الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى ولِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ مُجاهِدٌ: اخْتَلَفُوا يَوْمَ بَدْرٍ. فَقالَ هَذا: أنا قَتَلْتُ، وقالَ الآخَرُ: أنا قَتَلْتُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ يَعْنِي أنَّ هَذِهِ الكَسْرَةَ الكَبِيرَةَ لَمْ تَحْصُلْ مِنكم وإنَّما حَصَلَتْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ، رُوِيَ أنَّهُ «لَمّا طَلَعَتْ قُرَيْشٌ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جاءَتْ بِخُيَلائِها وفَخْرِها يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ ما وعَدْتَنِي“ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وقالَ: خُذْ قَبْضَةً مِن تُرابٍ فارْمِهِمْ بِها، فَلَمّا التَقى الجَمْعانِ قالَ لِعَلِيٍّ: أعْطِنِي قَبْضَةً مِنَ التُّرابِ مِن حَصْباءِ الوادِي، فَرَمى بِها في وُجُوهِهِمْ، وقالَ: شاهَتِ الوُجُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إلّا شُغِلَ بِعَيْنِهِ فانْهَزَمُوا» . قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ جَوابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ إنِ افْتَخَرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ فَأنْتُمْ لَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهم. ثُمَّ قالَ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ يَعْنِي أنَّ القَبْضَةَ مِنَ الحَصْباءِ الَّتِي رَمَيْتَها، فَأنْتَ ما رَمَيْتَها في الحَقِيقَةِ، لِأنَّ رَمْيَكَ لا يَبْلُغُ أثَرُهُ إلّا ما يَبْلُغُهُ رَمْيُ سائِرِ البَشَرِ، ولَكِنَّ اللَّهَ رَماها حَيْثُ نَفَّذَ أجْزاءَ ذَلِكَ التُّرابِ وأوْصَلَها إلى عُيُونِهِمْ، فَصُورَةُ الرَّمْيَةِ صَدَرَتْ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأثَرُها إنَّما صَدَرَ مِنَ اللَّهِ، فَلِهَذا المَعْنى صَحَّ فِيهِ النَّفْيُ والإثْباتُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى، وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ ومِنَ المَعْلُومِ أنَّهم جُرِحُوا، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ حُدُوثَ تِلْكَ الأفْعالِ إنَّما حَصَلَ مِنَ اللَّهِ. وأيْضًا قَوْلُهُ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ﴾ أثْبَتَ كَوْنَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رامِيًا، ونَفى عَنْهُ كَوْنَهُ رامِيًا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى أنَّهُ رَماهُ كَسْبًا وما رَماهُ خَلْقًا. فَإنْ قِيلَ: أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَتْلَ الكُفّارِ إنَّما تَيَسَّرَ بِمَعُونَةِ اللَّهِ ونَصْرِهِ وتَأْيِيدِهِ، فَصَحَّتْ هَذِهِ الإضافَةُ. الثّانِي: أنَّ الجُرْحَ كانَ إلَيْهِمْ، وإخْراجُ الرُّوحِ كانَ إلى اللَّهِ تَعالى، والتَّقْدِيرُ: فَلَمْ تُمِيتُوهم ولَكِنَّ اللَّهَ أماتَهم. (p-١١٣)وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ . قالَ القاضِي: فِيهِ أشْياءُ: مِنها: أنَّ الرَّمْيَةَ الواحِدَةَ لا تُوجِبُ وُصُولَ التُّرابِ إلى عُيُونِهِمْ، وكانَ إيصالُ أجْزاءِ التُّرابِ إلى عُيُونِهِمْ لَيْسَ إلّا بِإيصالِ اللَّهِ تَعالى. ومِنها: أنَّ التُّرابَ الَّذِي رَماهُ كانَ قَلِيلًا، فَيَمْتَنِعُ وصُولُ ذَلِكَ القَدْرِ إلى عُيُونِ الكُلِّ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّهُ تَعالى ضَمَّ إلَيْها أشْياءَ أُخَرَ مِن أجْزاءِ التُّرابِ وأوْصَلَها إلى عُيُونِهِمْ. ومِنها: أنَّ عِنْدَ رَمْيَتِهِ ألْقى اللَّهُ تَعالى الرُّعْبَ في قُلُوبِهِمْ، فَكانَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ هو أنَّهُ تَعالى رَمى قُلُوبَهم بِذَلِكَ الرُّعْبِ. والجَوابُ: أنَّ كُلَّ ما ذَكَرْتُمُوهُ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، والأصْلُ في الكَلامِ الحَقِيقَةُ. فَإنْ قالُوا: الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ تَمْنَعُ مِنَ القَوْلِ بِأنَّ فِعْلَ العَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعالى، فَنَقُولُ: هَيْهاتَ فَإنَّ الدَّلائِلَ العَقْلِيَّةَ في جانِبِنا والبَراهِينَ النَّقْلِيَّةَ قائِمَةٌ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا، فَلا يُمْكِنُكم أنْ تَعْدِلُوا عَنِ الظّاهِرِ إلى المَجازِ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قُرِئَ (ولَكِنِ اللَّهُ قَتَلَهم. ولَكِنِ اللَّهُ رَمى) بِتَخْفِيفِ ولَكِنْ ورَفْعِ ما بَعْدَهُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ أنَّها نَزَلَتْ في يَوْمِ بَدْرٍ، والمُرادُ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أخَذَ قَبْضَةً مِنَ الحَصْباءِ ورَمى بِها وُجُوهَ القَوْمِ وقالَ شاهَتِ الوُجُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إلّا ودَخَلَ في عَيْنَيْهِ ومَنخَرَيْهِ مِنها شَيْءٌ، فَكانَتْ تِلْكَ الرَّمْيَةُ سَبَبًا لِلْهَزِيمَةِ، وفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. والثّانِي: أنَّها نَزَلَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ، رُوِيَ «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أخَذَ قَوْسًا وهو عَلى بابِ خَيْبَرَ فَرَمى سَهْمًا، فَأقْبَلَ السَّهْمُ حَتّى قَتَلَ ابْنَ أبِي الحَقِيقِ، وهو عَلى فَرَسِهِ»، فَنَزَلَتْ﴿وما رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ . والثّالِثُ: أنَّها نَزَلَتْ في يَوْمِ أُحُدٍ في قَتْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وذَلِكَ أنَّهُ «أتى النَّبِيَّ ﷺ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ وقالَ: يا مُحَمَّدُ مَن يُحْيِي هَذا وهو رَمِيمٌ ؟ فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: يُحْيِيهِ اللَّهُ ثُمَّ يُمِيتُكَ ثُمَّ يُحْيِيكَ ثُمَّ يُدْخِلُكَ النّارَ، فَأُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمّا افْتُدِيَ قالَ لِرَسُولِ اللَّهِ: إنَّ عِنْدِي فَرَسًا أعْتَلِفُها كُلَّ يَوْمٍ فَرْقًا مِن ذُرَةٍ كَيْ أقْتُلَكَ عَلَيْها، فَقالَ ﷺ: ”بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شاءَ اللَّهُ“ فَلَمّا كانَ أُحُدٌ أقْبَلَ أُبَيٌّ يَرْكُضُ عَلى ذَلِكَ الفَرَسِ حَتّى دَنا مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فاعْتَرَضَ لَهُ رِجالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لِيَقْتُلُوهُ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”اسْتَأْخِرُوا“ ورَماهُ بِحَرْبَةٍ فَكَسَرَ ضِلْعًا مِن أضْلاعِهِ، فَحُمِلَ فَماتَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ» . فَفي ذَلِكَ نَزَلَتِ الآيَةُ، والأصَحُّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في يَوْمِ بَدْرٍ، وإلّا لَدَخَلَ في أثْناءِ القِصَّةِ كَلامٌ أجْنَبِيٌّ عَنْها، وذَلِكَ لا يَلِيقُ، بَلْ لا يَبْعُدُ أنْ يَدْخُلَ تَحْتَهُ سائِرُ الوَقائِعِ، لِأنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنهُ بَلاءً حَسَنًا﴾ فَهَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ رَمى﴾ والمُرادُ مِن هَذا البَلاءِ الإنْعامُ، أيْ يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ نِعْمَةً عَظِيمَةً بِالنُّصْرَةِ والغَنِيمَةِ والأجْرِ والثَّوابِ. قالَ القاضِي: ولَوْلا أنَّ المُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلى حَمْلِ الِابْتِلاءِ هَهُنا عَلى النِّعْمَةِ، وإلّا لَكانَ يَحْتَمِلُ المِحْنَةَ بِالتَّكْلِيفِ فِيما بَعْدَهُ مِنَ الجِهادِ، حَتّى يُقالَ: إنَّ الَّذِي فَعَلَهُ تَعالى يَوْمَ بَدْرٍ كانَ السَّبَبَ في حُصُولِ تَكْلِيفٍ شاقٍّ عَلَيْهِمْ فِيما بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الغَزَواتِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَتَمَ هَذا بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ سَمِيعٌ لِكَلامِكم عَلِيمٌ بِأحْوالِ قُلُوبِكم، وهَذا يَجْرِي مَجْرى التَّحْذِيرِ والتَّرْهِيبِ، لِئَلّا يَغْتَرَّ العَبْدُ بِظَواهِرِ الأُمُورِ، ويَعْلَمَ أنَّ الخالِقَ تَعالى مُطَّلِعٌ عَلى كُلِّ ما في الضَّمائِرِ والقُلُوبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب