الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِن خِطْبَةِ النِّساءِ أوْ أكْنَنْتُمْ فِي أنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إلاَّ أنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أنْفُسِكُمْ فاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٣٥].
لمّا كان الزوجُ في إدبارٍ مِن زوجتِهِ، ولا بابَ لرَجْعَتِهِ مِن موتِه، وأيّامُها تربُّصٌ لانقضاءِ العِدَّةِ التي تَخُصُّها لا تخصُّ الميتَ، فتخبيبُ الزوجةِ على زوجِها لا يجوزُ، ولو كانت في عِدَّةِ رَجْعَتِها، كالتعريضِ لها بالرغبةِ في امرأةٍ مِثْلِها، ونحوِ ذلك، فقد جاء في «السننِ» و«المسنَدِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: (لَيْسَ مِنّا مَن خَبَّبَ امْرَأَةً عَلى زَوْجِها، أوْ عَبْدًا عَلى سَيِّدِهِ) [[أخرجه أحمد (٩١٥٧) (٢/٣٩٧)، وأبو داود (٢١٧٥) (٢/٢٥٤)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٩١٧٠) (٨/٢٨٢).]]، وفي الآيةِ رفعُ الجُناحِ في التعريضِ للمتوفّى عنها زَوْجُها في العِدَّةِ، وهو دليلٌ على وجودِ الجُناحِ والحَرَجِ في غيرِ حالِها.
التعريضُ في نكاحِ المعتدَّة البائنةِ:
وعلَّةُ الجُناحِ والحَرَجِ والنهيِ عنِ التعريضِ أنّه رُبَّما رَغِبَتْ في الرَّجْعةِ، ففَتَنَها عن عودتِها لزوجِها، وأمّا في عِدَّةِ الوفاةِ، فقد أذِنَ اللهُ بالتعريضِ في العِدَّةِ، لانتفاءِ المَفسَدةِ، وهذا في عِدَّةِ المطلَّقةِ غيرِ الرجعيَّةِ كذلك، وقد كَرِهَ الشافعيُّ التعريضَ في المطلَّقةِ عمومًا مِن بابِ الاحتياطِ، لأنّ الرُّخْصةَ جاءَتْ في عِدَّةِ الوفاةِ.
والأظهرُ: جوازُ ذلك في المطلَّقةِ المبتوتةِ، لاشتِراكِها في الحالِ مع المتوفّى عنها زَوْجُها، ولِظاهرِ حديثِ فاطمةَ بنتِ قيسٍ في «الصحيحِ»، فقد طَلَّقَها زَوْجُها أبو عَمْرِو بنُ حفصٍ البتَّةَ، قالتْ: فلمّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ للنبيِّ ﷺ أنّ معاويةَ وأبا جَهْمٍ خَطَبانِي[[أخرجه مسلم (١٤٨٠) (٢/١١١٤).]].
وكذلك البائنُ، لانقطاعِ عِصْمَتِها مِن يَدِ زَوْجِها، وهو المعتمَدُ في المذاهبِ الأربعةِ.
والتعريضُ هو ضِدُّ التصريحِ، ويختلِفُ مِن عُرْفٍ إلى عُرْفٍ، ومِن لُغَةٍ إلى أُخرى، كقولِ الرَّجُلِ: «إنْ خَرَجْتِ مِن عِدَّتِكِ، فآذِنِيني».
وقد نَهى اللهُ عنِ التصريحِ، لترخيصِهِ في التعريضِ، ولو جاز التصريحُ، لَذَكَرَهُ ورَخَّصَ فيه، لأنّ تجويزَ التصريحِ يدخُلُ فيه التعريضُ، ولا يدخُلُ في التعريضِ التَّرخيصُ في التصريحِ، بل هو علامةٌ على النهيِ عنه.
وقولُهُ: ﴿ولَكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا﴾، الأشهَرُ هو أخذُ ميثاقِها سِرًّا في عِدَّتِها ألاَّ تتزوَّجَ إلاَّ إيّاه، ولا يُظهِرُ الأمرَ علانيةً، وذلك لأنّه يجلِبُ مَفاسِدَ عليها وعلى مَن واعَدَها، فربَّما عرَّض لها بَعْدَهُ أصلَحُ منه فتندَمُ، ويقَعُ في النفوسِ الشَّرُّ.
ولأنّ التصريحَ في العِدَّةِ والمواعَدةَ سِرًّا يُخرِجُ المرأةَ مِن حُكْمِها في عِدَّتِها وتعظيمِ حقِّ زَوْجِها الميتِ إلى التعرُّضِ للخُطّابِ، وربَّما دفَعَها ذلك إلى التساهُلِ في التجمُّلِ والتحلِّي بما يُنهى عنه مِثلُها في عِدَّتِها.
وربَّما دفَعَها ذلك إلى الكَذِبِ بانقضاءِ عِدَّتِها، لطمعِ النفسِ في الزوجِ.
وعلى هذا المعنى: حمَلَ جماعةٌ مِن السلفِ المواعَدةَ في الآيةِ على أخذِ الميثاقِ سِرًّا، وهو قولُ ابنِ عبّاسٍ ومجاهِدٍ وابنِ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةَ[[«تفسير الطبري» (٤/٢٧٥ ـ ٢٧٦).]].
وهو قولُ مالكٍ والشَّعْبيِّ.
والنهيُ عنِ الإسرارِ بذلك لا يعني جوازَها علانيةً، وذكَرَ الإسرارَ، لأنّ غالبَ مَن يقصِدُ مِثْلَها في عِدَّتِها يُسِرُّ لها، لأنّ التصريحَ يُنهى عنه سِرًّا وعلانيةً، فخَصَّ النهيَ بالسِّرِّ لِغَلَبةِ وقوعِهِ، فالناسُ لا تجرُؤُ على الخِطْبةِ علانيةً، فقولُهُ: ﴿ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ﴾ دليلٌ على النهيِ عنِ التصريحِ بكلِّ حالٍ، ما دامَتْ في العِدَّةِ.
وقد أجاز داودُ التصريحَ علانيةً، لظاهرِ الآيةِ، وخالَفَهُ ابنُ حزمٍ، فنَهى عنه مطلَقًا.
وقد حمَلَ بعضُ المفسِّرينَ المواعَدةَ سرًّا في الآيةِ على الزِّنى وكلِّ سوءٍ يَسبِقُهُ مِن خَلْوةٍ ورؤيةٍ ومَسٍّ، قاله قتادةُ والحسَنُ والنَّخَعيُّ[[«تفسير الطبري» (٤/٢٧٢ ـ ٢٧٥).]]، ورجَّحَهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٤/٢٧٨).]].
وتفسيرُ ابنِ عبّاسٍ وأهلِ المدينةِ ومكَّةَ لمعناهُ: أوْلى مِن تأويلِ أهلِ العراقِ.
والاستثناءُ في قوله تعالى: ﴿إلاَّ أنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ مِن التعريضِ العَلَنِيِّ الذي لا يُسْتَحْيا منه، وهو ما رخَّصَ اللهُ فيه.
ومَن حمَلَ المواعَدةَ سِرًّا على الزنى أو أخذِ الميثاقِ بالزواجِ جعَلَ الاستثناءَ منقطِعًا، لأنّ الإسرارَ بأخذِ ميثاقِ الزَّوْجةِ للزَّواجِ مِنها أو الزِّنى بها: محرَّمٌ ولو كان علانيةً، فلا يسمّى معروفًا حتّى يُستثنى منه معروفٌ جِهارًا.
ومَن خطَبَ امرأةً في عِدَّتِها، وعقَدَ عليها بعدَ خروجِها مِن العِدَّةِ، فهو آثِمٌ، وعقدُهُ صحيحٌ، لظاهرِ الآيةِ، وهو قولُ جمهورِ الفقهاءِ، واستحَبَّ مالكٌ فِراقَها، كما رواهُ عنه ابنُ وهبٍ.
وعن مالكٍ قولٌ آخَرُ: بوجوبِ المفارَقةِ، وهي روايةٌ عن أشهَبَ، نقَلَ الروايتَيْنِ ابنُ رُشْدٍ، والنَّهْيُ يقتضي الفسادَ في مذهبِ مالكٍ.
حكمُ العقدِ على البائنةِ:
وأمّا إذا عقَدَ عليها في العِدَّةِ، فلا يخلُو مِن حالَيْنِ:
الأُولى: إنْ دخَلَ بها في العِدَّةِ، فألزَمَ أبو حنيفةَ والثوريُّ والشافعيُّ والحنابلةُ التفريقَ بينَهما، والعقدُ آكَدُ بالفسادِ على قولِ مالكٍ.
وقد اختَلَفَ أصحابُ هذا القولِ في جوازِ زواجِه بها بعدَ خروجِها مِن العِدَّةِ، وهل تحرُمُ عليه حُرْمةً أبديَّةً أو لا؟
ذهَبَ أبو حنيفةَ والثوريُّ والشافعيُّ: إلى جوازِ زواجِهِ بها بعدُ، وأنّه كسائرِ الخُطّابِ، وهو قولُ عليٍّ وابنِ مسعودٍ، وبقولِهم أخَذَ أهلُ الكوفةِ.
وذهَبَ مالكٌ: إلى أنّه لو دخَلَ بها في عِدَّتِها، تحرُمُ عليه حُرْمةً أبديَّةً، وبه قال جماعةٌ مِن فقهاءِ المدينةِ، وقال به اللَّيْثُ وأحمدُ.
وبه قضى عمرُ بنُ الخَطّابِ، وقال في امرأةٍ نُكِحَتْ في عِدَّتِها: لا يَجتمِعانِ أبَدًا، رواهُ مالكٌ وعبدُ الرزّاقِ، مِن حديثِ ابنِ المسيَّبِ وسُلَيْمانَ بنِ يَسارٍ عن عُمرَ في قِصَّةٍ[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٢٧) (٢/٥٣٦)، وعبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٥٣٩) (٦/٢١٠).]].
الحالةُ الثانيةُ: إذا دخَلَ بها بعدَ انقضاءِ العِدَّةِ، فهذه أيسَرُ مِن الأُولى عندَ مَن قال بجوازِ خِطْبَتِهِ لها بعدَ عِدَّتِها، ولمالكٍ فيها قولانِ: قولٌ بتحريمِها عليه تأبيدًا، وقولٌ يوافِقُ الجمهورَ.
وقولُ الجمهورِ أرجَحُ وأصحُّ، وأمّا العقدُ، فلا يَصِحُّ ويُعادُ، لظاهرِ قولِه: ﴿ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾.
ولأنّ الأمرَ يخُصُّ النفوسَ وأعمالَ الأفرادِ الضيِّقةَ، لا أعمالَ الأُمَّةِ العامَّةَ، خوَّف اللهُ بسَعَةِ عِلْمِهِ واطِّلاعِهِ على ما في النفوسِ: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أنْفُسِكُمْ فاحْذَرُوهُ واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾، فتذكيرُ اللهِ بِسَعَةِ عِلْمِهِ إيقاظٌ لِجَذْوةِ الخوفِ في القلبِ، حتّى لا تُطْفِئَها الشهوةُ وطمَعُ النفسِ.
ثمَّ حذَّر اللهُ مِن نفسِهِ بالأمرِ، وذكَّر عبادَهُ بِاسْمَيْنِ يجبُ أن يتوسَّطَ بينَهما العبدُ، فاللهُ غفورٌ لمن وقَعَ في زَلَّةٍ، فلا يَقنَطُ، فذكَّر باسمِهِ (الغفورِ)، واللهُ يُعاقِبُ المسيءَ، ولكنْ قد يؤخِّرُ عقابَهُ، فلا يَظُنُّ المذنِبُ أنّ تأخُّرَ العقوبةِ عفوٌ وصفحٌ، بل حِلْمٌ مِن اللهِ، فذكَّر اللهُ باسمِهِ (الحليمِ).
{"ayah":"وَلَا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ فِیمَا عَرَّضۡتُم بِهِۦ مِنۡ خِطۡبَةِ ٱلنِّسَاۤءِ أَوۡ أَكۡنَنتُمۡ فِیۤ أَنفُسِكُمۡۚ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ سَتَذۡكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّاۤ أَن تَقُولُوا۟ قَوۡلࣰا مَّعۡرُوفࣰاۚ وَلَا تَعۡزِمُوا۟ عُقۡدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ ٱلۡكِتَـٰبُ أَجَلَهُۥۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَعۡلَمُ مَا فِیۤ أَنفُسِكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُۚ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق