الباحث القرآني
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
حَتّى عَفاها صَيِّبُ ودْقِهِ دانِي النَّواحِي مُسْبِلُ هاطِلُ
وقالَ الشَّمّاخُ:وأشْحَمَ دانٍ صادِقَ الرَّعْدِ صَيِّبُ
ووَزْنُ صَيِّبٍ فَيْعِلٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وهو مِنَ الأوْزانِ المُخْتَصَّةِ بِالمُعْتَلِّ العَيْنِ، إلّا ما شَذَّ في الصَّحِيحِ مِن قَوْلِهِمْ: صَيْقِلٌ بِكَسْرِ القافِ عَلَمٌ لِامْرَأةٍ، ولَيْسَ وزْنُهُ فَعِيلًا، خِلافًا لِلْفَرّاءِ. وقَدْ نُسِبَ هَذا المَذْهَبُ لِلْكُوفِيِّينَ وهي مَسْألَةٌ يُتَكَلَّمُ عَلَيْها في عِلْمِ التَّصْرِيفِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَخْفِيفِ مِثْلِ هَذا. السَّماءُ: كُلُّ ما عَلاكَ مِن سَقْفٍ ونَحْوِهِ، والسَّماءُ المَعْرُوفَةُ ذاتُ البُرُوجِ، وأصْلُها الواوُ لِأنَّها مِنَ السُّمُوِّ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بَيْنَها وبَيْنَ المُفْرَدِ تاءُ تَأْنِيثٍ. قالُوا: سَماوَةٌ، وتَصِحُّ الواوُ إذْ ذاكَ لِأنَّها بُنِيَتْ عَلَيْها الكَلِمَةُ، قالَ العَجّاجُ:طَيُّ اللَّيالِي زُلَفًا فَزُلَفا ∗∗∗ سَماوَةَ الهِلالِ حَتّى احْقَوْقَفا
والسَّماءُ مُؤَنَّثٌ، وقَدْ يُذَكَّرُ، قالَ الشّاعِرُ:فَلَوْ رَفَعَ السَّماءُ إلَيْهِ قَوْمًا ∗∗∗ لَحِقْنا بِالسَّماءِ مَعَ السَّحابِ
والجِنْسُ الَّذِي مُيِّزَ واحِدُهُ بِتاءٍ، يُؤَنِّثُهُ الحِجازِيُّونَ، ويُذَكِّرُهُ التَّمِيمِيُّونَ وأهْلُ نَجْدٍ، وجَمْعُهم لَها عَلى سَماواتٍ، وعَلى أسْمِيَةٍ، وعَلى سَماءاتٍ. قالَ: فَوْقَ سَبْعِ سَمائِنا شاذٌّ لِأنَّهُ، أوَّلًا: اسْمُ جِنْسٍ فَقِياسُهُ أنْ لا يُجْمَعَ، وثانِيًا: فَجَمْعُهُ بِالألِفِ والتّاءِ لَيْسَ فِيهِ شَرْطُ ما يُجْمَعُ بِهِما قِياسًا، وجَمْعُهُ عَلى أفْعِلَةٍ لَيْسَ مِمّا يَنْقاسُ في المُؤَنَّثِ، وعَلى فَعائِلَ لا يَنْقاسُ في فِعالٍ.ما ذُو ثَلاثِ آذانٍ ∗∗∗ يَسْبِقُ الخَيْلَ بِالرَّدَيانِ
يُرِيدُ السَّهْمَ وآذانَهُ وقُذَذَهُ. الصّاعِقَةُ: الوَقْعَةُ الشَّدِيدَةُ مِن صَوْتِ الرَّعْدِ مَعَها قِطْعَةٌ مِن نارٍ تَسْقُطُ مَعَ صَوْتِ الرَّعْدِ، قالُوا: تَنْقَدِحُ مِنَ السَّحابِ إذا اصْطَكَّتْ أجْرامُهُ، وهي نارٌ لَطِيفَةٌ حَدِيدَةٌ لا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إلّا أتَتْ عَلَيْهِ، وهي مَعَ حِدَّتِها سَرِيعَةُ الخُمُودِ، ويُهْلِكُ اللَّهُ بِها مَن يَشاءُ. قالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أخاهُ أرْبَدَ، وكانَ مِمَّنْ أحْرَقَتْهُ الصّاعِقَةُ:فَجَعَنِي البَرْقُ والصَّواعِقُ بِالَفا ∗∗∗ رِسِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ النَّجِدِ
ويُشَبِّهُ بِالمَقْتُولِ بِها مَن ماتَ سَرِيعًا، قالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:كَأنَّهم صابَتْ عَلَيْهِمْ سَحابَةٌ ∗∗∗ صَواعِقُها لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
ورَوى الخَلِيلُ عَنْ قَوْمٍ مِنَ العَرَبِ: السّاعِقَةُ بِالسِّينِ، وقالَ النَّقّاشُ: صاعِقَةٌ وصَعْقَةٌ وصاقِعَةٌ بِمَعْنًى واحِدٍ. قالَ أبُو عَمْرٍو: الصّاقِعَةُ لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ، قالَ الشّاعِرُ:ألَمْ تَرَ أنَّ المُجْرِمِينَ أصابَهم ∗∗∗ صَواقِعَ لا بَلْ هُنَّ فَوْقَ الصَّواقِعِ
وقالَ أبُو النَّجْمِ:يُحِلُّونَ بِالمَقْصُورَةِ القَواطِعَ ∗∗∗ تَشَقُّقُ البُرُوقِ بِالصَّواقِعِ
فَإذا كانَ ذَلِكَ لُغَةً، وقَدْ حَكَوْا تَصْرِيفَ الكَلِمَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ مِن بابِ المَقْلُوبِ خِلافًا لِمَن ذَهَبَ إلى ذَلِكَ، ونُقِلَ القَلْبُ عَنْ جُمْهُورِ أهْلِ اللُّغَةِ. ويُقالُ: صَعَقَتْهُ وأصْعَقَتْهُ الصّاعِقَةُ، إذا أهْلَكَتْهُ، فَصُعِقَ: أيْ هَلَكَ. والصّاعِقَةُ أيْضًا العَذابُ عَلى أيِّ حالٍ كانَ، قالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، والصّاعِقَةُ والصّاقِعَةُ: إمّا أنْ تَكُونَ صِفَةً لِصَوْتِ الرَّعْدِ أوْ لِلرَّعْدِ، فَتَكُونُ التّاءُ لِلْمُبالَغَةِ نَحْوَ: راوِيَةٌ، وإمّا أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا، كَما قالُوا في الكاذِبَةِ. الحَذَرُ والفَزَعُ والفَرَقُ والجَزَعُ والخَوْفُ: نَظائِرُ المَوْتِ، عَرْضٌ يَعْقُبُ الحَياةَ. وقِيلَ: فَسادُ بِنْيَةِ الحَيَوانِ، وقِيلَ: زَوالُ الحَياةِ. الإحاطَةُ: حَصْرُ الشَّيْءِ بِالمَنعِ لَهُ مِن كُلِّ جِهَةٍ، والثُّلاثِيُّ مِنهُ مُتَعَدٍّ، قالُوا: حاطَهُ، يُحُوطُهُ، حَوْطًا.لَعَمْرُكَ والخُطُوبُ مُغِيراتٌ ∗∗∗ وفي طُولِ المُعاشَرَةِ التَّقالِي
لَقَدْ بالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أوْفى ∗∗∗ ولَكِنْ أُمُّ أوْفى لا تُبالِي
فَفَصْلَ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ بِجُمْلَتَيِ الِاعْتِراضِ. مِنَ السَّماءِ مُتَعَلِّقٌ بِصَيِّبٍ فَهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ومِن فِيهِ لِابْتِداءِ الغايَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ فَتُعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ، وتَكُونَ مِن إذْ ذاكَ لِلتَّبْعِيضِ، ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: أوْ كَمَطَرٍ صَيِّبٍ مِن أمْطارِ السَّماءِ، وأتى بِالسَّماءِ مَعْرِفَةً إشارَةً إلى أنَّ هَذا الصَّيِّبَ نازِلٌ مِن آفاقِ السَّماءِ، فَهو مُطَبَّقٌ عامٌّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وفِيهِ أنَّ السَّحابَ مِنَ السَّماءِ يَنْحَدِرُ، ومِنها يَأْخُذُ ماءَهُ، لا كَزَعْمِ مَن زَعَمَ أنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنَ البَحْرِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ﴾ [النور: ٤٣] انْتَهى كَلامُهُ. ولَيْسَ في الآيَتَيْنِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَكُونُ مَنشَأ المَطَرِ مِنَ البَحْرِ، إنَّما تَدُلُّ الآيَتانِ عَلى أنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، ولا يَظْهَرُ تَنافٍ بَيْنَ أنْ يَكُونَ المَطَرُ يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وأنَّ مَنشَأهُ مِنَ البَحْرِ. والعَرَبُ تُسَمِّي السَّحابَ بَناتُ بَحْرٍ، يَعْنِي أنَّها تَنْشَأُ مِنَ البِحارِ، قالَ طَرَفَةُ:لا تَلُمْنِي إنَّها مِن نِسْوَةٍ ∗∗∗ رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقالِيتٍ نُزَرْ
كَبَناتِ البَحْرِ يَمْأدَنَّ كَما ∗∗∗ أنْبَتَ الصَّيْفُ عَسالِيجَ الخُضَرْ
وقَدْ أبْدَلُوا الباءَ مِيمًا فَقالُوا: بَناتُ المَحْرِ، كَما قالُوا: رَأيْتُهُ مِن كَثَبٍ ومِن كَثَمٍ. وظُلُماتٌ: مُرْتَفِعٌ بِالجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفاعِلِيَّةِ؛ لِأنَّهُ قَدِ اعْتَمَدَ إذا وقَعَ صِفَةً، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ فِيهِ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ النَّكِرَةِ المُخَصَّصَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ السَّماءِ﴾، إمّا تَخْصِيصُ العَمَلِ، وإمّا تَخْصِيصُ الصِّفَةِ عَلى ما قَدَّمْناهُ مِنَ الوَجْهَيْنِ في إعْرابِ مِنَ السَّماءِ، وأجازُوا أنْ يَكُونَ ظُلُماتٌ مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ، وفِيهِ في مَوْضِعِ الخَبَرِ. والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، ولا حاجَةَ إلى هَذا لِأنَّهُ إذا دارَ الأمْرُ بَيْنَ أنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مِن قَبِيلِ المُفْرَدِ، وبَيْنَ أنْ تَكُونَ مِن قَبِيلِ الجُمَلِ، كانَ الأوْلى جَعْلَها مِن قَبِيلِ المُفْرَدِ وجَمْعَ الظُّلُماتِ؛ لِأنَّهُ حَصَلَتْ أنْواعٌ مِنَ الظُّلْمَةِ. فَإنْ كانَ الصَّيِّبُ هو المَطَرُ، فَظُلُماتُهُ ظُلْمَةُ تَكاثُفِهِ وانْتِساجِهِ وتَتابُعِ قَطْرِهِ، وظُلْمَةُ ظِلالِ غَمامِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وإنْ كانَ الصَّيِّبُ هو السَّحابُ، فَظُلْمَةُ سَجْمَتِهِ وظُلْمَةُ تَطْبِيقِهِ مَعَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. والضَّمِيرُ في فِيهِ عائِدٌ عَلى الصَّيِّبِ، فَإذا فُسِّرَ بِالمَطَرِ، فَمَكانُ ذَلِكَ السَّحابُ، لَكِنَّهُ لَمّا كانَ الرَّعْدُ والبَرْقُ مُلْتَبِسَيْنِ بِالمَطَرِ جُعِلا فِيهِ عَلى طَرِيقِ التَّجَوُّزِ، ولَمْ يُجْمَعِ الرَّعْدُ والبَرْقُ، وإنْ كانَ قَدْ جُمِعَتْ في لِسانِ العَرَبِ؛ لِأنَّ المُرادَ بِذَلِكَ المَصْدَرُ كَأنَّهُ قِيلَ: وإرْعادٌ وإبْراقٌ، وإنْ أُرِيدَ العَيْنانِ فَلِأنَّهُما لَمّا كانا مَصْدَرَيْنِ في الأصْلِ، إذْ يُقالُ: رَعَدَتِ السَّماءُ رَعْدًا وبَرَقَتْ بَرْقًا، رُوعِيَ حُكْمُ أصْلِهِما وإنْ كانَ المَعْنى عَلى الجَمْعِ، كَما قالُوا: رَجُلٌ خَصْمٌ، ونُكِّرَتْ ظُلُماتٌ ورَعْدٌ وبَرْقٌ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ لَيْسَ العُمُومَ، إنَّما المَقْصُودُ اشْتِمالُ الصَّيِّبِ عَلى ظُلُماتٍ ورَعْدٍ وبَرْقٍ، والضَّمِيرُ في يَجْعَلُونَ عائِدٌ عَلى المُضافِ المَحْذُوفِ لِلْعِلْمِ بِهِ؛ لِأنَّهُ إذا حُذِفَ فَتارَةً يُلْتَفَتُ إلَيْهِ حَتّى كَأنَّهُ مَلْفُوظٌ بِهِ فَتَعُودُ الضَّمائِرُ عَلَيْهِ كَحالِهِ مَذْكُورًا، وتارَةً يُطْرَحُ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ الَّذِي قامَ مَقامَهُ. فَمِنَ الأوَّلِ هَذِهِ الآيَةُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ﴾ [النور: ٤٠]، التَّقْدِيرُ: أوْ كَذِي ظُلُماتٍ، ولِذَلِكَ عادَ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ يَغْشاهُ. ومِمّا اجْتَمَعَ فِيهِ الِالتِفاتُ والإطْراحُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أوْ هم قائِلُونَ﴾ [الأعراف: ٤] المَعْنى: مِن أهْلِ قَرْيَةٍ، فَقالَ: فَجاءَها، فَأطْرَحَ المَحْذُوفَ وقالَ: أُوهِمَ فالتَفَتَ إلى المَحْذُوفِ. والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: يَجْعَلُونَ لا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ؛ لِأنَّها جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَكَيْفَ حالُهم مَعَ مَثَلِ ذَلِكَ الرَّعْدِ ؟ فَقِيلَ: يَجْعَلُونَ، وقِيلَ: الجُمْلَةُ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ وهو الجَرُّ لِأنَّها في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِذَوِي المَحْذُوفِ، كَأنَّهُ قِيلَ: جاعِلِينَ، وأجازَ بَعْضُهم أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي هو الهاءُ في فِيهِ. والرّاجِعُ عَلى ذِي الحالِ مَحْذُوفٌ نابَتِ الألِفُ واللّامُ عَنْهُ، التَّقْدِيرُ: مِن صَواعِقِهِ. وأرادَ بِالأصابِعِ بَعْضَها؛ لِأنَّ الأصابِعَ كُلَّها لا تُجْعَلُ في الأُذُنِ، إنَّما تُجْعَلُ فِيها الأُنْمُلَةُ، لَكِنَّ هَذا مِنَ الِاتِّساعِ، وهو إطْلاقُ كُلٍّ عَلى بَعْضٍ، ولِأنَّ هَؤُلاءِ لِفَرْطِ ما يَهُولُهم مِن إزْعاجِ الصَّواعِقِ كَأنَّهم لا يَكْتَفُونَ بِالأُنْمُلَةِ، بَلْ لَوْ أمْكَنَهُمُ السَّدُّ بِالأصابِعِ كُلِّها لَفَعَلُوا، وعُدِلَ عَنِ الِاسْمِ الخاصِّ لِما يُوضَعُ في الأُذُنِ إلى الِاسْمِ العامِّ، وهو الأُصْبُعُ، لِما في تَرْكِ لَفْظِ السَّبّابَةِ مِن حُسْنِ أدَبِ القُرْآنِ، وكَوْنِ الكِناياتِ فِيهِ تَكُونُ بِأحْسَنَ لَفْظٍ، لِذَلِكَ ما عُدِلَ عَنْ لَفْظِ السَّبّابَةِ إلى المِسْبَحَةِ والمُهَلِّلَةِ وغَيْرِها مِنَ الألْفاظِ المُسْتَحْسَنَةِ، ولَمْ تَأْتِ بِلَفْظِ المِسْبَحَةِ ونَحْوِها لِأنَّها ألْفاظٌ مُسْتَحْدَثَةٌ، لَمْ يَتَعارَفْها النّاسُ في ذَلِكَ العَهْدِ، وإنَّما أُحْدِثَتْ بَعْدُ.يَرْكَبُ كُلَّ عاقِرٍ جُمْهُورِ
مَخافَةً وزَعَلَ المَحْبُورِ ∗∗∗ والهَوْلَ مِن تَهَوُّلِ الهُبُورِ
وقالُوا أيْضًا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أيْ يَحْذَرُونَ حَذَرَ المَوْتِ، وهو مُضافٌ لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ قَتادَةُ والضَّحّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ وابْنُ أبِي لَيْلى: حَذارَ المَوْتِ، وهو مَصْدَرُ حاذَرَ، قالُوا: وانْتِصابُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ. الإحاطَةُ هُنا كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ تَعالى لا يَفُوتُونَهُ، كَما لا يَفُوتُ المُحاطَ المُحِيطُ بِهِ، فَقِيلَ: العِلْمُ، وقِيلَ: بِالقُدْرَةِ، وقِيلَ: بِالإهْلاكِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ لِأنَّها دَخَلَتْ بَيْنَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُما: يَجْعَلُونَ أصابِعَهم، ويَكادُ البَرْقُ، وهُما مِن قِصَّةٍ واحِدَةٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ هَذا التَّمْثِيلَ مِنَ التَّمِثِيلاتِ المُرَكَّبَةِ، وهو الَّذِي تُشَبَّهُ فِيهِ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ بِالأُخْرى في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ آحادُ إحْدى الجُمْلَتَيْنِ شَبِيهَةٌ بِآحادِ الجُمْلَةِ الأُخْرى، فَيَكُونُ المَقْصُودُ تَشْبِيهَ حَيْرَةِ المُنافِقِينَ في الدِّينِ والدُّنْيا بِحَيْرَةِ مَنِ انْطَفَأتْ نارُهُ بَعْدَ إيقادِها، وبِحَيْرَةِ مَن أخَذَتْهُ السَّماءُ في اللَّيْلَةِ المُظْلِمَةِ مَعَ رَعْدٍ وبَرْقٍ. وهَذا الَّذِي سَبَقَ أنَّهُ المُخْتارُ. وقالُوا أيْضًا: يَكُونُ مِنَ التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ، وهو أنْ يَكُونَ المَثَلُ مُرَكَّبًا مِن أُمُورٍ، والمُمَثَّلُ يَكُونُ مُرَكَّبًا أيْضًا، وكُلُّ واحِدٍ مِنَ المَثَلِ مُشْبِهٌ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المُمَثَّلِ. وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلانِ مِن جَعْلِ هَذا المَثَلِ مِنَ التَّمْثِيلِ المُفَرَّقِ. والثّالِثُ: أنَّ الصَّيِّبَ مَثَلٌ لِلْإسْلامِ، والظُّلُماتِ مَثَلٌ لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفاقِ، والرَّعْدُ والبَرْقُ مَثَلانِ لِما يُخَوَّفُونَ بِهِ. والرّابِعُ: البَرْقُ مَثَلٌ لِلْإسْلامِ، والظُّلُماتُ مَثَلٌ لِلْفِتْنَةِ والبَلاءِ. والخامِسُ: الصَّيِّبُ الغَيْثُ الَّذِي فِيهِ الحَياةُ مَثَلٌ لِلْإسْلامِ، والظُّلُماتُ مَثَلٌ لِإسْلامِ المُنافِقِينَ وما فِيهِ مِن إبِطانِ الكُفْرِ، والرَّعْدُ مَثَلٌ لِما في الإسْلامِ مِن حَقْنِ الدِّماءِ والِاخْتِلاطِ بِالمُسْلِمِينَ في المُناكَحَةِ والمُوارَثَةِ، والبَرْقُ وما فِيهِ مِنَ الصَّواعِقِ مَثَلٌ لِما في الإسْلامِ مِنَ الزَّجْرِ بِالعِقابِ في العاجِلِ والآجِلِ، ويُرْوى مَعْنى هَذا عَنِ الحَسَنِ. والسّادِسُ: أنَّ الصَّيِّبَ والظُّلُماتِ والرَّعْدَ والبَرْقَ والصَّواعِقَ كانَتْ حَقِيقَةً أصابَتْ بَعْضَ اليَهُودِ، فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِقِصَّتِهِمْ لِبَقِيَّتِهِمْ، ورُوِيَ في ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عَبّاسٍ. السّابِعُ: أنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْخَيْرِ والشَّرِّ الَّذِي أصابَ المُنافِقِينَ، فَكَأنَّهم كانُوا إذا كَثُرَتْ أمْوالُهم ووَلَدُهُمُ الغِلْمانُ، أوْ أصابُوا غَنِيمَةً أوْ فَتْحًا قالُوا: دِينُ مُحَمَّدٍ صِدْقٌ، فاسْتَقامُوا عَلَيْهِ، وإذا هَلَكَتْ أمْوالُهم وأوْلادُهم وأصابَهُمُ البَلاءُ قالُوا: هَذا مِن أجْلِ دِينِ مُحَمَّدٍ، فارْتَدُّوا كُفّارًا. الثّامِنُ: أنَّهُ مَثَّلَ الدُّنْيا وما فِيها مِنَ الشِّدَّةِ والرَّخاءِ والنِّعْمَةِ والبَلاءِ بِالصَّيِّبِ الَّذِي يَجْمَعُ نَفْعًا بِإحْيائِهِ الأرْضَ وإنْباتِهِ النَّباتَ وإحْياءِ كُلِّ دابَّةٍ والِانْتِفاعِ بِهِ لِلتَّطْهِيرِ وغَيْرِهِ مِنَ المَنافِعِ، وضَرًّا بِما يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الإغْراقِ والإشْراقِ، وما تَقَدَّمَهُ مِنَ الظُّلُماتِ والصَّواعِقِ بِالإرْعادِ والإبْراقِ، وأنَّ المُنافِقَ يَدْفَعُ آجِلًا بِطَلَبِ عاجِلِ النَّفْعِ، فَيَبِيعُ آخِرَتَهُ وما أعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِيها مِنَ النَّعِيمِ بِالدُّنْيا الَّتِي صَفُّوها كَدِرٌ ومَآلُهُ بَعْدُ إلى سَقَرَ. التّاسِعُ: أنَّهُ مَثَلٌ لِلْقِيامَةِ لِما يَخافُونَهُ مِن وعِيدِ الآخِرَةِ لِشَكِّهِمْ في دِينِهِمْ وما فِيهِ مِنَ البَرْقِ، بِما في إظْهارِ الإسْلامِ مِن حَقْنِ دِمائِهِمْ، ومَثَّلَ ما فِيهِ مِنَ الصَّواعِقِ بِما في الإسْلامِ مِنَ الزَّواجِرِ بِالعِقابِ في العاجِلِ والآجِلِ. العاشِرُ: ضَرْبُ الصَّيِّبِ مَثَلٌ لِما أظْهَرَ المُنافِقُونَ مِنَ الإيمانِ والظُّلُماتِ بِضَلالِهِمْ وكُفْرِهِمُ الَّذِي أبَطَنُوهُ، وما فِيهِ مِنَ البَرْقِ بِما عَلاهم مِن خَيْرِ الإسْلامِ وعَلَتْهم مِن بَرَكَتِهِ، واهْتِدائِهِمْ بِهِ إلى مَنافِعِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، وأمْنِهِمْ عَلى أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ وما فِيهِ مِنَ الصَّواعِقِ، بِما اقْتَضاهُ نِفاقُهم وما هم صائِرُونَ إلَيْهِ مِنَ الهَلاكِ الدُّنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ. وقَدْ ذَكَرُوا أيْضًا أقْوالًا كُلَّها تَرْجِعُ إلى التَّمْثِيلِ التَّرْكِيبِيِّ، الأوَّلُ: شَبَّهَ حالَ المُنافِقِينَ بِالَّذِينَ اجْتَمَعَتْ لَهم ظُلْمَةُ السَّحابِ مَعَ هَذِهِ الأُمُورِ، فَكانَ ذَلِكَ أشَدُّ لِحَيْرَتِهِمْ، إذْ لا يَرَوْنَ طَرِيقًا، ولا مَن أضاءَ لَهُ البَرْقَ ثُمَّ ذَهَبَ كانَتِ الظُّلْمَةُ عِنْدَهُ أشَدُّ مِنها لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيها بَرْقٌ. الثّانِي: أنَّ المَطَرَ وإنْ كانَ نافِعًا إلّا أنَّهُ لَمّا ظَهَرَ في هَذِهِ الصُّورَةِ صارَ النَّفْعُ بِهِ زائِلًا، كَذَلِكَ إظْهارُ الإيمانِ نافِعٌ لِلْمُنافِقِ لَوْ وافَقَهُ الباطِنُ، وأمّا مَعَ عَدَمِ المُوافَقَةِ فَهو ضَرَرٌ. الثّالِثُ: أنَّهُ مَثَّلَ حالَ المُنافِقِينَ في ظَنِّهِمْ أنَّ ما أظْهَرُوهُ نافِعُهم ولَيْسَ بِنافِعِهِمْ بِمَن نَزَلَتْ بِهِ هَذِهِ الأُمُورُ مَعَ الصَّواعِقِ، فَإنَّهُ يَظُنُّ أنَّ المُخَلِّصَ لَهُ مِنها جَعْلُ أصابِعِهِ في آذانِهِ وهو لا يُنْجِيهِ ذَلِكَ مِمّا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ مِن مَوْتٍ أوْ غَيْرِهِ. الرّابِعُ: أنَّهُ مَثَّلَ لِتَأخُّرِ المُنافِقِ عَنِ الجِهادِ فِرارًا مِنَ المَوْتِ بِمَن أرادَ دَفْعَ هَذِهِ الأُمُورِ بِجَعْلِ أصابِعِهِمْ في آذانِهِمْ. الخامِسُ: أنَّهُ مَثَّلَ لِعَدَمِ خَلاصِ المُنافِقِ مِن عَذابِ اللَّهِ بِالجاعِلِينَ أصابِعَهم في آذانِهِمْ، فَإنَّهم وإنْ تَخَلَّصُوا مِنَ المَوْتِ في تِلْكَ السّاعَةِ، فَإنَّ المَوْتَ مِن ورائِهِمْ.