الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنكم أنْ تَفْشَلا واللَّهُ ولِيُّهُما وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ أتْبَعَهُ بِما يَدُلُّهم عَلى سُنَّةِ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ في بابِ النُّصْرَةِ والمَعُونَةِ ودَفْعِ مَضارِّ العَدُوِّ إذا هم صَبَرُوا واتَّقَوْا، وخِلافُ ذَلِكَ فِيهِمْ إذا لَمْ (p-١٧٩)يَصْبِرُوا فَقالَ: ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ﴾ يَعْنِي أنَّهم يَوْمَ أُحُدٍ كانُوا كَثِيرِينَ لِلْقِتالِ، فَلَمّا خالَفُوا أمْرَ الرَّسُولِ انْهَزَمُوا، ويَوْمَ بَدْرٍ كانُوا قَلِيلِينَ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتالِ فَلَمّا أطاعُوا أمْرَ الرَّسُولِ غَلَبُوا واسْتَوْلَوْا عَلى خُصُومِهِمْ، وذَلِكَ يُؤَكِّدُ قَوْلَنا، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ الِانْكِسارَ يَوْمَ أُحُدٍ إنَّما حَصَلَ بِسَبَبِ تَخَلُّفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ المُنافِقِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ اتِّخاذُ هَؤُلاءِ المُنافِقِينَ بِطانَةً وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ الأوَّلُ: تَقْدِيرُهُ واذْكُرْ إذْ غَدَوْتَ. والثّانِي: قالَ أبُو مُسْلِمٍ: هَذا كَلامٌ مَعْطُوفٌ بِالواوِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كانَ لَكم آيَةٌ في فِئَتَيْنِ التَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ﴾ [آل عمران: ١٣] يَقُولُ: قَدْ كانَ لَكم في نَصْرِ اللَّهِ تِلْكَ الطّائِفَةَ القَلِيلَةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَلى الطّائِفَةِ الكَثِيرَةِ مِنَ الكافِرِينَ مَوْضِعُ اعْتِبارٍ لِتَعْرِفُوا بِهِ أنَّ اللَّهَ ناصِرُ المُؤْمِنِينَ، وكانَ لَهم مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الآيَةِ إذْ غَدا الرَّسُولُ ﷺ يُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ. والثّالِثُ: العامِلُ فِيهِ مُحِيطٌ: تَقْدِيرُهُ واللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إذْ غَدَوْتَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذا اليَوْمَ أيُّ يَوْمٍ هو ؟ فالأكْثَرُونَ: أنَّهُ يَوْمُ أُحُدٍ: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيِّ وابْنِ إسْحاقَ والرَّبِيعِ والأصَمِّ وأبِي مُسْلِمٍ، وقِيلَ: إنَّهُ يَوْمُ بَدْرٍ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ، وقِيلَ إنَّهُ يَوْمُ الأحْزابِ وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ ومُقاتِلٍ، حُجَّةُ مَن قالَ هَذا اليَوْمُ هو يَوْمُ أُحُدٍ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ أكْثَرَ العُلَماءِ بِالمَغازِي زَعَمُوا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في وقْعَةِ أُحُدٍ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ولَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: ١٢٣] والظّاهِرُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ما تَقَدَّمَ، ومِن حَقِّ المَعْطُوفِ أنْ يَكُونَ غَيْرَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وأمّا يَوْمُ الأحْزابِ، فالقَوْمُ إنَّما خالَفُوا أمْرَ الرَّسُولِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ لا يَوْمَ الأحْزابِ، فَكانَتْ قِصَّةُ أُحُدٍ ألْيَقَ بِهَذا الكَلامِ لِأنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِ هَذِهِ القِصَّةِ تَقْرِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ فَثَبَتَ أنَّ هَذا اليَوْمَ هو يَوْمُ أُحُدٍ. الثّالِثُ: أنَّ الِانْكِسارَ واسْتِيلاءَ العَدُوِّ كانَ في يَوْمِ أُحُدٍ أكْثَرَ مِنهُ في يَوْمِ الأحْزابِ لِأنَّ في يَوْمِ أُحُدٍ قَتَلُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِن أكابِرِ الصَّحابَةِ ولَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ يَوْمَ الأحْزابِ فَكانَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى يَوْمِ أُحُدٍ أوْلى. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: رُوِيَ «أنَّ المُشْرِكِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعاءِ فاسْتَشارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أصْحابَهُ ودَعا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ ولَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَها فاسْتَشارَهُ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ وأكْثَرُ الأنْصارِ: يا رَسُولَ اللَّهِ أقِمْ بِالمَدِينَةِ ولا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ واللَّهِ ما خَرَجْنا مِنها إلى عَدُوٍّ قَطُّ إلّا أصابَ مِنّا ولا دَخَلَ عَدُوٌّ عَلَيْنا إلّا أصَبْنا مِنهُ، فَكَيْفَ وأنْتَ فِينا ؟ فَدَعْهم فَإنْ أقامُوا أقامُوا بِشَرِّ مَوْضِعٍ وإنْ دَخَلُوا قَتَلَهُمُ الرِّجالُ في وُجُوهِهِمْ، ورَماهُمُ النِّساءُ والصِّبْيانُ بِالحِجارَةِ، وإنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خائِبِينَ، وقالَ آخَرُونَ: اخْرُجْ بِنا إلى هَؤُلاءِ الأكْلُبِ لِئَلّا يَظُنُّوا أنّا قَدْ خِفْناهم، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”إنِّي قَدْ رَأيْتُ في مَنامِي بَقَرًا تُذْبَحُ حَوْلِي فَأوَّلْتُها خَيْرًا ورَأيْتُ في ذُبابِ سَيْفِي ثَلْمًا فَأوَّلْتُهُ هَزِيمَةً ورَأيْتُ كَأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي في دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأوَّلْتُهاالمَدِينَةَ فَإنْ رَأيْتُمْ أنْ تُقِيمُوا بِالمَدِينَةِ وتَدَعُوهم“ فَقالَ قَوْمٌ مِنَ المُسْلِمِينَ مِنَ الَّذِينَ فاتَتْهم (بَدْرٌ) وأكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ اخْرُجْ بِنا إلى أعْدائِنا فَلَمْ يَزالُوا بِهِ حَتّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَلَمّا لَبِسَ نَدِمَ القَوْمُ، وقالُوا: بِئْسَما صَنَعْنا نُشِيرُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ والوَحْيُ يَأْتِيهِ، فَقالُوا لَهُ اصْنَعْ يا رَسُولَ اللَّهِ ما رَأيْتَ، فَقالَ: ”لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُها حَتّى يُقاتِلَ“ فَخَرَجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ صَلاةِ الجُمُعَةِ وأصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِن أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِن شَوّالٍ، فَمَشى عَلى رِجْلَيْهِ وجَعَلَ (p-١٨٠)يَصُفُّ أصْحابَهُ لِلْقِتالِ كَأنَّما يُقَوِّمُ بِهِمُ القِدْحَ إنْ رَأى صَدْرًا خارِجًا قالَ لَهُ تَأخَّرْ، وكانَ نُزُولُهُ في جانِبِ الوادِي، وجَعَلَ ظَهْرَهُ وعَسْكَرَهُ إلى أُحُدٍ وأمَّرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ عَلى الرُّماةِ، وقالَ: ادْفَعُوا عَنّا بِالنَّبْلِ حَتّى لا يَأْتُونا مِن ورائِنا، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِأصْحابِهِ: اثْبُتُوا في هَذا المَقامِ، فَإذا عايَنُوكم ولُّوكُمُ الأدْبارَ، فَلا تَطْلُبُوا المُدْبِرِينَ ولا تَخْرُجُوا مِن هَذا المَقامِ، ثُمَّ إنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامَ لَمّا خالَفَ رَأْيَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وقالَ: أطاعَ الوِلْدانَ وعَصانِي، ثُمَّ قالَ لِأصْحابِهِ: إنَّ مُحَمَّدًا إنَّما يَظْفَرُ بِعَدُوِّهِ بِكم، وقَدْ وعَدَ أصْحابَهُ أنَّ أعْداءَهم إذا عايَنُوهُمُ انْهَزَمُوا، فَإذا رَأيْتُمْ أعْداءَهم فانْهَزِمُوا فَيَتْبَعُوكم، فَيَصِيرُ الأمْرُ عَلى خِلافِ ما قالَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمّا التَقى الفَرِيقانِ انْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بِالمُنافِقِينَ، وكانَ جُمْلَةُ عَسْكَرِ المُسْلِمِينَ ألْفًا، فانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ ثَلاثِمِائَةٍ، فَبَقِيَتْ سَبْعُمِائَةٍ، ثُمَّ قَوّاهُمُ اللَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَتّى هَزَمُوا المُشْرِكِينَ، فَلَمّا رَأى المُؤْمِنُونَ انْهِزامَ القَوْمِ، وكانَ اللَّهُ تَعالى بَشَّرَهم بِذَلِكَ، طَمِعُوا أنْ تَكُونَ هَذِهِ الواقِعَةُ كَواقِعَةِ بَدْرٍ، فَطَلَبُوا المُدْبِرِينَ وتَرَكُوا ذَلِكَ المَوْضِعَ، وخالَفُوا أمْرَ الرَّسُولِ ﷺ بَعْدَ أنْ أراهم ما يُحِبُّونَ، فَأرادَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَفْطِمَهم عَنْ هَذا الفِعْلِ لِئَلّا يُقْدِمُوا عَلى مُخالَفَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ ولِيَعْلَمُوا أنَّ ظَفَرَهم إنَّما حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ بِبَرَكَةِ طاعَتِهِمْ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، ومَتى تَرَكَهُمُ اللَّهُ مَعَ عَدُوِّهِمْ لَمْ يَقُومُوا لَهم فَنَزَعَ اللَّهُ الرُّعْبَ مِن قُلُوبِ المُشْرِكِينَ، فَكَثُرَ عَلَيْهِمُ المُشْرِكُونَ وتَفَرَّقَ العَسْكَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلى أحَدٍ والرَّسُولُ يَدْعُوكم في أُخْراكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٣] وشُجَّ وجْهُ الرَّسُولِ ﷺ وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ وشُلَّتْ يَدُ طَلْحَةَ دُونَهُ، ولَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلّا أبُو بَكْرٍ وعَلِيٌّ والعَبّاسُ وسَعْدٌ، ووَقَعَتِ الصَّيْحَةُ في العَسْكَرِ أنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، وكانَ رَجُلٌ يُكَنّى أبا سُفْيانَ مِنَ الأنْصارِ نادى الأنْصارَ وقالَ: هَذا رَسُولُ اللَّهِ، فَرَجَعَ إلَيْهِ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، وكانَ قُتِلَ مِنهم سَبْعُونَ وكَثُرَ فِيهِمُ الجِراحُ، فَقالَ ﷺ: ”رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا ذَبَّ عَنْ إخْوانِهِ“ وشَدَّ عَلى المُشْرِكِينَ بِمَن مَعَهُ حَتّى كَشَفَهم عَنِ القَتْلى والجَرْحى»، واللَّهُ أعْلَمُ. والمَقْصُودُ مِنَ القِصَّةِ أنَّ الكُفّارَ كانُوا ثَلاثَةَ آلافٍ والمُسْلِمُونَ كانُوا ألْفًا وأقَلَّ، ثُمَّ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مَعَ ثَلاثِمِائَةٍ مِن أصْحابِهِ فَبَقِيَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ سَبْعِمِائَةٍ، فَأعانَهُمُ اللَّهُ حَتّى هَزَمُوا الكُفّارَ، ثُمَّ لَمّا خالَفُوا أمْرَ الرَّسُولِ واشْتَغَلُوا بِطَلَبِ الغَنائِمِ انْقَلَبَ الأمْرُ عَلَيْهِمْ وانْهَزَمُوا ووَقَعَ ما وقَعَ، وكُلُّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكم كَيْدُهم شَيْئًا﴾ وأنَّ المُقْبِلَ مَن أعانَهُ اللَّهُ، والمُدْبِرَ مَن خَذَلَهُ اللَّهُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: يُقالُ: بَوَّأْتُهُ مَنزِلًا وبَوَّأْتُ لَهُ مَنزِلًا أيْ أنْزَلْتُهُ فِيهِ، والمَباءَةُ والباءَةُ المَنزِلُ وقَوْلُهُ: ﴿مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ أيْ مَواطِنَ ومَواضِعَ، وقَدِ اتَّسَعُوا في اسْتِعْمالِ المَقْعَدِ والمَقامِ بِمَعْنى المَكانِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: ٥٥] وقالَ: ﴿قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ﴾ [النمل: ٣٩] أيْ مِن مَجْلِسِكَ ومَوْضِعِ حُكْمِكَ وإنَّما عَبَّرَ عَنِ الأمْكِنَةِ هاهُنا بِالمَقاعِدِ لِوَجْهَيْنِ. الأوَّلُ: وهو أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أمَرَهم أنْ يَثْبُتُوا في مَقاعِدِهِمْ لا يَنْتَقِلُوا عَنْها، والقاعِدُ في مَكانٍ لا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، فَسَمّى تِلْكَ الأمْكِنَةَ بِالمَقاعِدِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم مَأْمُورُونَ بِأنْ يَثْبُتُوا فِيها ولا يَنْتَقِلُوا عَنْها ألْبَتَّةَ. والثّانِي: أنَّ المُقاتِلِينَ قَدْ يَقْعُدُونَ في الأمْكِنَةِ المُعَيَّنَةِ إلى أنْ يُلاقِيَهُمُ العَدُوُّ فَيَقُومُوا عِنْدَ الحاجَةِ إلى المُحارَبَةِ فَسُمِّيَتْ تِلْكَ الأمْكِنَةُ بِالمَقاعِدِ لِهَذا الوَجْهِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ يُرْوى «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ غَدا مِن مَنزِلِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فَمَشى عَلى رِجْلَيْهِ إلى أُحُدٍ»، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ والواقِدِيِّ، فَدَلَّ هَذا (p-١٨١)النَّصُّ عَلى أنَّ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها كانَتْ أهْلًا لِلنَّبِيِّ ﷺ وقالَ تَعالى: ﴿والطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ والطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ﴾ [النور: ٢٦] فَدَلَّ هَذا النَّصُّ عَلى أنَّها مُطَهَّرَةٌ مُبَرَّأةٌ عَنْ كُلِّ قَبِيحٍ، ألا تَرى أنَّ ولَدَ نُوحٍ لَمّا كانَ كافِرًا قالَ: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦] وكَذَلِكَ امْرَأةُ لُوطٍ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ سَمِيعٌ لِأقْوالِكم عَلِيمٌ بِضَمائِرِكم ونِيّاتِكم، فَإنّا ذَكَرْنا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ شاوَرَ أصْحابَهُ في تِلْكَ الحَرْبِ، فَمِنهم مَن قالَ لَهُ: أقِمْ بِالمَدِينَةِ، ومِنهم مَن قالَ: اخْرُجْ إلَيْهِمْ، وكانَ لِكُلِّ أحَدٍ غَرَضٌ آخَرُ فِيما يَقُولُ، فَمِن مُوافِقٍ، ومِن مُخالِفٍ فَقالَ تَعالى: أنا سَمِيعٌ لِما يَقُولُونَ عَلِيمٌ بِما يُضْمِرُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب