الباحث القرآني

﴿أوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ﴾ شُرُوعٌ في تَمْثِيلٍ لِحالِهِمْ إثْرَ تَمْثِيلٍ وبَيانٍ لِكُلِّ دَقِيقٍ مِنها، وجَلِيلٍ، فَهم أئِمَّةُ الكُفْرِ الَّذِينَ تَفَنَّنُوا فِيهِ، وتَفَيَّؤُوا ظِلالَ الضَّلالِ بَعْدَ أنْ طارُوا إلَيْهِ بِقُدّامَيِ النِّفاقِ وخَوافِيهِ، فَحَقِيقٌ أنْ تُضْرَبَ في بَيْداءِ بَيانِ أحْوالِهِمُ الوَخِيمَةِ خَيْمَةُ الأمْثالِ، وتُمَدُّ أطْنابُ الإطْنابِ في شَرْحِ أفْعالِهِمْ، لِيَكُونَ أفْعى لَهُمْ، ونَكالًا بَعْدَ نَكالٍ، وكُلُّ كَلامِ لَهُ حَظٌّ مِنَ البَلاغَةِ، وقِسْطٌ مِنَ الجَزالَةِ والبَراعَةِ، لا بُدَّ أنْ يُوَفّى فِيهِ حَقُّ كُلٍّ مِن مَقامَيِ الإطْنابِ والإيجازِ، فَماذا عَسى أنْ يُقالَ فِيما بَلَغَ الذُّرْوَةَ العُلْيا مِنَ البَلاغَةِ والبَراعَةِ والإعْجازِ، ولَقَدْ نَعى سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ في هَذا التَّمْثِيلِ تَفاصِيلَ جِناياتِهِمُ العَدِيمَةِ المَثِيلِ، وهو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا﴾ ويَكُونُ النَّظْمُ كَمَثَلِ ذَوِي صَيِّبٍ، فَيَظْهَرُ مَرْجِعُ ضَمِيرِ الجَمْعِ فِيما بَعْدُ، وتَحْصُلُ المُلائَمَةُ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، والمُشَبَّهِ، و(أوْ) عِنْدَ ذَوِي التَّحْقِيقِ لِأحَدِ الأمْرَيْنِ، ويَتَوَلَّدُ مِنهُ في الخَبَرِ الشَّكُّ والإبْهامُ، والتَّفْصِيلُ عَلى حَسَبِ اعْتِباراتِ المُتَكَلِّمِ، وفي الإنْشاءِ (p-171)الإباحَةُ والتَّخْيِيرُ كَذَلِكَ، وحِينَئِذٍ لا يَلْزَمُ الِاشْتِراكُ، ولا الحَقِيقَةُ والمَجازُ، وبَعْضُهم يَقُولُ: إنَّها بِاعْتِبارِ الأصْلِ مَوْضُوعَةً لِلتَّساوِي في الشَّكِّ، وحُمِلَ عَلى أنَّهُ فَرْدٌ مِن أفْرادِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ، ثُمَّ اتُّسِعَ فِيها، فَجاءَتْ لِلتَّساوِي مِن غَيْرِ شَكٍّ، كَما فِيما نَحْنُ فِيهِ، عَلى رَأْيٍ، إذِ المَعْنى مَثِّلْ بِأيِّ القِصَّتَيْنِ شِئْتَ فَهُما سَواءٌ في التَّمْثِيلِ، ولا بَأْسَ لَوْ مَثَّلْتَ بِهِما جَمِيعًا، وإنْ كانَ التَّشْبِيهُ الثّانِي أبْلَغَ لِدِلالَتِهِ عَلى فَرْطِ الحَيْرَةِ، وشِدَّةِ الأمْرِ، وفَظاعَتِهِ، ولِذا أُخِّرَ لِيَتَدَرَّجَ مِنَ الأهْوَنِ إلى الأهْوَلِ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ (أوْ) هُنا بِمَعْنى الواوِ، وما في الآيَتَيْنِ تَمْثِيلٌ واحِدٌ وقِيلَ: بِمَعْنى بَلْ، وقِيلَ: لِلْإبْهامِ، والكُلُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، نَعَمِ اخْتارَ أبُو حَيّانَ أنَّها لِلتَّفْصِيلِ، وكَأنَّ مَن نَظَرَ إلى حالِهِمْ مِنهم مَن يُشَبِّهُهُ بِحالِ المُسْتَوْقِدِ، ومِنهم مَن يُشَبِّهُهُ بِحالِ ذَوِي صَيِّبٍ، مُدَّعِيًا أنَّ الإباحَةَ وكَذا التَّخْيِيرُ لا يَكُونانِ إلّا في الأمْرِ، أوْ ما في مَعْناهُ، انْتَهى، ولا يَخْفى عَلى مَن نَظَرَ في مَعْناهُ، وحَقَّقَ ما مَعْناهُ أنَّ ما نَحْنُ فِيهِ داخِلٌ في الشِّقِّ الثّانِي، عَلى أنَّ دَعْوى الِاخْتِصاصِ مِمّا لَمْ يُجْمِعْ عَلَيْهِ الخَواصُّ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مالِكٍ أنَّ أكْثَرَ وُرُودِ (أوْ) لِلْإباحَةِ في التَّشْبِيهِ نَحْوَ ﴿فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدُّ قَسْوَةً﴾ والتَّقْدِيرُ نَحْوُ: ﴿فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنى﴾ والصَّيِّبُ في المَشْهُورِ المَطَرُ، مِن صابَ يَصُوبُ، إذا نَزَلَ وهو المَرْوِيُّ هُنا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، ومُجاهِدٍ، وقَتادَةَ، وعَطاءٍ، وغَيْرِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ويُطْلَقُ عَلى السَّحابِ أيْضًا، كَما في قَوْلِهِ: ؎حَتّى عَفاها صَيِّبٌ ودَقَّهُ دانِي النَّواحِي مُسْبِلٌ هاطِلُ ووَزْنُهُ فَيْعِلٌ، بِكَسْرِ العَيْنِ، عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وهو مِنَ الأوْزانِ المُخْتَصَّةِ بِالمُعْتَلِّ العَيْنِ إلّا ما شَذَّ مِن صَيْقِلٍ بِكَسْرِ القافِ عَلَمٌ لِامْرَأةٍ، والبَغْدادِيُّونَ يَفْتَحُونَ العَيْنَ، وهو قَوْلٌ تُسَدُّ الأُذُنُ عَنْهُ، وقَرِيبٌ مِنهُ قَوْلُ الكُوفِيِّينَ: إنَّ أصْلَهُ فَعِيلٌ كَطَوِيلٍ فَقُلِبَ، وهَلْ هو اسْمُ جِنْسٍ أوْ صِفَةٌ بِمَعْنى نازِلٍ، أوْ مُنَزَّلٍ، قَوْلانِ أشْهَرُهُما الأوَّلُ، وأكْثَرُ نَظائِرِهِ في الوَزْنِ مِنَ الثّانِي، وقُرِئَ (أوْ كَصائِبٍ)، وصَيِّبٌ أبْلَغُ مِنهُ، والتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ، والتَّعْظِيمِ، والسَّماءُ كُلُّ ما عَلاكَ مِن سَقْفٍ ونَحْوِهِ، والمَعْرُوفَةُ عِنْدَ خَواصِّ أهْلِ الأرْضِ، والمَرْئِيَّةُ عِنْدَ عَوامِّهِمْ، وأصْلُها الواوُ مِنَ السُّمُوِّ، وهي مُؤَنَّثَةٌ، وقَدْ تُذَكَّرُ، كَما في قَوْلِهِ: ؎فَلَوْ رَفَعَ السَّماءُ إلَيْهِ قَوْمًا ∗∗∗ لَحِقْنا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ وتَلْحَقُها هاءُ التَّأْنِيثِ فَتَصِحُّ الواوُ حِينَئِذٍ كَما قالَهُ أبُو حَيّانَ لِأنَّها بُنِيَتْ عَلَيْها الكَلِمَةُ، فَيُقالُ: سَماوَةٌ، وتُجْمَعُ عَلى سَماواتٍ، وأسْمِيَةٍ، وسَمائِيٍّ، والكُلُّ كَما في البَحْرِ شاذٌّ، لِأنَّها اسْمُ جِنْسٍ، وقِياسُهُ أنْ لا يُجْمَعَ، وجَمْعُهُ بِالألِفِ والتّاءِ خالٍ عَنْ شَرْطِ ما يُجْمَعُ بِهِما قِياسًا، وجَمْعُهُ عَلى أفْعِلَةٍ لَيْسَ مِمّا يَنْقاسُ في المُؤَنَّثِ، وعَلى فَعائِلَ لا يَنْقاسُ في فَعالٍ، والمُرادُ بِالسَّماءِ هُنا الأُفُقُ، والتَّعْرِيفُ لِلِاسْتِغْراقِ لا لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، كَما يَنْساقُ لِبَعْضِ الأذْهانِ، فَيُفِيدُ أنَّ الغَمامَ آخِذٌ بِالآفاقِ كُلِّها، فَيُشْعِرُ بِقُوَّةِ المُصِيبَةِ مَعَ ما فِيهِ مِن تَمْهِيدِ الظُّلْمَةِ، ولِهَذا القَصْدِ ذَكَرَها، وعِنْدِي أنَّ الذِّكْرَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ أيْضًا لِلتَّهْوِيلِ، والإشارَةِ إلى أنَّ ما يُؤْذِيهِمْ جاءَ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمْ، وذَلِكَ أبْلَغُ في الإيذاءِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ﴾ وكَثِيرًا ما نَجِدُ أنَّ المَرْءَ يَعْتَنِي بِحِفْظِ رَأْسِهِ أكْثَرَ مِمّا يَعْتَنِي بِحِفْظِ سائِرِ أطْرافِهِ، حَتّى أنَّ المُسْتَطِيعَ مِنَ النّاسِ يَتَّخِذُ طَيْلَسانًا لِذَلِكَ، والعِيانُ والوِجْدانُ أقْوى شاهِدٍ عَلى ما قُلْنا، (ومِن) لِابْتِداءِ الغايَةِ وقِيلَ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مِن أمْطارِ السَّماءِ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الآيَةَ تُبْطِلُ ما قِيلَ: إنَّ المَطَرَ مِن أبْخِرَةٍ مُتَصاعِدَةٍ مِنَ السُّفْلِ، وهو مِن أبْخِرَةِ الجَهْلِ، إذْ لَيْسَ في الآيَةِ سِوى أنَّ المَطَرَ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، وهو غَيْرُ مُنافٍ لِما ذُكِرَ، كَيْفَ والمُشاهَدَةُ تَقْضِي بِهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي مَن بَلَغَ مَبْلَغَ التَّواتُرِ أنَّهم شاهَدُوا وهم فَوْقَ الجِبالِ الشّامِخَةِ سَحابًا (p-172)يُمْطِرُ أسْفَلَهُمْ، وشاهَدُوا تاراتِ أبْخِرَةٍ تَتَصاعَدُ مِن نَحْوِ الجِبالِ، فَتَنْعَقِدُ سَحابًا، فَيُمْطِرُ، فَإيّاكَ أنْ تَلْتَفِتَ لِبَرْقِ كَلامٍ خَلِبٍ، ولا تَظُنَّ أنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ، فالجَهْلُ مِنهُ أصْوَبُ، ثُمَّ حَمْلُ الصَّيِّبِ هُنا عَلى السَّحابِ، وإنْ كانَ مُحْتَمَلًا غَيْرَ أنَّهُ بَعِيدٌ بُعْدَ الغَمامِ، وكَذا حَمْلُ السَّماءِ عَلَيْهِ، ﴿فِيهِ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ﴾ أيْ مَعَهُ ذَلِكَ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا في أُمَمٍ﴾ وإذا حَمَلْتَ في عَلى الظَّرْفِيَّةِ كَما هو الشّائِعُ في كَلامِ المُفَسِّرِينَ، احْتِيجَ إلى حَمْلِ المُلابَسَةِ الَّتِي تَقْتَضِيها الظَّرْفِيَّةُ عَلى مُطْلَقِ المُلابَسَةِ الشّامِلَةِ لِلسَّبَبِيَّةِ، والمُجاوَرَةِ، وغَيْرِهِما، فَفِيهِ بِذَلِكَ المَعْنى ظُلُماتٌ ثُلاثٌ ظُلْمَةُ تَكاثُفِهِ بِتَتابُعِهِ، وظُلْمَةُ غَمامِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الَّتِي يَسْتَشْعِرُها الذَّوْقُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ وكَذا فِيهِ رَعْدٌ وبَرْقٌ لِأنَّهُما في مَنشَئِهِ، ومَحَلٌّ يَنْصَبُّ مِنهُ، وقِيلَ: فِيهِ، وهو كَما قالَ الشِّهابُ: وهْمٌ نَشَأ مِن عَدَمِ التَّدَبُّرِ، وإنْ كانَ المُرادُ بِالصَّيِّبِ السَّحابَ، فَأمْرُ الظَّرْفِيَّةِ أظْهَرُ، والظُّلُماتُ حِينَئِذٍ ظُلْمَةُ السُّحْمَةِ والتَّطْبِيقِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وجَمْعُ الظُّلُماتِ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ مُضِيءٌ، ولَمْ يُجْمَعِ الرَّعْدُ والبَرْقُ، وإنْ كانا قَدْ جُمِعا في لِسانِ العَرَبِ، وبِهِ تَزْدادُ المُبالَغَةُ وتَحْصُلُ المُطابَقَةُ مَعَ الظُّلُماتِ والصَّواعِقِ، لِأنَّهُما مَصْدَرانِ في الأصْلِ، وإنْ أُرِيدَ بِهِما العَيْنانِ هُنا، كَما هو الظّاهِرُ، والأصْلُ في المَصْدَرِ أنْ لا يُجْمِعَ عَلى أنَّهُ لَوْ جُمِعا لَدَلَّ ظاهِرًا عَلى تَعَدُّدِ الأنْواعِ، كَما في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وكُلٌّ مِنَ الرَّعْدِ، والبَرْقِ نَوْعٌ واحِدٌ، وذَكَرَ الشِّهابُ مُدَّعِيًا أنَّهُ مِمّا لَمَعَتْ بِهِ بِوارِقُ الهِدايَةِ في ظُلُماتِ الخَواطِرِ نُكْتَةً سِرِّيَّةً في إفْرادِهِما هُنا، وهي أنَّ الرَّعْدَ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ، وجَرَتْ بِهِ العادَةُ يَسُوقُ السَّحابَ مِن مَكانٍ لِآخَرَ، فَلَوْ تَعَدَّدَ لَمْ يَكُنِ السَّحابُ مُطْبِقًا، فَتَزُولُ شِدَّةُ ظُلْمَتِهِ، وكَذا البَرْقُ لَوْ كَثُرَ لَمَعانُهُ لَمْ تُطْبِقِ الظُّلْمَةُ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُلَّما أضاءَ لَهم مَشَوْا فِيهِ﴾ فَإفْرادُهُما مُتَعَيِّنٌ هُنا، وعِنْدِي وهو مِن أنْوارِ العِنايَةِ المُشْرِقَةِ عَلى آفاقِ الأسْرارِ أنَّ النُّورَ لَمّا لَمْ يُجْمَعْ في آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ لِما تَقَدَّمَ، لَمْ يُجْمَعِ البَرْقُ، إذْ لَيْسَ هو بِالبَعِيدِ عَنْهُ، كَما يُرْشِدُكَ إلَيْهِ ﴿كُلَّما أضاءَ لَهُمْ﴾ والرَّعْدُ مُصاحِبٌ لَهُ فانْعَكَسَتْ أشِعَّتُهُ عَلَيْهِ. ؎أوَما تَرى الجَلْدَ الحَقِيرَ مُقْبِلًا ∗∗∗ بِالثَّغْرِ لَمّا صارَ جارَ المُصْحَفِ وارْتِفاعُ ظُلُماتٍ، إمّا عَلى الفاعِلِيَّةِ لِلظَّرْفِ المُعْتَمِدِ عَلى المَوْصُوفِ، أوْ عَلى الِابْتِدائِيَّةِ، والظَّرْفُ خَبَرُهُ، وجَعْلُ الظَّرْفِ حالًا مِنَ النَّكِرَةِ المُخَصَّصَةِ، وظُلُماتٍ فاعِلَهُ، لا يَخْلُو عَنْ ظُلْمَةِ البُعْدِ كَما لا يَخْفى، ولِلنّاسِ في الرَّعْدِ والبَرْقِ أقْوالٌ: والَّذِي عُوِّلَ عَلَيْهِ أنَّ الأوَّلَ صَوْتُ زَجْرِ المَلَكِ المُوَكَّلِ بِالسَّحابِ، والثّانِيَ لَمَعانُ مَخارِيقِهِ الَّتِي هي مِن نارٍ، والَّذِي اشْتُهِرَ عِنْدَ الحُكَماءِ أنَّ الشَّمْسَ إذا أشْرَقَتْ عَلى الأرْضِ اليابِسَةِ حَلَّلَتْ مِنها أجْزاءً نارِيَّةً يُخالِطُها أجْزاءٌ أرْضِيَّةٌ، فَيُرَكَّبُ مِنهُما دُخانٌ ويَخْتَلِطُ بِالبُخارِ، وهو الحادِثُ بِسَبَبِ الحَرارَةِ السَّماوِيَّةِ، إذا أثَّرَتْ في البَلَّةِ، ويَتَصاعَدانِ مَعًا إلى الطَّبَقَةِ البارِدَةِ، ويَنْعَقِدُ ثَمَّةَ سَحابٌ، ويَحْتَقِنُ الدُّخانُ فِيهِ، ويَطْلُبُ الصُّعُودَ إنْ بَقِيَ عَلى طَبْعِهِ الحارِّ، والنُّزُولَ إنْ ثَقُلَ، وبَرُدَ، وكَيْفَ كانَ يُمَزِّقُ السَّحابَ بِعُنْفِهِ، فَيَحْدُثُ مِنهُ الرَّعْدُ، وقَدْ تَشْتَعِلُ مِنهُ لِشِدَّةِ حَرَكَتِهِ، ومُحاكَّتِهِ نارٌ لامِعَةٌ، وهي البَرْقُ إنْ لَطُفَتْ، والصّاعِقَةُ إنْ غَلُظَتْ، ورُبَّما كانَ البَرْقُ سَبَبًا لِلرَّعْدِ، فَإنَّ الدُّخانَ المُشْتَعِلَ يَنْطَفِئُ في السَّحابِ، فَيُسْمَعُ لِانْطِفائِهِ صَوْتٌ كَما إذا أطْفَأْنا النّارَ بَيْنَ أيْدِينا، والرَّعْدُ والبَرْقُ يَكُونانِ مَعًا، إلّا أنَّ البَرْقَ يُرى في الحالِ، لِأنَّ الإبْصارَ لا يَحْتاجُ إلّا إلى المُحاذاةِ مِن غَيْرِ حِجابٍ، والرَّعْدُ يُسْمَعُ بَعْدُ لِأنَّ السَّماعَ إنَّما يَحْصُلُ بِوُصُولِ تَمَوُّجِ الهَواءِ إلى القُوَّةِ السّامِعَةِ، وذَلِكَ يَسْتَدْعِي زَمانًا، كَذا قالُوهُ، ورُبَّما يَخْتَلِجُ في ذِهْنِكَ قُرْبُ هَذا، ولا تَدْرِي ماذا تَصْنَعُ بِما ورَدَ عَنْ حَضْرَةِ مَن أُسْرِيَ بِهِ لَيْلًا، بِلا رَعْدٍ ولا بَرْقٍ عَلى ظَهْرِ البُراقِ، وعُرِجَ إلى ذِي المَعارِجِ حَيْثُ لا زَمانَ ولا مَكانَ، فَرَجَعَ وهو أعْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ عَلى الإطْلاقِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَأنا بِحَوْلِ مَن عَزَّ حَوْلَهُ، وتَوْفِيقِ مَن غَمَرَنِي فَضْلُهُ أُوَفِّقُ لَكَ بِما يُزِيلُ الغَيْنَ عَنِ العَيْنِ ويُظْهِرُ سِرَّ جَوامِعِ الكَلِمِ الَّتِي أُوتِيَها سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ (p-173)فَأقُولُ: قَدْ صَحَّ عِنْدَ أساطِينِ الحِكْمَةِ والنُّبُوَّةِ مِمّا شاهَدُوهُ في أرْصادِهِمُ الرُّوحانِيَّةِ في خَلَواتِهِمْ، ورِياضاتِهِمْ، وكَذا عِنْدَ سائِرِ المُتَألِّهِينَ الرَّبّانِيِّينَ مِن حُكَماءِ الإسْلامِ والفُرْسِ، وغَيْرِهِمْ أنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ جِسْمانِيٍّ مِنَ الأفْلاكِ والكَواكِبِ والبَسائِطِ العُنْصُرِيَّةِ ومُرَكَّباتِها رَبًّا هو نُورٌ مُجَرَّدٌ عَنِ المادَّةِ، قائِمٌ بِنَفْسِهِ، مُدَبِّرٌ لَهُ، حافِظٌ إيّاهُ، وهو المُنَمِّي، والغاذِي، والمُوَلِّدُ، في النَّباتِ، والحَيَوانِ، والإنْسانِ، لِامْتِناعِ صُدُورِ هَذِهِ الأفْعالِ المُخْتَلِفَةِ في النَّباتِ والحَيَوانِ عَنْ قُوَّةٍ بَسِيطَةٍ لا شُعُورَ لَها، وفِينا عَنْ أنْفُسِنا، وإلّا لَكانَ لَنا شُعُورٌ بِها، فَجَمِيعُ هَذِهِ الأفْعالِ مِنَ الأرْبابِ، وإلى تِلْكَ الأرْبابِ، أشارَ صاحِبُ الرِّسالَةِ العُظْمى صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: (وإنَّ «لِكُلِّ شَيْءٍ مَلَكًا)» حَتّى قالَ: «(إنَّ كُلَّ قَطْرَةٍ مِنَ القَطَراتِ يَنْزِلُ مَعَها مَلَكٌ)،» وقالَ: «(أتانِي مَلَكُ الجِبالِ، ومَلَكُ البِحارِ)،» وحَكى أفْلاطُونُ عَنْ نَفْسِهِ أنَّهُ خَلَعَ الظُّلُماتِ النَّفْسانِيَّةَ، والتَّعَلُّقاتِ البَدَنِيَّةَ وشاهَدَها، وذَكَرَ مَوْلانا الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ القُونَوِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ في تَفْسِيرِهِ الفاتِحَةَ أنَّهُ ما ثَمَّ صُورَةٌ إلّا ولَها رُوحٌ، وأطالَ أهْلُ اللَّهِ تَعالى الكَلامَ في ذَلِكَ، فَإذا عَلِمْتَ هَذا فَلا بُعْدَ في أنْ يُقالَ: أرادَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالمَلِكِ المُوَكَّلِ بِالسَّحابِ في بَيانِ الرَّعْدِ هو هَذا الرَّبُّ المُدَبِّرُ الحافِظُ، وبِزَجْرِهِ تَدْبِيرُهُ لَهُ حَسَبَ اسْتِعْدادِهِ، وقابِلِيَّتِهِ، وأرادَ بِصَوْتِ ذَلِكَ الزَّجْرِ ما يَحْدُثُ عِنْدَ الشَّقِّ بِالأبْخِرَةِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ، وأرادَ بِالمَخارِيقِ في بَيانِ البَرْقِ، وهي جَمْعُ مِخْراقٍ، وهو في الأصْلِ ثَوْبٌ يُلَفُّ، وتَضْرِبُ بِهِ الصِّبْيانُ بَعْضُهم بَعْضًا الآلَةَ الَّتِي يَحْصُلُ بِواسِطَتِها الشَّقُّ، ولا شَكَّ أنَّها كَما قَرَّرْنا مِن نارٍ أشْعَلَتْها شِدَّةُ الحَرَكَةِ والمُحاكَّةِ، فَظَهَرَتْ كَما تَرى، وحَيْثُ فَتَحْنا لَكَ هَذا البابَ، قَدَرْتَ عَلى تَأْوِيلِ كَثِيرٍ مِمّا ورَدَ مِن هَذا القَبِيلِ، حَتّى قَوْلِهِمْ: إنَّ الرَّعْدَ نُطْقُ المَلِكِ، والبَرْقَ ضَحِكُهُ، وإنْ كانَ بِحَسَبِ الظّاهِرِ مِمّا يُضْحَكُ مِنهُ، ولَمْ أرَ أحَدًا وفَّقَ فَوُفِّقَ، وتَحَقَّقَ فَحَقَّقَ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ، وهو حَسْبِي ونِعْمَ الوَكِيلُ، ﴿يَجْعَلُونَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوْتِ﴾ الضَّمائِرُ عائِدَةٌ عَلى المَحْذُوفِ المَعْلُومِ، فِيما قَبْلُ، وكَثِيرًا ما يَلْتَفِتُ إلَيْهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أوْ هم قائِلُونَ﴾ والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ مَبْنِيٌّ عَلى سُؤالٍ نَشَأ مِنَ الكَلامِ، كَأنَّهُ قِيلَ عِنْدَ بَيانِ أحْوالِهِمُ الهائِلَةِ: فَماذا يَصْنَعُونَ في تَضاعِيفِ تِلْكَ الشِّدَّةِ؟ فَقالَ: يَجْعَلُونَ إلَخْ، وجَوَّزُوا وُجُوهًا أُخَرَ كَكَوْنِها في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِلْمُقَدَّرِ، وجُوِّزَ فِيها وفي (يَكادُ) كَوْنُها صِفَةَ صَيِّبٍ بِتَأْوِيلٍ، نَحْوِ: لا يُطِيقُونَهُ، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرٍ فِيهِ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ أوِ اللّامُ نائِبَةٌ عَنْهُ، أيْ صَواعِقُهُ، والجَعْلُ في الأصْلِ الوَضْعُ، والأصابِعُ جَمْعُ إصْبَعٍ، وفِيهِ تِسْعُ لُغاتٍ حاصِلَةٍ مِن ضَرْبِ أحْوالِ الهَمْزَةِ الثَّلاثِ في أحْوالِ الباءِ كَذَلِكَ، وحَكَوْا عاشِرَةً، وهي أُصْبُوعٌ بِضَمِّها، مَعَ واوٍ، وهي مُؤَنَّثَةٌ، وكَذا سائِرُ أسْمائِها، إلّا الإبْهامَ، فَبَعْضُ بَنِي أسَدٍ يَذْكُرُها، والتَّأْنِيثُ أجْوَدُ، وفي الآيَةِ مُبالَغَةٌ في فَرْطِ دَهْشَتِهِمْ، وكَمالِ حَيْرَتِهِمْ، كَما في الفَرائِدِ مِن وُجُوهٍ، أحَدُها نِسْبَةُ الجَعْلِ إلى كُلِّ الأصابِعِ، وهو مَنسُوبٌ إلى بَعْضِها، وهو الأنامِلُ، وثانِيها مِن حَيْثُ الإبْهامُ في الأصابِعِ، والمَعْهُودُ إدْخالُ السَّبّابَةِ، فَكَأنَّهم مِن فَرْطِ دَهْشَتِهِمْ يُدْخِلُونَ أيَّ أُصْبُعٍ كانَتْ، ولا يَسْلُكُونَ المَسْلَكَ المَعْهُودَ، وثالِثُها في ذِكْرِ الجَعْلِ مَوْضِعَ الإدْخالِ، فَإنَّ جَعْلَ شَيْءٍ في شَيْءٍ أدَلُّ عَلى إحاطَةِ الثّانِي بِالأوَّلِ، مِن إدْخالِهِ فِيهِ، وهَلْ هَذا مِنَ المَجازِ اللُّغَوِيِّ لِتَسْمِيَةِ الكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ، أوْ لِلتَّجَوُّزِ في الجَعْلِ، أوْ هو مِنَ المَجازِ العَقْلِيِّ، بِأنْ يُنْسَبَ الجَعْلُ لِلْأصابِعِ وهو لِلْأنامِلِ؟ فِيهِ خِلافٌ، والمَشْهُورُ هو الأوَّلُ، وعَلَيْهِ الجُمْهُورُ، وابْنُ مالِكٍ، وجَماعَةٌ عَلى الأخِيرِ ظَنًّا مِنهم أنَّ المُبالَغَةَ في الِاحْتِرازِ عَنِ اسْتِماعِ الصّاعِقَةِ، إنَّما يَكُونُ عَلَيْهِ، ولَمْ يَكْتَفُوا فِيها بِتَبادُرِ الذِّهْنِ إلى أنَّ الكُلَّ أُدْخِلَ في الأُذُنِ قَبْلَ النَّظَرِ لِلْقَرِينَةِ، وقِيلَ: لا مَجازَ هُنا أصْلًا، لِأنَّ نِسْبَةَ بَعْضِ الأفْعالِ إلى ذِي أجْزاءٍ تَنْقَسِمُ يَكْفِي فِيهِ تَلَبُّسُهُ بِبَعْضِ أجْزائِهِ، كَما يُقالُ: دَخَلْتُ البَلَدَ، وجِئْتُ لَيْلَةَ الخَمِيسِ (p-174)ومَسَحْتُ بِالمِندِيلِ، فَإنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ مَعَ أنَّ الدُّخُولَ والمَجِيءَ والمَسْحَ في بَعْضِ البَلَدِ، واللَّيْلَةِ، والمِندِيلِ، ولا يَخْفى أنَّ كَوْنَ مِثْلِ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ، والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما نَحْنُ فِيهِ ظاهِرٌ، (ومِن) تَعْلِيلِيَّةٌ تُغْنِي غِناءَ اللّامِ في المَفْعُولِ لَهُ، وتَدْخُلُ عَلى الباعِثِ المُتَقَدِّمِ، والغَرَضِ المُتَأخِّرِ، وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ(يَجْعَلُونَ)، وتَعَلُّقُها بِالمَوْتِ بَعِيدٌ، أيْ يَجْعَلُونَ مِن أجْلِ الصَّواعِقِ، وهي جَمْعُ صاعِقَةٍ، ولا شُذُوذَ، والظّاهِرُ أنَّها في الأصْلِ صِفَةٌ مِنَ الصَّعْقِ، وهو الصُّراخُ وتاؤُها لِلتَّأْنِيثِ، إنْ قَدَّرْتَ صِفَةً لِمُؤَنَّثٍ، أوْ لِلْمُبالَغَةِ إنْ لَمْ تُقَدِّرْ، كَراوِيَةٍ، أوْ لِلنَّقْلِ مِنَ الوَصْفِيَّةِ إلى الِاسْمِيَّةِ كَحَقِيقَةٍ، وقِيلَ: إنَّها مَصْدَرٌ كالعافِيَةِ، والعاقِبَةِ، وهي اسْمٌ لِكُلِّ هائِلٍ مَسْمُوعٍ أوْ مُشاهَدٍ، والمَشْهُورُ أنَّها الرَّعْدُ الشَّدِيدُ مَعَهُ قِطْعَةٌ مِن نارٍ، لا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إلّا أتَتْ عَلَيْهِ، وقَدْ يَكُونُ مَعَهُ جِرْمٌ حَجَرِيٌّ أوْ حَدِيدِيٌّ، وسَدُّ الآذانِ، إنَّما يَنْفَعُ عَلى المَعْنى الأوَّلِ، وقَدْ يُرادُ المَعْنى الثّانِي، ويَكُونُ في الكَلامِ إشارَةٌ إلى مُبالَغَةٍ أُخْرى في فَرْطِ دَهْشَتِهِمْ، حَيْثُ يَظُنُّونَ ما لا يَنْفَعُ نافِعًا، وقَرَأ الحَسَنُ (مِنَ الصَّواقِعِ)، وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، كَما في قَوْلِهِ: ؎ألَمْ تَرَ أنَّ المُجْرِمِينَ أصابَهم ∗∗∗ صَواقِعُ لا بَلْ هُنَّ فَوْقَ الصَّواقِعِ ولَيْسَ مِن بابِ القَلْبِ عَلى الأصَحِّ، إذْ عَلامَتُهُ كَوْنُ أحَدِ البِناءَيْنِ فائِقًا لِلْآخَرِ بِبَعْضِ وُجُوهِ التَّصْرِيفِ، والبِناءانِ هُنا مُسْتَوِيانِ في التَّصْرِيفِ، (وحَذَرَ المَوْتِ) نُصِبَ عَلى العِلَّةِ لِـ(يَجْعَلُونَ)، وإنْ كانَ مِنَ الصَّواعِقِ في المَعْنى مَفْعُولًا لَهُ، كانَ هُناكَ نَوْعانِ مَنصُوبٌ ومَجْرُورٌ، ولُزُومُ العَطْفِ في مِثْلِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ خِلافًا لِمَن زَعْمَهُ، ولا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ عِلَّةً لَهُ، مَعَ عِلَّتِهِ، كَما أنَّ مِنَ الصَّواعِقِ عِلَّةٌ لَهُ نَفْسِهِ، ووَرَدَ مَجِيءُ المَفْعُولِ لَهُ مَعْرِفَةً، وإنْ كانَ قَلِيلًا كَما في قَوْلِهِ: ؎وأغْفِرُ عَوْراءَ الكَرِيمِ ادِّخارَهُ ∗∗∗ وأعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّما وجَعْلُهُ مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِمَحْذُوفٍ، أيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ المَوْتِ بَعِيدٌ، وقَرَأ قَتادَةُ والضَّحّاكُ، وابْنُ أبِي لَيْلى: (حِذارَ)، وهو كَـ(حَذَرَ) شِدَّةُ الخَوْفِ، والمَوْتُ في المَشْهُورِ زَوالُ الحَياةِ عَمّا يَتَّصِفُ بِها بِالفِعْلِ، وإطْلاقُهُ عَلى العَدَمِ السّابِقِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكُمْ﴾ مَجازٌ، ولا يَرُدُّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ المَوْتَ﴾ إذِ الخَلْقُ فِيهِ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ، وتَعْيِينِ المِقْدارِ بِوَجْهٍ، وهو مِمّا يُوصَفُ بِهِ المَوْجُودُ والمَعْدُومُ، لِأنَّ العَدَمَ كالوُجُودِ، لَهُ مُدَّةٌ ومِقْدارٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَهُ تَعالى، وقِيلَ: المُرادُ بِخَلْقِ المَوْتِ إحْداثُ أسْبابِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ العَدَمُ مُطْلَقًا، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا، إلّا أنَّ إعْدامَ المَلَكاتِ مَخْلُوقَةٌ لِما فِيها مِن شائِبَةِ التَّحَقُّقِ بِمَعْنى أنَّ اسْتِعْدادَ المَوْضُوعِ مُعْتَبَرٌ في مَفْهُومِها، وهو أمْرٌ وُجُودِيٌّ، فَيَجُوزُ أنْ يُعْتَبَرَ تَعَلُّقُ الخَلْقِ، والإيجادِ بِاعْتِبارِ ذَلِكَ، وصَحَّحَ مُحَقِّقُو أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ المَوْتَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ خُلِقَتْ ضِدًّا لِلْحَياةِ، ولِهَذا يَظْهَرُ كَما في الحَدِيثِ: (يَوْمَ تَتَجَسَّدُ المَعانِي، كَما قالَ أهْلُ اللَّهِ تَعالى، بِصُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ)، ويَصِيرُ عَدَمًا مَحْضًا إذْ يُذْبَحُ بِمُدْيَةِ الحَياةِ الَّتِي لا يَنْتَهِي أمَدُها، ﴿واللَّهُ مُحِيطٌ بِالكافِرِينَ﴾ أيْ لا يَفُوتُونَهُ كَما لا يَفُوتُ المُحاطُ المُحِيطَ، فَإحاطَتْهُ تَعالى بِهِمْ مَجازٌ تَشْبِيهًا لِحالِ قُدْرَتِهِ الكامِلَةِ الَّتِي لا يَفُوتُها المَقْدُورُ أصْلًا بِإحاطَةِ المُحِيطِ بِالمُحاطِ، بِحَيْثُ لا يَفُوتُهُ، فَيَكُونُ في الإحاطَةِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وإنْ شَبَّهَ حالَهُ تَعالى ولَهُ المَثَلُ الأعْلى مَعَهُمْ، بِحالِ المُحِيطِ مَعَ المُحاطِ، بِأنْ تُشَبَّهَ هَيْئَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِن عِدَّةِ أُمُورٍ بِمِثْلِها، كانَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لا تَصَرُّفَ في مُفْرَداتِها، إلّا أنَّهُ صَرَّحَ بِالعُمْدَةِ مِنها وقَدَّرَ الباقِيَ فافْهَمْ. وجَوَّزَ أبُو عَلِيٍّ في مُحِيطٍ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى مُهْلِكٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أوْ عالِمٌ عِلْمَ مُجازاةٍ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأحاطَ بِما لَدَيْهِمْ﴾ وكُلُّ هَذا مِنَ الظّاهِرِ، ولِأهْلِ الشُّهُودِ كَلامٌ مِن ورائِهِ مُحِيطٌ، والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ لا عاطِفَةٌ، ولا حالِيَّةٌ، والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ مِن قِصَّةٍ واحِدَةٍ، وفِيها تَتْمِيمٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ التَّمْثِيلِ (p-175)بِما تُفِيدُهُ مِنَ المُبالَغَةِ، لِأنَّ الكافِرِينَ وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وعُبِّرَ بِهِ إشْعارًا بِاسْتِحْقاقِ ذَوِي الصَّيِّبِ ذَلِكَ العَذابَ لِكُفْرِهِمْ، فَيَكُونُ الكَلامُ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ في هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أنْفُسَهم فَأهْلَكَتْهُ﴾ فَإنَّ التَّشْبِيهَ بِحَرْثِ قَوْمٍ كَذَلِكَ لا يَخْفى حُسْنُهُ، لِأنَّ الإهْلاكَ عَنْ سُخْطٍ أشَدُّ وأبْلَغُ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ ما صَنَعُوهُ مِن سَدِّ الآذانِ بِالأصابِعِ لا يُغْنِي عَنْهم شَيْئًا، وقَدْ أحاطَ بِهِمُ الهَلاكُ، ولا يَدْفَعُ الحَذَرُ القَدَرَ، وماذا يَصْنَعُ مَعَ القَضاءِ تَدْبِيرُ البَشَرِ، وجُعِلَ الِاعْتِراضُ مِن جُمْلَةِ أحْوالِ المُشَبَّهِ، عَلى أنَّ المُرادَ بِالكافِرِينَ المُنافِقُونَ، ولا مَحِيصَ لَهم عَنْ عَذابِ الدّارَيْنِ، ووَسَّطَ بَيْنَ أحْوالِ المُشَبَّهِ بِهِ، لِإظْهارِ كَمالِ العِنايَةِ بِشَأْنِ المُشَبَّهِ، والتَّنْبِيهُ عَلى شِدَّةِ الِاتِّصالِ مِمّا يَأْباهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب