الباحث القرآني

﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ نَوْعٍ آخَرَ مِن مَعايِبِهِمْ، و﴿تَأْمَنهُ﴾ مِن أمِنتُهُ بِمَعْنى اِئْتَمَنتُهُ، والباءُ قِيلَ: بِمَعْنى عَلى، وقِيلَ: بِمَعْنى فِي، أيْ في حِفْظِ قِنْطارٍ والقِنْطارُ تَقَدَّمَ قِنْطارٌ مِنَ الكَلامِ فِيهِ يُرْوى أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ اِسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيٌّ ألْفًا ومِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ ذَهَبًا فَأدّاهُ إلَيْهِ، ﴿ومِنهم مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ كَفِنْحاصَ بْنِ عازُوراءَ فَإنَّهُ يُرْوى أنَّهُ اِسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيٌّ آخَرُ دِينارًا فَجَحَدَهُ، وقِيلَ: المَأْمُونُ عَلى الكَثِيرِ النَّصارى إذِ الغالِبُ فِيهِمُ الأمانَةُ، والخائِنُونَ في القَلِيلِ اليَهُودُ إذِ الغالِبُ عَلَيْهِمُ الخِيانَةُ، ورُوِيَ هَذا عَنْ عِكْرِمَةَ. والدِّينارُ لَفْظٌ أعْجَمِيٌّ وياؤُهُ بَدَلٌ عَنْ نُونٍ وأصْلُهُ دِنّارٌ فَأُبْدِلَ أوَّلُ المِثْلَيْنِ ياءً لِوُقُوعِهِ بَعْدَ كَسْرَةٍ، ويَدُلُّ عَلى الأصْلِ جَمْعُهُ عَلى دَنانِيرَ فَإنَّ الجَمْعَ يَرُدُّ الشَّيْءَ إلى أصْلِهِ، وهو في المَشْهُورِ أرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ قِيراطًا والقِيراطُ ثَلاثُ حَبّاتٍ مِن وسَطِ الشَّعِيرِ فَمَجْمُوعُهُ اِثْنَتانِ وسَبْعُونَ حَبَّةً، قالُوا: ولَمْ يَخْتَلِفْ جاهِلِيَّةً ولا إسْلامًا، ومِنَ الغَرِيبِ ما أخْرَجَهُ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مالِكِ بْنِ دِينارٍ، أنَّهُ قالَ: إنَّما سُمِّيَ الدِّينارُ دِينارًا لِأنَّهُ دِينٌ ونارٌ، ومَعْناهُ أنَّ مَن أخَذَهُ بِحَقِّهِ فَهو دِينُهُ، ومَن أخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَلَهُ النّارُ، ولَعَلَّهُ إبْداءُ إشارَةٍ مِن هَذا اللَّفْظِ لا أنَّهُ في نَفْسِ الأمْرِ كَذَلِكَ كَما لا يَخْفى عَلى مالِكِ دِرْهَمٍ مِن عَقْلٍ فَضْلًا عَنْ مالِكِ دِينارٍ، وقُرِئَ (يُؤَدِّهِ) بِكَسْرِ الهاءِ مَعَ وصْلِها بِياءٍ في اللَّفْظِ وبِالكَسْرِ مِن غَيْرِ ياءٍ، وبِالإسْكانِ إجْراءً لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ، وبِضَمِّ الهاءِ ووَصْلِها بِواوٍ في اللَّفْظِ وبِضَمِّها مِن غَيْرِ واوٍ. ﴿إلا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِمًا﴾ اِسْتِثْناءٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أوِ الأوْقاتِ، أيْ: لا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ، أوْ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا في حالِ دَوامِ قِيامِكَ، أوْ في وقْتِ دَوامِ قِيامِكَ، والقِيامُ مَجازٌ عَنِ المُبالَغَةِ في المُطالَبَةِ، وفَسَّرَهُ اِبْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما بِالإلْحاحِ، والسُّدِّيُّ بِالمُلازَمَةِ والِاجْتِماعِ مَعَهُ، والحَسَنُ بِالمُلازَمَةِ والتَّقاضِي، والجُمْهُورُ عَلى ضَمِّ دالِ (دُمْتَ) فَهو عِنْدُهم كَ (قُلْتَ)، وقُرِئَ بِكَسْرِ الدّالِ فَهو حِينَئِذٍ عَلى وزانِ (خِفْتَ) وهو لُغَةٌ، والمُضارِعُ عَلى اللُّغَةِ الأُولى: (يَدُومُ) كَ (يَقُومُ)، وعَلى الثّانِيَةِ: (يَدامُ) كَ (يَخافُ) . (ذَلِكَ) أيْ تَرْكُ الأداءِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿لا يُؤَدِّهِ﴾، ﴿بِأنَّهم قالُوا﴾ ضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ عَلى (مَن) في ﴿مَن إنْ تَأْمَنهُ بِدِينارٍ﴾ وجُمِعَ حَمْلًا عَلى المَعْنى والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ أيْ لَيْسَ عَلَيْنا فِيما أصَبْناهُ مِن أمْوالِ العَرَبِ عِتابٌ وذَمٌّ، (p-203)أخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قالَ: بايَعَ اليَهُودُ رِجالًا مِنَ المُسْلِمِينَ في الجاهِلِيَّةِ فَلَمّا أسْلَمُوا تَقاضَوْهم عَنْ بَيُوعِهِمْ، فَقالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا أمانَةٌ ولا قَضاءٌ لَكم عِنْدَنا لِأنَّكم تَرَكْتُمْ دِينَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ وادَّعَوْا أنَّهم وجَدُوا ذَلِكَ في كِتابِهِمْ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [ 75 ] أيْ أنَّهم كاذِبُونَ، وقالَ الكَلْبِيُّ: قالَتِ اليَهُودُ: الأمْوالُ كُلُّها كانَتْ لَنا فَما في أيْدِي العَرَبِ مِنها فَهو لَنا وأنَّهم ظَلَمُونا وغَصَبُونا فَلا إثْمَ عَلَيْنا في أخْذِ أمْوالِنا مِنهُمْ، وأخْرَجَ اِبْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: ««لَمّا نَزَلَتْ ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”كَذِبُ أعْداءُ اللَّهِ ما مِن شَيْءٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ إلّا وهو تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ، إلّا الأمانَةَ فَإنَّها مُؤَدّاةٌ إلى البَرِّ والفاجِرِ“،» والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ يَقُولُونَ، والمُرادُ يَفْتَرُونَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن ﴿الكَذِبَ﴾ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، ولَمْ يُجَوِّزْ أبُو البَقاءِ تَعَلُّقَهُ بِهِ لِأنَّ الصِّلَةَ لا تَتَقَدَّمُ عَلى المَوْصُولِ، وأجازَهُ غَيْرُهُ لِأنَّهُ كالظَّرْفِ يُتَوَسَّعُ فِيهِ ما لا يُتَوَسَّعُ في غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب