الباحث القرآني

﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وقالَ ياأبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ أنْتَ ولِيِّي في الدُّنْيا والآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ﴾ (p-٣٤٧)فِي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَحَلَ يَعْقُوبُ بِأهْلِهِ أجْمَعِينَ، وسارُوا حَتّى تَلَقَّوْا يُوسُفَ. قِيلَ: وجَهَّزَ يُوسُفُ إلى أبِيهِ جِهازًا، ومِائَتَيْ راحِلَةٍ لِيَتَجَهَّزَ إلَيْهِ بِمَن مَعَهُ، وخَرَجَ يُوسُفُ، قِيلَ: والمَلِكُ في أرْبَعَةِ آلافٍ مِنَ الجُنْدِ والعُظَماءِ وأهْلِ مِصْرَ بِأجْمَعِهِمْ، فَتَلَقَّوْا يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهو يَمْشِي يَتَوَكَّأُ عَلى يَهُوذا، فَنَظَرَ إلى الخَيْلِ والنّاسِ فَقالَ: يا يَهُوذا أهَذا فِرْعَوْنُ مِصْرَ ؟ فَقالَ: لا، هَذا ولَدُكَ. فَلَمّا لَقِيَهُ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا مُذْهِبَ الأحْزانِ. وقِيلَ: إنَّ يُوسُفَ قالَ لَهُ لَمّا التَقَيا: يا أبَتِ، بَكَيْتَ عَلَيَّ حَتّى ذَهَبَ بَصَرُكَ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ القِيامَةَ تَجْمَعُنا ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنْ خَشِيتُ أنْ تُسْلَبَ دِينَكَ، فَيُحالُ بَيْنِي وبَيْنَكَ. آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ أيْ: ضَمَّهُما إلَيْهِ وعانَقَهُما، والظّاهِرُ أنَّهُما أبُوهُ وأُمُّهُ راحِيلُ. فَقالَ الحَسَنُ وابْنُ إسْحاقَ: كانَتْ أُمُّهُ بِالحَياةِ. وقِيلَ: كانَتْ ماتَتْ مِن نِفاسِ بِنْيامِينَ، وأحْياها لَهُ لِيَصْدُقَ رُؤْياهُ في قَوْلِهِ: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] حُكِيَ هَذا عَنِ الحَسَنِ وابْنِ إسْحاقَ أيْضًا. وقِيلَ: أبُوهُ وخالَتُهُ، وكانَ يَعْقُوبُ تَزَوَّجَها بَعْدَ مَوْتِ راحِيلَ، والخالَةُ أُمٌّ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكانَتْ رَبَّتْ يُوسُفَ، والرّابَّةُ تُدْعى أُمًّا. وقالَ بَعْضُهم: أبُوهُ وجَدَّتُهُ أُمُّ أُمِّهِ، حَكاهُ الزَّهْراوِيُّ. وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: (آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وإخْوَتَهُ) وظاهِرُ قَوْلِهِ: ادْخُلُوا مِصْرَ، إنَّهُ أمَرَ بِإنْشاءِ دُخُولِ مِصْرَ. قالَ السُّدِّيُّ: قالَ لَهم ذَلِكَ وهم في الطَّرِيقِ حِينَ تَلَقّاهم، انْتَهى. فَيَبْقى قَوْلُهُ: فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ كَأنَّهُ ضَرَبَ لَهُ مَضْرِبٌ، أوْ بَيْتٌ حالَةَ التَّلَقِّي في الطَّرِيقِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِيهِ. وقِيلَ: دَخَلُوا عَلَيْهِ في مِصْرَ. ومَعْنى ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ أيْ: تَمَكَّنُوا مِنها واسْتَقِرُّوا فِيها. والظّاهِرُ تَعَلَّقَ الدُّخُولُ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ لَمّا أمَرَهم بِالدُّخُولِ، عَلَّقَ ذَلِكَ عَلى مَشِيئَةِ اللَّهِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ الكائِناتِ إنَّما تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وما لا يَشاءُ لا يَكُونُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: التَّقْدِيرُ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، إنْ شاءَ اللَّهُ دَخَلْتُمْ آمِنِينَ، ثُمَّ حُذِفَ الجَزاءُ لِدَلالَةِ الكَلامِ، ثُمَّ اعْتَرَضَ بِالجُمْلَةِ الجَزائِيَّةِ بَيْنَ الحالِ وذِي الحالِ. ومِن بِدَعِ التَّفاسِيرِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾ مِن بابِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، وأنَّ مَوْضِعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿سَوْفَ أسْتَغْفِرُ لَكم رَبِّي﴾ [يوسف: ٩٨] في كَلامِ يَعْقُوبَ، انْتَهى. (p-٣٤٨)وهَذا البِدْعُ مِنَ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وهو في غايَةِ البُعْدِ، بَلْ في غايَةِ الِامْتِناعِ. والعَرْشُ: سَرِيرُ المُلْكِ، ولَمّا دَخَلَ يُوسُفُ مِصْرَ وجَلَسَ في مَجْلِسِهِ عَلى سَرِيرِهِ، واجْتَمَعُوا إلَيْهِ، أكْرَمَ أبَوَيْهِ فَرَفَعَهُما مَعَهُ عَلى السَّرِيرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الرَّفْعُ والخُرُورُ قَبْلَ دُخُولِ مِصْرَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ فَكانَ يَكُونُ في قُبَّةٍ مِن قِبابِ المُلُوكِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلى البِغالِ أوِ الإبِلِ، فَحِينَ دَخَلُوا إلَيْهِ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وقالَ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾، ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ﴾، ﴿وخَرُّوا لَهُ﴾ والضَّمِيرُ في (وخَرُّوا) عائِدٌ عَلى أبَوَيْهِ وعَلى إخْوَتِهِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ في (وخَرُّوا) عائِدٌ عَلى إخْوَتِهِ وسائِرِ مَن كانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِأجْلِ هَيْبَتِهِ، ولَمْ يَدْخُلْ في الضَّمِيرِ أبَواهُ، بَلْ رَفَعَهُما عَلى سَرِيرِ مُلْكِهِ تَعْظِيمًا لَهُما، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أنَّهُ السُّجُودُ المَعْهُودُ، وأنَّ الضَّمِيرَ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى يُوسُفَ لِمُطابَقَةِ الرُّؤْيا في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ [يوسف: ٤] الآيَةَ، وكانَ السُّجُودُ إذْ ذاكَ جائِزًا مِن بابِ التَّكْرِيمِ بِالمُصافَحَةِ، وتَقْبِيلِ اليَدِ، والقِيامِ مِمّا شُهِرَ بَيْنَ النّاسِ في بابِ التَّعْظِيمِ والتَّوْقِيرِ. وقالَ قَتادَةُ: كانَتْ تَحِيَّةُ المُلُوكِ عِنْدَهم، وأعْطى اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ السَّلامَ؛ تَحِيَّةَ أهْلِ الجَنَّةِ. وقِيلَ: هَذا السُّجُودُ كانَ إيماءً بِالرَّأْسِ فَقَطْ. وقِيلَ: كانَ كالرُّكُوعِ البالِغِ دُونَ وضْعِ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ. ولَفْظَةُ (وخَرُّوا) تَأْبى هَذَيْنِ التَّفْسِرَيْنِ. قالَ الحَسَنُ: الضَّمِيرُ في (لَهُ) عائِدٌ عَلى اللَّهِ أيْ: خَرُّوا لِلَّهِ سُجَّدًا شُكْرًا عَلى ما أوْزَعَهم مِن هَذِهِ النِّعْمَةِ، وقَدْ تَأوَّلَ قَوْلَهُ: ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] عَلى أنَّ مَعْناهُ رَأيْتُهم لِأجْلِي ساجِدِينَ، وإذا كانَ الضَّمِيرُ لِيُوسُفَ فَقالَ المُفَسِّرُونَ: كانَ السُّجُودُ تَحِيَّةً لا عِبادَةً. وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الدّارانِيُّ: لا يَكُونُ السُّجُودُ إلّا لِلَّهِ لا لِيُوسُفَ، ويَبْعُدُ مِن عَقْلِهِ ودِينِهِ أنْ يَرْضى بِأنْ يَسْجُدَ لَهُ أبُوهُ مَعَ سابِقَتِهِ مِن صَوْنِ أوْلادِهِ والشَّيْخُوخَةِ والعِلْمِ والدِّينِ وكَمالِ النُّبُوَّةِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ وإنْ عادَ عَلى يُوسُفَ فالسُّجُودُ كانَ لِلَّهِ تَعالى، وجَعَلُوا يُوسُفَ قِبْلَةً كَما تَقُولُ: صَلَّيْتُ لِلْكَعْبَةِ، وصَلَّيْتُ إلى الكَعْبَةِ، وقالَ حَسّانُ: ؎ما كُنْتُ أعْرِفُ أنَّ الدَّهْرَ مُنْصَرِفٌ عَنْ هاشِمٍ ثُمَّ عَنْها عَنْ أبِي حَسَنِ ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم وأعْرَفَ النّاسِ بِالأشْياءِ والسُّنَنِ وقِيلَ: السُّجُودُ هُنا التَّواضُعُ، والخُرُورُ بِمَعْنى المُرُورِ لا السُّقُوطِ عَلى الأرْضِ لِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ [الفرقان: ٧٣] أيْ: لَمْ يَمُرُّوا عَلَيْها. وقالَ ثابِتٌ: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: سُجُودُكم هَذا تَأْوِيلٌ؛ أيْ: عاقِبَةُ رُؤْيايَ أنَّ تِلْكَ الكَواكِبَ والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ. ﴿ومِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٨٠] مُتَعَلِّقٌ بِرُؤْيايَ، والمَحْذُوفُ في ﴿مِن قَبْلُ﴾ تَقْدِيرُهُ: مِن قَبْلِ هَذِهِ الكَوائِنِ والحَوادِثِ الَّتِي جَرَتْ بَعْدَ رُؤْيايَ. ومَن تَأوَّلَ أنَّ أبَوَيْهِ لَمْ يَسْجُدا لَهُ زَعَمَ أنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيا لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مُطابِقًا لِلرُّؤْيا مِن كُلِّ الوُجُوهِ، فَسُجُودُ الكَواكِبِ والشَّمْسِ والقَمَرِ يُعَبَّرُ بِتَعْظِيمِ الأكابِرِ مِنَ النّاسِ، ولا شَكَّ أنَّ ذَهابَ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ ولَدِهِ مِن كَنْعانَ إلى مِصْرَ لِأجْلِ يُوسُفَ نِهايَةٌ في التَّعْظِيمِ لَهُ، فَكَفى هَذا القَدْرُ في صِحَّةِ الرُّؤْيا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهُ لَمّا رَأى سُجُودَ أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ هالَهُ ذَلِكَ واقْشَعَرَّ جِلْدَهُ مِنهُ، وقالَ لِيَعْقُوبَ: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِتَعْدِيدِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقالَ: ﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ أيْ: صادِقَةً، رَأيْتُ ما يَقَعُ لِي في المَنامِ يَقَظَةً، لا باطِلَ فِيها ولا لَغْوَ. وفي المُدَّةِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ رُؤْياهُ وسُجُودِهِمْ خِلافٌ مُتَناقِضٌ. قِيلَ: ثَمانُونَ سَنَةً، وقِيلَ: ثَمانِيَةَ عَشَرَ عامًا. وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِن رُتَبِ العَدَدِ. وكَذا المُدَّةُ الَّتِي أقامَ يَعْقُوبُ فِيها بِمِصْرَ عِنْدَ ابْنِهِ يُوسُفَ خِلافٌ مُتَناقِضٌ، و(أحْسَنَ) أصْلُهُ أنْ يَتَعَدّى بِإلى قالَ: ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] وقَدْ يَتَعَدّى بِالباءِ قالَ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [البقرة: ٨٣] كَما يُقالُ أساءَ إلَيْهِ، وبِهِ قالَ الشّاعِرُ:(p-٣٤٩) ؎أسِئِي بِنا أوْ أحْسِنِي لا مَلُومَةً لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ وقَدْ يَكُونُ ضَمِنَ (أحْسَنَ) مَعْنى لَطَفَ، فَعَدّاهُ بِالباءِ، وذَكَرَ إخْراجَهُ مِنَ السِّجْنِ وعَدَلَ عَنْ إخْراجِهِ مِنَ الجُبِّ صَفْحًا عَنْ ذِكْرِ ما تَعَلَّقَ بِقَوْلِ إخْوَتِهِ، وتَناسَيًا لِما جَرى مِنهم إذْ قالَ: ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [يوسف: ٩٢] وتَنْبِيهًا عَلى طَهارَةِ نَفْسِهِ، وبَراءَتِها مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ مِنَ المُراوَدَةِ. وعَلى ما تَنَقَّلَ إلَيْهِ مِنَ الرِّياسَةِ في الدُّنْيا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ بِخِلافِ ما تَنَقَّلَ إلَيْهِ بِالخُرُوجِ مِنَ الجُبِّ، إلى أنْ بِيعَ مَعَ العَبِيدِ، وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ مِنَ البادِيَةِ، وكانَ يَنْزِلُ يَعْقُوبُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأطْرافِ الشّامِ بِبادِيَةِ فِلَسْطِينَ، وكانَ رَبَّ إبِلٍ وغَنَمٍ وبادِيَةٍ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانُوا أهْلَ عَمَدٍ وأصْحابَ مَواشٍ يَتَنَقَّلُونَ في المِياهِ والمَناجِعِ. قِيلَ: كانَ تَحَوَّلَ إلى بادِيَةٍ وسَكَنَها، فَإنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِن أهْلِ البادِيَةِ. وقِيلَ: كانَ خَرَجَ إلى بَدا وهو مَوْضِعٌ، وإيّاهُ عَنى جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ: وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْبًا إلى بَدا إلَيَّ وأوْطانِي بِلادٌ سِواهُما ولِيَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِهَذا المَوْضِعِ مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ. يُقالُ: بَدا القَوْمُ بَدْوًا، إذا أتَوْا بَدا كَما يُقالُ: غارُوا غَوْرًا. إذا أتَوُا الغَوْرَ. والمَعْنى: وجاءَ بِكم مِن مَكانٍ بَدا، ذَكَرَهُ القُشَيْرِيُّ، وحَكاهُ الماوَرْدِيُّ عَنِ الضَّحّاكِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقابَلَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نِعْمَةَ إخْراجِهِ مِنَ السِّجْنِ بِمَجِيئِهِمْ مِنَ البَدْوِ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى الِاجْتِماعِ بِأبِيهِ وإخْوَتِهِ، وزَوالِ حُزْنِ أبِيهِ. فَفي الحَدِيثِ: «مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَنْقُلُهُ مِنَ البادِيَةِ إلى الحاضِرَةِ» ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ﴾ أيْ: أفْسَدَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَزَغَ، وأسْنَدَ النَّزْغَ إلى الشَّيْطانِ لِأنَّهُ المُوَسْوِسُ كَما قالَ: ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ عَنْها﴾ [البقرة: ٣٦] وذَكَرَ هَذا القَدْرَ مِن أمْرِ أُخْوَتِهِ؛ لِأنَّ النِّعْمَةَ إذا جاءَتْ إثْرَ شِدَّةٍ وبَلاءٍ كانَتْ أحْسَنَ مَوْقِعًا ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ﴾ أيْ: لَطِيفُ التَّدْبِيرِ لِما يَشاءُ مِنَ الأُمُورِ، رَفِيقٌ. و(مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِنَ المُلْكِ﴾ وفي ﴿مِن تَأْوِيلِ﴾ لِلتَّبْعِيضِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُؤْتِهِ إلّا بَعْضَ مُلْكِ الدُّنْيا، ولا عَلَّمَهُ إلّا بَعْضَ التَّأْوِيلِ، ويَبْعُدُ قَوْلُ مَن جَعَلَ (مِن) زائِدَةً، أوْ جَعَلَها لِبَيانِ الجِنْسِ. والظّاهِرُ أنَّ المُلْكَ هُنا مُلْكُ مِصْرَ. وقِيلَ: مُلْكُ نَفْسِهِ مِن إنْفاذِ شَهْوَتِهِ. وقالَ عَطاءٌ: مُلْكُ حُسّادِهِ بِالطّاعَةِ، ونَيْلُ الأمانِي مِنَ المُلْكِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وعَمْرِو بْنِ ذَرٍّ: (آتَيْتَنِ، وعَلَّمْتَنِ) بِحَذْفِ الياءِ مِنهُما اكْتِفاءً بِالكَسْرَةِ عَنْهُما، مَعَ كَوْنِهِما ثابِتَتَيْنِ خَطًّا. وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ ذَرانَةَ قَرَأ: (رَبِّ آتَيْتَنِي) بِغَيْرٍ ”قَدْ“ وانْتَصَبَ (فاطِرَ) عَلى الصِّفَةِ أوْ عَلى النِّداءِ. و﴿أنْتَ ولِيِّي﴾ تَتَوَلّانِي بِالنِّعْمَةِ في الدّارَيْنِ، وتُوصِلُ المُلْكَ الفانِي بِالمُلْكِ الباقِي. وذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ لَمّا عَدَّ نِعَمَ اللَّهِ عِنْدَهُ تَشَوَّقَ إلى لِقاءِ رَبِّهِ ولِحاقِهِ بِصالِحِي سَلَفِهِ، ورَأى أنَّ الدُّنْيا كُلَّها فانِيَةٌ فَتَمَنّى المَوْتَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَتَمَنَّ المَوْتَ حَيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ، والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ تَمَنِّي المَوْتِ، وإنَّما عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعا أنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ النِّعَمَ في باقِي أمْرِهِ أيْ: تَوَفَّنِي إذا حانَ أجْلِي عَلى الإسْلامِ، واجْعَلْ لِحاقِي بِالصّالِحِينَ، وإنَّما تَمَنّى الوَفاةَ عَلى الإسْلامِ لا المَوْتَ، و(الصّالِحِينَ) أهْلُ الجَنَّةِ أوِ الأنْبِياءُ، أوْ آباؤُهُ إبْراهِيمُ وإسْحاقُ ويَعْقُوبُ. وعُلَماءُ التّارِيخِ يَزْعُمُونَ أنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - عاشَ مِائَةَ عامٍ وسَبْعَةَ أعْوامٍ، ولَهُ مِنَ الوَلَدِ: إفْراثِيمُ، ومَنشا، ورَحْمَةُ - زَوْجَةُ أيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . قالَ الذَّهَبِيُّ: ووُلِدَ لِإفْراثِيمَ نُونٌ، ولِنُونٍ يُوشَعُ - وهو فَتى مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - - . ووُلِدَ لِمَنشا مُوسى، وهو قَبْلَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - . ويَزْعُمُ أهْلُ التَّوْراةِ أنَّهُ صاحِبُ الخَضِرِ، وكانَ ابْنُ عَبّاسٍ يُنْكِرُ ذَلِكَ. وثَبَتَ في الصَّحِيحِ أنَّ صاحِبَ الخَضِرِ هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ. وتَوارَثَتِ الفَراعِنَةُ مُلْكَ مِصْرَ، ولَمْ تَزَلْ بَنُو إسْرائِيلَ تَحْتَ أيْدِيهِمْ عَلى بَقايا دِينِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى أنْ بُعِثَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب