الباحث القرآني

ولَمّا ذَكَرَ الأمْنَ الَّذِي هو مَلاكُ العافِيَةِ الَّتِي بِها لَذَّةُ العَيْشِ، أتْبَعَهُ الرِّفْعَةَ الَّتِي بِها كَمالُ النَّعِيمِ، فَقالَ: ﴿ورَفَعَ أبَوَيْهِ﴾ أيْ بَعْدَما اسْتَقَرَّتْ بِهِمُ الدّارُ بِدُخُولِ مِصْرَ مُسْتَوِيِينَ ﴿عَلى العَرْشِ﴾ أيِ السَّرِيرِ الرَّفِيعِ؛ قالَ الرُّمّانِيُّ: أصْلُهُ الرَّفْعُ. ﴿وخَرُّوا﴾ أيِ انْحَطُّوا ﴿لَهُ سُجَّدًا﴾ الأبَوانِ والإخْوَةُ تَحْقِيقًا لِرُؤْياهُ مِمَّنْ هو غالِبٌ عَلى كُلِّ أمْرٍ، والسُّجُودُ - وأصْلُهُ: الخُضُوعُ والتَّذَلُّلُ - كانَ مُباحًا في تِلْكَ الأزْمِنَةِ ﴿وقالَ﴾ أيْ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿يا أبَتِ﴾ مُلَذِّذًا لَهُ بِالخِطابِ بِالأُبُوَّةِ ﴿هَذا﴾ أيِ الَّذِي وقَعَ مِنَ السُّجُودِ ﴿تَأْوِيلُ رُؤْيايَ﴾ الَّتِي رَأيْتُها، ودَلَّ عَلى قَصْرِ الزَّمَنِ الَّذِي رَآها فِيهِ بِالجارِّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلُ﴾ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلَهُ: ﴿قَدْ جَعَلَها رَبِّي﴾ أيِ الَّذِي رَبّانِي بِما أوْصَلَنِي إلَيْها ﴿حَقًّا﴾ أيْ بِمُطابَقَةِ الواقِعِ لِتَأْوِيلِها، وتَأْوِيلِ ما أخْبَرْتَنِي بِهِ أنْتَ تُحَقِّقُ [أيْضًا] مَنِ اجْتِبائِي وتَعْلِيمِي وإتْمامِ النِّعْمَةِ عَلَيَّ؛ والتَّأْوِيلُ: تَفْسِيرُ (p-٢١٨)ما يُؤُولُ إلَيْهِ مَعْنى الكَلامِ؛ وعَنْ سَلْمانَ \رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ ما بَيْنَ تَأْوِيلِها ورُؤْياها أرْبَعُونَ سَنَةً. ﴿وقَدْ أحْسَنَ﴾ أيْ أوْقَعَ إحْسانَهُ ﴿بِي﴾ تَصْدِيقًا لِما بَشَّرَتْنِي بِهِ مِن إتْمامِ النِّعْمَةِ، [وتَعْدِيَةِ ﴿أحْسَنَ﴾ بِالباءِ أدُلُّ عَلى القُرْبِ مِنَ المُحْسِنِ مِنَ التَّعْدِيَةِ بِـ ”إلى“ وعَبَّرَ بِقَوْلِهِ:-] ﴿إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ مُعْرِضًا عَنْ لَفْظِ ”الجُبِّ“ حَذَرًا مِن إيحاشِ إخْوَتِهِ مَعَ أنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ احْتِمالًا خَفِيًّا ﴿وجاءَ بِكُمْ﴾ وقِيلَ: إنَّهم كانُوا أهْلُ عُمَدٍ وأصْحابُ مَواشٍ، يَتَنَقَّلُونَ في المِياهِ والمَناجِعِ، فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿مِنَ البَدْوِ﴾ مِن أطْرافِ بادِيَةِ فِلَسْطِينَ، وذَلِكَ مِن أكْبَرِ النِّعَمِ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ ”مَن يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَنْقُلْهُ مِنَ البادِيَةِ إلى الحاضِرَةِ“ والبَدْوُ: بَسِيطٌ مِنَ الأرْضِ يُرى فِيهِ الشَّخْصُ مِن بَعِيدٍ، وأصْلُهُ مِنَ الظُّهُورِ، وأنِسَ إخْوَتُهُ أيْضًا بِقَوْلِهِ مُثْبِتًا الجارَّ لِأنَّ مَجِيئَهم في بَعْضِ أزْمانِ البُعْدِ: ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَـزَغَ﴾ عَبَّرَ بِالماضِي لِيَفْهَمَ أنَّهُ انْقَضى ﴿الشَّيْطانُ﴾ أيْ أفْسَدَ البَعِيدَ المُحْتَرِقَ بِوَسْوَسَتِهِ الَّتِي هي كالنَّخْسِ ﴿بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ حَيْثُ قَسَّمَ النَّزْعَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم ولَمْ يُفَضِّلْ أحَدًا مِنَ (p-٢١٩)الفَرِيقَيْنِ فِيهِ، ولَمْ يُثْبِتِ الجارُّ إشارَةً إلى عُمُومِ الإفْسادِ لِلْبَنِينِ، كُلُّ ذَلِكَ إشارَةٌ إلى تَحَقُّقٍ ما بَشَّرَ بِهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن إتْمامِ النِّعْمَةِ وكَمالِ العِلْمِ والحِكْمَةِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ الإحْسانَ إلَيْهِمْ أجْمَعِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي﴾ أيِ المُحْسِنِ إلَيَّ عَلى وُجُوهٍ فِيها خَفاءٌ ﴿لَطِيفٌ﴾ - أيْ يَعْلَمُ دَقائِقَ المَصالِحِ وغَوامِضَها، ثُمَّ يَسْلُكُ - في إيصالِها [إلى] المُسْتَصْلَحِ - سَبِيلَ الرِّفْقِ دُونَ العُنْفِ، فَإذا اجْتَمَعَ الرِّفْقُ في الفِعْلِ واللُّطْفِ في الإدْراكِ فَهو اللَّطِيفُ - قالَهُ الرّازِيُّ في اللَّوامِعِ. وهو سُبْحانُهُ فاعِلُ اللُّطْفِ في تَدْبِيرِهِ ورَحْمَتِهِ ﴿لِما يَشاءُ﴾ لا يُعْسَرُ عَلَيْهِ أمْرٌ؛ ثُمَّ عَلَّلَ هَذِهِ العِلَّةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هُوَ﴾ أيْ وحْدَهِ ﴿العَلِيمُ﴾ أيِ البَلِيغُ العِلْمِ لِلدَّقائِقِ والجَلائِلِ ﴿الحَكِيمُ﴾ أيِ البَلِيغُ الإتْقانِ لِما يَصْنَعُهُ طِبْقَ ما خَتَمَ بِهِ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بُشْراهُ في أوَّلِ السُّورَةِ، أيْ هو مُنْفَرِدٌ بِالِاتِّصافِ بِذَلِكَ لا يُدانِيهِ أحَدٌ في عِلْمٍ لِيَتَعَرَّضَ إلى إبْطالِ ما يُقِيمُهُ مِنَ الأسْبابِ، ولا في حِكْمَةٍ لِيَتَوَقَّعَ الخَلَلُ في شَيْءٍ مِنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب