الباحث القرآني

ولَمّا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ في ذَلِكَ، عَلَّلَهُ بِتَقْرِيرِ عِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ، وأنَّ النَّصْرَ لَيْسَ إلّا مِن عِنْدِهِ، فَمَن صَحَّ إيمانُهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَنِ امْتِثالِ أوامِرِهِ، فَقالَ مُسَبِّبًا عَنْ تَحْرِيمِهِ الفِرارَ وإنْ كانَ العَدُوُّ كَثِيرًا، تَذْكِيرًا بِما صَنَعَ لَهم في بَدْرٍ، لِيُجْرِيَهم عَلى مِثْلِ ذَلِكَ، ومَنعًا لَهم مِنَ الإعْجابِ بِما كانَ عَلى أيْدِيهِمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الخَوارِقِ ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ أيْ: حَلَّ عَلى المُدْبِرِ الغَضَبُ لِأنَّهُ تَبَيَّنَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أنَّهُ تَعالى لا يَأْمُرُ أحَدًا إلّا بِما هو قادِرٌ سُبْحانَهُ عَلى تَطْوِيقِهِ لَهُ؛ فَإنَّهُ قَدْ وضَحَ مِمّا يَجْرِي عَلى قَوانِينِ العَوائِدِ أنَّكم لَمْ تَقْتُلُوا قَتْلى بَدْرٍ وإنْ تَعاطَيْتُمْ أسْبابَ قَتْلِهِمْ، لِأنَّكم لَمْ تُدْخِلُوا قُلُوبَ ذَلِكَ الجَيْشِ العَظِيمِ الرُّعْبَ الَّذِي كانَ سَبَبَ هَزِيمَتِهِمُ الَّتِي كانَتْ سَبَبَ قَتْلِ مَن قَتَلْتُمْ، لِضَعْفِكم عَنْ مُقاوَمَتِهِمْ في العادَةِ، وفِيهِ مَعَ ذَلِكَ زَجْرٌ لَهم عَنْ أنْ يَقُولَ أحَدٌ مِنهم عَلى وجْهِ الِافْتِخارِ: قَتَلْتُ كَذا وكَذا رَجُلًا وفَعَلْتُ كَذا. ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ فَلا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مُرادِهِ ﴿قَتَلَهُمْ﴾ أيْ: بِأنْ هَزَمَهم لَكم لَمّا رَأوُا المَلائِكَةَ وامْتَلَأتْ أعْيُنُهم مِنَ التُّرابِ الَّذِي رَماهم بِهِ ﷺ وقُلُوبُهم جَزَعًا حَتّى تَمَكَّنْتُمْ مِن قَتْلِهِمْ خَرْقَ عادَةٍ كانَ وعَدَكم بِها، فَصَدَقَ مَقالُهُ وتَمَّتْ أفْعالُهُ. ولَمّا رَدَّ ما باشَرُوهُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ، أتْبَعَهُ ما باشَرَهُ نَبِيُّهُ ﷺ دَلالَةً عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ ﷺ «لَمّا رَأى قُرَيْشًا مُقْبِلَةً قالَ: اللَّهُمَّ! هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أقْبَلَتْ بِخُيَلائِها وفَخْرِها تُحادُّكَ وتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، فَقالَ (p-٢٤٣)جِبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: خُذْ قَبْضَةً مِن تُرابٍ فارْمِهِمْ بِها، فَفَعَلَ فَمَلَأتْ أعْيُنَهم فانْهَزَمُوا فَقالَ: ﴿وما رَمَيْتَ﴾» أيْ: يا سَيِّدَ المُؤْمِنِينَ الرَّمْلَ في أعْيُنِ الكُفّارِ ﴿إذْ رَمَيْتَ﴾ أيْ: أوْقَعَتْ صُورَةَ قَذْفِهِ مِن كَفِّكَ؛ لِأنَّ هَذا الأثَرَ الَّذِي وُجِدَ عَنْ رَمْيِكَ خارِقٌ لِلْعادَةِ، فَمِنَ الواضِحِ أنَّهُ لَيْسَ فِعْلَكَ، وهَذا هو الجَوابُ عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَقُلْ: فَلَمْ تَقْتُلُوهم إذْ قَتَلْتُمُوهُمْ؛ لِأنَّ زُهُوقَ النَّفْسِ عَنِ الجِراحِ المُثْخِنِ هو العادَةُ، فَهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوهم حِينَ باشَرُوا ضَرْبَهُمْ، فَلا يَصِحُّ: فَلَمْ تَقْتُلُوهم حَتّى قَتَلْتُمُوهُمْ، والمَنفِيُّ إنَّما هو السَّبَبُ المُتَقَدِّمُ عَلى القَتْلِ المُمْكِنِ مِنَ القَتْلِ، وهو تَسْكِينُ قُلُوبِهِمُ النّاشِئُ عِنْدَ إقْدامِهِمْ وإرْعابُ الكُفّارِ النّاشِئُ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ وانْهِزامِهِمُ المُمْكِنِ مِنهُمْ، فالمَنفِيُّ عَنْهُمُ البِدايَةُ والمَنفِيُّ عَنْهُ ﷺ الغايَةُ، أوْ أنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَمّا باشَرَتْ قَتْلَ بَعْضِهِمْ صَحَّ أنْ يَنْفِيَ عَنْهم قَتْلَ المَجْمُوعِ مُطْلَقًا، أوْ أنَّهم لَمّا افْتَخَرَ بَعْضُهم بِقَتْلِ مَن قَتَلَ نَفاهُ سُبْحانَهُ عَنْهم مُطْلَقًا؛ لِأنَّ مُباشَرَتَهم لِقَتْلِ مَن قُتِلَ في جَنْبِ ما أعَدَّ لَهم مِنَ الأسْبابِ وأيَّدَهم بِهِ مِنَ الجُنُودِ عَدَمٌ، وأمّا النَّبِيُّ ﷺ فَإنَّهُ فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ مِن رَمْيِ الرَّمْلِ ولَمْ يُعِدْ فِعْلَهُ ولا ذَكَرَهُ، فَأثْبَتَهُ سُبْحانَهُ لَهُ مَعَ نَفْيِ تَأْثِيرِهِ عَنْهُ وإثْباتِهِ لِمَن إلَيْهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ تَأْدِيبًا مِنهُ سُبْحانَهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، أيْ: لا يَنْظُرُ أحَدٌ إلى شَيْءٍ مِن طاعَتِهِ، فَإنّا قَدْ نَفَيْنا هَذا الفِعْلَ العَظِيمَ عَنْ أكْمَلِ الخَلْقِ مَعَ أنَّهُ عالِمٌ مُقِرٌّ بِأنَّهُ مِنّا فَلْيَحْذَرِ الَّذِي يَرى لَهُ فِعْلًا مِن عَظِيمِ سَطَواتِنا، ولَكِنْ لِيَنْسُبْ جَمِيعَ أفْعالِهِ الحَسَنَةِ إلى اللَّهِ تَعالى كَما نُسِبَ الرَّمْيُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ﴾ (p-٢٤٤)أيِ: الَّذِي لا رادَّ لِأمْرِهِ ﴿رَمى﴾ لِأنَّهُ الَّذِي أوْصَلَ أثَرَهُ بِما كانَ هازِمًا لِلْكُفّارِ، فَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِيُبْلِيَ الكُفّارَ مِنهُ بِأيْدِي مَن أرادَ مِن عِبادِهِ بَلاءَ عاقِبَتِهِ سَيِّئَةً ﴿ولِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيِ: الرّاسِخِينَ في الإيمانِ ﴿مِنهُ﴾ أيْ: وحْدَهُ ﴿بَلاءً حَسَنًا﴾ أيْ: مِنَ النَّصْرِ والغَنِيمَةِ والأجْرِ، ومادَّةُ بَلاءٍ يائِيَّةٌ أوْ واوِيَّةٌ بِأيِّ تَرْتِيبٍ كانَ تَدُورُ عَلى الخَلْطَةِ، وتارَةً تَكُونُ مُطْلَقَةً نَحْوَ أبْلاهُ عُذْرًا، وتارَةً بِكَثْرَةِ ومُحاوَلَةٍ وعَناءٍ وهو أغْلَبُ أحْوالِ المادَّةِ، وتارَةً تَكُونُ لِلِامْتِحانِ وأُخْرى لِغَيْرِهِ، وما أُبالِيهِ بالَةً - أظُنُّهُ مِنَ البالِ الَّذِي هو الخاطِرُ فَهو مِن بَوَلَ لا بَلَوَ، أجْوَفٌ لا مِن ذَواتِ الأرْبَعَةِ، ومَعْناهُ: ما أُفاعِلُهُ بِالبالِ، أيْ: ما أكْتَرِثُ بِهِ فَما أصْرِفُ خاطِرِي إلى مُخالَطَةِ أحْوالِهِ حَيْثُ يَصْرِفُ خاطِرَهُ إلَيَّ؛ أيْ: ما أُفَكِّرُ في أمْرِهِ لِهَوانِهِ عَلَيَّ وسَيَأْتِي بَسْطُ مَعانِي المادَّةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما بالُ النِّسْوَةِ﴾ [يوسف: ٥٠] وهَذِهِ المادَّةُ مَعْناها ضِدُّ الدَّعَةِ؛ لِأنَّ هَذِهِ يَلْزَمُها شَغْلُ الخاطِرِ الَّذِي عَنْهُ يَنْشَأُ التَّعَبُ بِمُدافِعَةِ المُلابِسِ، والدَّعَةُ يَلْزَمُها هُدُوءُ السِّرِّ وفَراغُ البالِ الَّذِي هو مَنشَأُ الرّاحَةِ، فَمَعْنى الآيَةِ أنَّهُ تَعالى فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الإمْكانِ مِن إذْلالِ الكُفّارِ لِيُخالِطَهم مِن شُؤُونِهِ ما يَكُونُ لَهم في مُدافَعَتِهِ عاقِبَةٌ سَيِّئَةٌ، ولِيُخالِطَ المُؤْمِنِينَ مِن ذَلِكَ ما يَكُونُ لَهم في مُزاوَلَتِهِ عاقِبَةٌ حَسَنَةٌ بَلْ أحْسَنُ مِنَ الرّاحَةِ؛ لِأنَّهُ يُفْضِي بِهِمْ (p-٢٤٥)إلى راحَةٍ دائِمَةٍ، والدَّعَةُ تُفْضِي إلى تَعَبٍ طَوِيلٍ. واللَّهُ مُوَفِّقٌ. ولَمّا ثَبَتَ بِما مَضى أنَّ لَهُ تَعالى الأفْعالَ العَظِيمَةَ والبَطْشاتِ الجَسِيمَةَ. ودَلَّتْ أقْوالُ مَن قالَ مِنَ المُؤْمِنِينَ: إنّا لَمْ نَتَأهَّبْ لِلِقاءِ ذاتِ الشَّوْكَةِ، عَلى ضَعْفِ العَزائِمِ؛ خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الإحاطَةُ بِصِفاتِ الكَمالِ ﴿سَمِيعٌ﴾ أيْ: لِأقْوالِكم مِنَ الِاسْتِعانَةِ في المَعُونَةِ عَلى النُّصْرَةِ وغَيْرِها ﴿عَلِيمٌ﴾ أيْ: بِعَزائِمِكم وإنْ لَمْ تَتَكَلَّمُوا بِها، فَهو يُجازِي المُؤْمِنَ عَلى حَسَبِ إيمانِهِ والكافِرَ عَلى ما يُبْدِي ويُخْفِي مِن كُفْرانِهِ، الأمْرُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب