الباحث القرآني

﴿فَلَمّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إلَيْهِ أبَوَيْهِ وقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وقالَ يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أحْسَنَ بِيَ إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ (p-٥٥)طَوى ذِكْرَ سَفَرِهِمْ مِن بِلادِهِمْ إلى دُخُولِهِمْ عَلى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ إذْ لَيْسَ فِيهِ مِنَ العِبَرِ شَيْءٌ. وأبَواهُ أحَدُهُما يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأمّا الآخَرُ فالصَّحِيحُ أنَّ أُمَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهي راحِيلُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ ولَدَتْ بِنْيامِينَ، ولِذَلِكَ قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: أُطْلِقَ الأبَوانِ عَلى الأبِ وزَوْجِ الأبِ وهي لِيئَةُ خالَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهي الَّتِي تَوَلَّتْ تَرْبِيَتَهُ عَلى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ والتَّنْزِيلِ. وإعادَةُ اسْمِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأجْلِ بُعْدِ المُعادِ. وقَوْلُهُ ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ جُمْلَةٌ دِعائِيَّةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾) لِكَوْنِهِمْ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ حِينَئِذٍ. فالأمْرُ في ادْخُلُوا لِلدُّعاءِ كالَّذِي في قَوْلِهِ تَعالى ادْخُلُوا الجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكم. والمَقْصُودُ: تَقْيِيدُ الدُّخُولِ بِـ (آمِنِينَ) وهو مَناطُ الدُّعاءِ. والأمْنُ: حالَةُ اطْمِئْنانِ النَّفْسِ وراحَةِ البالِ وانْتِفاءِ الخَوْفِ مِن كُلِّ ما يُخافُ مِنهُ، وهو يَجْمَعُ جَمِيعَ الأحْوالِ الصّالِحَةِ لِلْإنْسانِ مِنَ الصِّحَّةِ والرِّزْقِ ونَحْوِ ذَلِكَ، ولِذَلِكَ قالُوا في دَعْوَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَبِّ اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا إنَّهُ جَمَعَ في هَذِهِ الجُمْلَةِ جَمِيعَ ما يُطْلَبُ لِخَيْرِ البَلَدِ. وجُمْلَةُ (إنْ شاءَ اللَّهُ) تَأدُّبٌ مَعَ اللَّهِ كالِاحْتِراسِ في الدُّعاءِ الوارِدِ بِصِيغَةِ الأمْرِ وهو لِمُجَرَّدِ التَّيَمُّنِ، فَوُقُوعُهُ في الوَعْدِ والعَزْمِ والدُّعاءِ بِمَنزِلَةِ وُقُوعِ (p-٥٦)التَّسْمِيَةِ في أوَّلِ الكَلامِ ولَيْسَ هو مِنَ الِاسْتِثْناءِ الوارِدِ النَّهْيُ عَنْهُ في الحَدِيثِ: أنْ «لا يَقُولَ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْتَ، فَإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ»؛ لِأنَّ ذَلِكَ في الدُّعاءِ المُخاطَبِ بِهِ اللَّهُ صَراحَةً. وجُمْلَةُ (﴿إنْ شاءَ اللَّهُ﴾) مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ (ادْخُلُوا) والحالِ مِن ضَمِيرِها. والعَرْشُ: سَرِيرٌ لِلْقُعُودِ فَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عَلى سُوقٍ، وفِيهِ سَعَةٌ تُمَكِّنُ الجالِسَ مِنَ الِاتِّكاءِ. والسُّجُودُ: وضْعُ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ تَعْظِيمًا لِلذّاتِ أوْ لِصُورَتِها أوْ لِذِكْرِها، قالَ الأعْشى: ؎فَلَمّا أتانا بُعَيْدَ الكَرى سَجَدْنا لَهُ ورَفَعْنا العَمارا وفِعْلُهُ قاصِرٌ فَيُعَدّى إلى مَفْعُولِهِ بِاللّامِ كَما في الآيَةِ. والخُرُورُ: الهُوِيُّ والسُّقُوطُ مِن عُلُوٍّ إلى الأرْضِ. والَّذِينَ خَرُّوا سُجَّدًا هم أبَواهُ وإخْوَتُهُ كَما يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ وهم أحَدَ عَشَرَ وهم: رُوبِينُ، وسَمْعُونُ، ولاوِي، ويَهُوذا، ويَساكِرُ، ورِبُولُونُ، وجادٌ، وأشِيرُ، ودانِ، ونَفْتالِي، وبِنْيامِينُ، والشَّمْسُ، والقَمَرُ، تَعْبِيرُهُما أبَواهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ وراحِيلُ. وكانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ المُلُوكِ وأضْرابِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ مَمْنُوعًا في الشَّرائِعِ وإنَّما مَنَعَهُ الإسْلامُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنى مُساواةِ النّاسِ في العُبُودِيَّةِ والمَخْلُوقِيَّةِ. ولِذَلِكَ فَلا يُعَدُّ قَبُولُهُ السُّجُودَ مِن أبِيهِ عُقُوقًا لِأنَّهُ لا غَضاضَةَ عَلَيْهِما مِنهُ إذْ هو عادَتُهم. والأحْسَنُ أنْ تَكُونَ جُمْلَةُ (وخَرُّوا) حالِيَّةً؛ لِأنَّ التَّحِيَّةَ كانَتْ قَبْلَ أنْ يَرْفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ، عَلى أنَّ الواوَ لا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. و(سُجَّدًا) حالٌ مُبَيِّنَةٌ؛ لِأنَّ الخُرُورَ يَقَعُ بِكَيْفِيّاتٍ كَثِيرَةٍ. (p-٥٧)والإشارَةُ في قَوْلِهِ (﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ﴾) إشارَةٌ إلى سُجُودِ أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ لَهُ هو مِصْداقَ رُؤْياهُ الشَّمْسَ والقَمَرَ وأحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا سُجَّدًا لَهُ. وتَأْوِيلُ الرُّؤْيا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ (﴿نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [يوسف: ٣٦]) . ومَعْنى (﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾) أنَّها كانَتْ مِنَ الأخْبارِ الرَّمْزِيَّةِ الَّتِي يُكاشِفُ بِها العَقْلُ الحَوادِثَ المُغَيَّبَةَ عَنِ الحِسِّ، أيْ ولَمْ يَجْعَلْها باطِلًا مِن أضْغاثِ الأحْلامِ النّاشِئَةِ عَنْ غَلَبَةِ الأخْلاطِ الغِذائِيَّةِ أوِ الِانْحِرافاتِ الدِّماغِيَّةِ. ومَعْنى (﴿أحْسَنَ بِي﴾) أحْسَنَ إلَيَّ. يُقالُ: أحْسَنَ بِهِ وأحْسَنَ إلَيْهِ، مِن غَيْرِ تَضْمِينِ مَعْنى فِعْلٍ آخَرَ. وقِيلَ: هو بِتَضْمِينِ (أحْسَنَ) مَعْنى لَطَفَ. وباءُ بِي لِلْمُلابَسَةِ أيْ جَعَلَ إحْسانَهُ مُلابِسًا لِي، وخَصَّ مِن إحْسانِ اللَّهِ إلَيْهِ دُونَ مُطْلَقِ الحُضُورِ لِلِامْتِيارِ أوِ الزِّيادَةِ إحْسانَيْنِ هُما يَوْمَ أخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ ومَجِيءِ عَشِيرَتِهِ مِنَ البادِيَةِ. فَإنَّ (إذْ) ظَرْفُ زَمانٍ لِفِعْلِ (أحْسَنَ) فَهي بِإضافَتِها إلى ذَلِكَ الفِعْلِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ إحْسانٍ غَيْرِ مَعْدُودٍ، فَإنَّ ذَلِكَ الوَقْتَ كانَ زَمَنَ ثُبُوتِ بَراءَتِهِ مِنَ الإثْمِ الَّذِي رَمَتْهُ بِهِ امْرَأةُ العَزِيزِ وتِلْكَ مِنَّةٌ، وزَمَنَ خَلاصِهِ مِنَ السَّجْنِ فَإنَّ السَّجْنَ عَذابُ النَّفْسِ بِالِانْفِصالِ عَنِ الأصْدِقاءِ والأحِبَّةِ، وبِخُلْطَةِ مَن لا يُشاكِلُونَهُ، وبِشَغْلِهِ عَنْ خَلْوَةِ نَفْسِهِ بِتَلَقِّي الآدابِ الإلَهِيَّةِ، وكانَ أيْضًا زَمَنَ إقْبالِ المَلِكِ عَلَيْهِ. وأمّا مَجِيءُ أهْلِهِ فَزَوالُ ألَمٍ نَفْسانِيٍّ بِوَحْشَتِهِ في الِانْفِرادِ عَنْ قَرابَتِهِ وشَوْقِهِ إلى لِقائِهِمْ، فَأفْصَحَ بِذِكْرِ خُرُوجِهِ مِنَ السِّجْنِ، ومَجِيءِ أهْلِهِ مِنَ البَدْوِ إلى حَيْثُ هو مَكِينٌ قَوِيٌّ. وأشارَ إلى مَصائِبِهِ السّابِقَةِ مِنَ الإبْقاءِ في الجُبِّ، ومُشاهَدَةِ مَكْرِ إخْوَتِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي، فَكَلِمَةُ (بَعْدِ) اقْتَضَتْ أنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ انْقَضى أثَرُهُ - وقَدْ ألَمَّ - بِهِ إجْمالًا اقْتِصارًا عَلى شُكْرِ النِّعْمَةِ وإعْراضًا عَنِ التَّذْكِيرِ بِتِلْكَ الحَوادِثِ المُكَدِّرَةِ لِلصِّلَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ إخْوَتِهِ فَمَرَّ بِها مَرَّ الكِرامِ وباعَدَها عَنْهم بِقَدْرِ الإمْكانِ إذْ ناطَها بِنَزْغِ الشَّيْطانِ. (p-٥٨)والمَجِيءُ في قَوْلِهِ (﴿وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾) نِعْمَةٌ، فَأسْنَدَهُ إلى اللَّهِ تَعالى وهو مَجِيئُهم بِقَصْدِ الِاسْتِيطانِ حَيْثُ هو. والبَدْوُ: ضِدُّ الحَضَرِ، سُمِّيَ بَدْوًا؛ لِأنَّ سُكّانَهُ بادُونَ، أيْ ظاهِرُونَ لِكُلِّ وارِدٍ، إذْ لا تَحْجُبُهم جُدْرانٌ ولا تُغْلَقُ عَلَيْهِمْ أبْوابٌ. وذِكْرُ (﴿مِنَ البَدْوِ﴾) إظْهارٌ لِتَمامِ النِّعْمَةِ؛ لِأنَّ انْتِقالَ أهْلِ البادِيَةِ إلى المَدِينَةِ ارْتِقاءٌ في الحَضارَةِ. والنَّزْغُ: مَجازٌ في إدْخالِ الفَسادِ في النَّفْسِ. شُبِّهَ بِنَزْغِ الرّاكِبِ الدّابَّةَ وهو نَخْسُها. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ﴾ [الأعراف: ٢٠٠] في سُورَةِ الأعْرافِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِقَصْدِ الِاهْتِمامِ بِها وتَعْلِيمِ مَضْمُونِها. واللُّطْفُ: تَدْبِيرُ المُلائِمِ. وهو يَتَعَدّى بِاللّامِ عَلى تَقْدِيرِ لَطِيفٌ لِأجْلِ ما يَشاءُ اللُّطْفُ بِهِ، ويَتَعَدّى بِالباءِ، قالَ تَعالى اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنى اللُّطْفِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] في سُورَةِ الأنْعامِ. وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ أيْضًا أوْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾، وحَرْفُ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمامِ. وتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الفَصْلِ لِلتَّقْوِيَةِ. وتَفْسِيرُ العَلِيمِ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] في سُورَةِ البَقَرَةِ. و(الحَكِيمُ) تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٠٩] أواسِطَ سُورَةِ البَقَرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب