الباحث القرآني
(p-٢٨٥)﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ ومِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ويَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ ﴿بَلى مَن أوْفى بِعَهْدِهِ واتَّقى فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ .
عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وقالَتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ [آل عمران: ٧٢] أوْ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ودَّتْ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦٩] عَطْفُ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ والمُناسَبَةُ بَيانُ دَخائِلِ أحْوالِ اليَهُودِ في مُعامَلَةِ المُسْلِمِينَ النّاشِئَةِ عَنْ حَسَدِهِمْ وفي انْحِرافِهِمْ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ مَعَ ادِّعائِهِمْ أنَّهم أوْلى النّاسِ بِهِ، فَقَدْ حَكى في هَذِهِ الآيَةِ خِيانَةَ فَرِيقٍ مِنهم.
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ هُنا في أهْلِ الكِتابِ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا يُؤَدِّي الأمانَةَ تَعَفُّفًا عَنِ الخِيانَةِ وفَرِيقًا لا يُؤَدِّي الأمانَةَ مُتَعَلِّلِينَ لِإباحَةِ الخِيانَةِ في دِينِهِمْ، قِيلَ: ومِنَ الفَرِيقِ الأوَّلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ، ومِنَ الفَرِيقِ الثّانِي فِنْحاصُ بْنُ عازُوراءَ وكِلاهُما مِن يَهُودِ يَثْرِبَ.
والمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ ذَمُّ الفَرِيقِ الثّانِي إذْ كانَ مِن دِينِهِمْ في زَعْمِهِمْ إباحَةُ الخَوْنِ قالَ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ فَلِذَلِكَ كانَ المَقْصُودُ هو قَوْلَهُ: ﴿ومِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ إلَخْ ولِذَلِكَ طَوَّلَ الكَلامَ فِيهِ. وإنَّما قَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ﴾ إنْصافًا لِحَقِّ هَذا الفَرِيقِ، لِأنَّ الإنْصافَ مِمّا اشْتُهِرَ بِهِ الإسْلامُ، وإنْ كانَ في زَعْمِهِمْ أنَّ دِينَهم يُبِيحُ لَهم خِيانَةَ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ صارَ النَّعْيُ عَلَيْهِمْ، والتَّعْبِيرُ بِهَذا القَوْلِ لازِمًا لِجَمِيعِهِمْ أِمِينِهِمْ وخائِنِهِمْ، لِأنَّ الأمِينَ حِينَئِذٍ لا مَزِيَّةَ لَهُ إلّا في أنَّهُ تَرَكَ حَقًّا يُبِيحُ لَهُ دِينُهُ أخْذَهُ، فَتَرَفَّعَ عَنْ ذَلِكَ كَما يَتَرَفَّعُ المُتَغالِي في المُرُوءَةِ عَنْ بَعْضِ المُباحاتِ.
وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ في قَوْلِهِ: ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ﴾ في المَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْجِيبِ مِن مَضْمُونِ صِلَةِ المُسْنَدِ إلَيْهِما: فَفي الأوَّلِ لِلتَّعْجِيبِ مِن قُوَّةِ الأمانَةِ، مَعَ إمْكانِ الخِيانَةِ ووُجُودِ العُذْرِ لَهُ في عادَةِ أهْلِ دِينِهِ، وفي الثّانِي لِلتَّعْجِيبِ مِن أنْ يَكُونَ الخَوْنُ خُلُقًا لِمُتَّبِعِ كِتابٍ مِن كُتُبِ اللَّهِ، ثُمَّ يَزِيدُ التَّعْجِيبُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا﴾: فَيُكْسِبُ المُسْنَدَ إلَيْهِما زِيادَةَ عَجَبِ حالٍ.
(p-٢٨٦)وعُدِّيَ ”تَأْمَنُهُ“ بِالباءِ مَعَ أنَّ مِثْلَهُ يَتَعَدّى بِعَلى كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ آمَنُكم عَلَيْهِ﴾ [يوسف: ٦٤]، لِتَضْمِينِهِ مَعْنى تُعامِلُهُ بِقِنْطارٍ لِيَشْمَلَ الأمانَةَ بِالوَدِيعَةِ، والأمانَةَ بِالمُعامَلَةِ عَلى الِاسْتِيمانِ، وقِيلَ الباءُ فِيهِ بِمَعْنى ”عَلى“ كَقَوْلِ أبِي ذَرٍّ أوْ عَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ:
؎أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبانُ بِرَأْسِهِ
وهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، لِأنَّ الباءَ في البَيْتِ لِلظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ [الفتح: ٢٤] .
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ بِكَسْرِ الهاءِ مِن ”يُؤَدِّهِ“ عَلى الأصْلِ في الضَّمائِرِ.
وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِإسْكانِ هاءِ الضَّمِيرِ في ”يُؤَدِّهِ“ فَقالَ الزَّجّاجُ: هَذا الإسْكانُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ هَؤُلاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأنَّ الهاءَ لا يَنْبَغِي أنْ تُجْزَمَ وإذا لَمْ تُجْزَمْ فَلا يَجُوزُ أنْ تُكْسَرَ في الوَصْلِ، هَكَذا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ومَعْناهُ أنَّ جَزْمَ الجَوابِ لا يَظْهَرُ عَلى هاءِ الضَّمِيرِ بَلْ عَلى آخِرِ حَرْفٍ مِنَ الفِعْلِ ولا يَجُوزُ تَسْكِينُها في الوَصْلِ كَما في أكْثَرِ الآياتِ الَّتِي سَكَّنُوا فِيها الهاءَ. وقِيلَ هو إجْراءٌ لِلْوَصْلِ مُجْرى الوَقْفِ وهو قَلِيلٌ، قالَ الزَّجّاجُ: وأمّا أبُو عَمْرٍو فَأُراهُ كانَ يَخْتَلِسُ الكَسْرَ فَغَلَطَ عَلَيْهِ مَن نَقَلَهُ. وكَلامُ الزَّجّاجُ مَرْدُودٌ لِأنَّهُ راعى فِيهِ المَشْهُورَ مِنَ الِاسْتِعْمالِ المَقِيسِ، واللُّغَةُ أوْسَعُ مِن ذَلِكَ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ. وقَرَأهُ هِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، ويَعْقُوبُ بِاخْتِلاسِ الكَسْرِ.
وحَكى القُرْطُبِيُّ عَنِ الفَرّاءِ: أنَّ مَذْهَبَ بَعْضِ العَرَبِ يَجْزِمُونَ الهاءَ إذا تَحَرَّكَ ما قَبْلَها يَقُولُونَ ضَرَبْتُهْ كَما يُسَكِّنُونَ مِيمَ أنْتُمْ وقُمْتُمْ وأصْلُهُ الرَّفْعُ وهَذا كَما قالَ الرّاجِزُ:
؎لَمّا رَأى ألّا دَعَـهْ ولا شِـبَـعْ ∗∗∗ مالَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
والقِنْطارُ تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ﴾ [آل عمران: ١٤] .
والدِّينارُ اسْمٌ لِلْمَسْكُوكِ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي وزْنُهُ اثْنَتانِ وسَبْعُونَ حَبَّةً مِنَ الشَّعِيرِ المُتَوَسِّطِ وهو مُعَرَّبُ ”دِنّارٍ“ مِنَ الرُّومِيَّةِ.
وقَدْ جُعِلَ القِنْطارُ والدِّينارُ مَثَلَيْنِ لِلْكَثْرَةِ والقِلَّةِ، والمَقْصُودُ ما يُفِيدُهُ الفَحْوى مِن أداءِ الأمانَةِ فِيما هو دُونَ القِنْطارِ، ووُقُوعِ الخِيانَةِ فِيما هو فَوْقَ الدِّينارِ.
(p-٢٨٧)وقَوْلُهُ: ﴿إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ أُطْلِقَ القِيامَ هُنا عَلى الحِرْصِ والمُواظَبَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] أيْ لا يَفْعَلُ إلّا العَدْلَ.
وعُدِّيَ ”قائِمًا“ بِحَرْفِ ”عَلى“ لِأنَّ القِيامَ مَجازٌ عَلى الإلْحاحِ والتَّرْدادِ فَتَعْدِيَتُهُ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ قَرِينَةٌ وتَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعارَةِ.
و”ما“ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ يَصِيرُ الفِعْلُ بَعْدَهُ في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، ويَكْثُرُ أنْ يُقَدَّرَ مَعَها اسْمُ زَمانٍ مُلْتَزَمٍ حَذْفُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِياقُ الكَلامِ فَحِينَئِذٍ يُقالُ: ”ما“ ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ. ولَيْسَتِ الظَّرْفِيَّةُ مَدْلُولَها بِالأصالَةِ ولا هي نائِبَةٌ عَنِ الظَّرْفِ، ولَكِنَّها مُسْتَفادَةٌ مِن مَوْقِعِ ”ما“ في سِياقِ كَلامٍ يُؤْذِنُ بِالزَّمانِ، ويَكْثُرُ ذَلِكَ في دُخُولِ ”ما“ عَلى الفِعْلِ المُتَصَرِّفِ مِن مادَّةِ ”دامَ“ ومُرادِفِها.
و”ما“ في هَذِهِ الآيَةِ كَذَلِكَ فالمَعْنى: لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلّا في مُدَّةِ دَوامِ قِيامِكَ عَلَيْهِ أيْ إلْحاحِكَ عَلَيْهِ. والدَّوامُ حَقِيقَتُهُ اسْتِمْرارُ الفِعْلِ وهو هُنا مَجازٌ في طُولِ المُدَّةِ، لِتَعَذُّرِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ مَعَ وُجُودِ أداةِ الِاسْتِثْناءِ، لِأنَّهُ إذا انْتَهى العُمْرُ لَمْ يَحْصُلِ الإلْحاحُ بَعْدَ المَوْتِ.
والِاسْتِثْناءُ مِن قَوْلِهِ ﴿إلّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُفَرَّغًا مِن أوْقاتٍ يَدُلُّ عَلَيْها مَوْقِعُ ”ما“ والتَّقْدِيرُ: لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ في جَمِيعِ الأزْمانِ إلّا زَمانًا تَدُومُ عَلَيْهِ فِيهِ قائِمًا. فَيَكُونُ ما بَعْدَ ”إلّا“ نَصْبًا عَلى الظَّرْفِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا مِن مَصادِرَ يَدُلُّ عَلَيْها مَعْنى ”ما“ المَصْدَرِيَّةِ، فَيَكُونُ ما بَعْدَهُ مَنصُوبًا عَلى الحالِ لِأنَّ المَصْدَرَ يَقَعُ حالًا.
وقَدَّمَ المَجْرُورَ عَلى مُتَعَلِّقِهِ في قَوْلِهِ: ﴿عَلَيْهِ قائِمًا﴾ لِلِاهْتِمامِ بِمَعْنى المَجْرُورِ، فَفي تَقْدِيمِهِ مَعْنى الإلْحاحِ، أيْ إذا لَمْ يَكُنْ قِيامُكَ عَلَيْهِ لا يُرْجِعُ لَكَ أمانَتَكَ.
والإشارَةُ في قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا﴾ إلى الحُكْمِ المَذْكُورِ وهو ﴿إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ وإنَّما أُشِيرَ إلَيْهِ لِكَمالِ العِنايَةِ بِتَمْيِيزِهِ لِاخْتِصاصِهِ بِهَذا الشَّأْنِ العَجِيبِ.
والباءُ لِلسَّبَبِ أيْ ذَلِكَ مُسَبَّبٌ عَنْ أقْوالٍ اخْتَلَقُوها، وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالقَوْلِ، لِأنَّ القَوْلَ يَصْدُرُ عَنِ الِاعْتِقادِ، فَلِذا نابَ مَنابَهُ فَأُطْلِقَ عَلى الظَّنِّ في مَواضِعَ مِن كَلامِ العَرَبِ.
وأرادُوا بِالأُمِّيِّينَ مَن لَيْسُوا مِن أهْلِ الكِتابِ في القَدِيمِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى الأُمِّيِّ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
(p-٢٨٨)وحَرْفُ ”في“ هُنا لِلتَّعْلِيلِ. وإذْ قَدْ كانَ التَّعْلِيلُ لا يَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ، تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضافٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ ”في“ والتَّقْدِيرُ: في مُعامَلَةِ الأُمِّيِّينَ.
ومَعْنى ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ لَيْسَ عَلَيْنا في أكْلِ حُقُوقِهِمْ حَرَجٌ ولا إثْمٌ، فَتَعْلِيقُ الحُكْمِ بِالأُمِّيِّينَ أيْ ذَواتِهِمْ مُرادٌ مِنهُ أعْلَقُ أحْوالِهِمْ بِالغَرَضِ الَّذِي سِيقَ لَهُ الكَلامُ.
فالسَّبِيلُ هُنا طَرِيقُ المُؤاخَذَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ السَّبِيلُ في كَلامِ العَرَبِ مَجازًا مَشْهُورًا عَلى المُؤاخَذَةِ قالَ تَعالى: ﴿ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١] وقالَ: ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ [التوبة: ٩٣] ورُبَّما عَبَّرَ عَنْهُ العَرَبُ بِالطَّرِيقِ قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:
؎وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحَةٍ ∗∗∗ مِنَ السَّرْحِ مَوْجُودٌ عَلَيَّ طَرِيقُ
وقَصْدُهم مِن ذَلِكَ أنْ يُحَقِّرُوا المُسْلِمِينَ، ويَتَطاوَلُوا بِما أُوتُوهُ مِن مَعْرِفَةِ القِراءَةِ والكِتابَةِ مِن قَبْلِهِمْ. أوْ أرادُوا الأُمِّيِّينَ بِمَعْرِفَةِ التَّوْراةِ، أيِ الجاهِلِينَ: كِنايَةً عَنْ كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مِن أتْباعِ دِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ.
وأيًّا ما كانَ فَقَدْ أنْبَأ هَذا عَنْ خُلُقٍ عَجِيبٍ فِيهِمْ، وهو اسْتِخْفافُهم بِحُقُوقِ المُخالِفِينَ لَهم في الدِّينِ، واسْتِباحَةُ ظُلْمِهِمْ مَعَ اعْتِقادِهِمْ أنَّ الجاهِلَ أوِ الأُمِّيَّ جَدِيرٌ بِأنْ يُدْحَضَ حَقُّهُ. والظّاهِرُ أنَّ الَّذِي جَرَّأهم عَلى هَذا سُوءُ فَهْمِهِمْ في التَّوْراةِ، فَإنَّ التَّوْراةَ ذَكَرَتْ أحْكامًا فَرَّقَتْ فِيها بَيْنَ الإسْرائِيلِيِّ وغَيْرِهِ في الحُقُوقِ، غَيْرَ أنَّ ذَلِكَ فِيما يَرْجِعُ إلى المُؤاساةِ والمُخالَطَةِ بَيْنَ الأُمَّةِ، فَقَدْ جاءَ في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ الإصْحاحِ الخامِسَ عَشَرَ: في آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إبْراءً يُبْرِئُ كُلُّ صاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمّا أقْرَضَ صاحِبَهُ. الأجْنَبِيَّ تُطالِبُ، وأمّا ما كانَ لَكَ عِنْدَ أخِيكَ فَتُبْرِئُهُ. وجاءَ في الإصْحاحِ ٢٣ مِنهُ (لا تُقْرِضْ أخاكَ بِرِبا فِضَّةٍ أوْ رِبا طَعامٍ ولِلْأجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرِبًا) ولَكِنْ شَتّانَ بَيْنَ الحُقُوقِ وبَيْنَ المُؤاساةِ فَإنَّ تَحْرِيمَ الرِّبا إنَّما كانَ لِقَصْدِ المُؤاساةِ، والمُؤاساةُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ مَعَ غَيْرِ أهْلِ المِلَّةِ الواحِدَةِ. وعَنِ ابْنِ الكَلْبِيِّ قالَتِ اليَهُودُ: الأمْوالُ كُلُّها كانَتْ لَنا، فَما في أيْدِي العَرَبِ مِنها فَهو لَنا، وإنَّهم ظَلَمُونا وغَصَبُونا فَلا إثْمَ عَلَيْنا في أخْذِ أمْوالِنا مِنهم. وهَذانِ الخُلُقانِ الذَّمِيمانِ اللَّذانِ حَكاهُما اللَّهُ عَنِ اليَهُودِ قَدِ اتَّصَفَ بِهِما كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، فاسْتَحَلَّ بَعْضُهم حُقُوقَ أهْلِ الذِّمَّةِ، وتَأوَّلُوها بِأنَّهم صارُوا أهْلَ حَرْبٍ، في حِينِ لا حَرْبَ ولا ضَرْبَ.
(p-٢٨٩)وقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعالى في هَذا الزَّعْمِ فَقالَ ﴿ويَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّهُمُ ادَّعَوْا أنَّهم وجَدُوا ذَلِكَ في كِتابِهِمْ. ورُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنَّهُ لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٧٥] قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «كَذَبَ أعْداءُ اللَّهِ ما مِن شَيْءٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ إلّا وهو تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ إلّا الأمانَةَ فَإنَّها مُؤَدّاةٌ إلى البَرِّ والفاجِرِ» .
وقَوْلُهُ ﴿وهم يَعْلَمُونَ﴾ حالٌ أيْ يَتَعَمَّدُونَ الكَذِبَ إمّا لِأنَّهم عَلِمُوا أنَّ ما قاسُوهُ عَلى ما في كِتابِهِمْ لَيْسَ القِياسُ فِيهِ بِصَحِيحٍ، وإمّا لِأنَّ التَّأْوِيلَ الباطِلَ بِمَنزِلَةِ العِلْمِ بِالكَذِبِ، إذِ الشُّبْهَةُ الضَّعِيفَةُ كالعَهْدِ.
وبَلى حَرْفُ جَوابٍ وهو مُخْتَصٌّ بِإبْطالِ النَّفْيِ فَهو هُنا لِإبْطالِ قَوْلِهِمْ ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ .
وبَلى غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِجَوابِ اسْتِفْهامِ المَنفِيِّ بَلْ يُجابُ بِها عَنْ قَصْدِ الإبْطالِ، وأكْثَرُ مَواقِعِها في جَوابِ الِاسْتِفْهامِ المَنفِيِّ، وجِيءَ في الجَوابِ بِحُكْمٍ عامٍّ لِيَشْمَلَ المَقْصُودَ وغَيْرَهُ: تَوْفِيرًا لِلْمَعْنى، وقَصْدًا في اللَّفْظِ، فَقالَ ﴿مَن أوْفى بِعَهْدِهِ﴾ أيْ لَمْ يَخُنْ، لِأنَّ الأمانَةَ عَهْدٌ، واتَّقى رَبَّهُ فَلَمْ يَدْحَضْ حَقَّ غَيْرِهِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ﴾ أيِ المَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوى، والمَقْصُودُ نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ ضِدِّ المَذْكُورِ بِقَرِينَةِ المَقامِ.
{"ayahs_start":75,"ayahs":["۞ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمࣰاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلࣱ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ","بَلَىٰۚ مَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ وَٱتَّقَىٰ فَإِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ"],"ayah":"۞ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمࣰاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلࣱ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق