الباحث القرآني

﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ﴾ عِنْدَ نُزُولِهِمْ بِمِصْرَ ﴿عَلى العَرْشِ﴾ عَلى السَّرِيرِ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما تَكَرُّمًا لَهُما فَوْقَ ما فَعَلَهُ بِالإخْوَةِ ﴿وخَرُّوا لَهُ﴾ أيْ أبَواهُ وإخْوَتُهُ وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْإخْوَةِ فَقَطْ ولَيْسَ بِذاكَ فَإنَّ الرُّؤْيا تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الأبَوانِ والإخْوَةُ خَرُّوا لَهُ ﴿سُجَّدًا﴾ أيْ عَلى الجِباهِ كَما هو الظّاهِرُ وهو كَما قالَ أبُو البَقاءِ حالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأنَّ السُّجُودَ يَكُونُ بَعْدَ الخُرُورِ وكانَ ذَلِكَ جائِزًا عِنْدَهم وهو جارٍ مَجْرى التَّحِيَّةِ والتَّكْرِمَةُ كالقِيامِ والمُصافَحَةِ وتَقْبِيلِ اليَدِ ونَحْوِها مِن عاداتِ النّاسِ الفاشِيَةِ في التَّعْظِيمِ والتَّوْقِيرِ قالَ قَتادَةُ: كانَ السُّجُودُ تَحِيَّةَ المُلُوكِ عِنْدَهم وأعْطى اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الأُمَّةَ السَّلامَ تَحِيَّةَ أهْلِ الجَنَّةِ كَرامَةً مِنهُ تَعالى عَجَّلَها لَهم وقِيلَ: ما كانَ ذَلِكَ إلّا إيماءً بِالرَّأْسِ وقِيلَ: كانَ كالرُّكُوعِ البالِغِ دُونَ وضْعِ الجَبْهَةِ عَلى الأرْضِ وقِيلَ: المُرادُ بِهِ التَّواضُعُ ويُرادُ بِالخُرُورِ المُرُورُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وعُمْيانًا﴾ فَقَدْ قِيلَ: المُرادُ لَمْ يَمُرُّوا عَلَيْها كَذَلِكَ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ اللَّفْظَ ظاهِرٌ في السُّقُوطِ وقِيلَ: ونُسِبَ لِابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المَعْنى خَرُّوا لِأجْلِ يُوسُفَ سُجَّدًا لِلَّهِ شُكْرًا عَلى ما أوْزَعَهم مِنَ النِّعْمَةِ وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ يا أبَتِ هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ﴾ إذْ فِيها ﴿رَأيْتُهم لِي ساجِدِينَ﴾ ودُفِعَ بِأنَّ القائِلَ بِهِ يَجْعَلُ اللّامَ لِلتَّعْلِيلِ فِيهِما وقِيلَ: اللّامُ فِيهِما بِمَعْنى إلى كَما في صَلّى لِلْكَعْبَةِ قالَ حَسّانُ: ؎ما كُنْتُ أعْرِفُ أنَّ الدَّهْرَ مُنْصَرِفٌ عَنْ هاشِمٍ ثُمَّ مِنها عَنْ أبِي حَسَنِ ؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم ∗∗∗ وأعْرَفَ النّاسِ بِالأشْياءِ والسُّنَنِ وذَكَرَ الإمامُ أنَّ القَوْلَ بِأنَّ السُّجُودَ كانَ لِلَّهِ تَعالى لا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَسَنٌ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ عَلى العَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّهم صَعِدُوا ثُمَّ سَجَدُوا ولَوْ كانَ السُّجُودُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَبْلَ الصُّعُودِ والجُلُوسِ لِأنَّهُ أدْخَلُ في التَّواضُعِ بِخِلافِ سُجُودِ الشُّكْرِ لِلَّهِ تَعالى ومُخالَفَةُ ظاهِرِ التَّرْتِيبِ ظاهِرُ المُخالَفَةِ لِلظّاهِرِ ودَفَعَ ما يَرُدُّ عَلَيْهِ مِمّا عَلِمْتَ بِما عَلِمْتَ ثُمَّ قالَ: وهو مُتَعَيَّنٌ عِنْدِي لِأنَّهُ يَبْعُدُ مِن عَقْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ودِينِهِ أنْ يَرْضى بِأنْ يَسْجُدَ لَهُ أبُوهُ مَعَ سابِقَتِهِ في حُقُوقِ الوِلادَةِ والشَّيْخُوخَةِ والعِلْمِ والدِّينِ وكَمالِ النُّبُوَّةِ وأُجِيبَ بِأنَّ تَأْخِيرَ الخُرُورِ عَنِ الرَّفْعِ لَيْسَ بِنَصٍّ في المَقْصُودِ لِأنَّ التَّرْتِيبَ الذِّكْرِيَّ لا يَجِبُ كَوْنُهُ عَلى وفْقِ التَّرْتِيبِ الوُقُوعِيِّ فَلَعَلَّ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ لِيَتَّصِلَ بِهِ ذِكْرُ كَوْنِهِ تَعْبِيرًا لِرُؤْياهُ وما يَتَّصِلُ بِهِ وبِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أمَرَ يَعْقُوبَ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ لا يَعْلَمُها إلّا هو وكانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ عالِمًا بِالأمْرِ فَلَمْ يَسَعْهُ إلّا السُّكُوتُ والتَّسْلِيمُ وكَأنَّ في قَوْلِهِ: ﴿يا أبَتِ﴾ .. إلَخْ إشارَةً إلى ذَلِكَ كَأنَّهُ يَقُولُ: يا أبَتِ لا يَلِيقُ بِمِثْلِكَ عَلى جَلالَتِكَ في العِلْمِ والدِّينِ والنُّبُوَّةِ أنَّ تَسْجُدَ لِوَلَدِكَ إلّا أنَّ هَذا أمْرٌ أمِرْتُ بِهِ وتَكْلِيفٌ كُلِّفْتُ بِهِ فَإنَّ رُؤْيا الأنْبِياءِ حَقٌّ كَما أنَّ رُؤْيا إبْراهِيمَ ذَبْحَ ولَدِهِ صارَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الذَّبْحِ في اليَقَظَةِ ولِذا جاءَ عَنِ (p-59)ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا رَأى سُجُودَ أبَوَيْهِ وإخْوَتِهِ لَهُ هالَهُ ذَلِكَ واقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنهُ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن تَمامِ تَشْدِيدِ اللَّهِ تَعالى عَلى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: أنْتَ كُنْتَ دائِمَ الرَّغْبَةِ في وِصالِهِ والحُزْنِ عَلى فِراقِهِ فَإذا وجَدْتَهُ فاسْجُدْ لَهُ ويُحْتَمَلُ أيْضًا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما فَعَلَهُ مَعَ عِظَمِ قَدْرِهِ لِتَتْبَعَهُ الإخْوَةُ فِيهِ لِأنَّ الأنَفَةَ رُبَّما حَمَلَتْهم عَلى الأنَفَةِ مِنهُ فَيَجُرُّ إلى ثَوَرانِ الأحْقادِ القَدِيمَةِ وعَدَمِ عَفْوِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ولا يَخْفى أنَّ الجَوابَ عَنِ الأوَّلِ لا يُفِيدُ لِما عَلِمْتَ أنَّ مَبْناهُ مُوافَقَةُ الظّاهِرِ والِاحْتِمالاتُ المَذْكُورَةُ في الجَوابِ عَنِ الثّانِي قَدْ ذَكَرَها أيْضًا الإمامُ وهي كَما تَرى وأحْسَنُها احْتِمالُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أمَرَهُ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ لا يَعْلَمُها إلّا هو ومَنِ النّاسِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ ذَلِكَ السُّجُودَ لَمْ يَكُنْ إلّا مِنَ الإخْوَةِ فِرارًا مِن نِسْبَتِهِ إلى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِما عَلِمْتَ وقَدْ رُدَّ بِما أشَرْنا إلَيْهِ أوَّلًا مِن أنَّ الرُّؤْيا تَسْتَدْعِي العُمُومَ وقَدْ أجابَ عَنْ ذَلِكَ الإمامُ بِأنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤْيا لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُطابِقًا لِلرُّؤْيا بِحَسَبِ الصُّورَةِ والصِّفَةِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ فَسُجُودُ الكَواكِبِ والشَّمْسِ والقَمَرِ يُعَبَّرُ بِتَعْظِيمِ الأكابِرِ مِنَ النّاسِ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ولا شَكَّ أنَّ ذَهابَ يَعْقُوبَ وأوْلادِهِ مِن كَنْعانَ إلى مِصْرَ لِأجْلِهِ في نِهايَةِ التَّعْظِيمِ لَهُ فَكَفى هَذا القَدْرُ في صِحَّةِ الرُّؤْيا فَأمّا أنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ كالأصْلِ حَذْوَ القَذَّةِ بِالقَذَّةِ فَلَمْ يُوجِبْهُ أحَدٌ مِنَ العُقَلاءِ. اهَـ. والحَقُّ أنَّ السُّجُودَ بِأيِّ مَعْنًى كانَ وقَعَ مِنَ الأبَوَيْنِ والإخْوَةِ جَمِيعًا والقَلْبُ يَمِيلُ إلى أنَّهُ كانَ انْحِناءً كَتَحِيَّةِ الأعاجِمِ وكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ اليَوْمَ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالخُرُورِ ولا بَأْسَ في أنْ يَكُونَ مِنَ الأبَوَيْنِ وهُما عَلى سَرِيرِ مُلْكِهِ ولا يَأْبى ذَلِكَ رُؤْياهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ مِن قَبْلِ سُجُودِكم أوْ مِن قَبْلِ هَذِهِ الحَوادِثِ والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِرُؤْيايَ وجُوِّزَ تَعَلُّقُها بِتَأْوِيلٍ لِأنَّها أُوِّلَتْ بِهَذا قَبْلَ وُقُوعِها وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ﴿رُؤْيايَ﴾ وصِحَّةُ وُقُوعِ الغاياتِ حالًا تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيها ﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا﴾ أيْ صِدْقًا والرُّؤْيا تُوصَفُ بِذَلِكَ ولَوْ مَجازًا وأعْرَبَهُ جَمْعٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِجَعَلَ وهي بِمَعْنى صَيَّرَ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا أيْ وضَعَها صَحِيحَةً وأنْ يَكُونَ صِفَةَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ جَعْلًا حَقًّا وأنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مِن غَيْرِ لَفْظِ الفِعْلِ بَلْ مِن مَعْناهُ لِأنَّ جَعَلَها في مَعْنى حَقَّقَها و﴿حَقًّا﴾ في مَعْنى تَحْقِيقٍ والجُمْلَةُ عَلى ما قالَ أبُو البَقاءِ حالٌ مُقَدَّرَةٌ أوْ مُقارَنَةٌ ﴿وقَدْ أحْسَنَ بِي﴾ الأصْلُ كَما في البَحْرِ أنْ يَتَعَدّى الإحْسانُ بِإلى أوِ اللّامِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ وقَدْ يَتَعَدّى بِالباءِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ وكَقَوْلِ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: ؎أسِيئِي بِنا أوْ أحْسِنِي لا مَلُومَةً ∗∗∗ لَدَيْنا ولا مَقْلِيَّةَ إنْ تَقَلَّتِ وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى تَضْمِينِ ﴿أحْسَنَ﴾ مَعْنى لَطِّفْ ولا يَخْفى ما فِيهِ مِنَ اللُّطْفِ إلّا أنَّ بَعْضَهم أنْكَرَ تَعْدِيَةَ لَطُفَ بِالباءِ وزَعَمَ أنَّهُ لا يَتَعَدّى إلّا بِاللّامِ فَيُقالُ: لَطَفَ اللَّهُ تَعالى لَهُ أيْ أوْصَلَ إلَيْهِ مُرادَهُ بِلُطْفٍ وهَذا ما في القامُوسِ لَكِنَّ المَعْرُوفَ في الِاسْتِعْمالِ تَعَدِّيهِ بِالباءِ وبِهِ صَرَّحَ في الأساسِ وعَلَيْهِ المُعَوَّلُ وقِيلَ: الباءُ بِمَعْنى إلى وقِيلَ: المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ أيْ أحْسِنْ صُنْعَهُ بِي فالباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالمَفْعُولِ المَحْذُوفِ وفِيهِ حَذْفُ المَصْدَرِ وإبْقاءُ مَعْمُولِهِ وهو مَمْنُوعٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ وقَوْلُهُ ﴿إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ مَنصُوبٌ بِأحْسِنْ أوْ بِالمَصْدَرِ المَحْذُوفِ عِنْدَ مَن يَرى جَوازَ ذَلِكَ وإذا كانَتْ تَعْلِيلِيَّةً فالإحْسانُ هو الإخْراجُ مِنَ السِّجْنِ بَعْدَ أنِ ابْتُلِيَ بِهِ (p-60)وما عُطِفَ عَلَيْهِ وإذا كانَتْ ظَرْفِيَّةً فَهو غَيْرُهُما ولَمْ يُصَرِّحْ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقِصَّةِ الجُبِّ حَذَرًا مِن تَثْرِيبِ إخْوَتِهِ وتَناسِيًا لِما جَرى مِنهم لِأنَّ الظّاهِرَ حُضُورُهم لِوُقُوعِ الكَلامِ عَقِيبَ خَرُورِهِمْ سُجَّدًا ولِأنَّ الإحْسانَ إنَّما تَمَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّجْنِ لِوُصُولِهِ لِلْمَلِكِ وخُلُوصِهِ مِنَ الرِّقِّ والتُّهْمَةِ واكْتِفاءً بِما يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ: ﴿وجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ أيِ البادِيَةِ وأصْلُهُ البَسِيطُ مِنَ الأرْضِ وإنَّما سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّ ما فِيهِ يَبْدُو لِلنّاظِرِ لِعَدَمِ ما يُوارِيهِ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى البَرِّيَّةِ مُطْلَقًا وكانَ مَنزِلُهم عَلى ما قِيلَ: بِأطْرافِ الشّامِ بِبادِيَةِ فِلَسْطِينَ وكانُوا أصْحابَ إبِلٍ وغَنَمٍ وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كانُوا أهْلَ عُمُدٍ وأصْحابَ مَواشٍ يَنْتَقِلُونَ في المِياهِ والمَناجِعِ وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما تَحَوَّلَ إلى البادِيَةِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ البادِيَةِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: كانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ تَحَوَّلَ إلى بَدا وسَكَنَها ومِنها قَدِمَ عَلى يُوسُفَ ولَهُ بِها مَسْجِدٌ تَحْتَ جَبَلِها: قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّ بَدا اسْمُ مَوْضِعٍ مَعْرُوفٍ يُقالُ: هو بَيْنَ شِعْبٍ وبَدا وهُما مَوْضِعانِ ذَكَرَهُما جَمِيلٌ بِقَوْلِهِ: ؎وأنْتَ الَّذِي حَبَّبْتَ شِعْبًا إلى بَدا ∗∗∗ إلَيَّ وأوْطانِي بِلادٌ سِواهُما فالبَدْوُ عَلى هَذا قَصْدُ هَذا المَوْضِعِ يُقالُ: بَدا القَوْمُ بَدْوًا إذا أتَوْا بَدًا كَما يُقالُ: أغارُوا غَوْرًا إذا أتَوُا الغَوْرَ فالمَعْنى أتى بِكم مِن قَصْدِ بَدا فَهم حِينَئِذٍ حَضَرِيُّونَ كَذا قالَهُ الواحِدِيُّ في البَسِيطِ وذَكَرَهُ القُشَيْرِيُّ وهو خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ أيْ أفْسَدَ وحَرَّشَ وأصْلُهُ مِن نَزَغَ الرّابِضُ الدّابَّةَ إذا نَخَسَها وحَمَلَها عَلى الجَرْيِ وأُسْنِدَ ذَلِكَ إلى الشَّيْطانِ مَجازًا لِأنَّهُ بِوَسْوَسَتِهِ وإلْقائِهِ وفِيهِ تَفادٍ عَنْ تَثْرِيبِهِمْ أيْضًا وذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِأمْرِ الإحْسانِ لِأنَّ النِّعْمَةَ بَعْدَ البَلاءِ أحْسَنُ مَوْقِعًا واسْتَدَلَّ الجُبّائِيُّ والكَعْبِيُّ والقاضِي بِالآيَةِ عَلى بُطْلانِ الجَبْرِ وفِيهِ نَظَرٌ ﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ﴾ أيْ لَطِيفُ التَّدْبِيرِ لَهُ إذْ ما مِن صَعْبٍ إلّا وتَنْفُذُ فِيهِ مَشِيئَتُهُ تَعالى ويَتَسَهَّلُ دُونَها كَذا قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ وحاصِلُهُ أنَّ اللَّطِيفَ هُنا بِمَعْنى العالِمِ بِخَفايا الأُمُورِ المُدَبِّرِ لَها والمُسَهِّلِ لِصِعابِها ولِنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ سُبْحانَهُ فَإذا أرادَ شَيْئًا سَهَّلَ أسْبابَهُ أطْلَقَ عَلَيْهِ جَلَّ شَأْنُهُ اللَّطِيفَ لِأنَّ ما يَلْطُفُ يَسْهُلُ نُفُوذُهُ وإلى هَذا يُشِيرُ كَلامُ الرّاغِبِ حَيْثُ قالَ: اللَّطِيفُ ضِدَّ الكَثِيفِ ويُعَبَّرُ بِاللَّطِيفِ عَنِ الحَرَكَةِ الخَفِيفَةِ وتَعاطِي الأُمُورِ الدَّقِيقَةِ فَوُصِفَ اللَّهُ تَعالى بِهِ لِعِلْمِهِ بِدَقائِقِ الأُمُورِ ورِفْقِهِ بِالعِبادِ فاللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِلَطِيفٍ لِأنَّ المُرادَ مُدَبِّرٌ لَمّا يَشاءُ عَلى ما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ وقالَ بَعْضُهم: إنَّ المَعْنى لِأجَلِ ما يَشاءُ وهو عَلى الأوَّلِ مُتَعَدٍّ بِاللّامِ وعَلى الثّانِي غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِها وقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا ما في ذَلِكَ ﴿إنَّهُ هو العَلِيمُ﴾ بِوُجُوهِ المَصالِحِ ﴿الحَكِيمُ﴾ . (100) . الَّذِي يَفْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ عَلى وجْهِ الحِكْمَةِ لا غَيْرُهُ رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ طافَ بِأبِيهِ عَلَيْهِما السَّلامُ في خَزائِنِهِ فَلَمّا أدْخَلَهُ خَزِينَةَ القِرْطاسِ قالَ: يا بُنَيَّ ما أعَقَّكَ عِنْدَكَ هَذِهِ القَراطِيسُ وما كَتَبْتَ إلَيَّ عَلى ثَمانِ مَراحِلَ قالَ: أمَرَنِي جِبْرِيلُ قالَ: أوَما تَسْألُهُ قالَ: أنْتَ أبْسَطُ مِنِّي إلَيْهِ فَسَألَهُ قالَ: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ اللَّهُ تَعالى أمَرَنِي بِذَلِكَ لِقَوْلِكَ: ﴿وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ قالَ: فَهَلّا خِفْتَنِي (p-61)وهَذا عُذْرٌ واضِحٌ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ في عَدَمِ إعْلامِ أبِيهِ بِسَلامَتِهِ وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ بِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أوْحى إلَيْهِ بِإخْفاءِ الأمْرِ عَلى أبِيهِ إلى أنْ يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ لَكِنْ يَبْقى السُّؤالُ بِأنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ مَن أكابِرِ الأنْبِياءِ نَفْسًا وأبًا وجَدًّا وكانَ مَشْهُورًا في أكْنافِ الأرْضِ ومَن كانَ كَذَلِكَ ثُمَّ وقَعَتْ لَهُ واقِعَةٌ هائِلَةٌ في أعَزِّ أوْلادِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الواقِعَةُ خَفِيَّةً بَلْ لا بُدَّ وأنْ تَبْلُغَ في الشُّهْرَةِ إلى حَيْثُ يَعْرِفُها كُلُّ أحَدٍ لا سِيَّما وقَدِ انْقَضَتِ المُدَّةُ الطَّوِيلَةُ فِيها وهو في ذَلِكَ الحُزْنِ الَّذِي تُضْرَبُ فِيهِ الأمْثالُ ويُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَ بِمَكانٍ بَعِيدٍ عَنْ مَكانِهِ ولا مُتَوَطِّنًا زَوايا الخَفاءِ ولا خامِلَ الذِّكْرِ بَلْ كانَ مَرْجِعَ العامِّ والخاصِّ وداعِيًا إلى اللَّهِ تَعالى في السِّرِّ والعَلَنِ وأوْقاتَ السُّرُورِ والمِحَنِ فَكَيْفَ غُمَّ أمْرُهُ ولَمْ يَصِلْ إلى أبِيهِ خَبَرُهُ. وأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّهُ لَيْسَ إلّا مِن بابِ خَرْقِ العادَةِ واخْتَلَفُوا في مِقْدارِ المُدَّةِ بَيْنَ الرُّؤْيا وظُهُورِ تَأْوِيلِها فَقِيلَ: ثَمانِي عَشْرَةَ سَنَةً وأخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ عَنِ الحَسَنِ أنَّ المُدَّةَ ثَمانُونَ سَنَةً وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّها سَبْعٌ وتِسْعُونَ سَنَةً وعَنْ حُذَيْفَةَ أنَّها سَبْعُونَ سَنَةً وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ أنَّها خَمْسٌ وثَلاثُونَ سَنَةً وأخْرَجَ جَماعَةٌ عَنْ سَلْمانَ الفارِسِيِّ أنَّها أرْبَعُونَ سَنَةً وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ قالَ ابْنُ شَدّادٍ: وإلى ذَلِكَ يَنْتَهِي تَأْوِيلُ الرُّؤْيا واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقائِقِ الأُمُورِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب