الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ ألْقاهُ عَلى وجْهِهِ فارْتَدَّ بَصِيرًا قالَ ألَمْ أقُلْ لَكم إنِّي أعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ ﴿قالُوا يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إنّا كُنّا خاطِئِينَ﴾ ﴿قالَ سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَحِيمُ﴾ ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ﴾ ﴿وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّ البَشِيرَ كانَ يَهُوذا لِأنَّهُ كانَ جاءَ بِقَمِيصِ الدَمِ. (p-١٥٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: حَدَّثَنِي أبِي رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ الواعِظَ أبا الفَضْلِ بْنَ الجَوْهَرِيِّ عَلى المِنبَرِ بِمِصْرَ يَقُولُ: إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا قالَ: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذا فَألْقُوهُ عَلى وجْهِ أبِي﴾ [يوسف: ٩٣] قالَ يَهُوذا: قَدْ عَلِمْتَ أنِّي ذَهَبْتُ إلَيْهِ بِقَمِيصِ التَرْحَةِ فَدَعُونِي أذْهَبْ إلَيْهِ بِقَمِيصِ الفَرْحَةِ، فَتَرَكُوهُ وذَلِكَ. وقالَ هَذا المَعْنىالسُدِّيُّ. و"ارْتَدَّ" مَعْناهُ: رَجَعَ هُوَ، يُقالُ: ارْتَدَّ الرَجُلُ ورَدَّهُ غَيْرُهُ، و"بَصِيرًا" مَعْناهُ: مُبْصِرًا. ثُمَّ وقَّفَهم عَلى قَوْلِهِ لَهُمْ: ﴿إنِّي أعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾، وهَذا -واللهُ أعْلَمُ- هو انْتِظارُهُ لِتَأْوِيلِ الرُؤْيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُشِيرَ إلى حُسْنِ ظَنِّهِ بِاللهِ تَعالى فَقَطْ. ورُوِيَ: أنَّهُ قالَ لِلْبَشِيرِ: عَلى أيِّ دِينٍ تَرَكْتَ يُوسُفَ ؟ قالَ: عَلى الإسْلامِ، قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ، الآنَ تَمَّتِ النِعْمَةُ. وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ مِن بَيْنِ يَدَيِ العِيرِ، وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ النَحْوِيِّينَ أنَّهُ قالَ: "أنْ" في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا أنْ جاءَ البَشِيرُ﴾ زائِدَةٌ، والعَرَبُ تَزِيدُها أحْيانًا في الكَلامِ بَعْدَ "لَمّا" وبَعْدَ (حَتّى) فَقَطْ، تَقُولُ: لَمّا جِئْتُ كانَ كَذا، ولَمّا أنْ جِئْتُ، وكَذَلِكَ تَقُولُ: ما قامَ زَيْدٌ حَتّى قُمْتُ، وحَتّى أنْ قُمْتُ. وقَوْلُهُ: ﴿قالُوا يا أبانا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إنّا كُنّا خاطِئِينَ﴾. رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا غَفَرَ لِإخْوَتِهِ وتَحَقَّقُوا أيْضًا أنَّ يَعْقُوبَ يَغْفِرُ لَهم قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ما يُغْنِي عَنّا هَذا إنْ لَمْ يَغْفِرِ اللهُ لَنا، فَطَلَبُوا حِينَئِذٍ مِن يَعْقُوبَ أنْ يَطْلُبَ لَهُمُ المَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ تَعالى، واعْتَرَفُوا بِالخَطَأِ، فَقالَ لَهم يَعْقُوبُ: ﴿سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾، قالَتْ فِرْقَةٌ: سَوَّفَهم إلى السَحَرِ، ورُوِيَ عن مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ أنَّهُ قالَ: كانَ عَمٌّ لِي يَأْتِي المَسْجِدَ، فَسَمِعَ إنْسانًا يَقُولُ: "اللهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأجَبْتُ، وأجَبْتَنِي فَأطَعْتُ، وهَذا سَحَرٌ فاغْفِرْ لِي"، فاسْتَمَعَ الصَوْتَ فَإذا هو مِن دارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَسُئِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ عن ذَلِكَ فَقالَ: إنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ أخَّرَ بَنِيهِ إلى السَحَرِ، ويُقَوِّي هَذا التَأْوِيلَ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "يَنْزِلُ رَبُّنا كُلَّ لَيْلَةٍ إذا كانَ الثُلُثُ الآخِرُ إلى سَماءِ الدُنْيا فَيَقُولُ: مَن يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ"» الحَدِيثَ، ويُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَبارَكَ (p-١٥١)وَتَعالى: ﴿والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ [آل عمران: ١٧]. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما سَوَّفَهم يَعْقُوبُ إلى قِيامِ اللَيْلِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ -مِنهم سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -: سَوَّفَهم يَعْقُوبُ إلى اللَيالِي البِيضِ، فَإنَّ الدُعاءَ فِيهِنَّ يُسْتَجابُ، وقِيلَ: إنَّما أخَّرَهم إلى لَيْلَةِ الجُمْعَةِ، ورَوى ابْنُ عَبّاسٍ هَذا التَأْوِيلَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، قالَ: « "أخَّرَهم يَعْقُوبُ حَتّى تَأْتِيَ لَهُ الجُمْعَةُ".» ثُمَّ رَجّاهم يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَحِيمُ﴾. وقَوْلُهُ: ﴿فَلَمّا دَخَلُوا﴾ الآيَةَ. هاهُنا مَحْذُوفاتٌ يَدُلُّ عَلَيْها الظاهِرُ، وهِيَ: فَرَحَلَ يَعْقُوبُ بِأهْلِهِ أجْمَعِينَ وسارُوا حَتّى بَلَغُوا يُوسُفَ، فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ. و"آوى" مَعْناهُ: ضَمَّ وأظْهَرَ الحَفاوَةَ بِهِما، وفي الحَدِيثِ: « "أمّا أحَدُهم فَأوى إلى اللهِ فَآواهُ اللهُ"». وقِيلَ: أرادَ بِالأبَوَيْنِ أباهُ وأُمَّهُ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، والحَسَنُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: أباهُ وجَدَّتَهُ أمَّ أُمِّهِ، حَكاهُ الزَهْراوِيُّ، وقِيلَ: أباهُ وخالَتَهُ، لِأنَّ أُمَّهُ قَدْ كانَتْ ماتَتْ، قالَهُ السُدِّيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأوَّلُ أظْهَرُ بِحَسَبَ اللَفْظِ، إلّا لَوْ ثَبَتَ بِسَنَدٍ أنَّ أُمَّهُ قَدْ كانَتْ ماتَتْ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وإخْوَتَهُ". وقَوْلُهُ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ مَعْناهُ: تَمَكَّنُوا واسْكُنُوا واسْتَقِرُّوا، لِأنَّهم قَدْ كانُوا دَخَلُوا عَلَيْهِ، وقِيلَ: بَلْ قالَ لَهم ذَلِكَ في الطَرِيقِ حِينَ تَلَقّاهُمْ، قالَهُ السُدِّيُّ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ هو (p-١٥٢)الَّذِي نَدَبَ إلَيْهِ القُرْآنُ أنْ يَقُولَهُ الإنْسانُ في جَمِيعِ ما يُنَفِّذُهُ بِقَوْلِهِ في المُسْتَقْبَلِ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَذا مُؤَخَّرٌ في اللَفْظِ وهو مُتَّصِلٌ في المَعْنى بِقَوْلِهِ: ﴿سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا التَأْوِيلِ ضَعُفٌ. و"العَرْشِ": سَرِيرُ المَلِكِ، وكُلُّ ما عُرِّشَ فَهو عَرِيشٌ وعَرْشٌ، وخَصَّصَتِ اللُغَةُ العَرْشَ لِسَرِيرِ المَلِكِ. و"خَرُّوا" مَعْناهُ: تَصَوَّبُوا إلى الأرْضِ، واخْتُلِفَ في هَذا السُجُودِ، فَقِيلَ: كانَ كالمَعْهُودِ عِنْدَنا مِن وضْعِ الوَجْهِ بِالأرْضِ، وقِيلَ: بَلْ دُونَ ذَلِكَ كالرُكُوعِ البالِغِ ونَحْوِهِ مِمّا كانَ سَيْرَ تَحِيّاتِهِمْ لِلْمُلُوكِ في ذَلِكَ الزَمانِ. وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ أنَّ ذَلِكَ السُجُودَ -عَلى أيِّ هَيْئَةٍ كانَ- فَإنَّما كانَ تَحِيَّةً لا عِبادَةً، قالَ قَتادَةُ: هَذِهِ كانَتْ تَحِيَّةُ المُلُوكِ عِنْدَهُمْ، وأعْطى اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ السَلامَ تَحِيَّةَ أهْلِ الجَنَّةِ، وقالَ الحَسَنُ: الضَمِيرُ في "لَهُ" لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ. ورُدَّ عَلى هَذا القَوْلِ. وحَكى الطَبَرِيُّ: أنَّ يَعْقُوبَ لَمّا بَلَغَ مِصْرَ في جُمْلَتِهِ كَلَّمَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَلامُ فِرْعَوْنَ في تَلَقِّيهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ وخَرَجَ المُلُوكُ مَعَهُ، فَلَمّا دَنا يُوسُفُ مِن يَعْقُوبَ -وَكانَ يَعْقُوبُ يَمْشِي مُتَوَكِّئًا عَلى يَهُوذا- قالَ: فَنَظَرَ يَعْقُوبُ إلى الخَيْلِ والناسِ فَقالَ: يا يَهُوذا، هَذا فِرْعَوْنُ مِصْرَ، قالَ: لا، هو ابْنُكَ، قالَ: فَلَمّا دَنا كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مِن صاحِبِهِ ذَهَبَ يُوسُفُ يَبْدَأُ بِالسَلامِ، فَمَنَعَهُ يَعْقُوبُ مِن ذَلِكَ، وكانَ يَعْقُوبُ أحَقَّ بِذَلِكَ مِنهُ وأفْضَلَ، فَقالَ: السَلامُ عَلَيْكَ يا مُذْهِبَ الأحْزانِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ونَحْوُ هَذا مِنَ القِصَصِ. وفِي هَذا الوَقْتِ قالَ يُوسُفُ لِيَعْقُوبَ: إنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ أحْسَنَ إلَيْنا فادْخُلْ عَلَيْهِ شاكِرًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَقالَ فِرْعَوْنُ: يا شَيْخُ، ما صَيَّرَكَ إلى ما أرى؟ قالَ: تَتابُعُ البَلاءِ عَلَيَّ، قالَ: فَما زالَتْ قَدَمُهُ حَتّى نَزَلَ الوَحْيُ: يا يَعْقُوبُ، أتَشْكُونِي إلى مَن لا يَضُرُّكَ ولا يَنْفَعُكَ؟ قالَ: يا رَبِّ، ذَنْبٌ فاغْفِرْهُ. وقالَ أبُو عَمْرٍو الشَيْبانِيُّ: تَقَدَّمَ يُوسُفُ (p-١٥٣)يَعْقُوبَ في المَشْيِ في بَعْضِ تِلْكَ المَواطِنِ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ فَقالَ لَهُ: أتَتَقَدَّمُ أباكَ؟ إنَّ عُقُوبَتَكَ لِذَلِكَ ألّا يَخْرُجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ نَبِيٌّ. *** قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالَ يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِن السِجْنِ وجاءَ بِكم مِن البَدْوِ مِن بَعْدِ أنْ نَـزَغَ الشَيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ المَعْنى: قالَ يُوسُفُ لِيَعْقُوبَ: هَذا السُجُودُ الَّذِي كانَ مِنكُمْ، هو ما آلَتْ إلَيْهِ رُؤْيايَ قَدِيمًا في الأحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وفي الشَمْسِ والقَمَرِ. وقَوْلُهُ: ﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ ابْتِداءُ تَعْدِيدِ نِعَمِ اللهِ تَعالى عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ أحْسَنَ بِي﴾ أيْ: أوقَعَ وناطَ إحْسانَهُ بِي، فَهَذا مَنحًى في وُصُولِ الإحْسانِ بِالباءِ، وقَدْ يُقالُ: أحْسَنَ إلَيَّ، وأحْسَنَ فِيَّ، ومِنهُ قَوْلُعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ: يا مُحَمَّدُ، أحْسِنْ في مَوالِيَّ، وهَذِهِ المَناحِي مُخْتَلِفَةُ المَعْنى، وألْيَقُها بِيُوسُفَ قَوْلُهُ: "بِي" لِأنَّهُ إحْسانٌ خَرَجَ فِيهِ دُونَ أنْ يَقْصِدَ هو الغايَةَ الَّتِي صارَ إلَيْها. وذَكَرَ يُوسُفُ إخْراجَهُ مِنَ السِجْنِ وتَرَكَ إخْراجَهُ مِنَ الجُبِّ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ في ذِكْرِ إخْراجِهِ مِنَ الجُبِّ تَجْدِيدَ فِعْلِ إخْوَتِهِ وخِزْيَهم بِذَلِكَ وتَقْلِيعَ نُفُوسِهِمْ وتَحْرِيكَ تِلْكَ الغَوائِلِ وتَخْبِيثَ النُفُوسِ. والوَجْهُ الآخَرُ أنَّهُ خَرَجَ مِنَ الجُبِّ إلى الرِقِّ ومِنَ السِجْنِ إلى المُلْكِ، فالنِعْمَةُ هُنا أوضَحُ. (p-١٥٤)وَقَوْلُهُ: ﴿وَجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ يَعُمُّ جَمْعَ الشَمْلِ والتَنَقُّلَ مِنَ الشَقاوَةِ إلى النِعْمَةِ بِسُكْنى الحاضِرَةِ، وكانَ مَنزِلُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ بِأطْرافِ الشامِ في بادِيَةِ فِلِسْطِينَ، وكانَ رَبَّ إبِلٍ وغَنَمٍ وبادِيَةٍ. و"نَزَغَ" مَعْناهُ: فَعَلَ فِعْلًا أفْسَدَ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: « "لا يُشِرْ أحَدُكم عَلى أخِيهِ بِالسِلاحِ، لا يَنْزَغِ الشَيْطانُ في يَدِهِ"،» وإنَّما ذَكَرَ يُوسُفُ هَذا القَدْرَ مِن أمْرِ إخْوَتِهِ لِيُبَيِّنَ حُسْنَ مَوْقِعِ النِعَمِ، لِأنَّ النِعْمَةَ إذا جاءَتْ إثْرَ شِدَّةٍ وبَلاءٍ فَهي أحْسَنُ مَوْقِعًا. وقَوْلُهُ: ﴿لِما يَشاءُ﴾ أيْ: مِنَ الأُمُورِ أنْ يَفْعَلَهُ. واخْتَلَفَ الناسُ فِي: كَمْ كانَ بَيْنَ رُؤْيا يُوسُفَ وبَيْنَ ظُهُورِها؟ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: أرْبَعُونَ سَنَةً، هَذا قَوْلُ سَلْمانَ الفارِسِيِّ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ شَدّادٍ، وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدّادٍ: ذَلِكَ آخَرُ ما تُبْطِئُ الرُؤْيا، وقالَتْ فِرْقَةٌ -مِنهُمُ الحَسَنُ، وحَسَنُ بْنُ فَرَقَدٍ، وفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ-: ثَمانُونَ سَنَةً، وقالَ ابْنُ إسْحاقَ: ثَمانِيَةَ عَشَرَ، وقِيلَ: اثْنانِ وعِشْرُونَ، قالَهُ النَقّاشُ، وقِيلَ: ثَلاثُونَ، وقِيلَ: خَمْسٌ وثَلاثُونَ، قالَهُ قَتادَةُ، وقالَ السُدِّيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ: سِتٌّ وثَلاثُونَ سَنَةً. وقِيلَ: إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَلامُ عَمَّرَ مِائَةً وعِشْرِينَ سَنَةً، وقِيلَ: إنَّ يَعْقُوبَ بَقِيَ عِنْدَ يُوسُفَ نَيِّفًا عَلى عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ ﷺ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا وجْهَ في تَرْكِ تَعْرِيفِ يُوسُفَ أباهُ بِحالِهِ مُنْذُ خَرَجَ مِنَ السِجْنِ إلى العِزَّةِ إلّا الوَحْيُ مِنَ اللهِ تَعالى لَمّا أرادَ أنْ يَمْتَحِنَ بِهِ يَعْقُوبَ وبَنِيهِ، وأرادَ مِن صُورَةِ جَمْعِهِمْ. لا إلَهَ إلّا (p-١٥٥)هُوَ، وقالَ النَقّاشُ: كانَ ذَلِكَ الوَحْيُ في الجُبِّ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأوحَيْنا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهم بِأمْرِهِمْ هَذا وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: ١٥]، وهَذا مُحْتَمَلٌ. ومِمّا رُوِيَ في أخْبارِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَلامُ: قالَ الحَسَنُ: لَمّا ورَدَهُ البَشِيرُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئًا يُثِيبُهُ بِهِ، فَقالَ لَهُ: واللهِ ما أصَبْتُ عِنْدَنا شَيْئًا، وما خَبَزْنا مُنْذُ سَبْعِ لَيالٍ، ولَكِنْ: "هَوَّنَ اللهُ عَلَيْكَ سَكَراتِ المَوْتِ". ومِن أخْبارِهِ أنَّهُ لَمّا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ قالَ: يا رَبِّ، أعْمَيْتَ بَصَرِي وغَيَّبَتْ عَنِّي يُوسُفَ، أفَما تَرْحَمُنِي؟ فَأوحى اللهُ إلَيْهِ: سَوْفَ أرْحَمُكَ وأرُدُّ عَلَيْكَ ولَدَكَ وبَصَرَكَ، وما عاقَبْتُكَ بِذَلِكَ إلّا أنَّكَ طَبَخْتَ في مَنزِلِكَ حَمَلًا، فَشَمَّهُ جارٌ لَكَ، ولَمْ تَساهِمْهُ بِشَيْءٍ، قالَ: فَكانَ يَعْقُوبُ بَعْدُ يَدْعُوهُ إلى غَدائِهِ وعَشائِهِ. وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّهُ لَمّا اجْتَمَعَ شَمْلُهُ كَلَّفَهُ بَنُوهُ أنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهم حَتّى يَأْتِيَ الوَحْيُ بِأنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ، قالَ: فَكانَ يَعْقُوبُ يُصَلِّي ويُوسُفُ وراءَهُ وهم وراءَ يُوسُفَ، ويَدْعُو لَهُمْ، فَلَبِثَ كَذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً ثُمَّ جاءَهُ الوَحْيُ، إنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهم وأعْطَيْتُهم مَواثِيقَ النُبُوَّةِ بَعْدَكَ. ومِن أخْبارِهِ أنَّهُ لَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ أوصى إلى يُوسُفَ أنْ يَدْفِنَهُ بِالشامِ، فَلَمّا ماتَ نَفَخَ فِيهِ المُرَّ وحَمَلَهُ إلى الشامِ، ثُمَّ ماتَ يُوسُفُ فَدُفِنَ بِمِصْرَ، فَلَمّا خَرَجَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ -بَعْدَ ذَلِكَ- مِن أرْضِ مِصْرَ احْتَمَلَ عِظامَ يُوسُفَ حَتّى دَفَنَها بِالشامِ مَعَ آبائِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب