الباحث القرآني

﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنكم أنْ تَفْشَلا واللَّهُ ولِيُّهُما وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ﴾ . وُجُودُ حَرْفِ العَطْفِ في قَوْلِهِ ﴿وإذْ غَدَوْتَ﴾ مانِعٌ مِن تَعْلِيقِ الظَّرْفِ بِبَعْضِ الأفْعالِ المُتَقَدِّمَةِ مِثْلُ ﴿ودُّوا ما عَنِتُّمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] ومِثْلُ ﴿يَفْرَحُوا بِها﴾ [آل عمران: ١٢٠] وعَلَيْهِ فَهو آتٍ كَما أتَتْ نَظائِرُهُ في أوائِلِ الآيِ والقِصَصِ القُرْآنِيَّةِ، وهو مِن عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ وقِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ وذَلِكَ انْتِقالٌ اقْتِضابِيٌّ فالتَّقْدِيرُ: واذْكُرْ إذْ غَدَوْتَ. ولا يَأْتِي في هَذا تَعَلُّقُ الظَّرْفِ بِفِعْلٍ مِمّا بَعْدَهُ لِأنَّ قَوْلَهُ تُبَوِّئُ لا يَسْتَقِيمُ أنْ يَكُونَ مَبْدَأ الغَرَضِ، وقَوْلُهُ هَمَّتْ لا يَصْلُحُ لِتَعْلِيقِ إذْ غَدَوْتَ لِأنَّهُ مَدْخُولُ (إذْ) أُخْرى. ومُناسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ الوَقْعَةِ عَقِبَ ما تَقَدَّمَ أنَّها مِن أوْضَحِ مَظاهِرِ كَيْدِ المُخالِفِينَ في الدِّينِ، والمُنافِقِينَ، ولَمّا كانَ شَأْنُ المُنافِقِينَ وأهْلِ يَثْرِبَ واحِدًا، ودَخِيلَتُهُما سَواءً، وكانُوا يَعْمَلُونَ عَلى ما تُدَبِّرُهُ اليَهُودُ، جَمَعَ اللَّهُ مَكائِدَ الفَرِيقَيْنِ بِذِكْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ، وكانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ كَما تَقَدَّمَ. فَهَذِهِ الآياتُ تُشِيرُ إلى وقْعَةِ أُحُدٍ الكائِنَةِ في شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، حِينَ نَزَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ ومَن مَعَهم مِن أحْلافِهِمْ سَفْحَ جَبَلِ أُحُدٍ، حَوْلَ المَدِينَةِ، لِأخْذِ الثَّأْرِ بِما نالَهم يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الهَزِيمَةِ، فاسْتَشارَ (p-٧٠)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أصْحابَهُ فِيما يَفْعَلُونَ وفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسُ المُنافِقِينَ، فَأشارَ جُمْهُورُهم بِالتَّحَصُّنِ بِالمَدِينَةِ حَتّى إذا دَخَلَ عَلَيْهِمُ المُشْرِكُونَ المَدِينَةَ قاتَلُوهم في الدِّيارِ والحُصُونِ فَغَلَبُوهم، وإذا رَجَعُوا رَجَعُوا خائِبِينَ، وأشارَ فَرِيقٌ بِالخُرُوجِ ورَغِبُوا في الجِهادِ وألَحُّوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأخَذَ النَّبِيءُ ﷺ بِرَأْيِ المُشِيرِينَ بِالخُرُوجِ، ولَبِسَ لَأْمَتَهُ ثُمَّ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ تَرَدُّدٌ في الخُرُوجِ فَراجَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ «لا يَنْبَغِي لِنَبِيءٍ أنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَها حَتّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وبَيْنَ عَدُوِّهِ» . وخَرَجَ بِالمُسْلِمِينَ إلى جَبَلِ أُحُدٍ وكانَ الجَبَلُ وراءَهم، وصَفَّهم لِلْحَرْبِ، وانْكَشَفَتِ الحَرْبُ عَنْ هَزِيمَةٍ خَفِيفَةٍ لَحِقَتِ المُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَكِيدَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ رَأْسِ المُنافِقِينَ، إذِ انْخَزَلَ هو وثُلُثُ الجَيْشِ، وكانَ عَدَدُ جَيْشِ المُسْلِمِينَ سَبْعَمِائَةٍ، وعَدَدُ جَيْشِ أهْلِ مَكَّةَ ثَلاثَةَ آلافٍ، وهَمَّتْ بَنُو سَلَمَةَ وبَنُو حارِثَةَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِالِانْخِزالِ، ثُمَّ عَصَمَهُمُ اللَّهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنكم أنْ تَفْشَلا واللَّهُ ولِيُّهُما﴾ أيْ ناصِرُهُما عَلى ذَلِكَ الهَمِّ الشَّيْطانِيِّ، الَّذِي لَوْ صارَ عَزْمًا لَكانَ سَبَبَ شَقائِهِما، فَلِعِنايَةِ اللَّهِ بِهِما بَرَّأهُما اللَّهُ مِن فِعْلِ ما هَمَّتا بِهِ، وفي البُخارِيِّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: نَحْنُ الطّائِفَتانِ بَنُو حارِثَةَ وبَنُو سَلَمَةَ وفِينا نَزَلَتْ ﴿إذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنكم أنْ تَفْشَلا﴾ وما يَسُرُّنِي أنَّها لَمْ تَنْزِلْ واللَّهُ يَقُولُ ﴿واللَّهُ ولِيُّهُما﴾ وانْكَشَفَتِ الواقِعَةُ عَنْ مَرْجُوحِيَّةِ المُسْلِمِينَ إذْ قُتِلَ مِنهم سَبْعُونَ، وقُتِلَ مِنَ المُشْرِكِينَ نَيِّفٌ وعِشْرُونَ وقالَ أبُو سُفْيانَ: يَوْمَئِذٍ: (اعْلُ هُبْلُ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ والحَرْبُ سِجالٌ) وقُتِلَ حَمْزَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومَثَّلَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، زَوْجُ أبِي سُفْيانَ، إذْ بَقَرَتْ عَنْ بَطْنِهِ وقَطَعَتْ قِطْعَةً مِن كَبِدِهِ لِتَأْكُلَها لِإحْنَةٍ كانَتْ في قَلْبِها عَلَيْهِ إذْ قَتَلَ أباها عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ أسْلَمَتْ بَعْدُ وحَسُنَ إسْلامُها. وشُجَّ وجْهُ النَّبِيءِ ﷺ يَوْمَئِذٍ وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ. والغُدُوُّ: الخُرُوجُ في وقْتِ الغَداةِ. و(مِن) في قَوْلِهِ (مِن أهْلِكَ) ابْتِدائِيَّةٌ. (p-٧١)والأهْلُ: الزَّوْجُ. والكَلامُ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ (غَدَوْتَ) أيْ: مِن بَيْتِ أهْلِكَ وهو بَيْتُ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - . و(تُبَوِّئُ) تَجْعَلُ مَباءً أيْ مَكانَ بَوْءٍ. والبَوْءُ: الرُّجُوعُ، وهو هُنا المَقَرُّ لِأنَّهُ يَبُوءُ إلَيْهِ صاحِبُهُ. وانْتَصَبَ المُؤْمِنِينَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ أوَّلُ لِـ (تُبَوِّئُ) و(مَقاعِدَ) مَفْعُولٌ ثانٍ إجْراءً لِفِعْلِ تُبَوِّئُ مَجْرى تُعْطِي. والمَقاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ. وهو مَكانُ القُعُودِ أيِ الجُلُوسِ عَلى الأرْضِ، والقُعُودُ ضِدُّ الوُقُوفِ والقِيامِ، وإضافَةُ مَقاعِدَ لِاسْمِ القِتالِ قَرِينَةٌ عَلى أنَّهُ أطْلَقَ عَلى المَواضِعِ اللّائِقَةِ بِالقِتالِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيها الجَيْشُ ولا يَنْتَقِلُ عَنْها لِأنَّها لائِقَةٌ بِحَرَكاتِهِ، فَأطْلَقَ المَقاعِدَ هُنا عَلى مَواضِعِ القَرارِ كِنايَةً، أوْ مَجازًا مُرْسَلًا بِعَلاقَةِ الإطْلاقِ، وشاعَ ذَلِكَ في الكَلامِ حَتّى ساوى المَقَرَّ والمَكانَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ [القمر: ٥٥] . واعْلَمْ أنَّ كَلِمَةَ مَقاعِدَ جَرى فِيها عَلى الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقْدٌ إذْ قالَ في رِثاءِ أبِي إسْحاقَ الصّابِئِ: ؎أعْزِزْ عَلَيَّ بِأنْ أراكَ وقَدْ خَلا عَنْ جانِبَيْكَ مَقاعِدُ العُوّادِ ذَكَرَ ابْنُ الأثِيرِ في المَثَلِ السّائِرِ أنَّ ابْنَ سِنانٍ قالَ: إيرادُهُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ في هَذا المَوْضِعِ صَحِيحٌ إلّا أنَّهُ مُوافِقٌ لِما يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لا سِيَّما وقَدْ أضافَهُ إلى مَن تَحْتَمِلُ إضافَتُهُ إلَيْهِ وهُمُ العُوّادُ، ولَوِ انْفَرَدَ لَكانَ الأمْرُ سَهْلًا. وقالَ ابْنُ الأثِيرِ: قَدْ جاءَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ في القُرْآنِ فَجاءَتْ مَرْضِيَّةً وهي قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذْ غَدَوْتَ مِن أهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ ألا تَرى أنَّها في هَذِهِ الآيَةِ غَيْرُ مُضافَةٍ إلى مَن تَقْبُحُ إضافَتُها إلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب