الباحث القرآني

وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ فالمُرادُ بِهِ القَبْضَةُ مِنَ الحَصْباءِ الَّتِي رَمى بِها وُجُوهَ المُشْرِكِينَ فَوَصَلَتْ إلى عُيُونِ جَمِيعِهِمْ، فَأثْبَتَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الرَّمْيَ بِاعْتِبارِ النَّبْذِ والإلْقاءِ، فَإنَّهُ فَعَلَهُ، ونَفاهُ عَنْهُ بِاعْتِبارِ الإيصالِ إلى جَمِيعِ المُشْرِكِينَ، وهَذا فِعْلُ الرَّبِّ تَعالى لا تَصِلُ إلَيْهِ قُدْرَةُ العَبْدِ، والرَّمْيُ يُطْلَقُ عَلى الخَذْفِ، وهو مَبْدَؤُهُ، وعَلى الإيصالِ، وهو نِهايَتُهُ. وَأمّا قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلِيُبْلِى المُوْمِنِينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداءِ، وليس من الابتلاءِ الذي هو الامتحان بالمكروه، بل من أبلاه بلاءً حسنًا إذا أنعم عليه، يقال: أبلاك الله ولا ابتلاك، فأبلاه بالخير، وابتلاه بالمكاره غالبًا كما في الحديث: "إني مبتليك ومبتل لك". * (فصل) قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية: سلب فعل الرسول عنه، وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده. وهذا أغلظ منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال. فيقال: ما صليت، وما صمت إذا صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعاتهم ومعاصيهم، إذ لا فرق. فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده، تناقضوا، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية. وبعد: فهذه الآية نزلت في شأن رميه ﷺ المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه ﷺ مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نيابة، وهو الإيصال. فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته. ونظير هذا قوله في الآية نفسها: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، ولكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم ثم قال: وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولكِنَّ اللَّهَ رَمى فأخبر أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم، ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم، ولم يكن ذلك من رسوله. ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة لدفع المشركين، وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس. فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه، وبه، وهو خير الناصرين. * (فائدة) وَقَدْ ظَنَّ طائِفَةٌ أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى نَفْيِ الفِعْلِ عَنِ العَبْدِ، وإثْباتِهِ لِلَّهِ، وأنَّهُ هو الفاعِلُ حَقِيقَةً، وهَذا غَلَطٌ مِنهم مِن وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مَذْكُورَةٍ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ. وَمَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أثْبَتَ لِرَسُولِهِ ابْتِداءَ الرَّمْيِ، ونَفى عَنْهُ الإيصالَ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ بِرَمْيَتِهِ فالرَّمْيُ يُرادُ بِهِ الحَذْفُ والإيصالُ، فَأثْبَتَ لِنَبِيِّهِ الحَذْفَ، ونَفى عَنْهُ الإيصالَ. وَكانَتِ المَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ تُبادِرُ المُسْلِمِينَ إلى قَتْلِ أعْدائِهِمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «بَيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أمامَهُ، إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وصَوْتَ الفارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ: أقْدِمْ حَيْزُومُ، إذْ نَظَرَ إلى المُشْرِكِ أمامَهُ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَإذا هو قَدْ خُطِمَ أنْفُهُ، وشُقَّ وجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذَلِكَ أجْمَعُ، فَجاءَ الأنْصارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِن مَدَدِ السَّماءِ الثّالِثَةِ». وَقالَ أبو داود المازني: «إنِّي لَأتْبَعُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ لِأضْرِبَهُ، إذْ وقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي». «وَجاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ بِالعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ أسِيرًا، فَقالَ العباس: إنَّ هَذا واللَّهِ ما أسَرَنِي، لَقَدْ أسَرَنِي رَجُلٌ أجْلَحُ، مِن أحْسَنِ النّاسِ وجْهًا، عَلى فَرَسٍ أبْلَقَ ما أراهُ في القَوْمِ، فَقالَ الأنْصارِيُّ: أنا أسَرْتُهُ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ: " اسْكُتْ فَقَدْ أيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ». وأُسِرَ مِن بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ ثَلاثَةٌ: العباس، وعقيل، ونَوْفَلُ بْنُ الحارِثِ. * (فصل) وَأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ فَغابَ عَنْهم فِقْهُ الآيَةِ وفَهْمُها، والآيَةُ مِن أكْبَرِ مُعْجِزاتِ النَّبِيِّ ﷺ، والخِطابُ بِها خاصٌّ لِأهْلِ بَدْرٍ. وكَذَلِكَ القَبْضَةُ الَّتِي رَمى بِها النَّبِيُّ ﷺ فَأوْصَلَها اللَّهُ سُبْحانَهُ إلى جَمِيعِ وُجُوهِ المُشْرِكِينَ، وذَلِكَ خارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهِ ﷺ، وهو الرَّمْيُ الَّذِي نَفاهُ عَنْهُ، وأثْبَتَ لَهُ الرَّمْيَ الَّذِي هو في مَحَلِّ قُدْرَتِهِ وهو الخَذْفُ، وكَذَلِكَ القَتْلُ الَّذِي نَفاهُ عَنْهم هو قَتْلٌ لَمْ تُباشِرْهُ أيْدِيهِمْ، وإنَّما باشَرَتْهُ أيْدِي المَلائِكَةِ، فَكانَ أحَدُهم يَشْتَدُّ في أثَرِ الفارِسِ وإذا بِرَأْسِهِ قَدْ وقَعَ أمامَهُ مِن ضَرْبَةِ المَلِكِ، ولَوْ كانَ المُرادُ ما فَهِمَهُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ لا فِقْهَ لَهم في فَهْمِ النُّصُوصِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ كُلِّ قَتْلٍ وكُلِّ فِعْلٍ مِن شُرْبٍ أوْ زِنًا أوْ سَرِقَةٍ أوْ ظُلْمٍ فَإنَّ اللَّهَ خالِقُ الجَمِيعِ، وكَلامُ اللَّهِ يُنَزَّهُ عَنْ هَذا. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ «ما أنا حَمَلْتُكم ولَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» لَمْ يُرِدْ أنَّ اللَّهَ حَمَلَهم بِالقَدَرِ، وإنَّما كانَ النَّبِيُّ ﷺ مُتَصَرِّفًا بِأمْرِ اللَّهِ مُنَفِّذًا لَهُ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَهُ بِحَمْلِهِمْ فَنَفَّذَ أوامِرَهُ، فَكَأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي حَمَلَهُمْ، وهَذا مَعْنى قَوْلِهِ «واللَّهِ إنِّي لا أُعْطِي أحَدًا شَيْئًا ولا أمْنَعُهُ» ولِهَذا قالَ: «وَإنَّما أنا قاسِمٌ» فاللَّهُ سُبْحانَهُ هو المُعْطِي عَلى لِسانِهِ، وهو يَقْسِمُ ما قَسَمَهُ بِأمْرِهِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ في العَزْلِ «فَسَيَأْتِيها ما قُدِّرَ لَها» لَيْسَ فِيهِ إسْقاطُ الأسْبابِ؛ فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إذا قَدَّرَ خَلْقَ الوَلَدِ سَبَقَ مِن الماءِ ما يُخْلَقُ مِنهُ الوَلَدُ ولَوْ كانَ أقَلَّ شَيْءٍ فَلَيْسَ مِن كُلِّ الماءِ يَكُونُ الوَلَدُ، ولَكِنْ أيْنَ في السُّنَّةِ أنَّ الوَطْءَ لا تَأْثِيرَ لَهُ في الوَلَدِ ألْبَتَّةَ ولَيْسَ سَبَبًا لَهُ، وأنَّ الزَّوْجَ أوْ السَّيِّدَ إنْ وطِئَ أوْ لَمْ يَطَأْ فَكِلا الأمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلى حُصُولِ الوَلَدِ وعَدَمِهِ عَلى حَدٍّ سَواءٍ كَما يَقُولُهُ مُنْكِرُو الأسْبابِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ «لا عَدْوى ولا طِيَرَةَ» ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ نَفِيَ السَّبَبِ كَما زَعَمْتُمْ لَمْ يَدُلَّ عَلى نَفْيِ كُلِّ سَبَبٍ، وإنَّما غايَتُهُ أنَّ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لَيْسا مِن أسْبابِ الشَّرِّ، كَيْفَ والحَدِيثُ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؟ وإنَّما يَنْفِي ما كانَ المُشْرِكُونَ يُثْبِتُونَهُ مِن سَبَبِيَّةٍ مُسْتَمِرَّةٍ عَلى طَرِيقَةٍ واحِدَةٍ لا يُمْكِنُ إبْطالُها ولا صَرْفُها عَنْ مَحَلِّها ولا مُعارَضَتُها بِما هو أقْوى مِنها، لا كَما يَقُولُهُ مَن قَصُرَ عِلْمُهُ: إنّهم كانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ فاعِلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ. [مَذاهِبُ النّاسِ في الأسْبابِ] فالنّاسُ في الأسْبابِ لَهم ثَلاثُ طُرُقٍ: إبْطالُها بِالكُلِّيَّةِ، وإثْباتُها عَلى وجْهٍ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَقْبَلُ سَلْبَ سَبَبِيَّتِها ولا مُعارَضَتَها بِمِثْلِها أوْ أقْوى مِنها كَما يَقُولُهُ الطَّبائِعِيَّةُ والمُنَجِّمُونَ والدَّهْرِيَّةُ، والثّالِثُ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ودَلَّ عَلَيْهِ الحِسُّ والعَقْلُ والفِطْرَةُ: إثْباتُها أسْبابًا، وجَوازًا، بَلْ وُقُوعُ سَلْبِ سَبَبِيَّتِها عَنْها إذا شاءَ اللَّهُ ودَفْعُها بِأُمُورٍ أُخْرى نَظِيرَها أوْ أقْوى مِنها، مَعَ بَقاءِ مُقْتَضى السَّبَبِيَّةِ فِيها، كَما تُصْرَفُ كَثِيرٌ مِن أسْبابِ الشَّرِّ بِالتَّوَكُّلِ والدُّعاءِ والصَّدَقَةِ والذِّكْرِ والِاسْتِغْفارِ والعِتْقِ والصِّلَةِ، وتُصْرَفُ كَثِيرٌ مِن أسْبابِ الخَيْرِ بَعْدَ انْعِقادِها بِضِدِّ ذَلِكَ، فَلِلَّهِ كَمْ مِن خَيْرٍ انْعَقَدَ سَبَبُهُ ثُمَّ صُرِفَ عَنْ العَبْدِ بِأسْبابٍ أحْدَثُها مَنَعَتْ حُصُولَهُ وهو يُشاهِدُ السَّبَبَ حَتّى كَأنَّهُ أُخِذَ بِاليَدِ؟ وكَمْ مِن شَرٍّ انْعَقَدَ سَبَبُهُ ثُمَّ صُرِفَ عَنْ العَبْدِ بِأسْبابٍ أحْدَثُها مَنَعَتْ حُصُولَهُ؟، ومَن لا فِقْهَ لَهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ فَلا انْتِفاعَ لَهُ بِنَفْسِهِ ولا بِعِلْمِهِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ وعَلَيْهِ التُّكْلانُ. * [فَصْلٌ] قَولُ اللَّهِ تَعالى ﴿وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾. اعْتَقَدَ جَماعَةٌ أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ: سَلْبُ فِعْلِ الرَّسُولِ ﷺ عَنْهُ، وإضافَتُهُ إلى الرَّبِّ تَعالى، وجَعَلُوا ذَلِكَ أصْلًا في الجَبْرِ، وإبْطالِ نِسْبَةِ الأفْعالِ إلى العِبادِ، وتَحْقِيقِ نِسْبَتِها إلى الرَّبِّ وحْدَهُ، وهَذا غَلَطٌ مِنهم في فَهْمِ القُرْآنِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَوَجَبَ طَرْدُهُ في جَمِيعِ الأعْمالِ، فَيُقالُ: ما صَلَّيْتَ إذْ صَلَّيْتَ، وما صُمْتَ إذْ صُمْتَ، وما ضَحَّيْتَ إذْ ضَحَّيْتَ، ولا فَعَلْتَ كُلَّ فِعْلٍ إذْ فَعَلْتَهُ، ولَكِنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإنْ طَرَدُوا ذَلِكَ لَزِمَهم في جَمِيعِ أفْعالِ العِبادِ - طاعَتِهِمْ ومَعاصِيهِمْ - إذْ لا فَرْقَ، فَإنْ خَصُّوهُ بِالرَّسُولِ ﷺ وحْدَهُ وأفْعالِهِ جَمِيعِها، أوْ رَمْيِهِ وحْدَهُ؛ تَناقَضُوا، فَهَؤُلاءِ لَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ ما أُرِيدَ بِالآيَةِ. وَبَعْدُ، فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في شَأْنِ رَمْيِهِ ﷺ المُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ الحَصْباءِ، فَلَمْ تَدَعْ وجْهَ أحَدٍ مِنهم إلّا أصابَتْهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ تِلْكَ الرَّمْيَةَ مِنَ البَشَرِ لا تَبْلُغُ هَذا المَبْلَغَ، فَكانَ مِنهُ ﷺ مَبْدَأُ الرَّمْيِ، وهو الحَذْفُ، ومِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى نِهايَتُهُ، وهو الإيصالُ، فَأضافَ إلَيْهِ رَمْيَ الحَذْفِ الَّذِي هو مَبْدَؤُهُ، ونَفى عَنْهُ رَمْيَ الإيصالِ الَّذِي هو نِهايَتُهُ، ونَظِيرُ هَذا: قَوْلُهُ في الآيَةِ نَفْسِها ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿وَما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ فَأخْبَرَهُ: أنَّهُ وحْدَهُ هو الَّذِي تَفَرَّدَ بِقَتْلِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِكم أنْتُمْ، كَما تَفَرَّدَ بِإيصالِ الحَصى إلى أعْيُنِهِمْ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن رَسُولِهِ ولَكِنْ وجْهُ الإشارَةِ بِالآيَةِ: أنَّهُ سُبْحانَهُ أقامَ أسْبابًا ظاهِرَةً، كَدَفْعِ المُشْرِكِينَ، وتَوَلِّى دَفْعِهِمْ، وإهْلاكِهِمْ بِأسْبابٍ باطِنَةٍ غَيْرِ الأسْبابِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنّاسِ، فَكانَ ما حَصَلَ مِنَ الهَزِيمَةِ والقَتْلِ والنُّصْرَةِ مُضافًا إلَيْهِ وبِهِ، وهو خَيْرُ النّاصِرِينَ. * (فصل) واسْتَفْتَحَ أبو جهل في ذَلِكَ اليَوْمِ، فَقالَ: اللَّهُمَّ أقْطَعُنا لِلرَّحِمِ، وآتانا بِما لا نَعْرِفُهُ فَأحْنِهِ الغَداةَ، اللَّهُمَّ أيُّنا كانَ أحَبَّ إلَيْكَ، وأرْضى عِنْدَكَ، فانْصُرْهُ اليَوْمَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿إنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الفَتْحُ وإنْ تَنْتَهُوا فَهو خَيْرٌ لَكم وإنْ تَعُودُوا نَعُدْ ولَنْ تُغْنِيَ عَنْكم فِئَتُكم شَيْئًا ولَوْ كَثُرَتْ وأنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: ١٩]. وَلَمّا وضَعَ المُسْلِمُونَ أيْدِيَهم في العَدُوِّ يَقْتُلُونَ ويَأْسِرُونَ، وسَعْدُ بْنُ مُعاذٍ واقِفٌ عَلى بابِ الخَيْمَةِ الَّتِي فِيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهي العَرِيشُ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ في ناسٍ مِنَ الأنْصارِ، «رَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في وجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ الكَراهِيَةَ لِما يَصْنَعُ النّاسُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " كَأنَّكَ تَكْرَهُ ما يَصْنَعُ النّاسُ؟ " قالَ: أجَلْ، واللَّهِ كانَتْ أوَّلَ وقْعَةٍ أوْقَعَها اللَّهُ بِالمُشْرِكِينَ، وكانَ الإثْخانُ في القَتْلِ أحَبَّ إلَيَّ مِنِ اسْتِبْقاءِ الرِّجالِ». وَلَمّا بَرَدَتِ الحَرْبُ ووَلّى القَوْمُ مُنْهَزِمِينَ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن يَنْظُرُ لَنا ما صَنَعَ أبو جهل؟ " فانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنا عفراء حَتّى بَرَدَ، وأخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقالَ: أنْتَ أبو جهل؟ فَقالَ: لِمَنِ الدّائِرَةُ اليَوْمَ؟ فَقالَ: لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، وهَلْ أخْزاكَ اللَّهُ يا عَدُوَّ اللَّهِ؟ فَقالَ: وهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟ فَقَتَلَهُ عبد الله، ثُمَّ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: قَتَلْتُهُ: فَقالَ: " اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو " فَرَدَّدَها ثَلاثًا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُ أكْبَرُ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزابَ وحْدَهُ، انْطَلِقْ أرِنِيهِ. فانْطَلَقْنا فَأرَيْتُهُ إيّاهُ فَقالَ: " هَذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ». (وَأسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أمية بن خلف، وابْنَهُ عليا، فَأبْصَرَهُ بلال، وكانَ أمية يُعَذِّبُهُ بِمَكَّةَ، فَقالَ: رَأْسُ الكُفْرِ أمية بن خلف، لا نَجَوْتُ إنْ نَجا، ثُمَّ اسْتَوْخى جَماعَةً مِنَ الأنْصارِ، واشْتَدَّ عبد الرحمن بِهِما يُحْرِزُهُما مِنهُمْ، فَأدْرَكُوهُمْ، فَشَغَلَهم عَنْ أمية بِابْنِهِ، فَفَرَغُوا مِنهُ، ثُمَّ لَحِقُوهُما، فَقالَ لَهُ عبد الرحمن: ابْرُكْ. فَبَرَكَ فَألْقى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ مِن تَحْتِهِ حَتى قَتَلُوهُ، وأصابَ بَعْضُ السُّيُوفِ رِجْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قالَ لَهُ أمية قَبْلَ ذَلِكَ: مَنِ الرَّجُلُ المُعَلَّمُ في صَدْرِهِ بِرِيشَةِ نَعامَةٍ؟ فَقالَ: ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقالَ ذاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنا الأفاعِيلَ، وكانَ مَعَ عبد الرحمن أدْراعٌ قَدِ اسْتَلَبَها، فَلَمّا رَآهُ أمية قالَ لَهُ: أنا خَيْرٌ لَكَ مِن هَذِهِ الأدْراعِ، فَألْقاها وأخَذَهُ، فَلَمّا قَتَلَهُ الأنْصارُ، كانَ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ بلالا، فَجَعَنِي بِأدْراعِي وبِأسِيرِي). وانْقَطَعَ يَوْمَئِذٍ سَيْفُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، فَأعْطاهُ النَّبِيُّ ﷺ جِذْلًا مِن حَطَبٍ فَقالَ: (دُونَكَ هَذا)، فَلَمّا أخَذَهُ عكاشة وهَزَّهُ، عادَ في يَدِهِ سَيْفًا طَوِيلًا شَدِيدًا أبْيَضَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يُقاتِلُ بِهِ حَتّى قُتِلَ في الرِّدَّةِ أيّامَ أبي بكر. وَلَقِيَ الزبير عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مُدَجَّجٌ في السِّلاحِ لا يُرى مِنهُ إلّا الحَدَقُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الزبير بِحَرْبَتِهِ، فَطَعَنَهُ في عَيْنِهِ، فَماتَ، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلى الحَرْبَةِ، ثُمَّ تَمَطّى، فَكانَ الجَهْدُ أنْ نَزَعَها، وقَدِ انْثَنى طَرَفاها، قالَ عروة: فَسَألَهُ إيّاها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأعْطاهُ إيّاها، فَلَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أخَذَها، ثُمَّ طَلَبَها أبو بكر، فَأعْطاهُ إيّاها، فَلَمّا قُبِضَ أبو بكر، سَألَهُ إيّاها عمر فَأعْطاهُ إيّاها، فَلَمّا قُبِضَ عمر أخَذَها، ثُمَّ طَلَبَها عثمان فَأعْطاهُ إيّاها، فَلَمّا قُبِضَ عثمان، وقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَها عبد الله بن الزبير، وكانَتْ عِنْدَهُ حَتّى قُتِلَ. «وَقالَ رفاعة بن رافع: (رُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَفُقِئَتْ عَيْنِي، فَبَصَقَ فِيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ودَعا لِي، فَما آذانِي مِنها شَيْءٌ». وَلَمّا انْقَضَتِ الحَرْبُ أقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتّى وقَفَ عَلى القَتْلى، فَقالَ: «بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وصَدَّقَنِي النّاسُ، وخَذَلْتُمُونِي ونَصَرَنِي النّاسُ، وأخْرَجْتُمُونِي وآوانِي النّاسُ. ثُمَّ أمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا إلى قَلِيبٍ مِن قُلُبِ بَدْرٍ، فَطُرِحُوا فِيهِ، ثُمَّ وقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: " يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فُلانُ، ويا فُلانُ هَلْ وجَدْتُمْ ما وعَدَكم رَبُّكم حَقّا، فَإنِّي وجَدْتُ ما وعَدَنِي رَبِّي حَقّا "، فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما تُخاطِبُ مِن أقْوامٍ قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أنْتُمْ بِأسْمَعَ لِما أقُولُ مِنهُمْ، ولَكِنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ الجَوابَ ". ثُمَّ أقامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالعَرْصَةِ ثَلاثًا، وكانَ إذا ظَهَرَ عَلى قَوْمٍ أقامَ بِعَرْصَتِهِمْ ثَلاثًا». ثُمَّ ارْتَحَلَ مُؤَيَّدًا مَنصُورًا، قَرِيرَ العَيْنِ بِنَصْرِ اللَّهِ لَهُ، ومَعَهُ الأُسارى والمَغانِمُ، فَلَمّا كانَ بِالصَّفْراءِ، قَسَمَ الغَنائِمَ وضَرَبَ عُنُقَ النضر بن الحارث بن كلدة، ثُمَّ لَمّا نَزَلَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، ضَرَبَ عُنُقَ عقبة بن أبي معيط. وَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ المَدِينَةَ مُؤَيَّدًا مُظَفَّرًا مَنصُورًا قَدْ خافَهُ كُلُّ عَدُوٍّ لَهُ المَدِينَةَ وحَوْلَها، فَأسْلَمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِن أهْلِ المَدِينَةِ، وحِينَئِذٍ دَخَلَ عبد الله بن أبي المُنافِقُ وأصْحابُهُ في الإسْلامِ ظاهِرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب