قوله عزّ وجلّ:
﴿قُلْ إنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: ٧٣] ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ ﴿وَمِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ ومِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾
فِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ [آل عمران: ٧٣] إلى قَوْلِهِ: "العَظِيمِ" تَكْذِيبٌ لِلْيَهُودِ في قَوْلِهِمْ: "نُبُوءَةُ مُوسى مُؤَبَّدَةٌ، ولَنْ يُؤْتِيَ اللهُ أحَدًا مِثْلَ ما آتى بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ النُبُوَّةِ والشَرَفِ"، وسائِرُ ما في الآيَةِ مِن لَفْظَةِ "واسِعٌ" وغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن أهْلِ الكِتابِ أنَّهم قِسْمانِ في الأمانَةِ، ومَقْصِدُ الآيَةِ ذَمُّ الخَوَنَةِ مِنهُمْ، والتَفْنِيدُ لِرَأْيِهِمْ وكَذِبِهِمْ عَلى اللهِ في اسْتِحْلالِهِمْ أمْوالَ العَرَبِ. وفي قِراءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ "تِيمَنهُ" بِتاءٍ وياءٍ في الحَرْفَيْنِ وكَذَلِكَ: "تِيمَنّا" في يُوسُفَ، قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِي: وهي لُغَةُ تَمِيمٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وما أراهُ إلّا لُغَةً قُرَشِيَّةً، وهي كَسْرُ نُونِ الجَماعَةِ كَنِسْتَعِينَ، وألِفِ المُتَكَلِّمِ كَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: لا إخالُهُ، وتاءِ المُخاطَبِ كَهَذِهِ الآيَةِ، ولا يَكْسِرُونَ الياءَ في الغائِبِ وبِها قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ في "تِيمَنّا" وابْنُ مَسْعُودٍ والأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ وابْنُ وثّابٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في القِنْطارِ في صَدْرِ السُورَةِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ، "يُؤَدِّهِ إلَيْكَ" بِكَسْرِ الهاءِ الَّتِي هي ضَمِيرُ القِنْطارِ، وكَذَلِكَ (p-٢٦٠)فِي الأُخْرى الَّتِي هي ضَمِيرُ الدِينارِ، واتَّفَقَ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وعاصِمٌ والأعْمَشُ عَلى إسْكانِ الهاءِ، وكَذَلِكَ كُلُّ ما أشْبَهَهُ في القُرْآنِ، نَحْوُ: "نُصْلِهْ جَهَنَّمَ" و"نُؤْتِهْ" و"نُوَلِّهْ" إلّا حَرْفًا حُكِيَ عن أبِي عَمْرٍو أنَّهُ كَسَرَهُ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَألْقِهْ إلَيْهِمْ﴾ [النمل: ٢٨]. قالَ أبُو إسْحاقَ: وهَذا الإسْكانُ الَّذِي رُوِيَ عن هَؤُلاءِ غَلَطٌ بَيِّنٌ لِأنَّ الهاءَ لا يَنْبَغِي أنْ تُجْزَمَ، وإذا لَمْ تُجْزَمْ فَلا يَجُوزُ أنْ تُسَكَّنَ في الوَصْلِ. وأمّا أبُو عَمْرٍو فَأراهُ كانَ يَخْتَلِسُ الكَسْرَةَ فَغَلِطَ عَلَيْهِ، كَما غَلِطَ عَلَيْهِ في "بارِئِكُمْ" وقَدْ حَكى عنهُ سِيبَوَيْهِ -وَهُوَ ضابِطٌ لِمِثْلِ هَذا- أنَّهُ يَكْسِرُ كَسْرًا خَفِيفًا.
والقِنْطارُ في هَذِهِ الآيَةِ: مِثالٌ لِلْمالِ الكَثِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ أكْثَرُ مِنَ القِنْطارِ وأقَلُّ، وأمّا الدِينارُ فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، مِثالًا لِما قَلَّ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ طَبَقَةً لا تَخُونُ إلّا في دِينارٍ فَما زادَ، ولَمْ يُعْنَ لِذِكْرِ الخائِنِينَ في أقَلَّ إذْ هم طَغامٌ حُثالَةٌ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "دُمْتَ" بِضَمِّ الدالِ، وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ السُلَمِيُّ وابْنُ أبِي لَيْلى والفَيّاضُ بْنُ غَزْوانَ وغَيْرُهُمْ: "دِمْتَ" "وَدِمْتُمْ" بِكَسْرِ الدالِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، قالَ أبُو إسْحاقَ: مِن قَوْلِهِمْ: دِمْتَ، تَدامُ مِثْلُ نِمْتَ، تَنامُ، وهي لُغَةٌ. ودامَ مَعْناهُ: ثَبَتَ عَلى حالٍ ما، والتَدْوِيمُ عَلى الشَيْءِ الِاسْتِدارَةُ حَوْلَ الشَيْءِ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُمَّةِ.(p-٢٦١)
؎ .......................... والشَمْسُ حَيْرى لَها في الجَوِّ تَدْوِيمُ.
والدُوامُ: الدُوارُ يَأْخُذُ في رَأْسِ الإنْسانِ فَيَرى الأشْياءَ تَدُورُ لَهُ، وتَدَوُّرُ الطائِرِ في السَماءِ، وهو ثُبُوتُهُ إذا صَفَّ واسْتَدارَ، والماءُ الدائِمُ وغَيْرُهُ هو الَّذِي كَأنَّهُ يَسْتَدِيرُ حَوْلَ مَرْكَزِهِ.
وقَوْلُهُ: "قائِمًا" يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ، قالَ الزَجّاجُ وقَتادَةُ ومُجاهِدٌ: مَعْناهُ: قائِمًا عَلى اقْتِضاءِ دَيْنِكَ؛.
يُرِيدُونَ بِأنْواعِ الِاقْتِضاءِ مِنَ الحَفْزِ والمُرافَعَةِ إلى الحُكّامِ، فَعَلى هَذا التَأْوِيلِ لا تُراعى هَيْئَةُ هَذا الدائِمِ، بَلِ اللَفْظَةُ مِن قِيامِ المَرْءِ عَلى أشْغالِهِ، أيِ اجْتِهادُهُ فِيها. وقالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ: "قائِمًا" في هَذِهِ الآيَةِ مَعْناهُ: قائِمًا عَلى رَأْسِهِ، عَلى الهَيْئَةِ المَعْرُوفَةِ، وتِلْكَ نِهايَةُ الحَفْزِ، لِأنَّ مَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ في صَدْرِ شُغْلٍ آخَرَ يُرِيدُ أنْ يَسْتَقْبِلَهُ. وذَهَبَ إلى هَذا التَأْوِيلِ جَماعَةٌ مِنَ الفُقَهاءِ وانْتَزَعُوا مِنَ الآياتِ جَوازَ السَجْنِ، لِأنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ فَهو يَمْنَعُهُ مِن تَصَرُّفاتِهِ في غَيْرِ القَضاءِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ المَنعِ مِنَ التَصَرُّفاتِ وبَيْنَ السَجْنِ.
وهَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها نَزَلَتْ فِيما رُوِيَ بِسَبَبِ أنَّ جَماعَةً مِنَ العَرَبِ كانَتْ لَهم دُيُونٌ في ذِمَمِ قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَلَمّا أسْلَمَ أُولَئِكَ العَرَبُ قالَتْ لَهُمُ اليَهُودُ: نَحْنُ لا نُؤَدِّي إلَيْكم شَيْئًا حِينَ فارَقْتُمْ دِينَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. ورُوِيَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ كانُوا يَعْتَقِدُونَ اسْتِحْلالَ أمْوالِ العَرَبِ لِكَوْنِهِمْ أهْلَ أوثانٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ وأسْلَمَ مَن أسْلَمَ مِنَ العَرَبِ، بَقِيَ اليَهُودُ فِيهِمْ عَلى ذَلِكَ المُعْتَقَدِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ حامِيَةً مِن ذَلِكَ. وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "ألا كُلُّ شَيْءٍ مِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ فَهو تَحْتَ قَدَمِي، إلّا الأمانَةَ فَإنَّها مُؤَدّاةٌ إلى البَرِّ والفاجِرِ"».
{"ayahs_start":74,"ayahs":["یَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ","۞ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمࣰاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلࣱ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"۞ وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارࣲ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارࣲ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمࣰاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلࣱ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ"}