الباحث القرآني

الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾؛ لَمَّا ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى خيانة أهل الكتاب في الأمور الدينية، ولبسهم الحق بالباطل، وعُتُوِّهم وعنادهم ونفاقهم وتغييرهم للمؤمنين، ذَكَرَ حالَهم في الأمور الدنيوية في المال فقسمهم الله تعالى إلى قسمين فقال: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ وهذا يشمل اليهود والنصارى، وسُمُّوا أهلَ كتاب؛ لأنهم هم الذين عندهم بقايا من الدين النازل على الأنبياء؛ فاليهود عندهم بقايا من التوراة، والنصارى عندهم بقايا من الإنجيل. ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ هنا يجب الإظهار؛ لأن الهمزة همزة قطع فيُقال: ﴿مَنْ إِنْ﴾ خلافًا لما يصدر من بعض الناس حتى من أئمة المساجد فيقول: (مَنِ انْ تأمنْه) هذا خطأ؛ لأنه إذا قال: (مَنِ انْ تأمنه) جعل الهمزة همزةَ وصل، وهي همزة قطع؛ لأنها (إن) الشرطية ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ الخطاب في قوله: ﴿إِنْ تَأْمَنْهُ﴾ يعود على المخاطَب؛ يعني من إن تأمنه أيها المخاطَب ﴿بِقِنْطَارٍ﴾؛ يعني على قنطار ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، والقنطار عبارة عن المال الكثير من الذهب حَدَّهُ بعضُهم بألف دينار، وبعضُهم بملء مَسْكِ الثَّوْرِ -يعني جلدَ الثور- من الدنانير. وعلى كل حال يعني مَن إنْ ائْتَمنه بمال كثير من الذهب يؤدِّه إليك؛ أي: يَرُدُّهُ إليك من غير تغيير ولا نقص، والأداء: هو إبلاغُ الشيء، ومنه: أداءُ الحديث، ومنه: أداء الأمانات؛ أي: إبلاغُها إلى مستحقها. فـ﴿مَنْ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾؛ أي: يعطِهِ إياك سالمًا من كل نقص، وهذا أمين. وفي قوله: ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ قراءتان؛ قراءة بالكسر كسر الهاء ﴿يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾، وقراءة أخرى بالسكون ﴿يُؤَدِّهْ إِلَيْكَ﴾ . ومنهم: القسم الثاني الخائن الذي لا يُؤتمن ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ ﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾؛ نقول فيها كما قلنا في يؤده ﴿لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾؛ أي: ﴿لَا يُؤَدِّهْ إِلَيْكَ﴾ و﴿لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾. ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ﴾؛ والدينار هو الوحدة من النقد الذهبي وهو ما يُسمى عندنا بالجنيه ﴿إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾؛ أي: لا يرده إليك سالمًا بل يَنقصه ويخون فيه ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾؛ يعني إلا إذا بقيت قائمًا عليه مراقبًا له ناظرًا في أحواله، فحينئذٍ تسلم من خيانته؛ أما إذا غفلت أدنى غفلة فإنه سوف يخونك. فقسَّم الله عز وجل أهل الكتاب الآن إلى قسمين: قسم أمين إذا ائتمنته على مال كثير لم ينقصه شيئًا، وإن ائتمنته على المال القليل، لم يَنقص من باب أولى؛ لأنه إذا كان لا ينقص المالَ الكثيرَ شيئًا، مع أن المال الكثير إذا أُخذ منه الشيء القليل لا يتبيَّن، فَائْتِمَانُهُ عند المال القليل من باب أولى. والقسم الثاني: من هو خائن لو ائتمنته على أقل القليل على واحدة من النقود فإنه لا يؤديها إليك، إلَّا إن كنت قائمًا عليه مراقبًا له فحينئذٍ تَسْلَمُ من شره، وإلَّا فإنه يمكن أن يَنقص الواحد من الدنانير، وإن ائتمنته على أقل من دينار.. * الطلبة: لا يؤدِّه. * الشيخ: فكذلك لا يؤدِّهْ، وعلى أكثر؟ * الطلبة: من باب أولى. * الشيخ: من باب أولى. طيب، في هذه الآية من حيث الإعراب أولًا قوله: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ﴾؛ ﴿مَنْ﴾ محلُّها من الإعراب ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ﴾.. * طالب: خبر. * الشيخ: مبتدأ، مبتدأ مؤخر ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ خبر مقدم، وهو اسمٌ موصول (مَنْ) ويحتاج إلى صلة فأين صلته؟ صلته الجملة الشرطية ﴿إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ﴾؛ يعني لا تتم الصلة إلا إذا جاء الشرط وجوابه، فـ﴿إِنْ﴾ شرطية، و﴿تَأْمَنْهُ﴾ فعل الشرط و﴿يُؤَدِّهِ﴾ جواب الشرط، والجملة؟ * الطلبة: صلة الموصول. * الشيخ: صلة الموصول، الجملة صلة الموصول. طيب، ونقول أيضًا في الجملة الثانية ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ إلَّا أَنَّا نقول في الجملة الثانية: ﴿لَا﴾ نافية ﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾ ليست ناهية، نافية بالفاء، و﴿يُؤَدِّهِ﴾ جواب الشرط. طيب، جواب الشرط يحتاج إلى جزم وهنا ﴿يُؤَدِّهِ﴾ الدال مكسورة غير مجزومة؟ نقول: هي.. * طالب: لالتقاء الساكنين. * الشيخ: لا، ما في التقاء ساكنين. نقول: إن هذا الفعل آخره حرف علة والفعل الذي آخره حرف علة يجزم بحذف حرف العلة، وأصل ﴿يُؤَدِّهِ﴾ أصلها: (يؤدِّيه)، فحُذفت الياء من أجل الجزم. وقوله: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ ﴿قَائِمًا﴾ إعرابها؟ * الطلبة: حال. * الشيخ: لا إخواننا! * الطلبة: خبر، خبر (دام). * الشيخ: خبر (دام)؛ لأن دام من أخوات كان ترفع الاسم وتنصب الخبر، فالتاء اسمها فالتاء اسمها، وخبرُها.. * الطلبة: ﴿قَائِمًا﴾. * الشيخ: ﴿قَائِمًا﴾، ثم قال الله عزَّ وجلَّ معلِّلاً خيانتهم للأمانة قال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي ما ذُكر من خيانتهم ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا﴾ الباء هنا للسببية؛ أي أن عدم ائتمانهم بل عدم أمانتهم بأنهم قالوا؛ أي بسبب قولهم: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾؛ الأُميون هم العرب، وسُمُّوا أُميين نسبة إلى الأم، والإنسان الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة ٧٨]؛ يعني لا يعلمونه إلا قراءة، أما الأُمي في الأصل فهو الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ ولهذا كان العرب لا يقرؤون ولا يكتبون إلا بعد أن بُعث الرسول ﷺ فكانت لهم القراءة والكتابة. طيب، ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ مَن؟ * طالب: العرب. * الشيخ: العرب، وسُمُّوا أميين؛ لأنهم لا يقرؤون ولا يكتبون، وقال بعض المفسرين: المراد بالأميين مَن سوى أهل الكتاب، فيكون المراد بالأمي: مَن ليس له كتاب، ويكون هؤلاء اليهود والنصارى يقولون: كل الناس سوى أهل الكتاب ليس علينا فيهم سبيل، لنا أن نظلمهم نأخذَ أموالهم نقتلهم نَسْبِي نساءَهم؛ لأننا نحن المختارون عند الله وغيرُنا عبيدٌ لنا، والإنسان يفعل في عبيده ما شاء؛ ولهذا تقول اليهود: إنهم شعب الله المختار، نعم ولكن الله اختارهم على عالمي زمانهم ولكنهم لم يشكروا هذه النعمة. طيب، قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾؛ ﴿فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ في أموالهم، ولَّا في أموالهم ودمائهم وجميع شؤونهم؟ * الطلبة: (...) * الشيخ: نعم، من نظر إلى سياق الآية وأنها في سياق الائتمان على المال قيَّدَ هذا بأنه ليس علينا في الأميين سبيل فيما يتعلق بأيش؟ * الطلبة: بالمال. * الشيخ: بالمال، ومن نظر إلى العموم قال: إنها تشمل أنهم يدَّعون أنه لا سبيل عليهم في الأُميين في أموالهم ودمائهم، وهذا المعنى أعمّ وإذا كان المعنى أعم واللفظ لا ينافيه فالاختيار أيش؟ * الطلبة: الأعم. * الشيخ: أن تأخذ بالأعم؛ لأن الأعم يشمل الأخص ولا عكس، إذن ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ لا في أموالهم ولا في دمائهم، وقولهم: ﴿سَبِيلٌ﴾ السبيل في الأصل الطريق، والمراد به هنا اللوم؛ يعني ليس علينا سبيل في اللوم أو سبيل إلى اللوم؛ أي أننا لا نُلام ولا نُذَم ولا نأثم فيما يتعلق بمن؟ * الطلبة: الأميين. * الشيخ: في الأميين، طيب هذا القول الذي يقولونه ليسوا ينسبونه لأنفسهم وأنهم هم الذين أباحوا لأنفسهم الاعتداء على الأميين، وإنما يجعلون هذا شرعًا من عند الله يقولون: إن الله أباح لنا ذلك ولم يجعل علينا سبيلًا فيما يتعلق بالأميين؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، ﴿يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾؛ أي أنهم يكذبون على الله ويفترون على الله ويدَّعُون هذا شرعًا من الله وهم يعلمون أن الله حرَّم عليهم أكلَ أموال الناس بالباطل ودماءَ الناس وأعراضَهم، يعلمون هذا لكنهم يكذبون على الله. الإعراب: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾؛ قلنا: إن الباء.. * الطلبة: للسببية. * الشيخ: للسببية، طيب وقوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ﴿سَبِيلٌ﴾ مرفوعة.. * الطلبة: اسم ليس. * الشيخ: على أنها اسم ليس، ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ ﴿الْكَذِبَ﴾ مفعول ﴿يَقُولُونَ﴾، وقيل: إنه صفة لمصدر محذوف تقديره؟ * طالب: القول. * الشيخ: القول الكذب، يقولون على الله القول الكذب، طيب، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلِّق بـ﴿يَقُولُونَ﴾، ولكنَّنا نقول: إنه إذا كان متعلِّقًا بـ﴿يَقُولُونَ﴾ فإن ﴿يَقُولُونَ﴾ هنا مُضَمَّنَةٌ معنى (يفترون)، فـ﴿يَقُولُونَ﴾: أي يفترون على الله الكذب، ويمر علينا كثيرًا في القرآن الكريم مثل هذا التعبير ﴿يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النساء ٥٠]. طيب، التضمين مرَّ علينا أظن ولا أدري هل تذكرون ذلك أم لا؟ أن التضمين مختلَفٌ فيه هل نُضَمِّنُ الفعلَ معنًى يناسب المعمول أو أننا نجعل التضمين في الحرف مثلًا؟ وسبق لنا أن القول الراجح: أننا نُضَمِّنُ الفعلَ معنًى يناسب الحرف، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان ٦]. * الشيخ: معنا؟ * طالب: إي نعم. * الشيخ: من أبرز المثال على ذلك قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ العين هل هو يُشرب بها ولَّا يُشرب بالكأس؟ * الطلبة: بالكأس. * الشيخ: بالكأس، هه، ولا بالعين؟ * الطلبة: بالكأس. * الشيخ: بالكأس، الإنسان إذا جلس على النهر يشرب ما هو بيشيل النهر يشرب، وإنما يشرب بالكأس من النهر، أليس كذلك؟ * الطلبة: بلى. * الشيخ: طيب، بعض العلماء قال: إن (الباء) في قوله: ﴿يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ بمعنى (مِن)، الباء بمعنى مِن؛ أي: يَشرب منها، وعلى هذا القول تكون ﴿يَشْرَبُ﴾ على ظاهرها من الشُّرب. وبعضهم قال: بل إن ﴿يَشْرَبُ﴾ بمعنى يَرْوَى، وعلى هذا فالباء للسببية وليست بمعنى مِن؛ أي عينًا يَرْوَى بها عبادُ الله. وهذا المعنى أصح؛ لأنه إذا ضُمِّنت ﴿يَشْرَبُ﴾ معنى يروى فإنه لا رِيَّ إلا بعد شُرْب، إلا بعد شُرْب، وعلى هذا يكون الفعل يروى دالًّا على معنى الشرب، ويش بعد؟ * الطلبة: وزيادة. * الشيخ: وزيادة، لكن إذا قلت: ﴿يَشْرَبُ﴾ على ظاهرها والباء بمعنى (مِن) لم نستفد هذه الفائدة وهي الرِّيُّ، إي نعم، طيب إذن ﴿يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ﴾ نقول: ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلِّق بأيش؟ بـ﴿يَقُولُونَ﴾ على أنها مضمَّنة معنى (يفترون) وقولهم: ﴿يَعْلَمُونَ﴾ الجملة حال من الواو في قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾؛ يعني يقولون وهم يعلمون أنهم كاذبون فيكون قولُهم أشدَّ من قول من يقول الكذب وهو لا يعلم أنه كذب. ثم قال الله عز وجل: ﴿بَلَى﴾ بلى: حرف إبطال في هذا المقام أو في هذا السياق لِمَا قالوه وهو ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾؛ أي: بلى عليهم سبيل؛ لأنهم إذا خانوا الأمانة فإن عليهم السبيل، كل مَن خان أمانته؟ * طالب: عليه السبيل. * الشيخ: فعليه السبيل، هم أو غيرهم، فيكون قوله: ﴿بَلَى﴾ حرفٌ جِيء به لإبطال ما ادَّعَوْهُ في قولهم: * الطلبة: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾.. * الشيخ: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ طيب، ثم قال: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾؛ ﴿مَنْ﴾ الجملة هذه استئنافية ويأتي إعرابُها في آخر الكلام على الآية. ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾؛ ﴿أَوْفَى﴾ بمعنى أتَمَّ فهي فعل ماض وليست اسمَ تفضيل، يعني أتم بعهده؛ أي بما عاهد عليه غيرَه واتقى الله في هذا الإيفاء ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. طيب قوله: ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ نحن قلنا: ﴿بِعَهْدِهِ﴾؛ أي: بالعقد الذي عاقد عليه، وهل العقد عهد؟ نعم العقد عهد، فإن المتعاقديْن يُعاهد كل واحد منهما الآخر على إتمام ما تَمَّ العقدُ عليه وإن لم يُذكر العهد باللفظ لكن هذا مقتضى العقد، مقتضى العقد أني إذا تعاقدت معك أن أُوفي لك بما تم العقد عليه فيكون كل عقد أيش؟ * الطلبة: عهد. * الشيخ: عهدًا. طيب، قال: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾؛ أي: بما عاهد عليه غيرَه من العقود وغيرها، ومنه الأمانة إذا ائتمنتُك على شيء فقد عاهدتُك على حِفظه. طيب وقوله: ﴿وَاتَّقَى﴾ اتقى مَن؟ * الطلبة: اتقى الله. * الشيخ: اتقى الله؛ بوفائه بالعهد، ومن اتقاء الله اتقاءُ الخيانة، ألَّا يخون، والتقوى مأخوذة من الوقاية، وهي اسم جامع لفعل ما أمر الله به واجتنابِ ما نهى عنه، هذه التقوى، اسم جامع لفعل ما أمر الله به، أتِمَّ. * الطلبة: واجتناب ما نهى عنه.. * الشيخ: واجتناب ما نهى عنه. فإن ذُكِرَتْ مع البِر اختصَّت بالمناهي، واختص البر بالأوامر، كقوله: ﴿تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢]؛ أي على فعل الأوامر واجتناب النواهي، أما إذا ذُكرت التقوى وحدَها، فهي شاملة لفعل الأوامر واجتناب النواهي. إذن التقوى اسمٌ جامع لفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه ولفظها يدل على هذا؛ لأنها مأخوذة من الوقاية، ولا وقاية من عذاب الله إلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذه هي التقوى. وقال بعض العلماء: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثوابَ الله؛ فجَمَع بين العلم والعمل والاحتساب؛ أن تعمل بطاعة الله هذا أيش؟ العمل. على نور من الله؟ * الطلبة: عِلم. * الشيخ: العلم. ترجو ثواب الله؟ * الطلبة: احتساب. * الشيخ: الاحتساب. وأن تترك ما نهى الله على نور من الله تخشى عقاب الله؛ أيضًا جمع بين العلم والعمل والاحتساب، وقال آخرون في تعريف التقوى: ؎خَـــــلِّ الذُّنُـــــــوبَ صَغِيرَهَـــــــــا ∗∗∗ وَكَبِيرَهَــــــــــــــا ذَاكَالتُّقَــــــــــــــــــــى؎وَاعْمَــــــــلْ كَمَـــــــاشٍ فَـــــــــــوْقَ ∗∗∗ أَرْضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى؎لا تَحْقِـــــــــــــــرَنَّصَغِيــــــــــــــــــــــــرَةً ∗∗∗ إِنَّ الْجِبَــــــالَ مِــــــنَالْحَصَـــــــــــىوهذا أيضًا لا يُنافي ما سبق، لكن اختلاف تعبير، الاختلاف في التعبير. طيب، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ هنا قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ ولم يقل: فإن الله يحبه، ومثل هذا التعبير يُسمى الإظهار في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار له فوائد، منها: تنبيه المخاطَب، تنبيه المخاطَب؛ ووجهُ ذلك أن الكلام إذا كان على نسق واحد لم يكن فيه ما يستدعي الانتباه، أليس كذلك؟ ولهذا يمشي المخاطَب أو المتكلِّم ما يكون في كلامه ما يستدعي الانتباه، فإذا تغيَّر الأسلوب وجاء الاسم مظهرًا في موضع الإضمار فإن الإنسان ينتبه لأيش ما قال: فإن الله يحبك؟ ثانيا: أن في الإظهار في موضع الإضمار التعليل للحكم الذي جاء فيه الإظهار في موضع الإضمار؛ وذلك أن قوله: فإن الله يحبه ليست في إظهار العلة كقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾؛ لأنه إذا قال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ لماذا؟ لتقواهم فأفاد العلة. ثالثا: أنها تفيد التعميم؛ أي: كل من يعمه هذا المظهر، واقرأ قول الله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٩٨]. ولم يقل: فإن الله عدو له؛ لأجل أن يشمل كلَّ كافر سواء كان كفره بهذه العداوة أو بغيرها، فيكون في هذا تعميم الحكم. طيب، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ نأخذ الفوائد من هذه الآيات: طيب، من هذه الآيات بيان أن أهل الكتاب انقسموا في الأمانة إلى قسمين: * طالب: الإعراب يا شيخ؟ * الشيخ: نعم نعم الإعراب، طيب: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى﴾ ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾؛ ﴿مَنْ﴾ هذه اسم شرط جازم، و﴿أَوْفَى﴾ * الطلبة: فعل الشرط. * الشيخ: فعل الشرط، ﴿وَاتَّقَى﴾ معطوف عليه، وجملة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.. * طالب: جواب الشرط. * الشيخ: جواب الشرط. ولكن قد تقول: لماذا اقترن جوابُ الشرط بالفاء مع أن الشرط في قوله: ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ﴾ و﴿لَا يُؤَدِّهِ﴾ ليس فيها فاء؟ والجواب على ذلك أن نقول: إذا كان جواب الشرط لا يصلح أن يكون فعلا للشرط وجب اقترانه بالفاء، عرفتم؟ * طالب: نعم. * الشيخ: إذا كان جواب الشرط لا يصلح أن يكون فعلًا للشرط وجب اقترانه بالفاء؛ قال ابن مالك: ؎وَاقْرِنْ بِفَا حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ∗∗∗ شَرْطًا لِـ(إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا لَمْيَنْجَعِلْ هذا الضابط إذا كان جواب الشرط لا يصلح أن يكون فعلًا للشرط وجب اقترانُه بالفاء. هذا هو الضابط وتفصيل هذا الضابط مذكور في البيت المشهور: ؎اسْمِيَّــــــــــــةٌ طَلَبِيَّــــــــــــةٌوَبِجَامِـــــــــــــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَــــا وَلَـــنْ وَبِقَــــدْوَبِالتَّنْفِيـــــــــــــــسِ هذه سبعة مواضع. فإذا جاء جوابُ الشرط أحدَ هذه السبعة وجب اقترانه بالفاء. الجملة هنا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ طلبية؟ * الطلبة: اسمية. * الشيخ: اسمية صحيح؛ لأن ﴿اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ مبتدأ وخبر لكنه منسوخ بـ(إن)، فالجملة هنا اسمية. هذه الآيات من فوائدها: أولًا: بيان انقسام أهل الكتاب إلى قسمين؛ أمين وخائن. كما انقسموا إلى قسمين: مؤمن وكافر؛ فمثلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان من أحبار اليهود ومَنَّ الله عليه بالإسلام فأسلم، كذا؟ وكعب بن الأشرف من أشراف اليهود ولكنه بقي على كفره فلم يؤمن. فهم كما انقسموا إلى كافر ومؤمن انقسموا أيضًا إلى خائن وأمين. طيب، ولقد آمنَ النبيُّ ﷺ اليهودَ. و«مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ»[[أخرجه البخاري (٢٩١٦) من حديث عائشة.]]. وهذا يدل على أن من اليهود مَن هو أمين وإلَّا كيف الرسول ﷺ يرهن الدرع وهو من آلات الحرب عند هذا الرجل اليهودي؛ لكنه كان أمينًا. * من فوائد الآية: أنه يجب الحذر من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ لأنهم ما داموا ينقسمون إلى قسمين فإننا لا ندري حين نعاملهم من أي القسمين هؤلاء؟ فيجب علينا الحذر لا سيما إذا تبيَّن لنا أنهم خونة أهل غدر، وأنهم لا يسعون لمصالحنا أبدًا كما هو الواقع، فإن الواقع في الوقت الحاضر أنَّ اليهود والنصارى لا يسعون أبدًا لصالح المسلمين، بل يسعون.. * الطلبة: لازدراء المسلمين.. * الشيخ: للإغرار بالمسلمين والإفساد عليهم، حتى إنهم إذا رأوا الدولة متجهة للإسلام من دول المسلمين فإنهم يحاولون إسقاطها والتضييق عليها من الناحية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وهذا شيء يعرفه كل من تدبر وتأمل في الحوادث اليوم. إذن يجب علينا أن نحذر غاية الحذر من اليهود والنصارى، وأن نعلم أن اليهود والنصارى كل واحد منهم وليٌّ للآخر كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة ٥١]. مهما طال الأمد فهم أولياء ضد عدوٍّ مشترك وهم؟ * الطلبة: المسلمون. * الشيخ: المسلمون، إي نعم. * ومن فوائد هذه الآية: جواز الاقتصار على المثال ليقاس عليه ما يشبهه؛ لأنه قال: قنطار ودينار. طيب ولو ائتمنته على سيارة أو على لعبة صبي، مثلُها؟ * الطلبة: مثلها طبعًا. * الشيخ: نعم، من أهل الكتاب من إن تأمنه بلعبة صبي لا يؤدها إليك إلا ما دمت عليه قائمًا، ومنهم من إن تأمنه على السيارة نعم، ويرُدُّها إليك سالمة؛ لكن ذكر الله الدينار والقنطار على سبيل التمثيل. * ومن فوائد هذه الآيات: إعجاب أهل الكتاب بأنفسهم واحتقارهم لغيرهم؛ لأنهم قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ وهذا يدل على العُجب بالنفس واحتقار الغير. * ومن فوائدها: أن أهل الكتاب لا يقتصرون على الظلم والعدوان ويجعلون ذلك من تلقاء أنفسهم، بل ينسبونه إلى شريعة الله؛ ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ فهم يقولون على الله الكذب في هذا وفي غيره. * ومن فوائد هذه الآيات: أنَّ مَن افترى الكذب على الله فيما يفتي به أو يحكم به بين الناس، ففيه شَبَهٌ بِمَنْ؟ باليهود والنصارى، فيه شبه باليهود والنصارى، وقد وجد في هذه الأمة من يفتري الكذب على الله سواءٌ في الحكم بين الناس أو في الفتوى التي ليست بحكم ولكنها إخبار عن الشرع. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من افترى على الله الكذب وهو يعلم، أشدُّ إثمًا وعدوانًا ممَّن لا يعلم، وإن كان كلٌّ منهم على خطأ لكن ليس المتعمِّد كغير المتعمِّد؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[[أخرجه البخاري (١٢٩١)، ومسلم (٤ / ٤) في المقدمة من حديث المغيرة بن شعبة.]]. * ومن فوائد ذلك: الإشارة إلى أن الجهل المركب أقبح من الجهل البسيط، ما وجه ذلك؟ * الطلبة: (...). * الشيخ: لأن الذي يكذب وهو يعلم، أقبح من الذي يكذب ولا يعلم؛ فالجاهل المركب الذي يتقدم بالشيء وهو يعرف أنه ليس عنده علم، أقبح من الشخص الذي يرى أن هذا هو العلم. * ومن فوائد الآيات: الثناء على المُوفِين بالعهد، كقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. * ومن فوائدها: أن الوفاء بالعهد من أسباب محبة الله؛ لقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن تقوى الله عمومًا سبب أيش؟ لمحبته. * ومن فوائد الآيات: الرد على الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل الذين أنكروا محبة الله، وقالوا: إنه لا يجوز أن تثبت أن الله يحب؛ إذا أثبت أن الله يحب فقد وصفت الله بالنقص والعيب؛ لأن هذا من خصائص المحدثات؛ ولأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين متناسبين، فكيف تثبت أن الله يحب؟ أثبتها الله لنفسه. قالوا: ليس المراد بإثبات المحبة نفس المحبة، المراد بذلك لازمها وهو الإثابة، فمعنى ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ يعني يثيب المتقين، أما أن يكون يحبهم فكلَّا وبل لا؛ العلة؟ قالوا: * طالب: المحبة بين شيئين.. * الشيخ: لا تكون المحبة إلا بين شيئين متناسبين؛ ولأن المحبة من سمات الْمُحْدَثِين فلا تليق بالله عزوجل، ولكننا نقول: هذا تحريف للكلم عن مواضعه؛ لأن النصوص لا تكاد تُحصى في إثبات محبة الله، وأنه يُحِب ويُحَب ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة ٥٤]. والمحبة غير الثواب، إذا أحبَّ اللهُ العبدَ أثابه؛ فالإثابة مِن لازم المحبة. وقولهم: إنها لا تكون إلا بين متناسبين، هذا غير صحيح؛ فقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال في أُحُد: «جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٨١)، ومسلم (١٣٩٢ / ٥٠٣) من حديث أبي حميد الساعدي، والبخاري (٣٣٦٧)، ومسلم (١٣٦٥ / ٤٦٢) من حديث أنس بن مالك.]] وأين المناسبة بين البشر والجبل؟ وثبت بالواقع المحسوس أن بعض الحيوان يحب البشر؛ فالناقة تحب صاحبها وتأتي إليه من بين الناس تَبْرُك عنده، نعم، ولو جاء أحد غير صاحبها لَنَفَحَتْهُ برِجلها أو عضَّته بفمها لكن صاحبها تَحِنُّ إليه وتجلس عنده، وإذا سمعت صوته وإن لم تَرَهُ حنَّت، وكذلك بقية الحيوان شيء مشاهد وهذا محبة؛ الآن الهرة تحب بعض أهل البيت دون بعض، إذا جاء أحد أهل البيت الذين لا تحبهم هربت وكشَّت عليه، نعم، وإذا جاء الذي تحب دَنَتْ منه وجعلت تتمسح به، وهذا شيء مشاهَد؛ ما الذي جعلها تتمسح بهذا وتهاديه وتجلب وُدَّه، والثاني تهرب منه وتعاتبه؟ * طالب: المحبة. * الشيخ: المحبة، ما فيه شك هذا شيء مشاهد. فدعواهم الآن بأن المحبة لا تكون إلا بين شيئين يكذبها السمعُ والواقعُ؛ السمع لقول النبي ﷺ في أحد: «جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٨١)، ومسلم (١٣٩٢ / ٥٠٣) من حديث أبي حميد الساعدي، والبخاري (٣٣٦٧)، ومسلم (١٣٦٥ / ٤٦٢) من حديث أنس بن مالك.]]. والواقع ما يحتاج إلى إقامة بينة؛ لأن كل أحد يعرفه. ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. ثم قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ جاء الوقت؟ * طالب: في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ هذا للتقليل؟ * الشيخ: هه؟ * الطالب: للتقليل هذا؟ * الشيخ: لا، هذه للتبعيض. * الطالب: أي بعضهم.. * الشيخ: بعضٌ منهم نعم، والبعض الآخر ﴿مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾. طيب فيه في الحقيقة في فائدة في الآية وهو أنه ينبغي مراقبة الخائن والقيام عليه؛ فإذا أعطيتَ مالَكَ مَن ليس بأمين فإنه ليس من الحزم ولا من العزم أن تَدَعَهُ، بل احترز منه، وإذا كان هذا في الائتمان على الأموال فالائتمانُ على الأعراض من باب أولى؛ ولهذا حذَّر النبي ﷺ من الدخول على النساء وقال: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْحَمُو؟ قَالَ: «الْحَمُو الْمَوْتُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢٣٢)، ومسلم (٢١٧٢ / ٢٠) من حديث عقبة بن عامر الجهني.]]. فكل شيء تخشى منه تضييعَ الأمانة، فاحرِص على أن تكون مراقبًا عليه وقائمًا عليه؛ ولهذا قال: ﴿إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾. * الطالب: الآن تأتي بعض الدعوات بالدعوة إلى الأمية يُخرجون أولادهم من المدارس وكذا، يحتجون بالأميات هذه الذي ذُكِر في القرآن؟ * الشيخ: أيش لون؟ * الطالب: أقول: فيه دعوات، ليست يعني منتشرة وليست قوية، في الاحتجاج بالأمية نحن أمة أمية، فهل هذه تزكية؟ أمية.. * الشيخ: لا، ما هي تزكية، الأمية عيب ذكرها الله تعالى بصفة القدح فقال: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾، وأشار إليها أيضًا في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة ٢]. والضلال لا أحد يرى أنه مدح، لكنها بالنسبة للرسول ﷺ تزكيةٌ؛ لأن كونَه أُمِّيًّا ويأتي بهذا الكتاب العظيم يدل على أنه صادق؛ لأن الأمي لا يمكن أن يأتي بمثل هذا الكتاب كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت ٤٨]. ونحن «أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ» كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بعد أن فتح الله علينا وآتانا العلم والحكمة صرنا أمة علمية لا أمة أمية. إذا قال قائل: هذا ينتقض عليك؛ لأن الرسول قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩١٣)، ومسلم (١٠٨٠ / ١٥) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب.]] في المدينة بعد أن نزل عليه الكتاب؟ نقول: نعم، هو قاله باعتبار الهلال، باعتبار الهلال؛ ونحن باعتبار الهلال حتى بعد الفتوحات أمة أمية لا ندري عن حساب الأهلة ولا نعرفها، إي نعم. * الطالب: المعنى الثاني، تفسير أُمِّيِّين المعنى الثاني الذي قلت، له وجه؟ * الشيخ: له وجه؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ يحكي عن أهل الكتاب؛ لأنهم لا يعرفون الكتاب إلا أمانيَّ؛ إلا قراءة، وهذه فيها، انتبه، إن فيها ذم للذين يعتنون باللفظ القرآني ويغفُلون عن المعنى؛ بعض الناس يعتني بألفاظ القرآن وتجده يصل إلى حد الوسواس في إظهار بعض الحروف بناءً على أنه يريد أن يظهرها على حسب التجويد أو قواعد التجويد عندهم، لكنهم في المعنى.. * الطلبة: لا يعرفونه.. * الشيخ: لا يعرفونه، لا يعتنون به إطلاقًا فهم أميون؛ ولهذا أنكر شيخ الإسلام رحمه الله على مثل هؤلاء الذي يبالغون في إظهار الحروف وصفات الحروف وهم غافلون عن معاني القرآن. * * * * طالب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)﴾ [آل عمران ٧٧ - ٨١]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أظن أن ما سبق قد أخذنا فوائده؟ * الطلبة: نعم، ما انتهينا يا شيخ. * الشيخ: ما انتهينا؟ إلى؟ * الطلبة: (...) ينبغي معاقبة الخائن، هذه آخر فائدة. * الشيخ: إي نعم، طيب، من فوائد الآيات السابقة وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾. * من فوائدها: أن هؤلاء الخونة من اليهود عندهم ما يُلَبِّسُون به باطلهم في قولهم: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾. * ومن فوائدها: بيان ما كان عليه اليهود من إعجابهم بأنفسهم واحتقارهم لعباد الله. * ومن فوائدها: أن هؤلاء اليهود يقولون على الله الكذب فيفترونه وهم كاذبون، وهذا أسوأ ممن يقول الكذب وهو جاهل. * ومن فوائدها: أن اليهود وغيرهم سواء؛ في أن كل من اعتدى على أحد فعليه السبيل؛ ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ وهو يدل على أن الأميين وغيرهم سواء في تحريم الاعتداء عليهم. * ومن فوائد الآيتين: أن هؤلاء اليهود عليهم السبيل في الأميين سواء اعتدوا على دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم؛ لقوله تعالى: ﴿بَلَى﴾؛ أي عليهم سبيل في الأميين، كما أن عليهم سبيلًا فيما لو اعتدى بعضهم على بعض. * ومن فوائدها: أن الوفاء بالعهد والتقوى من أسباب محبة الله؛ لقوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾. ومن فوائدها: إثبات محبة الله؛ لقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، فإذا كان الله تعالى يحب المتقين فيتفرع على ذلك فائدة أخرى وهي: الحث على تقوى الله؛ لأن كل إنسان يحب أن يحبه الله عز وجل؛ فإذا أردت ذلك فما عليك إلا أن تقوم بتقوى الله. محبة الله سبحانه وتعالى متعلقة بالعامل، ومتعلقة بالعمل، ومتعلقة بالزمن، ومتعلقة بالمكان؛ متعلقة بالعامل كما في هذه الآية: ﴿يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ وكما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ [الصف ٤]، وكما في قوله: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة ١٩٥]. متعلقة بالعمل: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢٧)، ومسلم (٨٥ / ١٣٩) من حديث عبد الله بن مسعود.]]. متعلقة بالزمن «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشَرَ»[[أخرجه أبو داود (٢٤٣٨)، والترمذي (٧٥٧)، وابن ماجه (١٧٢٧) من حديث ابن عباس، وأصله في البخاري (٩٦٩).]]. وقد يقال: إن هذا متعلق بالعمل لا بالزمن. متعلقة بالمكان: كمحبة الله سبحانه وتعالى لمكة كما جاء عن النبي ﷺ أنه قال فيها: «إِنَّكِ لَأَحَبُّ الْبِقَاعِ إِلَى اللَّهِ»[[أخرجه البزار (٤٦٩٠، ٥٠٩٥) من حديث ابن عباس بلفظ: «إِنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ»، وأصله في الترمذي (٣٩٢٦).]]. فمحبة الله إذن متعلقة بالعامل، والعمل، والزمان، والمكان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب