الباحث القرآني
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَهم مَثَلًا آخَرَ مائِيًّا فَقالَ تَعالى: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ [البقرة: ١٩]
فَشَبَّهَ نَصِيبَهم مِمّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى بِهِ رَسُولَهُ ﷺ مِنَ النُّورِ والحَياةِ بِنَصِيبِ المُسْتَوْقِدِ لِلنّارِ الَّتِي طُفِئَتْ عَنْهُ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْها وذَهَبَ نُورُهُ وبَقِيَ في الظُّلُماتِ حائِرًا تائِهًا لا يَهْتَدِي سَبِيلًا ولا يَعْرِفُ طَرِيقًا، وبِنَصِيبِ أصْحابِ الصَّيِّبِ وهو المَطَرُ الَّذِي يَصُوبُ أيْ يَنْزِلُ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ فَشَبَّهَ الهُدى الَّذِي هَدى بِهِ عِبادَهُ بِالصَّيِّبِ، لِأنَّ القُلُوبَ تَحْيا بِهِ حَياةَ الأرْضِ بِالمَطَرِ، ونَصِيبَ المُنافِقِينَ مِن هَذا الهُدى بِنَصِيبِ مَن لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنَ الصَّيِّبِ إلّا ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ ولا نَصِيبَ لَهُ فِيما وراءَ ذَلِكَ مِمّا هو المَقْصُودُ بِالصَّيِّبِ مِن حَياةِ البِلادِ والعِبادِ والشَّجَرِ والدَّوابِّ، وأنَّ تِلْكَ الظُّلُماتِ الَّتِي فِيهِ، وذَلِكَ الرَّعْدَ والبَرْقَ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ وهو وسِيلَةٌ إلى كَمالِ الِانْتِفاعِ بِذَلِكَ الصَّيِّبِ، فالجاهِلُ لِفَرْطِ جَهْلِهِ يَقْتَصِرُ عَلى الإحْساسِ بِما في الصَّيِّبِ مِن ظُلْمَةٍ ورَعْدٍ وبَرْقٍ ولَوازِمُ ذَلِكَ مِن بَرْدٍ شَدِيدٍ وتَعَطُّلِ مُسافِرٍ عَنْ سَفَرِهِ وصانِعٍ عَنْ صَنْعَتِهِ، ولا بَصِيرَةَ لَهُ تَنْفُذُ إلى ما يَئُولُ إلَيْهِ أمْرُ ذَلِكَ الصَّيِّبِ مِنَ الحَياةِ والنَّفْعِ العامِّ، وهَكَذا شَأْنُ كُلِّ قاصِرِ النَّظَرِ ضَعِيفِ العَقْلِ لا يُجاوِزُ نَظَرُهُ الأمْرَ المَكْرُوهَ الظّاهِرَ إلى ما وراءَهُ مِن كُلِّ مَحْبُوبٍ.
وَهَذِهِ حالُ أكْثَرِ الخَلْقِ إلّا مَن صَحَّتْ بَصِيرَتُهُ، فَإذا رَأى ضَعِيفُ البَصِيرَةِ ما في الجِهادِ مِنَ التَّعَبِ والمَشاقِّ والتَّعَرُّضِ لِتَلافِ المُهْجَةِ والجِراحاتِ الشَّدِيدَةِ ومَلامَةِ اللُّوّامِ ومُعاداةِ مَن يَخافُ مُعاداتَهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ لِأنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ ما يَئُولُ إلَيْهِ مِنَ العَواقِبِ الحَمِيدَةِ والغاياتِ الَّتِي إلَيْها تَسابَقَ المُتَسابِقُونَ وفِيها تَنافَسَ المُتَنافِسُونَ، وكَذَلِكَ مَن عَزَمَ عَلى سَفَرِ الحَجِّ إلى البَيْتِ الحَرامِ فَلَمْ يَعْلَمْ مِن سَفَرِهِ ذَلِكَ إلّا مَشَقَّةَ السَّفَرِ ومُفارَقَةَ الأهْلِ والوَطَنِ ومُقاساةَ الشَّدائِدِ وفِراقَ المَأْلُوفاتِ
وَلا يُجاوِزُ نَظَرُهُ وبَصِيرَتُهُ آخِرَ ذَلِكَ السَّفَرِ ومَآلَهُ وعاقِبَتَهُ، فَإنَّهُ لا يَخْرُجُ إلَيْهِ ولا يَعْزِمُ عَلَيْهِ وحالُ هَؤُلاءِ حالُ ضَعِيفِ البَصِيرَةِ والإيمانِ الَّذِي يَرى ما في القُرْآنِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ والزَّواجِرِ والنَّواهِي والأوامِرِ الشّاقَّةِ عَلى النُّفُوسِ الَّتِي تَفْطِمُها عَنْ رِضاعِها مِن ثَدْيِ المَأْلُوفاتِ والشَّهَواتِ، والفِطامُ عَلى الصَّبِيِّ أصْعَبُ شَيْءٍ وأشَقُّهُ والنّاسُ كُلُّهم صِبْيانُ العُقُولِ إلّا مَن بَلَغَ مَبالِغَ الرِّجالِ العُقَلاءِ الألِبّاءِ وأدْرَكَ الحَقَّ عِلْمًا وعَمَلًا ومَعْرِفَةً فَهَذا الَّذِي يَنْظُرُ إلى ما وراءِ الصَّيِّبِ وما فِيهِ مِنَ الرَّعْدِ والبَرْقِ والصَّواعِقِ ويَعْلَمُ أنَّهُ حَياةُ الوُجُودِ.
وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: " لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: شَبَّهَ دِينَ الإسْلامِ بِالصَّيِّبِ لِأنَّ القُلُوبَ تَحْيا بِهِ حَياةَ الأرْضِ بِالمَطَرِ، وما يَتَعَلَّقُ بِهِ مِن شَبَهِ الكُفّارِ بِالظُّلُماتِ، وما فِيهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ بِالرَّعْدِ والبَرْقِ وما يُصِيبُ الكَفَرَةَ مِنَ الأفْزاعِ والبَلايا والفِتَنِ مِن جِهَةِ أهْلِ الإسْلامِ بِالصَّواعِقِ، والمَعْنى: أوْ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ والمُرادُ كَمَثَلِ قَوْمٍ أخَذَتْهُمُ السَّماءُ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَقُوا مِنها ما لَقُوا.
قالَ: والصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَماءُ البَيانِ لا يَتَخَطَّوْنَهُ أنَّ التَّمْثِيلَيْنِ جَمِيعًا مِن جِهَةِ التَّمْثِيلاتِ المُرَكَّبَةِ دُونَ المُفَرَّقَةِ لا يَتَكَلَّفُ لِواحِدٍ واحِدٌ شَيْئًا يُقَدَّرُ شَبَهُهُ بِهِ وهَذا القَوْلُ الفَحْلُ، والمَذْهَبُ الجَزْلُ بَيانُهُ أنَّ العَرَبَ تَأْخُذُ أشْياءَ فُرادى مَعْزُولًا بَعْضُها مِن بَعْضٍ لَمْ يَأْخُذْ هَذا بِحُجْزَةِ ذاكَ فَشَبَّهَها بِنَظائِرِها. . كَما جاءَ في القُرْآنِ حَيْثُ شَبَّهَ كَيْفِيَّةً حاصِلَةً مِن مَجْمُوعِ أشْياءَ قَدْ تَضامَنَتْ وتَلاصَقَتْ حَتّى عادَتْ شَيْئًا واحِدًا بِأُخْرى مِثْلِها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسْفارًا﴾ [الجمعة: ٥] الآيَةَ، الغَرَضُ تَشْبِيهُ حالِ اليَهُودِ في جَهْلِها بِما مَعَها مِنَ التَّوْراةِ وآياتِها الباهِرَةِ بِحالِ الحِمارِ في جَهْلِهِ بِما يَحْمِلُ مِن أسْفارِ الحِكْمَةِ، وتُساوِي الحالَتَيْنِ عِنْدَهُ مَن حَمَلَ أسْفارَ الحِكْمَةِ وحَمَلَ ما سِواها مِنَ الأوْقارِ ولا يَشْعُرُ مِن ذَلِكَ إلّا بِما يَمُرُّ بِدُفَّيْهِ مِنَ الكَدِّ والتَّعَبِ، وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ﴾ [الكهف: ٤٥].
المُرادُ: قِلَّةُ بَقاءِ زَهْرَةِ الدُّنْيا كَقِلَّةِ بَقاءِ هَذا الخَضِرِ.
فَأمّا أنْ يُرادَ تَشْبِيهُ الأفْرادِ بِالأفْرادِ غَيْرِ مَنُوطٍ بَعْضُهم بِبَعْضٍ، ومَصِيرُهُ شَيْئًا واحِدًا فَلا. فَكَذَلِكَ لَمّا وصَفَ وُقُوعَ المُنافِقِينَ في ضَلالَتِهِمْ وما خُبِّطُوا فِيهِ مِنَ الحَيْرَةِ والدَّهْشَةِ شُبِّهَتْ حَيْرَتُهم وشِدَّةُ الأمْرِ عَلَيْهِمْ بِما يُكابِدُ مَن طُفِئَتْ نارُهُ بَعْدَ إيقادِها في ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وكَذَلِكَ مَن أخَذَتْهُ السَّماءُ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وبَرْقٍ وخَوْفٍ مِنَ الصَّواعِقِ، قالَ: فَإنْ قُلْتَ: أيُّ التَّمْثِيلَيْنِ أبْلَغُ؟ قُلْتُ: الثّانِي لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى فَرْطِ الحَيْرَةِ وشِدَّةِ الأمْرِ وفَظاعَتِهِ، ولِذَلِكَ أُخِّرَ وهم يَتَدَرَّجُونَ في مِثْلِ هَذا مِنَ الأهْوَنِ إلى الأغْلَظِ.
* (فصل)
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذانِ المَثَلانِ عَلى حِكَمٍ عَظِيمَةٍ:
مِنها: أنَّ المُسْتَضِيءَ بِالنّارِ مُسْتَضِيءٌ بِنُورٍ مِن جِهَةِ غَيْرِهِ لا مِن قِبَلِ نَفْسِهِ، فَإذا ذَهَبَتْ تِلْكَ النّارُ بَقِيَ في ظُلْمَةٍ. وهَكَذا المُنافِقُ لَمّا أقَرَّ بِلِسانِهِ مِن غَيْرِ اعْتِقادٍ ومَحَبَّةٍ بِقَلْبِهِ وتَصْدِيقٍ جازِمٍ كانَ ما مَعَهُ مِنَ النُّورِ كالمُسْتَعارِ.
وَمِنها: أنَّ ضِياءَ النّارِ يَحْتاجُ في دَوامِهِ إلى مادَّةٍ تَحْمِلُهُ وتِلْكَ المادَّةُ لِلضِّياءِ بِمَنزِلَةِ غِذاءِ الحَيَوانِ، فَكَذَلِكَ نُورُ الإيمانِ يَحْتاجُ إلى مادَّةٍ مِنَ العِلْمِ النّافِعِ والعَمَلِ الصّالِحِ يَقُومُ بِها ويَدُومُ بِدَوامِها فَإذا انْقَطَعَتْ مادَّةُ الإيمانِ طُفِيءَ كَما تُطْفَأُ النّارُ بِفَراغِ مادَّتِها.
وَمِنها: أنَّ الظُّلْمَةَ نَوْعانِ: ظُلْمَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَمْ يَتَقَدَّمْها نُورٌ، وظُلْمَةٌ حادِثَةٌ بَعْدَ النُّورِ وهي أشَدُّ الظُّلْمَتَيْنِ وأشَقُّهُما عَلى مَن كانَتْ حَظَّهُ، وظُلْمَةُ المُنافِقِ ظُلْمَةٌ بَعْدَ إضاءَةٍ فَمُثِّلَتْ حالُهُ بِحالِ المُسْتَوْقِدِ لِلنّارِ الَّذِي حَصَلَ في الظُّلْمَةِ بَعْدَ الضَّوْءِ، وأمّا الكافِرُ فَهو في الظُّلُماتِ لَمْ يَخْرُجْ مِنها قَطُّ.
وَمِنها: أنَّ في هَذا المَثَلِ إيذانًا وتَنْبِيهًا عَلى حالِهِمْ في الآخِرَةِ وأنَّهم يُعْطَوْنَ نُورًا ظاهِرًا كَما كانَ نُورُهم في الدُّنْيا ظاهِرًا ثُمَّ يُطْفَأُ ذَلِكَ النُّورُ أحْوَجَ ما يَكُونُونَ إلَيْهِ إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ مادَّةٌ باقِيَةٌ تَحْمِلُهُ ويَبْقَوْنَ عَلى الجِسْرِ في الظُّلْمَةِ لا يَسْتَطِيعُونَ العُبُورَ؛ فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ أحَدٌ عُبُورَهُ إلّا بِنُورٍ ثابِتٍ يَصْحَبُهُ حَتّى يَقْطَعَ الجِسْرَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ النُّورِ مادَّةٌ مِنَ العِلْمِ النّافِعِ والعَمَلِ الصّالِحِ وإلّا ذَهَبَ اللَّهُ تَعالى بِهِ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِ صاحِبُهُ، فَطابَقَ مَثَلَهم في الدُّنْيا بِحالَتِهِمُ الَّتِي هم عَلَيْها في هَذِهِ الدّارِ وبِحالِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَما تُقَسَّمُ الأنْوارُ دُونَ الجِسْرِ ويَثْبُتُ نُورُ المُؤْمِنِينَ ويُطْفَأُ نُورُ المُنافِقِينَ.
وَمِن هاهُنا تَعْلَمُ السِّرَّ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. . .﴾ [البقرة: ١٧] الآيَةَ ولَمْ يَقُلْ: أذْهَبَ اللَّهُ نُورَهُمْ، فَإنْ أرَدْتَ زِيادَةَ بَيانٍ وإيضاحٍ فَتَأمَّلْ ما رَواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الوُرُودِ فَقالَ: «نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ القِيامَةِ " عَلى تَلٍّ " فَوْقَ النّاسِ قالَ: فَتُدْعى الأُمَمُ بِأوْثانِها وما كانَتْ تَعْبُدُ الأوَّلَ فالأوَّلَ، ثُمَّ يَأْتِينا رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَن تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ نَنْتَظِرُ رَبَّنا. فَيَقُولُ: أنا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: حَتّى نَنْظُرَ إلَيْكَ، فَيَتَجَلّى لَهم يَضْحَكُ، قالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ ويَتْبَعُونَهُ ويُعْطى كُلُّ إنْسانٍ مِنهم مُنافِقٍ أوْ مُؤْمِنٍ نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وعَلى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلالِيبَ وحَسَكٍ تَأْخُذُ مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ المُنافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو المُؤْمِنُونَ فَيَنْجُو أوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهم كالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ سَبْعُونَ ألْفًا لا يُحاسَبُونَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم كَأضْواءِ نَجْمٍ في السَّماءِ، ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ تُحَلُّ الشَّفاعَةُ ويُشَفَّعُونَ حَتّى يَخْرُجَ مِنَ النّارِ مَن قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وكانَ في قَلْبِهِ مِنَ الخَيْرِ ما يَزِنُ شَعِيرَةً فَيُجْعَلُونَ بِفَناءِ الجَنَّةِ ويَجْعَلُ أهْلُ الجَنَّةِ يَرُشُّونَ عَلَيْهِمُ الماءَ». وذَكَرَ باقِي الحَدِيثِ.
فَتَأمَّلْ قَوْلَهُ: «فَيَنْطَلِقُ فَيَتْبَعُونَهُ ويُعْطى كُلُّ إنْسانٍ مِنهم نُورًا المُنافِقِ والمُؤْمِنِ»، ثُمَّ تَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ﴾ [البقرة: ١٧] الآيَةَ.
وَتَأمَّلْ حالَهم إذا أُطْفِئَتْ أنْوارُهم فَبَقُوا في الظُّلْمَةِ وقَدْ ذَهَبَ المُؤْمِنُونَ في نُورِ إيمانِهِمْ يَتَّبِعُونَ رَبَّهم عَزَّ وجَلَّ، وتَأمَّلْ قَوْلَهُ ﷺ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ «لِتَتْبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ ما كانَتْ تَعْبُدُ» " فَيَتْبَعُ كُلُّ " مُشْرِكٍ إلَهَهُ الَّذِي كانَ يَعْبُدُهُ. والمُوَحِّدُ حَقِيقٌ بِأنْ يَتْبَعَ الإلَهَ الحَقَّ الَّذِي كُلُّ مَعْبُودٍ سِواهُ باطِلٌ، وتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ويُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: ٤٢]
وَذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ في حَدِيثِ الشَّفاعَةِ في هَذا المَوْضِعِ، وقَوْلَهُ في الحَدِيثِ: فَيُكْشَفُ عَنْ ساقِهِ، وهَذِهِ الإضافَةُ تُبَيِّنُ المُرادَ بِالسّاقِ المَذْكُورِ في الآيَةِ، وتَأمَّلْ ذِكْرِ الِانْطِلاقِ واتِّباعِهِ سُبْحانَهُ، بَعْدَ هَذا وذَلِكَ يَفْتَحُ لَكَ بابًا مِن أسْرارِ التَّوْحِيدِ وفَهْمِ القُرْآنِ ومُعامَلَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِأهْلِ تَوْحِيدِهِ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وحْدَهُ ولَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَذِهِ المُعامَلَةُ الَّتِي عامَلَ بِمُقابِلِها أهْلَ الشِّرْكِ حَيْثُ ذَهَبَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مَعَ مَعْبُودِها فانْطَلَقَ بِها واتَّبَعَتْهُ إلى النّارِ، وانْطَلَقَ المَعْبُودُ الحَقُّ واتَّبَعَهُ أوْلِياؤُهُ وعابِدُوهُ فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ الَّذِي قَرَّتْ عُيُونُ أهْلِ التَّوْحِيدِ بِهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ وفارَقُوا النّاسَ فِيهِ أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْهِمْ.
وَمِنها: أنَّ المَثَلَ الأوَّلَ مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ الظُّلْمَةِ الَّتِي هي الضَّلالُ والحَيْرَةُ الَّتِي ضِدُّها الهُدى، والمَثَلَ الثّانِي: مُتَضَمِّنٌ لِحُصُولِ الخَوْفِ الَّذِي ضِدُّهُ الأمْنُ، فَلا هُدى ولا أمْنَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: ٨٢]
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: مَثَلُ هَؤُلاءِ في نِفاقِهِمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أوْقَدَ نارًا في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ في مَفازَةٍ فاسْتَدْفَأ ورَأى ما حَوْلَهُ فاتَّقى مِمّا يَخافُ، فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ طُفِئَتْ نارُهُ فَبَقِيَ في ظُلْمَةٍ خائِفًا مُتَحَيِّرًا كَذَلِكَ المُنافِقُونَ بِإظْهارِ كَلِمَةِ الإيمانِ أمِنُوا عَلى أمْوالِهِمْ وأوْلادِهِمْ وناكَحُوا المُؤْمِنِينَ ووارَثُوهم وقاسَمُوهُمُ الغَنائِمَ، فَذَلِكَ نُورُهم فَإذا ماتُوا عادُوا إلى الظُّلْمَةِ والخَوْفِ. قالَ مُجاهِدٌ: (إضاءَةُ النّارِ لَهم إقْبالُهم إلى المُسْلِمِينَ والهُدى، وذَهابُ نُورِهِمْ إقْبالُهم إلى المُشْرِكِينَ والضَّلالَةِ) وقَدْ فُسِّرَتْ تِلْكَ الإضاءَةُ وذَهابُ النُّورِ بِأنَّها في الدُّنْيا وفُسِّرَتْ بِالبَرْزَخِ، وفُسِّرَتْ بِيَوْمِ القِيامَةِ، والصَّوابُ أنَّ ذَلِكَ شَأْنُهم في الدُّورِ الثَّلاثَةِ فَإنَّهم لَمّا كانُوا كَذَلِكَ في الدُّنْيا جُوزُوا في البَرْزَخِ وفي القِيامَةِ بِمِثْلِ حالِهِمْ ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ [النبأ: ٢٦]، ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] فَإنَّ المَعادَ يَعُودُ عَلى العَبْدِ فِيهِ ما كانَ حاصِلًا لَهُ في الدُّنْيا ولِهَذا يُسَمّى يَوْمَ الجَزاءِ: ﴿وَمَن كانَ في هَذِهِ أعْمى فَهو في الآخِرَةِ أعْمى وأضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٢]، ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى. .﴾ [مريم: ٧٦] الآيَةَ.
وَقَدْ أشارَ النَّبِيُّ ﷺ إلى أنَّ كَمالَ ما يَسْتَمْتِعُ بِهِ مِنَ الطَّيِّباتِ في الآخِرَةِ بِحَسَبِ كَمالِ ما قابَلَهُ مِنَ الأعْمالِ في الدُّنْيا (. . . . «فَرَأى قِنْوًا مَن حَشَفٍ مُعَلَّقًا في المَسْجِدِ لِلصَّدَقَةِ فَقالَ إنَّ صاحِبَ هَذا يَأْكُلُ الحَشَفَ يَوْمَ القِيامَةِ» فَأخْبَرَ أنَّ جَزاءَهُ يَكُونُ مِن جِنْسِ عَمَلِهِ فَيُجْزى عَلى تِلْكَ الصَّدَقَةِ بِحَشَفٍ مِن جِنْسِها.
وَهَذا البابُ يَفْتَحُ لَكَ أبْوابًا عَظِيمَةً مِن فَهْمِ المَعادِ وتَفاوُتِ النّاسِ في أحْوالِهِ وما يَجْرِي فِيهِ مِنَ الأُمُورِ المُتَنَوِّعَةِ، فَمِنها: خِفَّةُ حِمْلِ العَبْدِ عَلى ظَهْرِهِ وثِقَلِهِ إذا قامَ مِن قَبْرِهِ فَإنَّهُ بِحَسَبِ خِفَّةِ وِزْرِهِ وثِقَلِهِ، إنْ خَفَّ خَفَّ وإنْ ثَقُلَ ثَقُلَ.
وَمِنها: اسْتِظْلالُهُ بِظِلِّ العَرْشِ أوْ ضِحاؤُهُ لِلْحَرِّ والشَّمْسِ إنْ كانَ لَهُ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ الخالِصَةِ والإيمانِ ما يُظِلُّهُ في هَذِهِ الدّارِ مِن حَرِّ الشِّرْكِ والمَعاصِي والظُّلْمِ اسْتَظَلَّ هُناكَ في ظِلِّ أعْمالِهِ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ. وإنْ كانَ ضاحِيًا هُنا لِلْمَناهِي والمُخالَفاتِ والبِدَعِ والفُجُورِ ضَحى هُناكَ لِلْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَمِنها: طُولُ وُقُوفِهِ في المَوْقِفِ ومَشَقَّتُهُ عَلَيْهِ وتَهْوِينُهُ " عَلَيْهِ " إنْ طالَ وُقُوفُهُ في الصَّلاةِ لَيْلًا ونَهارًا لِلَّهِ، وتَحَمَّلَ لِأجْلِهِ المَشاقَّ في مَرْضاتِهِ وطاعَتِهِ خَفَّ عَلَيْهِ " الوُقُوفُ في ذَلِكَ اليَوْمِ
وَسَهُلَ عَلَيْهِ وإنْ آثَرَ الرّاحَةَ " هُنا والدَّعَةَ البَطالَةَ والنِّعْمَةَ طالَ عَلَيْهِ الوُقُوفُ هُناكَ واشْتَدَّتْ مَشَقَّتُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ أشارَ تَعالى إلى ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنْزِيلًا فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأصِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ وسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العاجِلَةَ ويَذَرُونَ وراءَهم يَوْمًا ثَقِيلًا﴾
فَمَن سَبَّحَ اللَّهَ لَيْلًا طَوِيلًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اليَوْمُ ثَقِيلًا عَلَيْهِ بَلْ كانَ أخَفَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ.
وَمِنها: أنَّ ثِقَلَ مِيزانِهِ هُناكَ بِحَسَبِ تَحَمُّلِهِ ثِقَلَ الحَقِّ في هَذِهِ الدّارِ لا بِحَسَبِ مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الأعْمالِ، وإنَّما يَثْقُلُ المِيزانُ بِاتِّباعِ الحَقِّ والصَّبْرِ عَلَيْهِ وبَذْلِهِ إذا سُئِلَ، وأخْذِهِ إذا بَذَلَ كَما قالَ الصِّدِّيقُ في وصِيَّتِهِ لِعُمَرَ: (واعْلَمْ أنَّ لِلَّهِ حَقًّا بِاللَّيْلِ لا يَقْبَلُهُ بِالنَّهارِ ولَهُ حَقٌّ بِالنَّهارِ لا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، واعْلَمْ أنَّهُ إنَّما ثَقُلَتْ مَوازِينُ مَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بِاتِّباعِهِمُ الحَقَّ وثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ في دارِ الدُّنْيا وحُقَّ لِمِيزانٍ يُوضَعُ فِيهِ الحَقُّ أنْ يَكُونَ ثَقِيلًا، وإنَّما خَفَّتْ مَوازِينُ مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ يَوْمَ القِيامَةِ بِاتِّباعِهِمُ الباطِلَ في دارِ الدُّنْيا خِفَّتُهُ عَلَيْهِمْ وحُقَّ لِمِيزانٍ لا يُوضَعُ فِيهِ إلّا الباطِلُ أنْ يَكُونَ خَفِيفًا. .).
وَمِنها: أنَّ وُرُودَ النّاسِ الحَوْضَ وشُرْبَهم مِنهُ يَوْمَ العَطَشِ الأكْبَرِ بِحَسَبِ وُرُودِهِمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وشُرْبِهِمْ مِنها، فَمَن ورَدَها في هَذِهِ الدّارِ وشَرِبَ مِنها وتَضَلَّعَ ورَدَ هُناكَ حَوْضَهُ وشَرِبَ مِنهُ وتَضَلَّعَ، فَلَهُ ﷺ حَوْضانِ عَظِيمانِ: حَوْضٌ في الدُّنْيا وهو سُنَّتُهُ وما جاءَ بِهِ، وحَوْضٌ في الآخِرَةِ، فالشّارِبُونَ مِن هَذا الحَوْضِ في الدُّنْيا هُمُ الشّارِبُونَ مِن حَوْضِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَشارِبٌ ومَحْرُومٌ ومُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ والَّذِينَ يَذُودُهم هو والمَلائِكَةُ عَنْ حَوْضِهِ يَوْمَ القِيامَةِ هُمُ الَّذِينَ كانُوا يَذُودُونَ أنْفُسَهم وأتْباعَهم عَنْ سُنَّتِهِ ويُؤْثِرُونَ عَلَيْها غَيْرَها فَمَن ظَمِأ مِن سُنَّتِهِ في هَذِهِ الدُّنْيا ولَمْ يَكُنْ لَهُ مِنها شُرْبٌ فَهو في الآخِرَةِ أشَدُّ ظَمَأً وأحَرُّ كَبِدًا وإنَّ الرَّجُلَ لَيَلْقى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: يا فُلانُ أشَرِبْتَ فَيَقُولُ: نَعَمْ واللَّهِ فَيَقُولُ: لَكِنِّي واللَّهِ ما شَرِبْتُ، واعَطَشاهُ.
فَرِدْ أيُّها الظَّمْآنُ والوِرْدُ مُمْكِنٌ فَإنْ لَمْ تَرِدْ فاعْلَمْ بِأنَّكَ هالِكُ وإنْ لَمْ يَكُنْ رِضْوانُ يَسْقِيكَ شَرْبَةً سَيَسْقِيكَها إذْ أنْتَ ظَمْآنُ مالِكُ وإنْ لَمْ تَرِدْ في هَذِهِ الدّارِ حَوْضَهُ سَتُصْرَفُ عَنْهُ يَوْمَ يَلْقاكَ آنِكُ ومِنها: قَسْمُهُ الأنْوارَ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجِسْرِ، فَإنَّ العَبْدَ يُعْطى مِنَ النُّورِ هُناكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ نُورِ إيمانِهِ ويَقِينِهِ وإخْلاصِهِ ومُتابَعَتِهِ لِلرَّسُولِ في دارِ الدُّنْيا فَمِنهُمْ: مَن يَكُونُ نُورُهُ كالشَّمْسِ ودُونَ ذَلِكَ كالقَمَرِ ودُونَهُ كَأشَدِّ كَوْكَبٍ في السَّماءِ إضاءَةً.
وَمِنهُمْ: مَن يَكُونُ نُورُهُ كالسِّراجِ في قُوَّتِهِ وضَعْفِهِ وما بَيْنَ ذَلِكَ.
وَمِنهُمْ: مَن يُعْطى نُورٌ عَلى إبْهامِ قَدَمِهِ يُضِئُ مَرَّةً ويُطْفِيُ أُخْرى بِحَسَبِ ما كانَ مَعَهُ مِن نُورِ الإيمانِ في دارِ الدُّنْيا فَهو هَذا النُّورُ بِعَيْنِهِ أبْرَزَهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ في الآخِرَةِ ظاهِرًا يُرى عِيانًا بِالأبْصارِ، ولا يَسْتَضِيءُ بِهِ غَيْرُهُ ولا يَمْشِي أحَدًا إلّا في نُورِ نَفْسِهِ إنْ كانَ " لَهُ " نُورٌ مَشى في نُورِهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ أصْلًا لَمْ يَنْفَعْهُ نُورُ غَيْرِهِ.
وَلَمّا كانَ المُنافِقُ في الدُّنْيا قَدْ حَصَلَ لَهُ نُورٌ ظاهِرٌ غَيْرُ مُسْتَمِرٍّ ولا مُتَّصِلٍ بِباطِنِهِ ولا لَهُ مادَّةٍ مِنَ الإيمانِ أُعْطِيَ في الآخِرَةِ نُورًا ظاهِرًا لا مادَّةَ لَهُ ثُمَّ يُطْفَأُ عَنْهُ أحْوَجُ ما كانَ إلَيْهِ. ومِنها: أنَّ مَشْيَهم عَلى الصِّراطِ في السُّرْعَةِ والبِطْءِ بِحَسَبِ " سُرْعَةِ " سَيْرِهِمْ وبُطْئِهِ عَلى صِراطِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ في الدُّنْيا فَأسْرَعُهم سَيْرًا هُنا أسْرَعُهم هُناكَ وأبْطَأُهم هُنا أبْطَأُهم هُناكَ.
وَأشَدُّهم ثَباتًا عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ " هُنا " أثْبَتُهم هُناكَ ومَن خَطِفَتْهُ كَلالِيبُ الشَّهَواتِ والشُّبُهاتِ والبِدَعِ المُضِلَّةِ هُنا خَطِفَتْهُ الكَلالِيبُ الَّتِي كَأنَّها شَوْكُ السَّعْدانِ هُناكَ ويَكُونُ تَأْثِيرُ الكَلالِيبِ فِيهِ هُناكَ فِيهِ عَلى حَسَبِ الشَّهَواتِ " والشُّبُهاتِ " والبِدَعِ فِيهِ هاهُنا فَناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخْدُوشٌ مُسَلَّمٌ، ومَخْزُولٌ أيْ: مُقَطَّعٌ بِالكَلالِيبِ مُكَرْدَسٌ في النّارِ كَما أثَّرَتْ فِيهِمْ تِلْكَ الكَلالِيبُ في الدُّنْيا ﴿جَزاءً وِفاقًا﴾ [النبأ: ٢٦] ﴿وَما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦].
والمَقْصُودُ أنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى ضَرَبَ لِعِبادِهِ المَثَلَيْنِ المائِيَّ والنّارِيَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي سُورَةِ الرَّعْدِ، وفي سُورَةِ النُّورِ لِما تَضَمَّنَ المَثَلانِ مِنَ الحَياةِ والإضاءَةِ. فالمُؤْمِنُ حَيُّ القَلْبِ مُسْتَنِيرُهُ، والكافِرُ والمُنافِقُ مَيِّتُ القَلْبِ مُظْلِمُهُ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾ [الأنعام: ١٢٢] الآيَةَ وقالَ تَعالى ﴿وَما يَسْتَوِي الأعْمى والبَصِيرُ ولا الظُّلُماتُ ولا النُّورُ ولا الظِّلُّ ولا الحَرُورُ وما يَسْتَوِي الأحْياءُ ولا الأمْواتُ﴾ [فاطر: ١٩] الآيَةَ فَجَعَلَ مَنِ اهْتَدى بِهُداهُ واسْتَنارَ بِنُورِهِ بَصِيرًا حَيًّا في ظِلٍّ يَقِيهِ مِن حَرِّ الشُّبُهاتِ والضَّلالِ والبِدَعِ والشِّرْكِ مُسْتَنِيرًا بِنُورِهِ والآخِرُ أعْمى مَيْتًا في حَرِّ الكُفْرِ والشِّرْكِ والضَّلالِ مُنْغَمِسًا في الظُّلُماتِ وقالَ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ [الشورى: ٥٢] الآيَةَ.
* (لطيفة)
قال تعالى: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» ولم يقل: بنارهم فإن النار فيها الإحراق والإشراق. فذهب بما فيها من الإضاءة والإشراق، وأبقى عليهم ما فيها من الأذى والإشراق، وكذلك حال المنافقين: ذهب نور إيمانهم بالنفاق، وبقي في قلوبهم حرارة الكفر والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم، وقلوبهم قد صليت بحرها وأذاها، وسمومها ووهجها في الدنيا، فأصلاها الله تعالى إياها يوم القيامة نارا مؤصدة تطلع على الأفئدة.
فهذا مثل من لم يصبه نور الإيمان في الدنيا، بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء به، وهو حال المنافق، عرف ثم أنكر وأقر ثم جحد. فهو في ظلمات أصم أبكم أعمى، كما قال تعالى في حق إخوانهم من الكفار: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وبُكْمٌ في الظُّلُماتِ﴾ وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾.
شبه الله تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد النار، وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله، لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم، وسماعهم القرآن، ومشاهدتهم أعلام الإسلام ومناره، قد شاهدوا الضوء ورأوا النور عيانا.
ولهذا قال تعالى في حقهم فَهم لا يَرْجِعُونَ إليه. لأنهم فارقوا الإسلام بعد أن تلبسوا به واستناروا. فهم لا يرجعون إليه.
وقال تعالى في حق الكفار ﴿فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ لأنهم لم يعقلوا الإسلام، ولا دخلوا فيه، ولا استناروا له، لا بل يزالون في ظلمات الكفر صم بكم عمي.
فسبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافيا. وإلى الإيمان وحقائقه مناديا، وإلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعيا، وإلى طريق الرشاد هاديا.
لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانا واعية، وشفت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبا خالية. ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها. وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها. وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشبهات الباطل، فلم تصغ بعد إلى الملام.
ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأسر الهوى والشهوة. وما لجرح بميت إيلام.
وأما الصم والوقر ففي قوله تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾
وقوله: ﴿أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأصَمَّهم وأعْمى أبْصارَهُمْ﴾
وقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها، أُولئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الغافِلُونَ﴾
وقوله تعالى: ﴿والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾.
قال ابن عباس: في آذانهم صمم عن استماع القرآن، وهو عليهم عمى. أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون.
أولئك ينادون من مكان بعيد، مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء.
وقال مجاهد: بعيد من قلوبهم.
وقال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك: أنت تنادى من مكان بعيد.
قال: وجاء في التفسير: كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون. انتهى.
والمعنى: أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم.
وأما البكم فقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ والبكم جمع أبكم، وهو الذي لا ينطق.
والبكم نوعان. بكم القلب وبكم اللسان، كما أن النطق نطقان: نطق القلب ونطق اللسان.
وأشدهما: بكم القلب، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن.
فوصفهم الله سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق، ولا تنطق به ألسنتهم.
والعلم يدخل من ثلاثة أبواب: من سمعه، وبصره، وقلبه. وقد سدت عليهم هذه الأبواب الثلاثة، فسد السمع بالصمم، والبصر بالعمى، والقلب بالبكم. ونظيره قوله تعالى: ﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها وقد جمع الله سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾
فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره.
وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ، فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾.
الصيب: المطر الذي يصوب من السماء أي ينزل منها بسرعة، وهو مثل للقرآن الذي به حياة القلوب، كالمطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان. فأدرك المؤمنون ذلك منه، وعلموا ما يحصل لهم به من الحياة التي لا خطر لها. فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق وهو الوعيد والتهديد والعقوبات والمثلاث، التي حذر الله بها من خالف أمره.
وأخبر أنه منزلها على من كذب رسول الله ﷺ، أو ما فيه من الأوامر الشديدة، كجهاد الأعداء والصبر على الأمر، أو الأوامر الشاقة على النفوس التي هي على خلاف أهوائها، فهي كالظلمات والرعد والبرق.
ولكن من علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما معه من الظلمة والرعد والبرق. بل يستأنس بذلك ويفرح به، لما يرجو من ورائه من الحياة والخصب.
وأما المنافق فإنه قد عمي قلبه، ولم يجاوز بصره الظلمة، ولم ير إلا برقا يكاد يخطف البصر، ووعدا عظيما وظلمة، فاستوحش من ذلك وخاف منه. فوضع أصابعه في أذنيه لئلا يسمع صوت الرعد، وهاله مشاهدة ذلك البرق، وشدة لمعانه، وعظم نوره. فهو خائف أن يختطف بصره. لأن بصره أضعف من أن يثبت معه. فهو في ظلمة يسمع أصوات الرعد القاصف، ويرى ذلك البرق الخاطف. فإن أضاء له ما بين يديه مشي في ضوئه. وإن فقد الضوء قام متحيرا، لا يدري أين يذهب، ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة الأرض والنبات، وحياته هو في نفسه، بل لا يدرك إلا رعدا وبرقا وظلمة، ولا شعور له بما وراء ذلك. فالوحشة لازمة له. والرعب والفزع لا يفارقانه.
وأما من أنس بالصيب، وعلم ما يحصل به من الخير والحياة والنفع، وعلم أنه لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم، فإنه يستأنس بذلك، ولا يستوحش منه، ولا يقطعه ذلك عن أخذه بنصيبه من الصيب.
فهذا مثل مطابق للصيب الذي نزل به جبريل ﷺ من عند رب العالمين تبارك وتعالى على قلب رسول الله ﷺ، ليحيي به القلوب والوجود أجمع، اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيب من الماء، حكمة بالغة، وأسبابا منتظمة، نظمها العليم الحكيم. فكان حظ المنافق من ذلك الصيب سحابه ورعوده وبروقه فقط. لم يعلم ما وراءه، فاستوحش بما أنس به المؤمنون، وارتاب مما اطمأن به العالمون، وشك فيما تيقنه المبصرون العارفون. فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش في نحر الظهيرة، وسمعه في المثل المائي كسمع من يموت من صوت الرعد. وقد ذكر عن بعض الحيوانات أنها تموت من سماع الرعد. فإذا صادف هذه العقول والأسماع والأبصار شبهات شيطانية، وخيالات فاسدة، وظنون كاذبة، جالت فيها وصالت، وقامت بها وقعدت، واتسع فيها مجالها، وكثر قيلها وقالها. فملأت الأسماع من هذيانها، والأرض من دواوينها، وما أكثر المستجيبين لهؤلاء والقابلين منهم، والقائمين بدعوتهم، والمحامين عن حوزتهم، والمقاتلين تحت ألويتهم، والمكثّرين لسوادهم. ولعموم البلية بهم وضرر القلوب بكلامهم - هتك الله أستارهم في كتابه غاية الهتك، وكشف أستارهم غاية الكشف، وبين علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم، ولم يزل عز وجل يقول: ومنهم، ومنهم، ومنهم. حتى انكشف أمرهم وبانت حقائقهم، وظهرت أسرارهم.
{"ayah":"أَوۡ كَصَیِّبࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فِیهِ ظُلُمَـٰتࣱ وَرَعۡدࣱ وَبَرۡقࣱ یَجۡعَلُونَ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَ ٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِیطُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق