الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ في هذه «الفاء» وجهان: أحدهما - وبه قال الزمخشري -: أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر، أي: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم. قال أبو حيان: «وليست جواباً، بل لِرْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ» . قوله ﴿ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ قرأ الأخوان، وابن عامر: ﴿ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ ، ﴿ولكن الله رمى﴾ بتخفيف «لكن» ورفع الجلالة، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله: ﴿ولكن الشياطين﴾ [البقرة: 102] وجاءت «لكن» هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات. قوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ نفى عنه الرمي، وأثبته له، وذلك باعتبارين، أي: ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذا رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب. وقوله: «ومَا رَمَيْتَ» هذه الجملة عطفٌ على قوله: «فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ» ؛ لأنَّ المضارع المنفي ب «لَمْ» في قوة الماضي المنفي ب «مَا» فإنَّك إذا قلت: «لَمْ يَقُمْ» كان معناه: ما قَامَ ولم يقل هنا: فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم،: ما قال: «إذْ رَمَيْتَ» مبالغةً في الجملة الثانية. فصل قال مجاهد: «سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ: أنا قتلتُ فلاناً، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية» ومعناها: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم. وقيل: ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة. وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ في سبب نزولها ثلاث أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسِّرين «أنَّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ندب النَّاس، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أين قريش؟ قالا: هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب: العقنقل. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهما: كم القومُ؟ قالا: كثيرٌ. قال: ما عددهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كلَّ يوم؟ قالا: يوماً عشرة، ويماً تسعة. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال: فَمَنْ فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، وأبو البختري بن هشامُ، وحكم بن حزام، والحارثُ بن عامر، وطعمة بن عديّ، والنضر بن الحارث، وأبُو جهل بن هشام، وأميةُ بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسُهَيل بن عمرو. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا «فلما أقبلت قريش، ورآها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصوب من العقنقل، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي. فقال:» اللَّهم هذه قريشُ قَدْ بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ، وتُكذب رسُولكَ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي» ، فأتاه جبريل، فقال: خُذْ قبضةً من تراب، فارمهم بها، فلمَّا التقى الجمعان، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب، فرمَى به وجوه القوم وقال: شاهتِ الوجوه، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها. فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.» وقال قتادةُ وابن زيد: ذكر لنا «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم، وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين ظهرهم، وقال: شاهت الوجوه فانهزموا» فذلك قوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: 17] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء. وقيل: المعنى: وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ، وقيل: وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا. القول الثاني: أنَّهَا نزلت يوم خيبر. «روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه» ، فنزلت الآية. القول الثالث: أنَّهَا نزلت في يوم أحد، «وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ، وقال: يا محمَّدُ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار» فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها. فقال عليه السَّلامُ: «بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ» فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اسْتَأخِرُوا» ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه» ، فحمل فمات ببعض الطري ففي ذلك اليوم نزلت الآية. والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقئع؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ. فصل ومعنى الآية: أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات. واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى؛ لأنَّ الله تعالى قال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 17] . ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى. وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً. فإن قيل: أما قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ فيه وجوه: أحدها: أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة. وثانيها: أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله، والتقدير: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم. وأما قوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ . قال القاضي: قيل: فيه أشياء: منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى، ومنها: أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ، فأوصلها إلى عيونهم. ومنها: أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم، فكان المُرَادُ من قوله: ﴿ولكن الله رمى﴾ هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب. فالجوابُ: أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ. قوله: ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: وليبلي فعل ذلك، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة، أي: ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار، وليُبْلي المؤمنين، والبلاء في الخير والشَّر، قال زهير: [الوافر] 2689 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو والهاءُ في «مِنْهُ» تعود على الظفر بالمشركين. وقيل: على الرمي قالهما مكيٌّ، والظَّاهر أنها تعود على الَّهِ تعالى. وقوله: «بَلاَءً» يجوزُ أن يكون اسم مصدر، أي: إبلاء، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي: ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر. قال القاضي: ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى: ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لدعائكم «عَلِيمٌ» بنيّاتكم. قوله: ذَلِكُمْ «يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي: ذلكم الأمر، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ. وقيل: هو خبر مبتدأ، أي: الأمر ذلكم، وهو تقدير سيبويه. وقيل: محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي: فعل ذلكم، والإشارةُ ب» ذَلِكُمْ «إلى القتل والرمي والإبلاء. قوله:» وأنَّ اللَّه» يجوزُ أن يكون معطوفاً على: «ذَلِكُمْ» فيحكم علىمحلِّه بما يحكمُ على محلِّك «ذَلِكُمْ» ، وأن يكون في حلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أنَّ الله، وقد تقدم ما في ذلك. وقال الزمخشريُّ: «إنَّه معطوف على:» وليُبْلي «والمعنى: أنَّ الغرضَ إبلاءُ المؤمنين، توهينُ كيد الكافرين» . وقرأ ابنُ عامر والكوفيون: «مُوهِن» بسكون الواوِ وتخفيف الهاءِ، من «أوهَن» ك: أكْرَم، ونوَّن «موهن» غير حفص، وقرأ الباقون: «مُوهِّن» بفتح الواو، وتشديد الهاءِ، والتنوين، ف «كَيْد» منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص، ومخفوضٌ في قراءة حفص، وأصله النَّصْبُ وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثرر؛ لأن ما عينه حرف حلقٍ غير الهمزة تعديته بالهمزة ولا يُعَدَّى بالتَّضعيف إلاَّ كلمٌ محفوظ نحو: وهَّنْتُه وضعَّفْتُه. فصل توهينُ الله كيدهم يكون بأشياء: بإطلاع المؤمنين على عوراتهم. وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم. ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. قال ابن عبَّاسٍ: ينبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول: «إنّي قد أوْهَنْتُ كَيْدَ عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب