الباحث القرآني

لما ذكر سبحانه التعريض بخطبة المرأة الدال على أن المعرّض في قلبه رغبة فيها ومحبة لها، وأن ذلك يحمله على الكلام الذي يتوصل به إلى نكاحها، رفع الجناح عن التعريض، وانطواء القلب على ما فيه من الميل والمحبة، ونفي مواعدتهن سرا. فقيل: هو النكاح. والمعنى: لا تصرحوا لهن بالتزويج، إلا أن تعرّضوا تعريضا. وهو القول المعروف. وقيل: هو أن يتزوجها في عدتها سرا. فإذا انقضت العدة أظهر العقد. ويدل هذا على قوله: ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ وهو انقضاء العدة. ومن رجح القول الأول قال: دلت الآية على إباحة التعريض بنفي الجناح، وتحريم التصريح بالنهي عن المواعدة سرا، وتحريم عقد النكاح قبل انقضاء العدة. فلو كان معنى مواعدة السر: هو إسرار العقد. كان تكرارا. ثم عقب ذلك بقوله: واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ أن تتعدوا ما حدّ لكم. فإنه مطلع على ما تسرون وما تعلنون. ثم قال: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ ولولا مغفرته وحلمه لعنتم غاية العنت، فإنه سبحانه مطلع عليكم، يعلم ما في قلوبكم، ويعلم ما تعملون، فإن وقعتم في شيء فما نهاكم عنه فبادروا إليه بالتوبة والاستغفار. فإنه هو الغفور الحليم. * (فَصْلٌ: مَنزِلَةُ المُراقَبَةِ) وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ المُراقَبَةُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في أنْفُسِكم فاحْذَرُوهُ﴾ وقالَ تَعالى: ﴿وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب: ٥٢] وقالَ تَعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكم أيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ [الحديد: ٤]، وقالَ تَعالى: ﴿ألَمْ يَعْلَمْ بِأنَّ اللَّهَ يَرى﴾ [العلق: ١٤]، وقالَ تَعالى: ﴿فَإنَّكَ بِأعْيُنِنا﴾ [الطور: ٤٨]، وقالَ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩]. إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أنَّهُ «سَألَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الإحْسانِ؟ فَقالَ لَهُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ. فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ». المُراقَبَةُ تَعْرِيفُها: دَوامُ عِلْمِ العَبْدِ، وتَيَقُّنِهِ بِاطِّلاعِ الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى ظاهِرِهِ وباطِنِهِ. فاسْتَدامَتُهُ لِهَذا العِلْمِ واليَقِينِ هي المُراقَبَةُ وهي ثَمَرَةُ عِلْمِهِ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ رَقِيبٌ عَلَيْهِ، ناظِرٌ إلَيْهِ، سامِعٌ لِقَوْلِهِ. وهو مُطَّلِعٌ عَلى عَمَلِهِ كُلَّ وقْتٍ وكُلَّ لَحْظَةٍ، وكُلَّ نَفَسٍ وكُلَّ طَرْفَةِ عَيْنٍ. والغافِلُ عَنْ هَذا بِمَعْزِلٍ عَنْ حالِ أهْلِ البِداياتِ. فَكَيْفَ بِحالِ المُرِيدِينَ؟ فَكَيْفَ بِحالِ العارِفِينَ؟ قالَ الجَرِيرِيُّ: مَن لَمْ يُحَكِّمْ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى التَّقْوى والمُراقَبَةَ: لَمْ يَصِلْ إلى الكَشْفِ والمُشاهَدَةِ وَقِيلَ: مَن راقَبَ اللَّهَ في خَواطِرِهِ، عَصَمَهُ في حَرَكاتِ جَوارِحِهِ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مَتى يَهُشُّ الرّاعِي غَنَمَهُ بِعَصاهُ عَنْ مَراتِعَ الهَلَكَةِ؟ فَقالَ: إذا عَلِمَ أنَّ عَلَيْهِ رَقِيبًا. وَقالَ الجُنَيْدُ: مَن تَحَقَّقَ في المُراقَبَةِ خافَ عَلى فَواتِ لَحْظَةٍ مِن رَبِّهِ لا غَيْرَ. وَقالَ ذُو النُّونِ: عَلامَةُ المُراقَبَةِ إيثارُ ما أنْزَلَ اللَّهُ، وتَعْظِيمُ ما عَظَّمَ اللَّهُ، وتَصْغِيرُ ما صَغَّرَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الرَّجاءُ يُحَرِّكُ إلى الطّاعَةِ، والخَوْفُ يُبْعِدُ عَنِ المَعاصِي، والمُراقَبَةُ تُؤَدِّيكَ إلى طَرِيقِ الحَقائِقِ. وَقِيلَ: المُراقَبَةُ مُراعاةُ القَلْبِ لِمُلاحَظَةِ الحَقِّ مَعَ كُلِّ خَطْرَةٍ وخُطْوَةٍ. وَقالَ الجَرِيرِيُّ: أمْرُنا هَذا مَبْنِيٌّ عَلى فَصْلَيْنِ: أنْ تُلْزِمَ نَفْسَكَ المُراقَبَةَ لِلَّهِ، وأنْ يَكُونَ العِلْمُ عَلى ظاهِرِكَ قائِمًا. وَقالَ إبْراهِيمُ الخَوّاصُ: المُراقَبَةُ خُلُوصُ السِّرِّ والعَلانِيَةِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وَقِيلَ: أفْضَلُ ما يُلْزِمُ الإنْسانُ نَفْسَهُ في هَذِهِ الطَّرِيقِ: المُحاسَبَةُ والمُراقَبَةُ، وسِياسَةُ عَمَلِهِ بِالعِلْمِ. وَقالَ أبُو حَفْصٍ لِ أبِي عُثْمانَ النَّيْسابُورِيِّ: إذا جَلَسْتَ لِلنّاسِ فَكُنْ واعِظًا لِقَلْبِكَ ونَفْسِكَ. ولا يَغُرَّنَّكَ اجْتِماعُهم عَلَيْكَ. فَإنَّهم يُراقِبُونَ ظاهِرَكَ. واللَّهُ يُراقِبُ باطِنَكَ. وَأرْبابُ الطَّرِيقِ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ مُراقَبَةَ اللَّهِ تَعالى في الخَواطِرِ: سَبَبٌ لِحِفْظِها في حَرَكاتِ الظَّواهِرِ. فَمَن راقَبَ اللَّهَ في سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللَّهُ في حَرَكاتِهِ في سِرِّهِ وعَلانِيَتِهِ. والمُراقَبَةُ هي التَّعَبُّدُ بِاسْمِهِ الرَّقِيبِ، الحَفِيظِ، العَلِيمِ، السَّمِيعِ، البَصِيرِ، فَمَن عَقَلَ هَذِهِ الأسْماءَ، وتَعَبَّدَ بِمُقْتَضاها: حَصَلَتْ لَهُ المُراقَبَةُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب