الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ ومِنهُمْ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ [آل عمران: ٧٥]. في الآيةِ: جوازُ التعاقُدِ بينَ المسلمِ وبينَ الكتابيِّ والمُشرِكِ بالبيعِ والشراءِ والقرضِ والوديعةِ والأمانةِ، ولا خلافَ عندَ العلماءِ في جوازِ المبايعةِ بينَ المسلمِ والكفّارِ المُعاهَدِينَ، وقد تبايَعَ النبيُّ ﷺ مع المشرِكينَ معاهَدِينَ وأهلَ حربٍ، وقد ترجَمَ البخاريُّ في «صحيحِه»: (بابُ الشراءِ والبيعِ مع المشركِينَ وأهلِ الحربِ)، وأَسْنَدَ فيه مِن حديثِ أبي عثمانَ، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيِّ ﷺ، ثمَّ جاءَ رجلٌ مُشرِكٌ مُشْعانٌّ طويلٌ بغَنَمٍ يَسُوقُها، فقال النبيُّ ﷺ: (بَيْعًا أمْ عَطِيَّةً ـ أو قال: ـ أمْ هِبَةً؟)، قال: لا، بل بيعٌ، فاشتَرى منه شاةً[[أخرجه البخاري (٢٢١٦) (٣/٨٠).]]. المبايَعةُ مع الحربيِّين: والبيعُ مع الحَرْبِيِّ على نوعينِ: النوعُ الأولُ: بيعُ منفعةٍ متبادَلةٍ متساويةٍ متقارِبةٍ، كسائرِ البيوعِ في انتفاعِ البائعِ والمُشترِي بالبيعِ بينَهما، واحدٌ ينتفعُ بِالعَيْنِ، والآخَرُ ينتفعُ بالمالِ، وقد يتبايَعانِ عَيْنًا بعَيْنٍ، فإنْ تقارَبا في الانتفاعِ، جازَ، وهذا هو الأصلُ في سائرِ البيوعِ، وقد كان كثيرٌ مِن صناعةِ السلاحِ مِن السيوفِ والرماحِ والألبسةِ في زمنِ النبوَّةِ: مِن صُنْعِ المُحارِبِينَ مِن أهلِ اليمنِ وفارس والرومِ والأقباطِ، قبلَ عهدِ مَن عاهَدَ، وإسلامِ مَن أسلَمَ منهم. وما زالَ صُنْعُ السلاحِ في اليهودِ والنصارى والمشرِكِينَ أكثرَ مِن المسلِمينَ إلى اليومِ، وعندَ المُلْحِدِينَ أكثرُ مِن غيرِهم، وسببُ قوةِ الكفارِ بصناعةِ السلاحِ: أنّهم أحرَصُ الناسِ على الحياةِ، فيُريدونَ الحفاظَ عليها، والمؤمنونَ أحرَصُ الناسِ على الموتِ، فلا يَحرِصونَ على أسبابِ الحياةِ، لهذا ينتصرُ المسلِمونَ بالإقدامِ أكثرَ مِن السلاحِ. وإنْ جازَ هذا النوعُ مِن البيعِ، فمِن بابِ أولى جوازُ البيعِ الذي ينتفِعُ به المسلِمُ أكثرَ مِن الحربيِّ. النوعُ الثاني: بيعٌ ينتفِعُ به الحربيُّ أكثرَ مِن المسلمِ، فهذا أدْناهُ الكراهةُ، وأعلاهُ التحريمُ، وربَّما الكفرُ، فمَن باعَ عليهم شيئًا لا ينتفِعُ به انتفاعًا كبيرًا كمَن يشترِي لنفسِهِ الكماليّاتِ لِيَسُدَّ لهم الحاجيّاتِ والضروريّاتِ، فهذه تقويةٌ لهم، فإنّهم لم يكونوا مُحارِبينَ إلا وقد وجَدُوا مَنَعَةً وقوةً في المالِ، وسدًّا في الحاجةِ، فمَنَعُوا الجِزْيَةَ، واستعَدُّوا للقتالِ، ولو احتاجُوا، لَنَزَلُوا تحتَ حُكْمِ المسلِمِينَ. وبمقدارِ علوِّهم ومَنَعَتِهم بمِثْلِ هذا البيعِ: يزدادُ النهيُ كراهةً فتحريمًا، ومِن أعلى مراتبِ التحريمِ: بيعُهُمُ السلاحَ لِيُقاتِلُوا به المسلِمينَ، فقد يَصِلُ ذلك بصاحِبِهِ إلى الكفرِ، إذا لم يكنْ للمسلِمينَ انتفاعٌ مقبولٌ يُقابِلُ بيعَ السلاحِ، يكونُ أكبرَ مِن انتفاعِ المشركِينَ بالسلاحِ وأعظَمَ. الشراكةُ بين المسلِمِ والكتابيِّ: وقد اختَلَفَ العلماءُ في الشراكةِ بينَ المسلمِ والمُعاهَدِ، مع اتِّفاقِهم على جوازِ البيعِ وصِحَّتِهِ بينَهما، لأنّ الشراكةَ دائمةٌ لا بيعٌ عارِضٌ، اختَلَفُوا في ذلك على أقوالٍ: الأولُ: قال أبو حنيفةَ بعدمِ الجوازِ، وهو قولُ محمدِ بنِ الحسنِ. الثاني: قالوا بالجوازِ إذا كان المسلمُ هو المتصرِّفَ بالبيعِ والشراءِ، وبهذا قال مالكٌ وأحمدُ في روايةٍ، وجوَّزَ الشراكةَ أبو يوسُفَ بلا قيدٍ. قال أحمدُ: يُشارِكُ اليهوديَّ والنصرانيَّ، ولكنْ لا يخلُو اليهوديُّ والنصرانيُّ بالمالِ دُونَه، ويكونُ هو الذي يَلِيهِ، لأنّه يعملُ بالرِّبا. ورواهُ ليثٌ عن عطاءٍ وطاوُسٍ ومجاهدٍ. وليثٌ مع ضعفِه فإنّه إذا روى قولًا عن جماعةٍ فقرَنَهُمْ كطاوسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ يقعُ منه خلطُ قولِ بعضِهم ببعضٍ. الثالثُ: قال الشافعيُّ وأحمدُ في روايةٍ بكراهةِ الشراكةِ مطلقًا. علةُ منعِ الشراكةِ بين المسلم والكافر: ويَظهَرُ أنّ أكثرَ مَن منَعَ مِن الشراكةِ بينَ المسلمِ والكافرِ لم يمنَعْها لِذاتِ الشراكةِ، وإنّما هو لخشيةِ وقوعِه في كسبٍ حرامٍ، ولذا قيَّدُوا جوازَها بكونِ المسلمِ متصرِّفًا، وهذا ظاهرُ قولِ مالكٍ وأحمدَ، ولهذا علَّلَ أحمدُ ذلك بأكلِهمُ الحرامَ، وهذا التعليلُ الذي لأجْلِه نَهى السلفُ عن المشاركةِ كابنِ عباسٍ وابنِ سيرينَ والضحّاكِ والحسنِ، فعن أبي حمزةَ قال: قلتُ لابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: إنّ رجُلًا جلاَّبًا، يجلِبُ الغنمَ، وإنّه لَيُشارِكُ اليهوديَّ والنصرانيَّ؟ قال: لا يُشارِكُ يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مجوسيًّا، قال: قلتُ: لِمَ؟ قال: لأنّهم يربونَ، والرِّبا لا يَحِلُّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٩٩٨٠) (٤/٢٦٨).]]. ولهذا جوَّزُوا أنْ يكونَ التصرُّفُ بيدِ المسلمِ، كما قال ابنُ سيرينَ: لا تُعطِ الذِّمِّيَّ مالًا مُضارَبةً، وخُذْ منه مالًا مضارَبةً، فإذا مرَرْتَ بأصحابِ صَدَقَةٍ، فأَعْلِمْهُم أنّه مالُ ذميٍّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (١٩٩٨٣) (٤/٢٦٩).]]. ومِن هذا تشديدُ أحمدَ في المجوسيِّ أكثرَ مِن الكتابيِّ، لأنّه يُحِلُّ الحرامَ أكثرَ مِن الكتابيِّ، قال: ما أُحِبُّ مُخالطتَهُ ومُعاملتَهُ، لأنّه يَستحِلُّ ما لا يَستحِلُّ هذا. وقال حنبلٌ: قال عمِّي: لا تُشارِكْه ولا تُضارِبْه. ولمّا كان أصلُ التبايُعِ بينَ المسلمِ وغيرِ المسلمِ الحِلَّ، والأدلةُ في ذلك مستفيضةٌ، والشراكةُ إنّما هي بيعٌ وشراءٌ، ولكنَّها اختصَّتْ بالديمومةِ، فالبيعةُ الواحدةُ يقومُ عليها صاحِبُها حتى يقبضَها، وأمّا البيعُ الدائمُ المستمرُّ، فيحصُلُ فيه الغفلةُ والاتِّكالُ وأمنُ الشريكِ، فلا يصحُّ القولُ بتحريمِ الشراكةِ مطلقًا، وإنّما هي على حالتينِ: حالات الشراكة بين المسلِمِ والكافر: الحالةُ الأُولى: إذا كانت يدُ المسلمِ المتصرِّفةَ أو الرقيبةَ على الشراكةِ، فيأمَنُ مِن الحرامِ، فهي جائزةٌ، ولو لم يكنْ متصرِّفًا، بل تكفي رقابتُه وضبطُه لعقودِه ومَداخلِ المالِ عليه ومَخارِجِه منه. وقد لا يكونُ الشريكُ متصرِّفًا، لكنَّه رقيبٌ يَحْسُبُ ويَضبِطُ، فحُكْمُهُ حُكْمُ المتصرِّفِ في الجوازِ، وكلَّما كان جنسُ المَبِيعِ ونوعُه معروفًا، فهذا يدفَعُ ظنَّ التصرُّفِ بالمالِ حرامًا مِن الكافرِ، فالمضاربةُ المُطلَقةُ تَختلِفُ عن المقيَّدةِ، والمُزارَعَةُ تختلِفُ عن غيرِها مِن أنواعِ الشراكةِ، وقد ترجَمَ البخاريُّ في «صحيحِه»، فقال: (بابُ مشاركةِ الذميِّ والمشركِينَ في المُزارَعَةِ)[[«صحيح البخاري» (٣/١٤٠).]]، لأنّ التصرُّفَ في المزارعةِ أضيَقُ مِن المضاربةِ بالمالِ، وقد جاء في «الصحيحِ» جملةٌ مِن الأحاديثِ في مزارعةِ النبيِّ ﷺ مع أهلِ الذمَّةِ، كما في «الصحيحينِ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ وغيرِه. الحالةُ الثانيةُ: إذا كانت يدُ الكافرِ هي المُتصرِّفةَ بلا رقيبٍ مِن المسلمِ على تصرُّفِه، فهذه شراكةٌ لا تجوزُ، لاحتمالِ دخولِ الحرامِ عليه، مِن رِبًا ورِشْوَةٍ وغَرَرٍ وغيرِ ذلك. وتحريمُ الشراكةِ بينَ المسلمِ والكافرِ مطلقًا بلا قيدٍ: مخالفٌ للأدلةِ المستفيضةِ، فالشراكةُ مِن جنسِ البيعِ والشراءِ، ولكنَّها منتظِمةٌ، وفي «الصحيحِ»، عن عائشةَ، قالت: اشتَرى رسولُ اللهِ ﷺ مِن يهوديٍّ طعامًا بِنَسِيئَةٍ، ورَهَنَهُ دِرْعَه[[أخرجه البخاري (٢٠٩٦) (٣/٦٢).]]. وقد أرسَلَ ﷺ إلى آخَرَ يطلُبُ منه ثوبينِ إلى المَيْسَرَةِ[[أخرجه أحمد (٢٥١٤١) (٦/١٤٧)، والترمذي (١٢١٣) (٣/٥١٠)، والنسائي (٤٦٢٨) (٧/٢٩٤).]]. وأكلُهم المعلومُ مباحٌ، فقد أضافَهُ يهوديٌّ بخبزٍ وإهالةٍ سَنِخَةٍ، كما في «المسنَدِ»، و«السُّنَّة»، مِن حديثِ أنسٍ[[أخرجه أحمد (١٣٢٠١) (٣/٢١١).]]، وأصلُهُ في «الصحيح»[[أخرجه البخاري (٢٣٧٣)]] عنه. تصرُّفُ الشريكِ الكافِرِ بمالِ المسلمِ: والتصرُّفُ سواءٌ كان بيدِ المسلمِ أو بيدِ الكافرِ، فهو مِن الوكالةِ بينَهما، ووكالةُ المسلمِ للكافرِ والعكسُ صحيحةٌ في البيوعِ وغيرِها على الأصحِّ، ما لم تتضمَّنْ محرَّمًا كبيعِ الخمرِ، أو إهانةً للمسلمِ وعلوًّا للكافرِ عليه، كشراءِ العبدِ المسلمِ للكافرِ، ولأجلِ هذا خالَفَ أبو يوسفَ أبا حنيفةَ ومحمدَ بنَ الحسنِ تخريجًا على جوازِ الوكالةِ والكفالةِ بينَ الشريكينِ المسلمِ والكافرِ. وإنْ باعَ أو اشتَرى الشريكُ المتصرِّفُ الكافرُ ما هو محرَّمٌ على شريكِهِ المسلِمِ، كالخمرِ والخِنْزِيرِ ـ فَسَدَ البيعُ، وعليه الضمانُ، لأنّ التصرُّفَ وكالةٌ، وعقدُ الوكيلِ يقعُ للموكِّلِ، والمسلمُ لا يَثْبُتُ له مِلْكٌ على الخمرِ والخِنزيرِ، ومِثلُ هذا: الرِّبا والميتةُ. العقودُ المحرَّمةُ بين المسلمِ والكافرِ: وأمّا العقودُ المُحرَّمةُ بينَ المسلِمينَ، فهي محرَّمةٌ بينَ المسلِمينَ وبينَ أهلِ الذمَّةِ في بلادِ المسلِمينَ بلا خلافٍ، نصَّ على الإجماعِ غيرُ واحدٍ كابنِ تيميَّةَ، وكذلك فهي ممنوعةٌ بينَ أهلِ الذمَّةِ أنفسِهم في دارِ الإسلامِ أيضًا بالاتِّفاقِ، وإنّما اختُلِفَ في العقودِ المحرَّمةِ بينَ المسلمِ والكافرِ في دارِ حربٍ إذا دخَلَها المسلمُ بأمانٍ أو غيرِ أمانٍ، إذا كان الانتفـاعُ للمسـلمِ والضررُ على غيرِه، كالرِّبا وبعضِ صُوَرِ الجهالةِ والغَرَرِ، وفي ذلك أقوالٌ: الأولُ: ذهَبَ جمهورُ العلماءِ إلى التحريمِ، وهو قولُ المالكيَّةِ والشافعيَّةِ، والصحيحُ في قولِ الحنابلةِ، وهو قولُ أبي يوسُفَ والأَوْزاعِيِّ، لأنّ تلك المعاملاتِ محرَّمةٌ بعينِها، فلا يجوزُ أنْ تكونَ عليها معاقدةٌ بينَ مسلمٍ ومسلمٍ، ولا مسلمٍ وكافرٍ، ولا أنْ يُؤذَنَ فيها بينَ كافرٍ وكافرٍ، واللهُ حرَّمَ الرِّبا حتى على أهلِ الكتابِ، كما في قولِهِ تعالى: ﴿وأَخْذِهِمُ الرِّبا وقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء: ١٦١]، فلا يجوزُ الإذنُ لهم بما حرَّمَهُ اللهُ عليهم، ولا يجوزُ التعامُلُ معهم بما حرَّمَهُ اللهُ علينا في القرآنِ، وحرَّمَهُ عليهم في التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ. الثاني: ذهَبَ الحنفيَّةُ: إلى جوازِ ذلك إذا كان المنتفِعُ مِن العقدِ المسلمَ، كالدِّينارِ بالدينارَيْنِ آجِلًا، ولا يجوزُ للمسلمِ أنْ يشتريَ منه الدرهمَ بدرهمَيْنِ. ومِن الحنفيَّةِ مَن يُجِيزُهُ بلا قيدِ انتفاعِ المسلمِ بالعقدِ، وبقولِهم يقولُ بعضُ الحنابلةِ كابنِ مُفْلِحٍ، ولكنْ قُيِّدَ بعدمِ وجودِ الأمانِ. ومِن محقِّقي الحنفيَّةِ مَن يَحمِلُ إطلاقاتِ الحنفيَّةِ بالجوازِ على التقييدِ بانتفاعِ المسلمِ مِن الكافرِ، وليس انتفاعَ الكافرِ مِن المسلمِ، كابنِ الهُمامِ وابنِ عابدينَ، وهذا أصحُّ، لأنّ اللهَ حينَما جعَلَ تعاقُدَ المسلِمَيْنِ على أنْ يأكُلَ أحدُهما مالَ الآخَرِ بالرِّبا وشِبْهِهِ ظلمًا وحرامًا، فتعاقُدُ المسلمِ مع الكافرِ على أنْ يأكُلَ الكافرُ مالَ المسلمِ أظهَرُ في التحريمِ على المسلمِ أنْ يأذَنَ بذلك أو يُعاقِدَ عليه. تعامُلُ المسلِمِ بالربا مع الكافِرِ: والأظهرُ: تحريمُ التعاقُدِ بالرِّبا ونحوِه بينَ المسلمِ والكافرِ في دارِ الكفرِ والحربِ، إلا بقيدَيْنِ: الأولُ: أنْ يكونَ الانتفاعُ للمسلمِ، لا للكافرِ. الثاني: أنْ يكونَ قد دخَلَ دارَ الحربِ بغيرِ أمانٍ، فمَن دخَلَها بأمانٍ، حَرُمَ عليه مالُ الكافرِ في تلك الدارِ ودَمُهُ، ومِن صورِ الأمانِ: الوثائقُ والأوراقُ ولو مزوَّرةً مزيَّفةً، لأنّ العِبْرةَ بالظاهرِ، وإذا دخَلَها بغيرِ أمانٍ، فالأصلُ في مالِ الحربيِّ الحِلُّ بغيرِ إذْنِهِ وعِلْمِه، فإذا أخَذَهُ بعِلْمِهِ ولو بعقدٍ أولى. وبغيرِ هذَيْنِ القيدَيْنِ لا يجوزُ التعاقُدُ بالرِّبا ونحوِه، وهو الأَولى أنْ يُحمَلَ عليه القولُ المرويُّ عن أبي حنيفةَ ومَن أطلَقَ إطلاقَه. وأمّا خبرُ مكحولٍ مرسلًا: (لا رِبا بينَ مسلِمٍ وحربيٍّ)، أو (لا رِبا بينَ أهلِ حربٍ)، فلا أصلَ له، وقد قال الشافعيُّ: «ليس بثابتٍ». ويحتجُّ به الحنفيَّةُ في هذا البابِ، ولا أصلَ له حتى عندَ محقِّقيهم مِن أهلِ الحديثِ كالزَّيْلَعِيِّ، ومِن أهلِ الفقهِ كابنِ الهُمامِ. تبايُعُ المسلِمِ والكافِرِ بالخمرِ والخنزير: ولا يدخُلُ في هذا تجويزُ بيعِ الخمرِ ولحمِ الخِنزيرِ عليهم، لأنّ الخمرَ والخِنزيرَ والمَيتةَ محرَّمٌ لِذاتِه وعَينِه على المسلمِ، سواءٌ أخَذَهُ أو أعطاهُ بطِيبِ نفسٍ أو ببيعٍ، أمّا المالُ، فيجوزُ فيه الهِبةُ والعطيَّةُ، فهو لا يحرُمُ لِذاتِه، وإنّما لأنّه أُخِذَ بغيرِ طِيبِ نفسٍ، فالرِّبا أُخِذَ لأنّ المحتاجَ أُلجِئَ إليه، فصارَ أكلًا لمالِه بالباطلِ ولو عاقَدَ عليه برِضاهُ في الظاهرِ، فهو قد أُلجِئَ إليه في الحالِ وتضرَّرَ به في المآلِ بالزيادةِ فيه. روى عبدُ الرزّاقِ وابنُ المنذرِ، عن سُوَيْدِ بنِ غَفَلَةَ، قال: بلَغَ عمرَ بنَ الخطّابِ أنّ عمّالَه يأخُذُونَ الجِزْيَةَ مِن الخَمْرِ، فناشَدَهم ثلاثًا، فقال بلالٌ: إنّهم لَيَفْعَلُونَ ذلك، قال: فلا تفعَلُوا، ولكنْ ولُّوهُم بَيْعَها، فإنّ اليهودَ حُرِّمَتْ عليهم الشحومُ فباعُوها وأكَلُوا أثمانَها[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٩٨٨٦) (٦/٢٣).]]. ومِن الجهلِ تجويزُ سرقةِ المسلمِ مِن الكافرِ في دارِ الحربِ التي دخَلَها بأمانٍ، وتخريجُ ذلك على قولِ أبي حنيفةَ، فهذا لا أعلمُ مَن قال به. وبقولِه تعالى: ﴿ومِنهُمْ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ استدَلَّ بعضُ الحنفيَّةِ على ملازمةِ الغريمِ لغريمِه، وبعضُهم استدَلَّ بها على جوازِ حبسِ المَدِينِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على هذا في البقرةِ عندَ قولِهِ تعالى: ﴿وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [٢٨٠].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب