﴿وَمِن أهْلِ الكِتابِ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ خِيانَتِهِمْ في المالِ بَعْدَ بَيانِ خِيانَتِهِمْ في الدِّينِ، والجارُّ والمَجْرُورُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ حَسْبَما مَرَّ تَحْقِيقُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ﴾ إلَخْ... خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ عَلى أنَّ المَقْصُودَ: بَيانُ اتِّصافِهِمْ بِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لا كَوْنُهم ذَواتَ المَذْكُورِينَ، كَأنَّهُ قِيلَ: بَعْضُ أهْلِ الكِتابِ بِحَيْثُ إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ، أيْ: بِمالٍ كَثِيرٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ اسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيٌّ ألْفًَا ومِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ ذَهَبًَا فَأدّاهُ إلَيْهِ.
﴿وَمِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ كَفِنْحاصِ بْنِ عازُوراءَ اسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيٌّ آخَرُ دِينارًَا فَجَحَدَهُ. وقِيلَ: المَأْمُونُونَ عَلى الكَثِيرِ النَّصارى إذِ الغالِبُ فِيهِمِ الأمانَةُ، و الخائِنُونَ في القَلِيلِ اليَهُودُ إذِ الغالِبُ فِيهِمِ الخِيانَةُ.
﴿إلا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أوِ الأوْقاتِ، أيْ: لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ أوْ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا في حالِ دَوامِ قِيامِكَ أوْ في وقْتِ دَوامِ قِيامِكَ عَلى رَأْسِهِ مُبالِغًَا في مُطالَبَتِهِ بِالتَّقاضِي وإقامَةِ البَيِّنَةِ.
﴿ذَلِكَ﴾ إشارَةٌ إلى تَرْكِ الأداءِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يُؤَدِّهِ﴾ وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِكَمالِ غُلُوِّهِمْ في الشَّرِّ والفَسادِ.
﴿بِأنَّهُمْ﴾ أيْ: بِسَبَبِ أنَّهم.
﴿قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ﴾ أيْ: في شَأْنِ مَن لَيْسَ مِن أهْلِ الكِتابِ.
﴿سَبِيلٌ﴾ أيْ: عِتابٌ ومُؤاخَذَةٌ.
﴿وَيَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ بِادِّعائِهِمْ ذَلِكَ.
﴿وَهم يَعْلَمُونَ﴾ أنَّهم كاذِبُونَ مُفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ تَعالى، و ذَلِكَ لِأنَّهُمُ اسْتَحَلُّوا ظُلْمَ مَن خالَفَهم و قالُوا: لَمْ يُجْعَلْ في التَّوْراةِ في حَقِّهِمْ حُرْمَةٌ. وقِيلَ: عامَلَ اليَهُودُ رِجالًَا مِن قُرَيْشٍ فَلَمّا أسْلَمُوا تَقاضَوْهم فَقالُوا: سَقَطَ حَقُّكم حَيْثُ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ، و زَعَمُوا أنَّهُ كَذَلِكَ في كِتابِهِمْ. وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: -عِنْدَ نُزُولِها- « "كَذَبَ أعْداءُ اللَّهِ (p-51)ما مِن شَيْءٍ في الجاهِلِيَّةِ إلّا وهو تَحْتَ قَدَمَيَّ إلّا الأمانَةُ فَإنَّها مُؤَدّاةٌ إلى البَرِّ والفاجِرِ".»
{"ayah":"۞ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمࣰاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلࣱ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}