الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلا جُناحَ عَلَيْكم فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِساءِ أو أكْنَنْتُمْ في أنْفُسِكم عَلِمَ اللهُ أنَّكم سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إلا أنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ واعْلَمُوا أنْ اللهُ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أنْ اللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
المُخاطَبَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ لِجَمِيعِ الناسِ، والمُباشِرُ لِحُكْمِها هو الرَجُلُ الَّذِي في نَفْسِهِ تَزْوِيجُ مُعْتَدَّةٍ.
والتَعْرِيضُ: هو الكَلامُ الَّذِي لا تَصْرِيحَ فِيهِ، كَأنَّهُ يَعْرِضُ لِفِكْرِ المُتَكَلِّمِ بِهِ. وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ الكَلامَ مَعَ المُعْتَدَّةِ بِما هو نَصٌّ في تَزْوِيجِها، وتَنْبِيهٌ عَلَيْهِ، لا يَجُوزُ، وكَذَلِكَ أجْمَعَتْ عَلى أنَّ الكَلامَ مَعَها بِما هو رَفَثُ، وذِكْرُ جِماعٍ، أو تَحْرِيضٌ عَلَيْهِ، لا يَجُوزُ، وجَوَّزَ ما عَدا ذَلِكَ.
ومِن أعْظَمِهِ قُرْبًا إلى التَصْرِيحِ، «قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ لِفاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: "كُونِي عِنْدَ أُمِّ شَرِيكٍ، ولا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ». ومِنَ المُجَوَّزِ قَوْلُ الرَجُلِ: إنَّكِ إلى خَيْرٍ، وإنَّكِ لَمَرْغُوبٌ فِيكِ، وإنِّي لَأرْجُو أنْ أتَزَوَّجَكِ، وإنْ يُقَدَّرْ أمْرٌ يَكُنْ، هَذا هو تَمْثِيلُ مالِكٍ، وابْنِ شِهابٍ، وكَثِيرٍ مِن أهْلِ العِلْمِ في هَذا.
وجائِزٌ أنْ يَمْدَحَ نَفْسَهُ، ويَذْكُرَ مَآثِرَهُ عَلى جِهَةِ التَعْرِيضِ بِالزَواجِ، وقَدْ فَعَلَهُ أبُو جَعْفَرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، واحْتَجَّ بِأنَّ النَبِيَّ ﷺ فَعَلَهُ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ.
(p-٥٨١)والهَدِيَّةُ إلى المُعْتَدَّةِ جائِزَةٌ، وهي مِنَ التَعْرِيضِ، قالَهُ سَحْنُونٌ وكَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ. وقَدْ كَرِهَ مُجاهِدٌ أنْ يَقُولَ: لا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ ورَآهُ مِنَ المُواعَدَةِ سِرًّا
وهَذا عِنْدِي عَلى أنْ يَتَأوَّلَ قَوْلَ النَبِيِّ ﷺ لِفاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، إنَّهُ عَلى جِهَةِ الرَأْيِ لَها فِيمَن يَتَزَوَّجُها، لا أنَّهُ أرادَها لِنَفْسِهِ، وإلّا فَهو خِلافٌ لِقَوْلِهِ ﷺ.
والخِطْبَةُ –بِكَسْرِ الخاءِ- فِعْلُ الخاطِبِ مِن كَلامٍ وقَصْدٍ واسْتِلْطافٍ بِفِعْلٍ أو قَوْلٍ، يُقالُ: خَطَبَها يَخْطِبُها خَطْبًا وخِطْبَةً ورَجُلٌ خَطّابٌ كَثِيرُ التَصَرُّفِ في الخِطْبَةِ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ بَرَحَ بِالعَيْنَيْنِ خَطّابُ الكُثَبِ يَقُولُ إنِّي خاطِبٌ وقَدْ كَذَبَ
؎ وإنَّما يَخْطُبُ عَسًّا مَن حَلَبْ
والخِطْبَةُ فِعْلَةٌ كَجِلْسَةٌ وقِعْدَةٌ. والخُطْبَةُ -بِضَمِّ الخاءِ- هي الكَلامُ الَّذِي يُقالُ في النِكاحِ وغَيْرِهِ. و"أكْنَنْتُمْ" مَعْناهُ: سَتَرْتُمْ وأخْفَيْتُمْ. تَقُولُ العَرَبُ: كَنَنْتُ الشَيْءَ مِنَ الأجْرامِ، إذا سَتَرْتُهُ في بَيْتٍ أو ثَوْبٍ، أو أرْضٍ ونَحْوِهِ، وأكْنَنْتُ الأمْرَ في نَفْسِي. ولَمْ يُسْمَعْ مِنَ العَرَبِ كَنَنْتُهُ في نَفْسِي، وتَقُولُ: أكَنَّ البَيْتُ الإنْسانَ ونَحْوُ هَذا.
فَرَفَعَ اللهُ الجَناحَ عَمَّنْ أرادَ تَزَوُّجَ المُعْتَدَّةِ مَعَ التَعْرِيضِ ومَعَ الإكْنانِ ونَهى عَنِ المُواعَدَةِ الَّتِي هي تَصْرِيحٌ بِالتَزْوِيجِ وبِناءٌ عَلَيْهِ، واتِّفاقٌ عَلى وعْدٍ، فَرَخَّصَ -لِعِلْمِهِ تَعالى (p-٥٨٢)-بِغَلَبَةِ النُفُوسِ وطِماحِها وضَعْفِ البَشَرِ عن مِلْكِها.
وقَوْلُهُ تَعالى: "سَتَذْكُرُونَهُنَّ" قالَ الحَسَنُ: سَتَخْطِبُونَهُنَّ، كَأنَّهُ قالَ: إنْ لَمْ تُنْهَوْا. وقالَ غَيْرُ الحَسَنِ: مَعْناهُ عَلِمَ اللهُ أنَّكم سَتَذْكُرُونَ النِساءَ المُعْتَدّاتِ في نُفُوسِكم وبِألْسِنَتِكم لِمَن يَخِفُّ عِنْدَكُمْ، فَنَهى عن أنْ يُوصَلَ إلى التَواعُدِ مَعَها، لِما في ذَلِكَ مِن هَتْكِ حُرْمَةِ العِدَّةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومالِكٌ، وأصْحابُهُ، والشَعْبِيُّ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، والسُدِّيُّ، وجُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ المَعْنى: لا تُوافِقُوهُنَّ بِالمُواعَدَةِ والتَوَثُّقِ وأخْذِ العُهُودِ في اسْتِسْرارٍ مِنكم وخِفْيَةٍ، فَـ "سِرًّا" -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- نُصِبَ عَلى الحالِ، أيْ مُسْتَسِرِّينَ. وقالَ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وأبُو مِجْلَزٍ لاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، والضَحّاكُ، وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: السِرُّ في هَذِهِ الآيَةِ الزِنى: أيْ لا تُواعِدُوهُنَّ زِنى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
هَكَذا جاءَتْ عِبارَةُ هَؤُلاءِ في تَفْسِيرِ السِرِّ، وفي ذَلِكَ عِنْدِي نَظَرٌ، وذَلِكَ أنَّ السِرَّ في اللُغَةِ يَقَعُ عَلى الوَطْءِ، حَلالُهُ وحَرامُهُ، لَكِنَّ مَعْنى الكَلامِ وقَرِينَتُهُ تُرَدُّ إلى أحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَمِنَ الشَواهِدِ قَوْلُ الحُطَيْئَةِ:
؎ ويَحْرُمُ سِرُّ جارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ∗∗∗ ويَأْكُلُ جارُهم أنْفَ القِصاعِ
فَقَرِينَةُ هَذا البَيْتِ تُعْطِي أنَّ السِرَّ أرادَ بِهِ الوَطْءَ حَرامًا، وإلّا فَلَوْ تَزَوَّجَتِ الجارَةُ كَما يَحْسُنُ لَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ عارٌ، ومِنَ الشَواهِدِ قَوْلُ الآخَرِ:(p-٥٨٣)
؎ أخالَتُنا سِرُّ النِساءِ مُحَرَّمٌ ∗∗∗ عَلَيَّ، وتَشْهادُ النَدامى مَعَ الخَمْرِ
؎ لَئِنْ لَمْ أُصَبِّحْ داهِنًا ولَفِيفَها ∗∗∗ وناعِبَها يَوْمًا بِراغِيَةِ البِكْرِ
فَقَرِينَةُ هَذا الشِعْرِ تُعْطِي أنَّهُ أرادَ تَحْرِيمَ جِماعِ النِساءِ عُمُومًا، في حَرامٍ وحَلالٍ، حَتّى يَنالَ ثَأْرَهُ.
والآيَةُ تُعْطِي النَهْيَ عن أنْ يُواعِدَ الرِجْلُ المُعْتَدَّةَ أنْ يَطَأها بَعْدَ العِدَّةِ بِوَجْهِ التَزْوِيجِ، وأمّا المُواعَدَةُ في الزِنى فَمُحَرَّمٌ عَلى المُسْلِمِ مَعَ مُعْتَدَّةٍ وغَيْرِها.
وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ قالَ: "سِرًّا": نِكاحًا، وهَذِهِ عِبارَةٌ مُخَلِّصَةٌ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَلَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾ أيْ: لا تَنْكِحُوهُنَّ سِرًّا وتَكْتُمُونَ ذَلِكَ، فَإذا حَلَّتْ أظْهَرْتُمُوهُ ودَخَلْتُمْ بِهِنَّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فابْنُ زَيْدٍ في مَعْنى السِرِّ مَعَ القَوْلِ الأوَّلِ، أيْ خُفْيَةً. وإنَّما شَذَّ في أنْ سَمّى العَقْدَ مُواعِدَةً، وذَلِكَ قَلَقٌ، لِأنَّ العَقْدَ مَتى وقَعَ -وَإنْ كَتَمَ- فَإنَّما هو في عَزْمِ العُقْدَةِ، وحَكى مَكِّيٌّ عنهُ أنَّهُ قالَ: الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِكاحِ﴾.
وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى كَراهِيَةِ المُواعَدَةِ في العِدَّةِ لِلْمَرْأةِ في نَفْسِها ولِلْأبِ في ابْنَتِهِ البِكْرِ، ولِلسَّيِّدِ في أمَتِهِ، قالَ ابْنُ المَوّازِ: "فَأمّا الوَلِيُّ الَّذِي لا يَمْلِكُ الجَبْرَ فَأكْرَهُهُ وإنْ نَزَلَ لَمْ أفْسَخْهُ". وقالَ مالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيمَن يُواعِدُ في العِدَّةِ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ بَعْدَها: "فِراقُها أحَبُّ إلَيَّ، دَخَلَ بِها أو لَمْ يَدْخُلْ، وتَكُونُ تَطْلِيقَةً واحِدَةً، فَإذا حَلَّتْ خَطَبَها مَعَ (p-٥٨٤)الخُطّابِ". هَذِهِ رِوايَةُ ابْنِ وهْبٍ، ورَوى أشْهَبُ عن مالِكٍ أنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُما إيجابًا. وقالَهُ ابْنُ القاسِمِ، وحَكى ابْنُ حارِثٍ مِثْلَهُ عَنِ ابْنِ الماجِشُونِ، وزادَ ما يَقْتَضِي أنَّ التَحْرِيمَ يَتَأبَّدُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا أنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا﴾ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، والقَوْلُ المَعْرُوفُ: هو ما أُبِيحَ مِنَ التَعْرِيضِ، وقَدْ ذَكَرَ الضَحّاكُ، أنَّ مِنَ القَوْلِ المَعْرُوفِ أنْ يَقُولَ الرَجُلُ لِلْمُعْتَدَّةِ: احْبِسِي عَلَيَّ نَفْسَكِ، فَإنَّ لِي بِكِ رَغْبَةً، فَتَقُولُ هِيَ: وأنا مِثْلُ ذَلِكَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ عِنْدِي مُواعَدَةٌ، وإنَّما التَعْرِيضُ قَوْلُ الرَجُلِ: إنَّكم لَأكْفاءٌ كِرامٌ، وما قُدِّرَ كانَ، وإنَّكِ لَمُعْجِبَةٌ، ونَحْوُ هَذا.
***
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾
عَزْمُ العُقْدَةِ: عَقْدُها بِالإشْهادِ والوَلِيِّ، وحِينَئِذٍ تُسَمّى "عُقْدَةً".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾. يُرِيدُ تَمامَ العِدَّةِ، و"الكِتابُ" هُنا هو الحَدُّ الَّذِي جُعِلَ، والقَدْرُ الَّذِي رُسِمَ مِنَ المُدَّةِ، سَمّاهُ كِتابًا إذْ قَدَّرَهُ وفَرَضَهُ كِتابُ اللهِ تَعالى، كَما قالَ: ﴿كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤] وكَما قالَ: ﴿إنَّ الصَلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] ولا يَحْتاجُ عِنْدِي في الكَلامِ إلى حَذْفِ مُضافٍ، وقَدْ قَدَّرَ أبُو إسْحاقَ في ذَلِكَ حَذْفَ مُضافٍ، أيْ "فَرْضُ الكِتابِ"، وهَذا عَلى أنْ جَعَلَ الكِتابَ القُرْآنَ.
(p-٥٨٥)واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ إنْ خالَفَ أحَدٌ هَذا النَهْيَ، وعَزَمَ العُقْدَةَ قَبْلَ بُلُوغِ الأجَلِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وأنا أُفَصِّلُ المَسْألَةَ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.
أمّا إنْ عَقَدَ في العِدَّةِ وعَثَرَ عَلَيْهِ فَفَسَخَ الحاكِمُ نِكاحَهُ، وذَلِكَ قَبْلَ الدُخُولِ فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ: إنَّ ذَلِكَ لا يُؤَبِّدُ تَحْرِيمًا، وقالَهُ مالِكٌ، وابْنُ القاسِمِ في "المُدَوَّنَةِ" في آخِرِ البابِ الَّذِي يَلِيهِ ضَرْبُ أجْلِ امْرَأةِ المَفْقُودِ. وقالَ الجَمِيعُ: يَكُونُ خاطِبًا مِنَ الخُطّابِ.
وحَكى ابْنُ الجَلّابِ -عن مالِكٍ - رِوايَةَ أنَّ التَحْرِيمَ يَتَأبَّدُ في العَقْدِ في العِدَّةِ، وإنْ فُسِخَ قَبْلَ الدُخُولِ.
وأمّا إنْ عَقَدَ في العِدَّةِ ودَخَلَ بَعْدَ انْقِضائِها فَقالَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: ذَلِكَ كالدُخُولِ في العِدَّةِ يَتَأبَّدُ التَحْرِيمُ بَيْنَهُما. وقالَ قَوْمٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: لا يَتَأبَّدُ بِذَلِكَ تَحْرِيمٌ. وقالَ مالِكٌ مَرَّةً يَتَأبَّدُ التَحْرِيمَ، وقالَ مُرَّةُ: وما التَحْرِيمُ بِذَلِكَ بِالبَيْنِ، والقَوْلانِ لَهُ في "المُدَوَّنَةِ" في طَلاقِ السُنَّةِ.
(p-٥٨٦)وَأمّا إنْ دَخَلَ في العِدَّةِ فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، ومالِكٍ، وجَماعَةٍ مِن أصْحابِهِ، والأوزاعِيِّ، واللَيْثِ، وغَيْرِهِمْ مِن أهْلِ العِلْمِ: إنَّ التَحْرِيمَ يَتَأبَّدُ وقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وإبْراهِيمَ، وأبِي حَنِيفَةَ، والشافِعِيِّ، وجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ، وعَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أبِي سَلَمَةَ، إنَّ التَحْرِيمَ لا يَتَأبَّدُ -وَإنْ وطِئَ في العِدَّةِ- بَلْ يُفْسَخُ بَيْنَهُما، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنهُ، ثُمَّ يَكُونُ خاطِبًا مِنَ الخُطّابِ.
قالَ أبُو حَنِيفَةَ، والشافِعِيُّ: تَعْتَدُّ مِنَ الأوَّلِ، فَإذا انْقَضَتِ العِدَّةِ فَلا بَأْسَ أنْ يَتَزَوَّجَها الآخَرُ. وحَكى ابْنُ الجَلّابِ رِوايَةً في المَذْهَبِ أنَّ التَحْرِيمَ لا يَتَأبَّدُ مَعَ الدُخُولِ في العِدَّةِ، ذَكَرَها في العالِمِ بِالتَحْرِيمِ المُجْتَرِئِ لِأنَّهُ زانٍ، وأمّا الجاهِلُ فَلا أعْرِفُ فِيها خِلافًا في المَذْهَبِ.
حَدَّثَنِي أبُو عَلِيٍّ الحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الغَسّانِيُّ مُناوَلَةً، قالَ نا أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ، (p-٥٨٧)نا عَبْدُ الوارِثِ بْنُ سُفْيانَ، نا قاسِمُ بْنُ أصْبَغَ، عن مُحَمَّدِ بْنِ إسْماعِيلَ، عن نَعِيمِ بْنِ حَمّادٍ، عَنِ ابْنِ المُبارَكِ، عن أشْعَثَ، عَنِ الشَعْبِيِّ، عن (p-٥٨٨)مَسْرُوقٍ، قالَ: بَلَغَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ أنَّ امْرَأةً مِن قُرَيْشٍ تُزَوَّجَها رَجُلٌ مِن ثَقِيفٍ في عِدَّتِها، فَأرْسَلَ إلَيْهِما فَفَرَّقَ بَيْنَهُما، وعاقَبَهُما، وقالَ: لا تَنْكِحُها أبَدًا، وجَعَلَ صَداقَها في بَيْتِ المالِ، وفَشا ذَلِكَ في الناسِ فَبَلَغَ عَلِيًّا فَقالَ: يَرْحَمُ اللهُ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، ما بالُ الصَداقِ وبَيْتُ المالِ، إنَّما جَهِلا فَيَنْبَغِي لِلْإمامِ أنْ يَرُدَّهُما إلى السُنَّةِ. قِيلَ: فَما تَقُولُ أنْتَ فِيها؟ قالَ: لَها الصَداقُ بِما اسْتَحَلَّ مِن فَرْجِها، ويُفَرَّقُ بَيْنَهُما، ولا جَلْدَ عَلَيْهِما، وتُكْمِلُ عِدَّتَها مِنَ الأوَّلِ، ثُمَّ تَعْتَدُّ مِنَ الثانِي عِدَّةً كامِلَةً ثَلاثَةَ أقْراءٍ، ثُمَّ يَخْطِبُها إنْ شاءَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ فَخَطَبَ الناسَ فَقالَ: يا أيُّها الناسُ رُدُّوا الجَهالاتِ إلى السُنَّةِ.
وهَذا قَوْلُ الشافِعِيِّ، واللَيْثُ في العِدَّةِ مِنَ اثْنَيْنِ.
قالَ مالِكٌ، وأصْحابُ الرَأْيِ، والأوزاعِيُّ، والثَوْرِيُّ: عِدَّةٌ واحِدَةٌ تَكْفِيهِما جَمِيعًا سَواءٌ كانَتْ بِالحَمْلِ أو بِالإقْراءِ أو بِالأشْهُرِ.
ورَوى المَدَنِيُّونَ، عن مالِكٍ، مِثْلُ قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، والشافِعِيِّ في إكْمالِ العِدَّتَيْنِ. واخْتَلَفَ قَوْلُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ في الَّذِي يَدْخُلُ في العِدَّةِ عالِمًا بِالتَحْرِيمِ مُجْتَرِئًا، فَمَرَّةً قالَ: العالِمُ والجاهِلُ فِيهِ سَواءٌ، لا حَدَّ عَلَيْهِ، والصَداقُ لَهُ لازِمٌ، والوَلَدُ لاحِقٌ، ويُعاقَبانِ ولا يَتَناكَحانِ أبَدًا، ومَرَّةً قالَ. العالِمُ بِالتَحْرِيمِ كالزانِي يُحَدُّ ولا يَلْحَقُ بِهِ الوَلَدُ، ويَنْكِحُها بَعْدَ الِاسْتِبْراءِ، والقَوْلُ الأوَّلُ أشْهُرُ عن مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "واعْلَمُوا" إلى آخِرِ الآيَةِ. تَحْذِيرٌ مِنَ الوُقُوعِ فِيما نَهى عنهُ، وتَوْقِيفٌ عَلى غَفْرِهِ وحِلْمِهِ في هَذِهِ الأحْكامِ الَّتِي بَيَّنَ ووَسَّعَ فِيها مِن إباحَةِ التَعْرِيضِ ونَحْوِهِ.
{"ayah":"وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَاۤءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّاۤ أَن تَقُولُوا۟ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰاۚ وَلَا تَعۡزِمُوا۟ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡكِتَـٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق