الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ﴾ قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: العَرْشُ السَّرِيرُ الرَّفِيعُ قالَ تَعالى: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ (النَّمْلِ: ٢٣) والمُرادُ بِالعَرْشِ هَهُنا: السَّرِيرُ الَّذِي كانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ يُوسُفُ، وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ فَفِيهِ إشْكالٌ، وذَلِكَ لِأنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أبا يُوسُفَ وحَقُّ الأُبُوَّةِ عَظِيمٌ، قالَ تَعالى: ﴿وقَضى﴾ (p-١٦٩)﴿رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ (الإسْراءِ: ٢٣) فَقَرَنَ حَقَّ الوالِدَيْنِ بِحَقِّ نَفْسِهِ، وأيْضًا أنَّهُ كانَ شَيْخًا، والشّابُّ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْظِيمُ الشَّيْخِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ كانَ مِن أكابِرِ الأنْبِياءِ، ويُوسُفُ وإنْ كانَ نَبِيًّا إلّا أنَّ يَعْقُوبَ كانَ أعْلى حالًا مِنهُ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ جِدَّ يَعْقُوبَ واجْتِهادَهُ في تَكْثِيرِ الطّاعاتِ أكْثَرُ مِن جِدِّ يُوسُفَ، ولَمّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الجِهاتُ الكَثِيرَةُ، فَلِهَذا يُوجِبُ أنْ يُبالِغَ يُوسُفُ في خِدْمَةِ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ اسْتَجازَ يُوسُفُ أنْ يَسْجُدَ لَهُ يَعْقُوبُ، هَذا تَقْرِيرُ السُّؤالِ. والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطاءٍ أنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّهم خَرُّوا لَهُ أيْ: لِأجْلِ وِجْدانِهِ سَجَدا لِلَّهِ تَعالى، وحاصِلُ الكَلامِ: أنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ كانَ سُجُودًا لِلشُّكْرِ، فالمَسْجُودُ لَهُ هو اللَّهُ، إلّا أنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ إنَّما كانَ لِأجْلِهِ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّأْوِيلِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّهم صَعِدُوا ذَلِكَ السَّرِيرَ، ثُمَّ سَجَدُوا لَهُ، ولَوْ أنَّهم سَجَدُوا لِيُوسُفَ لَسَجَدُوا لَهُ قَبْلَ الصُّعُودِ عَلى السَّرِيرِ لِأنَّ ذَلِكَ أدْخَلُ في التَّواضُعِ. فَإنْ قالُوا: فَهَذا التَّأْوِيلُ لا يُطابِقُ قَوْلَهُ: ﴿وقالَ ياأبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ والمُرادُ مِنهُ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ (يُوسُفَ: ٤) . قُلْنا: بَلْ هَذا مُطابِقٌ ويَكُونُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿والشَّمْسَ والقَمَرَ رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ لِأجْلِي أيْ أنَّها سَجَدَتْ لِلَّهِ لِطَلَبِ مَصْلَحَتِي ولِلسَّعْيِ في إعْلاءِ مَنصِبِي، وإذا كانَ هَذا مُحْتَمَلًا سَقَطَ السُّؤالُ. وعِنْدِي أنَّ هَذا التَّأْوِيلَ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأنَّهُ لا يُسْتَبْعَدُ مِن عَقْلِ يُوسُفَ ودِينِهِ أنْ يَرْضى بِأنْ يَسْجُدَ لَهُ أبُوهُ مَعَ سابِقَتِهِ في حُقُوقِ الوِلادَةِ والشَّيْخُوخَةِ والعِلْمِ والدِّينِ وكَمالِ النُّبُوَّةِ. والوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ أنْ يُقالَ: إنَّهم جَعَلُوا يُوسُفَ كالقِبْلَةِ وسَجَدُوا لِلَّهِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ وِجْدانِهِ، وهَذا التَّأْوِيلُ حَسَنٌ فَإنَّهُ يُقالُ: صَلَّيْتُ لِلْكَعْبَةِ كَما يُقالُ: صَلَّيْتُ إلى الكَعْبَةِ. قالَ حَسّانُ شِعْرًا: ؎ما كُنْتُ أعْرِفُ أنَّ الأمْرَ مُنْصَرِفٌ عَنْ هاشِمٍ ثُمَّ مِنها عَنْ أبِي حَسَنِ ؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم ∗∗∗ وأعْرَفَ النّاسِ بِالقُرْآنِ والسُّنَنِ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: فُلانٌ صَلّى لِلْقِبْلَةِ، وكَذَلِكَ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: سَجَدَ لِلْقِبْلَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أيْ جَعَلُوهُ كالقِبْلَةِ ثُمَّ سَجَدُوا لِلَّهِ شُكْرًا لِنِعْمَةِ وِجْدانِهِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: في الجَوابِ قَدْ يُسَمّى التَّواضُعُ سُجُودًا كَقَوْلِهِ: ؎تَرىَ الأُكْمَ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ وكانَ المُرادُ هَهُنا التَّواضُعَ إلّا أنَّ هَذا مُشْكِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾، والخُرُورُ إلى السَّجْدَةِ مُشْعِرٌ بِالإتْيانِ بِالسَّجْدَةِ عَلى أكْمَلِ الوُجُوهِ، وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ الخُرُورَ قَدْ يُعْنى بِهِ المُرُورُ فَقَطْ، قالَ تَعالى: ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ (الفُرْقانِ: ٧٣) يَعْنِي لَمْ يَمُرُّوا. (p-١٧٠) الوَجْهُ الرّابِعُ: في الجَوابِ أنْ نَقُولَ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وخَرُّوا لَهُ﴾ غَيْرُ عائِدٍ إلى الأبَوَيْنِ لا مَحالَةَ، وإلّا لَقالَ: وخَرُّوا لَهُ ساجِدِينَ، بَلِ الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى إخْوَتِهِ، وإلى سائِرِ مَن كانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِأجْلِ التَّهْنِئَةِ، والتَّقْدِيرُ: ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ مُبالَغَةً في تَعْظِيمِهِما، وأمّا الإخْوَةُ وسائِرُ الدّاخِلِينَ فَخَرُّوا لَهُ ساجِدِينَ. فَإنْ قالُوا: فَهَذا لا يُلائِمُ قَوْلَهُ: ﴿ياأبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ﴾ . قُلْنا: إنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيا لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُطابِقًا لِلرُّؤْيا بِحَسَبِ الصُّورَةِ والصِّفَةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ، فَسُجُودُ الكَواكِبِ والشَّمْسِ والقَمَرِ تَعْبِيرٌ عَنْ تَعْظِيمِ الأكابِرِ مِنَ النّاسِ لَهُ، ولا شَكَّ أنَّ ذَهابَ يَعْقُوبَ مَعَ أوْلادِهِ مِن كَنْعانَ إلى مِصْرَ لِأجْلِهِ في نِهايَةِ التَّعْظِيمِ لَهُ، فَكَفى هَذا القَدْرُ في صِحَّةِ الرُّؤْيا، فَأمّا أنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ مُساوِيًا لِأصْلِ الرُّؤْيا في الصِّفَةِ والصُّورَةِ فَلَمْ يُوجِبْهُ أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ. الوَجْهُ الخامِسُ في الجَوابِ: لَعَلَّ الفِعْلَ الدّالَّ عَلى التَّحِيَّةِ والإكْرامِ في ذَلِكَ الوَقْتِ هو السُّجُودُ، وكانَ مَقْصُودُهم مِنَ السُّجُودِ تَعْظِيمَهُ، وهَذا في غايَةِ البُعْدِ لِأنَّ المُبالَغَةَ في التَّعْظِيمِ كانَتْ ألْيَقَ بِيُوسُفَ مِنها بِيَعْقُوبَ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ كَما قُلْتُمْ، لَكانَ مِنَ الواجِبِ أنْ يَسْجُدَ يُوسُفُ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ. والوَجْهُ السّادِسُ فِيهِ: أنْ يُقالَ: لَعَلَّ إخْوَتَهُ حَمَلَتْهُمُ الأنَفَةُ والِاسْتِعْلاءُ عَلى أنْ لا يَسْجُدُوا لَهُ عَلى سَبِيلِ التَّواضُعِ، وعَلِمَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهم لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَصارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِثَوَرانِ الفِتَنِ ولِظُهُورِ الأحْقادِ القَدِيمَةِ بَعْدَ كُمُونِها، فَهو عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ جَلالَةِ قَدْرِهِ وعِظَمِ حَقِّهِ بِسَبَبِ الأُبُوَّةِ والشَّيْخُوخَةِ والتَّقَدُّمِ في الدِّينِ والنُّبُوَّةِ والعِلْمِ فَعَلَ ذَلِكَ السُّجُودَ، حَتّى تَصِيرَ مُشاهَدَتُهم لِذَلِكَ سَبَبًا لِزَوالِ الأنَفَةِ والنَّفْرَةِ عَنْ قُلُوبِهِمْ، ألا تَرى أنَّ السُّلْطانَ الكَبِيرَ إذا نَصَّبَ مُحْتَسِبًا فَإذا أرادَ تَرْتِيبَهُ مَكَّنَهُ في إقامَةِ الحِسْبَةِ عَلَيْهِ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا في أنْ لا يَبْقى في قَلْبِ أحَدٍ مُنازَعَةُ ذَلِكَ المُحْتَسِبِ في إقامَةِ الحِسْبَةِ، فَكَذا هَهُنا. الوَجْهُ السّابِعُ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ يَعْقُوبَ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ لِحِكْمَةٍ خَفِيَّةٍ لا يَعْرِفُها إلّا هو كَما أنَّهُ أمَرَ المَلائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ لِحِكْمَةٍ لا يَعْرِفُها إلّا هو، ويُوسُفُ ما كانَ راضِيًا بِذَلِكَ في قَلْبِهِ إلّا أنَّهُ لَمّا عَلِمَ أنَّ اللَّهَ أمَرَهُ بِذَلِكَ سَكَتَ. ثُمَّ حَكى تَعالى أنَّ يُوسُفَ لَمّا رَأى هَذِهِ الحالَةَ: ﴿وقالَ ياأبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ وفِيهِ بَحْثانِ: البَحْثُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: إنَّهُ لَمّا رَأى سُجُودَ أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ هالَهُ ذَلِكَ واقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنهُ، وقالَ لِيَعْقُوبَ: هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ، وأقُولُ: هَذا يُقَوِّي الجَوابَ السّابِعَ؛ كَأنَّهُ يَقُولُ: يا أبَتِ لا يَلِيقُ بِمِثْلِكَ عَلى جَلالَتِكَ في العِلْمِ والدِّينِ والنُّبُوَّةِ أنْ تَسْجُدَ لِوَلَدِكَ، إلّا أنَّ هَذا أمْرٌ أُمِرْتَ بِهِ وتَكْلِيفٌ كُلِّفْتَ بِهِ، فَإنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ كَما أنَّ رُؤْيا إبْراهِيمَ ذَبْحَ ولَدِهِ صارَ سَبَبًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ الذَّبْحِ عَلَيْهِ في اليَقَظَةِ، فَكَذَلِكَ صارَتْ هَذِهِ الرُّؤْيا الَّتِي رَآها يُوسُفُ وحَكاها لِيَعْقُوبَ سَبَبًا لِوُجُوبِ ذَلِكَ السُّجُودِ، فَلِهَذا السَّبَبِ حَكى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى ذَلِكَ هالَهُ واقْشَعَرَّ جِلْدُهُ ولَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا، وأقُولُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن تَمامِ تَشْدِيدِ اللَّهِ تَعالى عَلى يَعْقُوبَ كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: إنَّكَ كُنْتَ دائِمَ الرَّغْبَةِ في وِصالِهِ ودائِمَ الحُزْنِ بِسَبَبِ فِراقِهِ، فَإذا وجَدْتَهُ فاسْجُدْ لَهُ، فَكانَ الأمْرُ بِذَلِكَ السُّجُودِ مِن تَمامِ التَّشْدِيدِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ. (p-١٧١)البَحْثُ الثّانِي: اخْتَلَفُوا في مِقْدارِ المُدَّةِ بَيْنَ هَذا الوَقْتِ وبَيْنَ الرُّؤْيا، فَقِيلَ: ثَمانُونَ سَنَةً، وقِيلَ: سَبْعُونَ، وقِيلَ: أرْبَعُونَ، وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ، ولِذَلِكَ يَقُولُونَ: إنَّ تَأْوِيلَ الرُّؤْيا إنَّما صَحَّتْ بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً، وقِيلَ: ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وعَنِ الحَسَنِ أنَّهُ أُلْقِيَ في الجُبِّ وهو ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وبَقِيَ في العُبُودِيَّةِ والسُّجُونِ ثَمانِينَ سَنَةً، ثُمَّ وصَلَ إلى أبِيهِ وأقارِبِهِ، وعاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاثًا وعِشْرِينَ سَنَةً، فَكانَ عُمُرُهُ مِائَةً وعِشْرِينَ سَنَةً، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وقَدْ أحْسَنَ بِي﴾ أيْ: إلَيَّ يُقالُ: أحْسَنَ بِي وإلَيَّ. قالَ كُثَيِّرٌ: ؎أسِيئِي بِنا أوْ أحْسِنِي لا مَلُومَةٌ ∗∗∗ لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إنْ تَقَلَّتِ ﴿إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ولَمْ يَذْكُرْ إخْراجَهُ مِنَ البِئْرِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ قالَ لِإخْوَتِهِ ﴿لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ﴾ ولَوْ ذَكَرَ واقِعَةَ البِئْرِ لَكانَ ذَلِكَ تَثْرِيبًا لَهم فَكانَ إهْمالُهُ جارِيًا مَجْرى الكَرَمِ. الثّانِي: أنَّهُ لَمّا خَرَجَ مِنَ البِئْرِ لَمْ يَصِرْ مَلِكًا بَلْ صَيَّرُوهُ عَبْدًا، أمّا لَمّا خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ صَيَّرُوهُ مَلِكًا، فَكانَ هَذا الإخْراجُ أقْرَبَ مِن أنْ يَكُونَ إنْعامًا كامِلًا. الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا أُخْرِجَ مِنَ البِئْرِ وقَعَ في المَضارِّ الحاصِلَةِ بِسَبَبِ تُهْمَةِ المَرْأةِ، فَلَمّا أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وصَلَ إلى أبِيهِ وإخْوَتِهِ وزالَتِ التُّهْمَةُ؛ فَكانَ هَذا أقْرَبَ إلى المَنفَعَةِ. الرّابِعُ: قالَ الواحِدِيُّ: النِّعْمَةُ في إخْراجِهِ مِنَ السِّجْنِ أعْظَمُ؛ لِأنَّ دُخُولَهُ في السِّجْنِ كانَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ هَمَّ بِهِ، وهَذا يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلى مَيْلِ الطَّبْعِ ورَغْبَةِ النَّفْسِ، وهَذا وإنْ كانَ في مَحَلِّ العَفْوِ في حَقِّ غَيْرِهِ إلّا أنَّهُ رُبَّما كانَ سَبَبًا لِلْمُؤاخَذَةِ في حَقِّهِ لِأنَّ حَسَناتِ الأبْرارِ سَيِّئاتُ المُقَرَّبِينَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: جاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ أيْ مِنَ البِدايَةِ، وقالَ الواحِدِيُّ: البَدْوُ بَسِيطٌ مِنَ الأرْضِ يَظْهَرُ فِيهِ الشَّخْصُ مِن بَعِيدٍ، وأصْلُهُ مِن بَدا يَبْدُو بُدُوًّا، ثُمَّ سُمِّيَ المَكانُ بِاسْمِ المَصْدَرِ فَيُقالُ: بَدْوٌ وحَضَرٌ، وكانَ يَعْقُوبُ ووَلَدُهُ بِأرْضِ كَنْعانَ أهْلَ مَواشٍ وبَرِّيَّةٍ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كانَ يَعْقُوبُ قَدْ تَحَوَّلَ إلى بَدا، وسَكَنَها، ومِنها قَدِمَ عَلى يُوسُفَ، ولَهُ بِها مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلِها. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: بَدا اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ، يُقالُ: هو بَيْنَ شَغْبٍ وبَدا، وهُما مَوْضِعانِ ذَكَرَهُما جَمِيعًا كُثَيِّرٌ فَقالَ: ؎وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَغْبًا إلى بَدا إلَيَّ وأوْطانِي بِلادٌ سِواهُما فالبَدْوُ عَلى هَذا القَوْلِ مَعْناهُ قَصْدُ هَذا المَوْضِعِ الَّذِي يُقالُ لَهُ: بَدا، يُقالُ: بَدا القَوْمُ يَبْدُونَ بَدْوًا إذا أتَوْا بَدا، كَما يُقالُ: غارَ القَوْمُ غَوْرًا إذا أتَوُا الغَوْرَ، فَكانَ مَعْنى الآيَةِ: وجاءَ بِكم مِن قَصْدِ بَدا، وعَلى هَذا القَوْلِ كانَ يَعْقُوبُ ووَلَدُهُ حَضَرِيِّينَ؛ لِأنَّ البَدْوَ لَمْ يُرِدْ بِهِ البادِيَةَ لَكِنْ عَنى بِهِ قَصْدَ بَدا، إلى هَهُنا كَلامٌ قالَهُ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ فِعْلَ العَبْدِ خَلْقُ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ خُرُوجَ العَبْدِ مِنَ (p-١٧٢)السِّجْنِ أضافَهُ إلى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾، ومَجِيئَهم مِنَ البَدْوِ أضافَهُ إلى نَفْسِهِ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾، وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ فِعْلَ العَبْدِ بِعَيْنِهِ فِعْلُ اللَّهِ تَعالى، وحُمِلَ هَذا عَلى أنَّ المُرادَ أنَّ ذَلِكَ إنَّما حَصَلَ بِإقْدارِ اللَّهِ تَعالى وتَيْسِيرِهِ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ﴿نَزَغَ﴾ أفْسَدَ بَيْنَنا وأغْوى، وأصْلُهُ مِن نَزَغَ الرّاكِضُ الدّابَّةَ وحَمَلَها عَلى الجَرْيِ. يُقالُ: نَزَغَهُ ونَسَغَهُ إذا نَخَسَهُ. واعْلَمْ أنَّ الجُبّائِيَّ والكَعْبِيَّ والقاضِيَ احْتَجُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى بُطْلانِ الجَبْرِ، قالُوا: لِأنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ أضافَ الإحْسانَ إلى اللَّهِ وأضافَ النَّزْغَ إلى الشَّيْطانِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ أيْضًا مِنَ الرَّحْمَنِ لَوَجَبَ أنْ لا يُنْسَبَ إلّا إلَيْهِ كَما في النِّعَمِ. والجَوابُ: أنَّ إضافَتَهُ هَذا الفِعْلَ إلى الشَّيْطانِ مَجازٌ، لِأنَّ عِنْدَكُمُ الشَّيْطانَ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الكَلامِ الخَفِيِّ، وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فَقالَ: ﴿وما كانَ لِي عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ إلّا أنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ (إبْراهِيمَ: ٢٢) فَثَبَتَ أنَّ ظاهِرَ القُرْآنِ يَقْتَضِي إضافَةَ هَذا الفِعْلِ إلى الشَّيْطانِ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. وأيْضًا فَإنْ كانَ إقْدامُ المَرْءِ عَلى المَعْصِيَةِ بِسَبَبِ الشَّيْطانِ، فَإقْدامُ الشَّيْطانِ عَلى المَعْصِيَةِ إنْ كانَ بِسَبَبِ شَيْطانٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وهو مُحالٌ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ شَيْطانٍ آخَرَ؛ فَلْيُقَلْ مِثْلُهُ في حَقِّ الإنْسانِ، فَثَبَتَ أنَّ إقْدامَ المَرْءِ عَلى الجَهْلِ والفِسْقِ لَيْسَ بِسَبَبِ الشَّيْطانِ، ولَيْسَ أيْضًا بِسَبَبِ نَفْسِهِ؛ لِأنَّ أحَدًا لا يَمِيلُ طَبْعُهُ إلى اخْتِيارِ الجَهْلِ والفِسْقِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَهُ في ذَمِّ الدُّنْيا وعِقابِ الآخِرَةِ، ولَمّا كانَ وُقُوعُهُ في الكُفْرِ والفِسْقِ لا بُدَّ لَهُ مِن مُوقِعٍ، وقَدْ بَطَلَ القِسْمانِ؛ لَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ الَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ عَلى هَذِهِ الآيَةِ وهي قَوْلُهُ: ﴿إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ صَرِيحٌ في أنَّ الكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾ والمَعْنى أنَّ حُصُولَ الِاجْتِماعِ بَيْنَ يُوسُفَ وبَيْنَ أبِيهِ وإخْوَتِهِ مَعَ الأُلْفَةِ والمَحَبَّةِ وطِيبِ العَيْشِ وفَراغِ البالِ كانَ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ العُقُولِ إلّا أنَّهُ تَعالى لَطِيفٌ، فَإذا أرادَ حُصُولَ شَيْءٍ سَهَّلَ أسْبابَهُ فَحَصَلَ وإنْ كانَ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ الحُصُولِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ أعْنِي أنَّ كَوْنَهُ لَطِيفًا في أفْعالِهِ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الِاعْتِباراتِ المُمْكِنَةِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها، فَيَكُونُ عالِمًا بِالوَجْهِ الَّذِي يُسَهِّلُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ الصَّعْبِ، وحَكِيمٌ أيْ مُحْكِمٌ في فِعْلِهِ، حاكِمٌ في قَضائِهِ، حَكِيمٌ في أفْعالِهِ، مُبَرَّأٌ عَنِ العَبَثِ والباطِلِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب