الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ﴾ اخْتُلِفَ في اجْتِماعِ يُوسُفَ مَعَ أبَوَيْهِ وأهْلِهِ، فَحَكى الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ أنَّ يُوسُفَ خَرَجَ عَنْ مِصْرَ ورَكِبَ مَعَهُ أهْلُها، وقِيلَ خَرَجَ المَلِكُ الأكْبَرُ مَعَهُ واسْتَقْبَلَ يَعْقُوبَ، قالَ الكَلْبِيُّ عَلى يَوْمٍ مِن مِصْرَ، وكانَ القَصْرُ عَلى ضَحْوَةٍ مِن مِصْرَ، فَلَمّا دَنا يَعْقُوبُ مُتَوَكِّئًا عَلى ابْنِهِ يَهُوذا يَمْشِي، فَلَمّا نَظَرَ إلى الخَيْلِ والنّاسِ قالَ: يا يَهُوذا أهَذا فِرْعَوْنُ؟ قالَ: لا، هَذا ابْنُكَ يُوسُفُ، فَقالَ يَعْقُوبُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُذْهِبَ الأحْزانِ عَنِّي، فَأجابَهُ يُوسُفُ: ﴿وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: آمِنِينَ مِن فِرْعَوْنَ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. الثّانِي: آمِنِينَ مِنَ القَحْطِ والجَدْبِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. وَقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانَ اجْتِماعُهم بِمِصْرَ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ فِيها عَلى ظاهِرِ اللَّفْظِ، فَعَلى هَذا يَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ اسْتَوْطِنُوا مِصْرَ. وَفي قَوْلِهِ: ﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَعُودَ إلى اسْتِيطانِ مِصْرَ، وتَقْدِيرُهُ اسْتَوْطِنُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ. الثّانِي: أنَّهُ راجِعٌ إلى قَوْلِ يَعْقُوبَ: سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ، ويَكُونُ اللَّفْظُ مُؤَخَّرًا، وهو قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ. (p-٨٢)فَحَكى ابْنُ مَسْعُودٍ أنَّهم دَخَلُوا مِصْرَ وهم ثَلاثَةٌ وتِسْعُونَ إنْسانًا مِن رَجُلٍ وامْرَأةٍ، وخَرَجُوا مَعَ مُوسى وهم سِتُّمِائَةِ ألْفٍ وسَبْعُونَ ألْفًا. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَرَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ﴾ قالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: وفي أبَوَيْهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُما أبُوهُ وخالَتُهُ راحِيلُ، وكانَ أبُوهُ قَدْ تَزَوَّجَها بَعْدَ أُمِّهِ فَسُمِّيَتْ أُمًّا، وكانَتْ أُمُّهُ قَدْ ماتَتْ في نِفاسِ أخِيهِ بِنْيامِينَ، قالَهُ وهْبٌ والسُّدِّيُّ. الثّانِي: أنَّهُما أبُوهُ وأُمُّهُ وكانَتْ باقِيَةً إلى دُخُولِ مِصْرَ، قالَهُ الحَسَنُ وابْنُ إسْحاقَ. ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهم سَجَدُوا لِيُوسُفَ تَعْظِيمًا لَهُ، قالَ قَتادَةُ: وكانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ مَن قَبْلَكم، وأعْطى اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الأُمَّةَ السَّلامَ تَحِيَّةَ أهْلِ الجَنَّةِ. وَقالَ الحَسَنُ: بَلْ أمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِالسُّجُودِ لَهُ لِتَأْوِيلِ الرُّؤْيا. وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: سَجَدَ لَهُ أبَواهُ وإخْوَتُهُ الأحَدَ عَشَرَ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهم سَجَدُوا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وكانَ يُوسُفُ في جِهَةِ القِبْلَةِ فاسْتَقْبَلُوهُ بِسُجُودٍ، وكانَ سُجُودُهم شُكْرًا، ويَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ ﴿وَخَرُّوا﴾ أيْ سَقَطُوا، كَما قالَ تَعالى ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ أيْ سَقَطَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ السُّجُودَ ها هُنا الخُضُوعُ والتَّذَلُّلُ، ويَكُونُ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿وَخَرُّو﴾ أيْ بَدَرُوا. ﴿وَقالَ يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيما بَيْنُ رُؤْياهُ وتَأْوِيلِها عَلى خَمْسَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ كانَ بَيْنَهُما ثَمانُونَ سَنَةً، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ. الثّانِي: كانَ بَيْنَهُما أرْبَعُونَ سَنَةً، قالَهُ سُلَيْمانُ. الثّالِثُ: سِتٌّ وثَلاثُونَ سَنَةً، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. (p-٨٣)الرّابِعُ: اثْنَتانِ وعِشْرُونَ سَنَةً. والخامِسُ: أنَّهُ كانَ بَيْنَهُما ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. فَإنْ قِيلَ: فَإنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ لا تَكُونُ إلّا صادِقَةً فَهَلّا وثِقَ بِها يَعْقُوبُ وتَسَلّى؟ ولِمَ ﴿قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ وما يَضُرُّ الكَيْدُ مَعَ سابِقِ القَضاءِ؟ قِيلَ عَنْ هَذا جَوابانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ رَآها وهو صَبِيٌّ فَجازَ أنْ تُخالِفَ رُؤْيا الأنْبِياءِ المُرْسَلِينَ. الثّانِي: أنَّهُ حَزِنَ لِطُولِ المُدَّةِ في مُعاناةِ البَلْوى وخافَ كَيْدَ الإخْوَةِ في تَعْجِيلِ الأذى. ﴿وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ اقْتَصَرَ مِن ذِكْرَ ما بُلِيَ بِهِ عَلى شُكْرِ إخْراجِهِ مِنَ السِّجْنِ دُونَ الجُبِّ وكانَتْ حالُهُ في الجُبِّ أخْطَرَ؟ قِيلَ عَنْهُ ثَلاثَةُ أجْوِبَةٍ: أحَدُها: أنَّهُ كانَ في السِّجْنِ مَعَ الخَوْفِ مِنَ المَعَرَّةِ ما لَمْ يَكُنْ في الجُبِّ فَكانَ ما في نَفْسِهِ مِن بَلْواهُ أعْظَمَ فَلِذَلِكَ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ والشُّكْرِ. الثّانِي: أنَّهُ قالَ ذَلِكَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى نَقْلِهِ مِنَ البَلْوى إلى النَّعْماءِ، وهو إنَّما انْتَقَلَ إلى المَلِكِ مِنَ السِّجْنِ لا مِنَ الجُبِّ، فَصارَ أخَصَّ بِالذِّكْرِ والشُّكْرِ إذْ صارَ بِخُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ مَلِكًا، وبِخُرُوجِهِ مِنَ الجُبِّ عَبْدًا. الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا عَفا عَنْ إخْوَتِهِ بِقَوْلِهِ ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ الجُبِّ لِما فِيهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ، وتَأوَّلَ بَعْضُ أصْحابِ الخَواطِرِ قَوْلَهُ: ﴿وَقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ أيْ مِن سِجْنِ السُّخْطِ إلى فَضاءِ الرِّضا. وَفي قَوْلِهِ: ﴿وَجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ ثَلاثَةُ أقاوِيلَ: (p-٨٤)أحَدُها: أنَّهم كانُوا في بادِيَةٍ بِأرْضِ كَنْعانَ أهْلَ مَواشٍ وخِيامٍ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ. الثّانِي: أنَّهُ كانَ قَدْ نَزَلَ (بَدا) وبَنى تَحْتَ جَبَلِها مَسْجِدًا ومِنها قُصِدَ، حَكاهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ جَمِيلٌ: ؎ وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَغَبًا إلى بَدا إلَيَّ وأوْطانِي بِلادٌ سِواهُما يُقالُ بَدا يَبْدُو إذا نَزَلَ (بَدا) فَلِذَلِكَ قالَ: وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ وإنْ كانُوا سُكّانَ المُدُنِ. الثّالِثُ: لِأنَّهم جاءُوا في البادِيَةِ وكانُوا سُكّانَ مُدُنٍ، ويَكُونُ بِمَعْنى في. واخْتَلَفَ مَن قالَ بِهَذا في البَلَدِ الَّذِي كانُوا يَسْكُنُونَهُ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ. أحَدُها: أنَّهم كانُوا مِن أهْلِ فِلَسْطِينَ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ. الثّانِي: مِن ناحِيَةِ حَرّانَ مِن أرْضِ الجَزِيرَةِ، ولَعَلَّهُ قَوْلُ الحَسَنِ. الثّالِثُ: مِنَ الأوْلاجِ مِن ناحِيَةِ الشِّعْبِ، حَكاهُ ابْنُ إسْحاقَ. ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ وفي نَزْغِهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ إيقاعُ الحَسَدِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. الثّانِي: مَعْناهُ حَرَّشَ وأفْسَدَ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾ قالَ قَتادَةُ: لَطِيفٌ بِيُوسُفَ بِإخْراجِهِ مِنَ السِّجْنِ، وجاءَ بِأهْلِهِ مِنَ البَدْوِ، ونَزَعَ عَنْ يُوسُفَ نَزْغَ الشَّيْطانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب