الباحث القرآني

﴿وإذْ غَدَوْتَ﴾ أيْ واذْكُرْ إذْ خَرَجْتَ غَدْوَةً ( ﴿مِن﴾ ) عِنْدِ ( ﴿أهْلِكَ﴾ ) والخِطابُ لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ خاصَّةً، والكَلامُ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِلِاسْتِشْهادِ بِما فِيهِ مِنِ اسْتِتْباعِ عَدَمِ الصَّبْرِ والتَّقْوى لِلضَّرَرِ عَلى أنَّ وُجُودَهُما مُسْتَتْبِعٌ لِما وعَدَ مِنَ النَّجاةِ عَنْ مَضَرَّةِ كَيْدِ الأعْداءِ، وكانَ الخُرُوجُ مِن حُجْرَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها ﴿تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ تُوطِنُهم قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وقِيلَ: تُنْزِلُهم، وقِيلَ: تُسَوِّي وتُهَيِّئُ لَهم، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ – لِلْمُؤْمِنِينَ - إذْ لَيْسَ مَحَلُّ التَّقْوِيَةِ والزِّيادَةِ غَيْرَ فَصِيحَةٍ ﴿مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ أيْ مَواطِنَ ومَواقِفَ ومَقاماتٍ لَهُ، وأصْلُ المَقْعَدِ والمَقامِ مَحَلُّ القُعُودِ والقِيامِ ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ بِطَرِيقِ المَجازِ عَلى المَكانِ مُطْلَقًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِيامٌ وقُعُودٌ، وقَدْ يُطْلَقُ عَلى مَن بِهِ كَقَوْلِهِمُ المَجْلِسُ السّامِيُّ والمَقامُ الكَرِيمُ، وجُمْلَةُ ( ﴿تُبَوِّئُ﴾ ) حالٌ مِن فاعِلِ ( ﴿غَدَوْتَ﴾ ) ولِكَوْنِ المَقْصُودِ تَذْكِيرُ الزَّمانِ المُمْتَدِّ المُتَّسِعِ لِابْتِداءِ الخُرُوجِ والتَّبْوِئَةِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها إذْ هو المُذَكِّرُ لِلْقِصَّةِ لَمْ يَحْتَجْ إلى القَوْلِ بِأنَّها حالٌ مُقَدَّرَةٌ أيْ ناوِيًا وقاصِدًا لِلتَّبْوِئَةِ، و( مَقاعِدَ ) مَفْعُولٌ ثانٍ – لِتُبَوِّئُ - والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ قَبْلَهُ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمَقاعِدَ، ولا يَجُوزُ - كَما قالَ أبُو البَقاءِ - أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ لِأنَّ المُرادَ بِهِ المَكانُ وهو لا يَعْمَلُ. رَوى ابْنُ إسْحاقَ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ شِهابٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى والحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وغَيْرِهِمْ، وكُلٌّ قَدْ حَدَّثَ بَعْضَ الحَدِيثِ " «أنَّهُ لَمّا أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ أصْحابِ القَلِيبِ ورَجَعَ فَلُّهم إلى مَكَّةَ، ورَجَعَ أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ بَعِيرِهِ مَشى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ وعِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ وصَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ في رِجالٍ مِن قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَتْ آباؤُهم وأبْناؤُهم وإخْوانُهم يَوْمَ بَدْرٍ فَكَلَّمُوا أبا سُفْيانَ، ومَن كانَتْ لَهُ في تِلْكَ العِيرِ مِن قُرَيْشٍ تِجارَةٌ فَقالُوا: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وتَرَكم وقَتَلَ أخْيارَكم فَأعِينُونا بِهَذا المالِ عَلى حَرْبِهِ لَعَلَّنا نُدْرِكُ بِهِ ثَأْرَنا بِمَن أصابَ مِنّا فَفَعَلُوا، فاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وخَرَجَتْ بِجِدِّها وجَدِيدِها وأحابِيشِها ومَن تابَعَها مِن بَنِي كِنانَةَ وأهْلِ تِهامَةَ، وخَرَجُوا مَعَهم بِالظَّعْنِ التِماسَ الحَفِيظَةِ وأنْ لا يَفِرُّوا، وخَرَجَ أبُو سُفْيانَ وهو قائِدُ النّاسِ بِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وخَرَجَ آخَرُونَ بِنِساءٍ أيْضًا، فَأقْبَلُوا حَتّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِن قَناةٍ عَلى شَفِيرِ الوادِي مُقابِلَ المَدِينَةِ، فَلَمّا سَمَّعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: إنِّي رَأيْتُ (p-42)بَقَرًا تُنْحَرُ، ورَأيْتُ في ذُبابِ سَيْفِي ثَلْمًا، ورَأيْتُ أنِّي أدْخَلْتُ يَدِي في دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأوَّلْتُها المَدِينَةَ، فَإنْ رَأيْتُمْ أنْ تُقِيمُوا بِالمَدِينَةِ وتَدْعُوهم حَيْثُ نَزَلُوا، فَإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرِّ مُقامٍ، وإنْ هم دَخَلُوا عَلَيْنا قاتَلْناهم فِيها، وكانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَرى رَأْيَهُ في ذَلِكَ أنْ لا يَخْرُجَ إلَيْهِمْ، وكانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَكْرَهُ الخُرُوجَ، فَقالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ مِمَّنْ أكْرَمَهُ اللَّهُ تَعالى بِالشَّهادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وغَيْرُهم مِمَّنْ كانَ فاتَهُ يَوْمُ بَدْرٍ: اخْرُجْ بِنا يا رَسُولَ اللَّهِ إلى أعْدائِنا لا يَرَوْنَ أنا جَبُنّا عَنْهم وضَعُفْنا، فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أقِمْ بِالمَدِينَةِ لا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ، فَواللَّهِ ما خَرَجْنا مِنها إلى عَدُوٍّ لَنا قَطُّ إلّا أصابَ مِنّا ولا دَخَلَ عَلَيْنا إلّا أصَبْنا مِنهُ فَدَعْهم، يا رَسُولَ اللَّهِ فَإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرِّ مَحْبَسٍ، وإنْ دَخَلُوا قاتَلَهُمُ الرِّجالُ مِن فَوْقِهِمْ، وإنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خائِبِينَ كَما جاءُوا، فَلَمْ يَزَلِ النّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّذِينَ كانَ مِن أمْرِهِمْ حُبُّ لِقاءِ القَوْمِ حَتّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبِهِ وذَلِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وقَدْ نَدِمَ النّاسُ وقالُوا: اسْتَكْرَهْنا رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولَمْ يَكُنْ لَنا ذَلِكَ، فَإنْ شِئْتَ فاقْعُدْ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقالَ: ما يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إذا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أنْ يَضَعَها حَتّى يُقاتِلَ، فَخَرَجَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِألْفٍ مِن أصْحابِهِ وقَدْ وعَدَهُمُ الفَتْحَ أنْ يَصْبِرُوا، واسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلى الصَّلاةِ بِالنّاسِ حَتّى إذا كانَ بِالشَّوْطِ بَيْنَ المَدِينَةِ وأُحُدٍ انْخَذَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بِثُلُثِ النّاسِ وقالَ: أطاعَهم وعَصانِي وما نَدْرِي عَلامَ نَقْتُلُ أنْفُسَنا هَهُنا أيُّها النّاسُ، فَرَجَعَ بِمَن تَبِعَهُ مِن قَوْمِهِ مِن أهْلِ النِّفاقِ والرَّيْبِ، واتَّبَعَهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حِزامٍ أخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ: يا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ تَعالى أنْ تَخْذُلُوا قَوْمَكم ونَبِيَّكم عِنْدَ ما حَضَرَ مِن عَدُوِّهِمْ، قالَ: لَوْ نَعْلَمُ أنَّكم تُقاتِلُونَ لَما أسْلَمْناكم، ولَكِّنا لا نَرى أنَّهُ يَكُونُ قِتالٌ، فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وأبَوْا إلّا الِانْصِرافَ، قالَ: أبْعَدَكُمُ اللَّهُ تَعالى أعْداءَ اللَّهِ فَسَيُغْنِي اللَّهُ تَعالى عَنْكم نَبِيَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ومَضى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ حَتّى سَلَكَ في حَرَّةِ بَنِي حارِثَةَ فَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ فَأصابَ كُلابَ سَيْفٍ فاسْتَلَّهُ، فَقالَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وكانَ يُحِبُّ الفَأْلَ ولا يَعْتافُ لِصاحِبِ السَّيْفِ: شُمَّ سَيْفَكَ فَإنِّي أرى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ اليَوْمَ، ومَضى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِن أُحُدٍ مِن عَدْوَةِ الوادِي إلى الجَبَلِ فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وعَسْكَرَهُ إلى أُحُدٍ وقالَ: لا يُقاتِلُ أحَدٌ حَتّى نَأْمُرَهُ بِالقِتالِ، وتَعَبَّأ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِلْقِتالِ ومَشى عَلى رِجْلَيْهِ وجَعَلَ يَصُفُّ أصْحابَهُ فَكَأنَّما يُقَوِّمُ بِهِمُ القَدَحَ إنْ رَأى صَدْرًا خارِجًا قالَ: تَأخَّرْ، وهو في سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وأمَّرَ عَلى الرُّماةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وهو مُعَلَّمٌ يَوْمَئِذَ بِثِيابٍ بِيضٍ وكانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا وقالَ: انْضَحِ الخَيْلَ عَنّا بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونا مَن خَلْفِنا إنْ كانَ عَلَيْنا أوْ لَنا فاثْبُتْ مَكانَكَ لا يُؤْتَيَنَّ مِن قِبَلَكَ، وظاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ ودَفَعَ اللِّواءَ إلى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وتَعَبَّأتْ قُرَيْشٌ وهم ثَلاثَةُ آلافٍ فِيهِمْ مِائَتا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوها، ووَقَعَ القِتالُ وكانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِن شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ وكانَ ما كانَ، وأشارَ اللَّهُ تَعالى إلى هَذا اليَوْمِ بِهَذِهِ الآيَةِ»، والقَوْلُ بِأنَّها إشارَةٌ إلى يَوْمِ بَدْرٍ كَقَوْلِ مُقاتِلٍ بِأنَّها إشارَةٌ إلى يَوْمِ الأحْزابِ خِلافُ ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ. ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ﴾ لِسائِرِ المَسْمُوعاتِ، ويَدْخُلُ ما وقَعَ في هَذِهِ الغَزْوَةِ مِنَ الأقْوالِ دُخُولًا أوَّلِيًّا ﴿عَلِيمٌ﴾ (121) بِسائِرِ المَعْلُوماتِ، ومِنها ما في ضَمائِرِ القَوْمِ يَوْمَئِذٍ، (p-43)والجُمْلَةُ اعْتِراضٌ لِلْإيذانِ بِأنَّهُ قَدْ قَدَّرَ مِنَ الأقْوالِ والأفْعالِ ما لا يَنْبَغِي صُدُورُهُ مِنهم، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ أصْحابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ حِينَ رَأوْا غَلَبَةَ المُسْلِمِينَ عَلى كُفّارِ قُرَيْشٍ: قَدْ غَنِمَ أصْحابُنا ونَبْقى نَحْنُ بِلا غَنِيمَةٍ وجَعَلُوا يَنْسَلُّونَ رَجُلًا فَرَجُلًا حَتّى أخْلَوْا مَراكِزَهم ولَمْ يَبْقَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ سِوى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مَعَ إيصاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِثُبُوتِهِمْ مَكانَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب