخْرُجُوا مِنَ المَدِينَةِ. وأنْ يَتَحَصَّنُوا بِها، فَإنْ دَخَلُوها قاتَلَهم المُسْلِمُونَ عَلى أفْواهِ الأزِقَّةِ، والنِّساءُ مِن فَوْقِ البُيُوتِ، ووافَقَهُ عَلى هَذا الرَّأْيِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وكانَ هو الرَّأْيَ، فَبادَرَ جَماعَةٌ مِن فُضَلاءِ الصَّحابَةِ مِمَّنْ فاتَهُ الخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ، وأشارُوا عَلَيْهِ بِالخُرُوجِ، وألَحُّوا عَلَيْهِ في ذَلِكَ، فَنَهَضَ ودَخَلَ بَيْتَهُ، ولَبِسَ لَأْمَتَهُ، وخَرَجَ عَلَيْهِمْ وقَدْ انْثَنى عَزْمُ أُولَئِكَ المُلِحِّينَ، وقالُوا: أكْرَهْنا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى الخُرُوجِ، فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أحْبَبْتَ أنْ تَمْكُثَ في المَدِينَةِ فافْعَلْ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ما يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ، إذا لَبِسَ لَأْمَتَهُ، أنْ يَضَعَها حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَدُوِّهِ»» . وخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في (p-٩٥٥)ألْفٍ مِن أصْحابِهِ، واسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلى الصَّلاةِ بِبَقِيَّةِ المُسْلِمِينَ في المَدِينَةِ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأى رُؤْيا وهو بِالمَدِينَةِ: رَأى أنَّ في سَيْفِهِ ثُلْمَةً، ورَأى أنَّ بَقَرًا تُذْبَحُ، وأنَّهُ أدْخَلَ يَدَهُ في دِرْعٍ حَصِينَةٍ. فَتَأوَّلَ الثُّلْمَةَ في سَيْفِهِ: بِرَجُلٍ يُصابُ مِن أهْلِ بَيْتِهِ، وتَأوَّلَ البَقَرَ: بِنَفَرٍ مِن أصْحابِهِ يُقْتَلُونَ، وتَأوَّلَ الدِّرْعَ: بِالمَدِينَةِ. فَخَرَجَ يَوْمَ الجُمْعَةِ فَلَمّا صارَ بِالشَّوْطِ، بَيْنَ المَدِينَةِ وأُحُدٍ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ في ثُلْثِ النّاسِ، مُغاضِبًا لِمُخالَفَةِ رَأْيِهِ في المُقامِ. فَتَبِعَهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، والِدُ جابِرٍ، يُوَبِّخُهم ويَحُضُّهم عَلى الرُّجُوعِ ويَقُولُ: تَعالَوْا قاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ، أوْ ادْفَعُوا. قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكم تُقاتِلُونَ لَمْ نَرْجِعْ. فَرَجَعَ عَنْهم وسَبَّهم، وسَألَ النَّبِيَّ ﷺ قَوْمٌ مِنَ الأنْصارِ أنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفائِهِمْ مَن يَهُودَ فَأبى، وسَلَكَ حَرَّةَ بَنِي حارِثَةَ، ومَرَّ بَيْنَ الحَوائِطِ، وأبُو خَيْثَمَةَ مِن بَنِي حارِثَةَ يَدُلُّ بِهِ، حَتّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِن أُحُدٍ مُسْتَنِدًا إلى الجَبَلِ، ونَهى النّاسَ عَنْ القِتالِ حَتّى يَأْمُرَهم، فَلَمّا أصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ تَعَبّى لِلْقِتالِ وهو في سَبْعِمِائَةٍ. فِيهِمْ خَمْسُونَ فارِسًا وخَمْسُونَ رامِيًا وأمَّرَ عَلى الرُّماةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ. وأمَرَهُ وأصْحابَهُ أنْ يَلْزَمُوا مَراكِزَهم، وألّا يُفارِقُوهُ ولَوْ رَأوْا الطَّيْرَ تَخَطَّفُ العَسْكَرَ. وكانُوا خَلْفَ الجَيْشِ. وأمَرَهم أنْ يَنْضَحُوا المُشْرِكِينَ بِالنَّبْلِ لِئَلّا يَأْتُوا المُسْلِمِينَ مِن ورائِهِمْ. وظاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَئِذٍ، وأعْطى اللِّواءَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وجَعَلَ عَلى إحْدى المُجَنِّبَتَيْنِ الزُّبَيْرَ بْنَ العَوّامِ، وعَلى الأُخْرى المُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو. واسْتَعْرَضَ الشَّبابَ يَوْمَئِذٍ. فَرَدَّ مَن اسْتَصْغَرَهُ عَنْ القِتالِ. مِنهم: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وأُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ وأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ والبَراءُ بْنُ عازِبٍ وزَيْدُ بْنُ أرْقَمَ وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وعَرابَةُ بْنُ أوْسٍ وعَمْرُو بْنُ حِزامٍ. وأجازَ مَن رَآهُ مُطِيقًا. مِنهم: سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ ورافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، ولَهُما خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَقِيلَ: أجازَ مَن أجازَهُ، لِبُلُوغِهِ بِالسِّنِّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ورَدَّ مَن رَدَّ لِصِغَرِهِ عَنْ سِنِّ البُلُوغِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّما أجازَ مَن أجازَ لِإطاقَتِهِ، ورَدَّ مَن رَدَّ لِعَدَمِ إطاقَتِهِ، ولا تَأْثِيرَ لِلْبُلُوغِ وعَدَمِهِ في ذَلِكَ. قالُوا: وفي بَعْضِ ألْفاظٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: فَلَمّا رَآنِي مُطِيقًا أجازَنِي. (p-٩٥٦)وتَعَبَّتْ قُرَيْشٌ لِلْقِتالِ، وهم في ثَلاثَةِ آلافٍ، وفِيهِمْ مِائَتا فارِسٍ، فَجَعَلُوا عَلى مَيْمَنَتِهِمْ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ، وعَلى المَيْسَرَةِ عِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ، ودَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَيْفَهُ إلى أبِي دُجانَةَ (سِماكِ بْنِ خَرَشَةَ)، وكانَ شُجاعًا بَطَلًا يَخْتالُ عِنْدَ الحَرْبِ، وكانَ أوَّلُ مَن بَدَرَ مِنَ المُشْرِكِينَ أبُو عامِرٍ الفاسِقُ، واسْمُهُ: عَبْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ صَيْفِيٍّ، وكانَ يُسَمّى: (الرّاهِبَ) لِتَرَهُّبِهِ وتَنَسُّكِهِ في الجاهِلِيَّةِ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (الفاسِقَ) . وكانَ رَأْسَ الأوْسِ في الجاهِلِيَّةِ. فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ شَرِقَ بِهِ، وجاهَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالعَداوَةِ، فَخَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ، وذَهَبَ إلى قُرَيْشٍ يُؤَلِّبُهم عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويَحُضُّهم عَلى قِتالِهِ، ووَعَدَهم بِأنَّ قَوْمَهُ إذا رَأوْهُ أطاعُوهُ ومالُوا مَعَهُ. فَكانَ أوَّلَ مَن لَقِيَ مِنَ المُسْلِمِينَ فَنادى قَوْمَهُ وتَعَرَّفَ إلَيْهِمْ. قالُوا: لا أنْعَمَ اللَّهُ لَكَ عَيْنًا يا فاسِقُ ! فَقاتَلَ المُسْلِمِينَ قِتالًا شَدِيدًا، وأبْلى يَوْمَئِذٍ حَمْزَةُ وطَلْحَةُ وشَيْبَةُ وأبُو دُجانَةَ والنَّضْرُ بْنُ أنَسٍ بَلاءً شَدِيدًا، وأُصِيبَ جَماعَةٌ مِنَ الأنْصارِ مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ واشْتَدَّ القِتالُ، وكانَتْ الدَّوْلَةُ أوَّلَ النَّهارِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلى الكُفّارِ، فانْهَزَمَتْ أعْداءُ اللَّهِ ووَلَّوْا مُدْبِرِينَ حَتّى انْتَهَوْا إلى نِسائِهِمْ. فَلَمّا رَأى الرُّماةُ هَزِيمَتَهم تَرَكُوا مَرْكَزَهم الَّذِي أمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِحِفْظِهِ، وقالُوا: يا قَوْمُ ! الغَنِيمَةُ ! الغَنِيمَةُ ! فَذَكَّرَهم أمِيرُهم عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَسْمَعُوا، وظَنُّوا أنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا في طَلَبِ الغَنِيمَةِ، وأخْلَوْا الثَّغْرَ، ولَمْ يُطِعْ أمِيرَهم مِنهم إلّا نَحْوُ العَشْرَةِ، فَكَرَّ المُشْرِكُونَ وقَتَلُوا مَن بَقِيَ مِنَ الرُّماةِ، ثُمَّ أتَوْا الصَّحابَةَ مِن ورائِهِمْ وهم يَنْتَهِبُونَ، فَأحاطُوا بِهِمْ، واسْتُشْهِدَ مِنهم مَن أكْرَمَهُ اللَّهُ، ووَصَلَ العَدُوُّ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ صاحِبُ اللِّواءِ دُونَهُ حَتّى قُتِلَ، وجُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في وجْهِهِ، وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ اليُمْنى السُّفْلى بِحَجَرٍ، وهُشِمَتْ البَيْضَةُ في رَأْسِهِ، يُقالُ: إنَّ الَّذِي تَوَلّى ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ أبِي وقّاصٍ وعَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ اللَّيْثِيُّ. وشَدَّ حَنْظَلَةُ الغَسِيلُ عَلى أبِي سُفْيانَ لِيَقْتُلَهُ، فاعْتَرَضَهُ شَدّادُ بْنُ الأسْوَدِ اللَّيْثِيُّ، مِن شُعُوبٍ، فَقَتَلَهُ. وكانَ جُنُبًا. فَأخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ المَلائِكَةَ غَسَّلَتْهُ. (p-٩٥٧)وأكَبَّتْ الحِجارَةُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتّى سَقَطَ مِن بَعْضِ حُفَرٍ هُناكَ، فَأخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِهِ، واحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ حَتّى قامَ، ومَصَّ الدَّمَ مَن جُرْحِهِ مالِكُ بْنُ سِنانٍ الخُدْرِيُّ، والِدُ أبِي سَعِيدٍ، ونَشِبَتْ حَلْقَتانِ مَن حِلَقِ المِغْفَرِ في وجْهِهِ ﷺ فانْتَزَعَهُما أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرّاحِ. فَنَدَرَتْ ثَنِيَّتاهُ فَصارَ أهْتَمَ. ولَحِقَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وكَرَّ دُونَهُ نَفَرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقُتِلُوا كُلُّهم وكانَ آخِرُهم عَمّارُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، ثُمَّ قاتَلَ طَلْحَةُ حَتّى أُجْهِضَ المُشْرِكُونَ. وأبُو دُجانَةَ يَلِي النَّبِيَّ ﷺ بِظَهْرِهِ وتَقَعُ فِيهِ النَّبْلُ فَلا يَتَحَرَّكُ، وأُصِيبَتْ عَيْنُ قَتادَةَ بْنِ النُّعْمانِ. فَرَجَعَ وهي عَلى وجْنَتِهِ، فَرَدَّها عَلَيْهِ السَّلامُ بِيَدِهِ فَصَحَّتْ. وكانَتْ أحْسَنَ عَيْنَيْهِ. وانْتَهى النَّضْرُ بْنُ أنَسٍ إلى جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ وقَدْ دَهِشُوا، وقالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقالَ: فَما تَصْنَعُونَ في الحَياةِ بَعْدَهُ ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلى ما ماتَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ النّاسَ وقاتَلَ حَتّى قُتِلَ، ووُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةٌ، وجُرِحَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عِشْرِينَ جِراحَةً بَعْضُها في رِجْلِهِ فَعَرِجَ مِنها. وقُتِلَ حَمْزَةُ عَمُّ النَّبِيِّ ﷺ . ونادى الشَّيْطانُ: ألا إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، لِأنَّ عَمْرَو بْنَ قَمِيئَةَ كانَ قَدْ قَتَلَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَظُنُّ أنَّهُ النَّبِيُّ ﷺ . ووَهَنَ المُسْلِمُونَ لِصَرِيخِ الشَّيْطانِ. ثُمَّ إنَّ كَعْبَ بْنَ مالِكٍ الشّاعِرَ، مِن بَنِي سَلَمَةَ، عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ . فَنادى بِأعْلى صَوْتِهِ يُبَشِّرُ النّاسَ. ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لَهُ: أنْصِتْ. فاجْتَمَعَ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ ونَهَضُوا مَعَهُ نَحْوَ الشِّعْبِ، وأدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ في الشِّعْبِ، فَتَناوَلَ ﷺ الحَرْبَةَ مِنَ الحارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ وطَعَنَهُ بِها في عُنُقِهِ، فَكَرَّ أُبَيٌّ مُنْهَزِمًا. وقالَ لَهُ المُشْرِكُونَ: ما بِكَ مِن بَأْسٍ. فَقالَ: واَللَّهِ ! لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي، وكانَ ﷺ قَدْ تَوَعَّدَهُ بِالقَتْلِ. فَماتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرِفَ، مَرْجِعَهم إلى مَكَّةَ. ثُمَّ جاءَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالماءِ فَغَسَلَ وجْهَهُ ونَهَضَ. فاسْتَوى عَلى صَخْرَةٍ مِنَ الجَبَلِ. وحانَتْ الصَّلاةُ فَصَلّى بِهِمْ قُعُودًا. وغَفَرَ اللَّهُ لِلْمُنْهَزِمِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ. ونَزَلَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ﴾ [آل عمران: ١٥٥] الآيَةُ. (p-٩٥٨)واسْتُشْهِدَ نَحْوٌ مِن سَبْعِينَ. مُعْظَمُهم مِنَ الأنْصارِ. وقُتِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ اثْنانِ وعِشْرُونَ. ورَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ إلى المَدِينَةِ. ويُقالُ: إنَّهُ قالَ لَعَلِيٍّ: لا يُصِيبُ المُشْرِكُونَ مِنّا مِثْلَها حَتّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْنا. هَذا مُلَخَّصُ هَذِهِ القِصَّةِ. وقَدْ ساقَها بِأطْوَلَ مِن هَذا أهْلُ السِّيَرِ. وفِيما ذُكِرَ كِفايَةٌ. وأمّا ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الأحْكامِ والفِقْهِ والحِكَمِ والغاياتِ المَحْمُودَةِ، فَقَدْ تَكَفَّلَ بَيانَها الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في (زادِ المَعادِ) فارْجِعْ إلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: فَسَّرَ أكْثَرُ العُلَماءِ (غَدَوْتَ) بِأصْلِها، وهو الخُرُوجُ غَدْوَةً، أيْ: بُكْرَةً. ثُمَّ اسْتَشْكَلُوا أنَّهُ ﷺ خَرَجَ إلى أُحُدٍ بَعْدَ صَلاةِ الجُمْعَةِ كَما اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ أهْلِ السِّيَرِ، فَكَيْفَ المُطابَقَةُ ؟ فَمِنهم مَن أجابَ بِأنَّ المُرادَ غَدْوَةُ السَّبْتِ، وأنَّهُ كانَ في صَباحِهِ التَّبَوُّؤُ لِلْمَقاعِدِ، إلّا أنَّهُ لا يُساعِدُهُ: (مِن أهْلِكَ) لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ وقْتَئِذٍ أهْلُهُ مَعَهُ. ومِنهم مَن قالَ: المُرادُ: غَدْوَةُ الجُمْعَةِ أيْ: اذْكُرْ إذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ صَبِيحَةَ الجُمْعَةِ إلى أصْحابِكَ في مَسْجِدِكَ تَسْتَشِيرُهم في أمْرِ المُشْرِكِينَ، ثُمَّ قالَ: وبَنى مِن (غَدَوْتَ) حالًا إعْلامًا بِأنَّ الشُّرُوعَ في السَّبَبِ شُرُوعٌ في مُسَبَّبِهِ، فَقالَ: (تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ) أيْ: صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ. وكانَ يَخْطُرُ لِي أنَّ الأقْرَبَ جَعْلُ الغُدُوِّ بِمَعْنى الخُرُوجِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالبُكْرَةِ، وكَثِيرًا ما يُسْتَعْمَلُ كَذَلِكَ. ثُمَّ رَأيْتُ في فَتْحِ البَيانِ ما اسْتَظْهَرْتُهُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ عَلى المُوافَقَةِ، ونَصُّهُ: وعَبَّرَ عَنْ الخُرُوجِ بِالغُدُوِّ الَّذِي هو الخُرُوجُ غَدْوَةً مَعَ كَوْنِهِ ﷺ خَرَجَ بَعْدَ صَلاةِ الجُمْعَةِ، لِأنَّهُ قَدْ يُعَبَّرُ بِالغَدْوَةِ والرَّواحِ عَنْ الخُرُوجِ والدُّخُولِ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ أصْلِ مَعْناهُما، كَما يُقالُ: (أضْحى) وإنْ لَمْ يَكُنْ في وقْتِ الضُّحى - انْتَهى - . (p-٩٥٩)قالَ البِقاعِيُّ: ولَمّا كانَ رُجُوعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ المُنافِقِ، كَما يَأْتِي في صَرِيحِ الذِّكْرِ آخِرَ القِصَّةِ، مِنَ الأدِلَّةِ عَلى أنَّ المُنافِقِينَ، فَضْلًا عَنْ المُصارِحِينَ بِالمُصارَمَةِ، مُتَّصِفُونَ بِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْهم مِنَ العَداوَةِ والبَغْضاءِ، مَعَ أنَّهُ كانَ سَبَبًا في هَمِّ الطّائِفَتَيْنِ مِنَ الأنْصارِ بِالفَشَلِ. كانَ إيلاءُ هَذِهِ القِصَّةِ لِلنَّهْيِ عَنْ اتِّخاذِ بِطانَةِ السُّوءِ الَّذِينَ لا يُقَصِّرُونَ عَنْ فَسادٍ، في غايَةِ المُناسَبَةِ. ولِذَلِكَ افْتَتَحَها سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ مُبْدِلًا مِن (إذْ غَدَوْتَ) دَلِيلًا عَلى ما قَبْلُهُ مِن أنَّ بِطانَةَ السُّوءِ لا يَأْلُونَهم خَبالًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب