الباحث القرآني

﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ . ابْتِداءُ كَلامٍ وهو كالعُنْوانِ والتَّرْجَمَةِ في التَّبْوِيبِ فَلِذَلِكَ أُتِيَ بَعْدَهُ بِالفاءِ المُؤْذِنَةِ بِأنَّ ما بَعْدَها في قُوَّةِ الجَوابِ وأنَّ ما قَبْلَها في قُوَّةِ الشَّرْطِ. فالتَّقْدِيرُ: الزّانِيَةُ والزّانِي مِمّا أُنْزِلَتْ لَهُ هَذِهِ السُّورَةُ وفُرِضَتْ. ولَمّا كانَ هَذا يَسْتَدْعِي اسْتِشْرافَ السّامِعِ كانَ الكَلامُ في قُوَّةِ: إنْ أرَدْتُمْ حُكْمَهُما فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وهَكَذا شَأْنُ هَذِهِ الفاءِ كُلَّما جاءَتْ بَعْدَ ما هو في صُورَةِ المُبْتَدَأِ فَإنَّما يَكُونُ ذَلِكَ المُبْتَدَأُ في مَعْنًى ما، لِلسّامِعِ رَغْبَةٌ في اسْتِعْلامِ حالِهِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ، وهو مِن شَواهِدِ كِتابِ سِيبَوَيْهِ الَّتِي لَمْ يُعْرَفْ قائِلُها: ؎وقائِلَةٌ: خَوْلانَ فانْكِحْ فَتاتَهُـمْ وأُكْرُومَةُ الحَيَّيْنِ خَلُّو كَما هِيا التَّقْدِيرُ: هَذِهِ خَوْلانُ، أوْ خَوْلانُ مِمّا يُرْغَبُ في صِهْرِها فانْكِحْ فَتاتَهم إنْ رَغِبْتَ. ومَن صَرَفُوا ذِهْنَهم عَنْ هَذِهِ الدَّقائِقِ في الِاسْتِعْمالِ قالُوا: الفاءُ زائِدَةٌ في الخَبَرِ. وتَقَدَّمَ زِيادَةُ الفاءِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ [المائدة: ٣٨] في سُورَةِ العُقُودِ. وصِيغَتا (الزّانِيَةُ والزّانِي) صِيغَةُ اسْمِ فاعِلٍ وهو هُنا مُسْتَعْمَلٌ في أصْلِ مَعْناهُ وهو اتِّصافُ صاحِبِهِ بِمَعْنى مادَّتِهِ فَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ المُضارِعِ في الدَّلالَةِ عَلى الِاتِّصافِ بِالحَدَثِ في زَمَنِ الحالِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: الَّتِي تَزْنِي (p-١٤٦)والَّذِي يَزْنِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما إلَخْ. ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ الأمْرُ بِجَلْدِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فَإنَّ الجَلْدَ يَتَرَتَّبُ عَلى التَّلَبُّسِ بِسَبَبِهِ. ثُمَّ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ قِصَّةُ مَرْثَدِ بْنِ أبِي مَرْثَدٍ النّازِلِ فِيها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] إلَخْ هي سَبَبَ نُزُولِ أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ. فَتَكُونُ آيَةُ ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] هي المَقْصِدُ الأوَّلُ مِن هَذِهِ السُّورَةِ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ تَمْهِيدًا ومُقَدِّمَةً لِقَوْلِهِ: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً﴾ [النور: ٣] فَإنَّ تَشْنِيعَ حالِ البَغايا جَدِيرٌ بِأنْ يُقَدَّمَ قَبْلَهُ ما هو أجْدَرُ بِالتَّشْرِيعِ وهو عُقُوبَةُ فاعِلِ الزِّنى. ذَلِكَ أنَّ مَرْثَدَ ما بَعَثَهُ عَلى الرَّغْبَةِ في تَزَوُّجِ عَناقَ إلّا ما عَرَضَتْهُ عَلَيْهِ مِن أنْ يَزْنِيَ مَعَها. وقُدِّمَ ذِكْرُ (الزّانِيَةُ) عَلى (الزّانِي) لِلِاهْتِمامِ بِالحُكْمِ؛ لِأنَّ المَرْأةَ هي الباعِثُ عَلى زِنى الرَّجُلِ وبِمُساعَفَتِها الرَّجُلَ يَحْصُلُ الزِّنى ولَوْ مَنَعَتِ المَرْأةُ نَفْسَها ما وجَدَ الرَّجُلُ إلى الزِّنى تَمْكِينًا، فَتَقْدِيمُ المَرْأةِ في الذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أشَدُّ في تَحْذِيرِها. وقَوْلُهُ ﴿كُلَّ واحِدٍ مِنهُما﴾ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ أحَدُهُما بِأوْلى بِالعُقُوبَةِ مِنَ الآخَرِ. وتَعْرِيفُ (الزّانِيَةُ والزّانِي) تَعْرِيفُ الجِنْسِ وهو يُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ غالِبًا ومَقامُ التَّشْرِيعِ يَقْتَضِيَهُ، وشَأْنُ (ألْ) الجِنْسِيَّةِ إذا دَخَلَتْ عَلى اسْمِ الفاعِلِ أنْ تُبْعِدَ الوَصْفَ عَنْ مُشابَهَةِ الفِعْلِ، فَلِذَلِكَ لا يَكُونُ اسْمُ الفاعِلِ مَعَها حَقِيقَةً في الحالِ ولا في غَيْرِهِ وإنَّما هو تَحَقُّقُ الوَصْفِ في صاحِبِهِ. وبِهَذا العُمُومِ شَمِلَ الإماءَ والعَبِيدَ، فَـ (الزّانِيَةُ والزّانِي) مَنِ اتَّصَفَتْ بِالزِّنى واتَّصَفَ بِالزِّنى. والزِّنى: اسْمُ مَصْدَرِ زَنى، وهو الجِماعُ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ اللَّذَيْنِ لا يَحِلُّ أحَدُهُما لِلْآخَرِ، يُقالُ: زَنى الرَّجُلُ وزَنَتِ المَرْأةُ، ويُقالُ: زانى بِصِيغَةِ المُفاعَلَةِ؛ لِأنَّ الفِعْلَ حاصِلٌ مِن فاعِلَيْنِ ولِذَلِكَ جاءَ مَصْدَرُهُ الزِّناءُ بِالمَدِّ أيْضًا بِوَزْنِ الفِعالِ ويُخَفَّفُ هَمْزُهُ فَيَصِيرُ اسْمًا مَقْصُورًا. وأكْثَرُ ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ أنْ (p-١٤٧)يَكُونَ بِداعِي المَحَبَّةِ والمُوافَقَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ دُونَ عِوَضٍ، فَإنْ كانَ بِعِوَضٍ فَهو البِغاءُ. يَكُونُ في الحَرائِرِ ويَغْلِبُ في الإماءِ وكانُوا يَجْهَرُونَ بِهِ فَكانَتِ البَغايا يَجْعَلْنَ راياتٍ عَلى بُيُوتِهِنَّ مِثْلَ رايَةَ البَيْطارِ لِيُعْرَفْنَ بِذَلِكَ. وكُلُّ ذَلِكَ يَشْمَلُهُ اسْمُ الزِّنى في اصْطِلاحِ القُرْآنِ وفي الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ الزِّنى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى﴾ [الإسراء: ٣٢] في سُورَةِ الإسْراءِ. والجَلْدُ: الضَّرْبُ بِسَيْرٍ مِن جِلْدٍ. مُشْتَقٌّ مِنَ الجِلْدِ بِكَسْرِ الجِيمِ؛ لِأنَّهُ ضَرْبُ الجِلْدِ. أيِ: البَشْرَةِ، كَما اشْتُقَّ الجَبْهُ، والبَطْنُ، والرَّأْسُ في قَوْلِهِمْ: جَبَهَهُ إذا ضَرَبَ جَبْهَتَهُ، وبَطَنَهُ إذا ضَرَبَ بَطْنَهُ، ورَأسَهُ إذا ضَرَبَ رَأْسَهُ. قالَ في الكَشّافِ: وفي لَفْظِ الجَلْدِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَتَجاوَزَ الألَمُ إلى اللَّحْمِ اهـ. أيْ: لا يَكُونُ الضَّرْبُ يُطَيِّرُ الجِلْدَ حَتّى يَظْهَرَ اللَّحْمُ، فاخْتِيارُ هَذا اللَّفْظِ دُونَ الضَّرْبِ مَقْصُودٌ بِهِ الإشارَةُ إلى هَذا المَعْنى عَلى طَرِيقَةِ الإدْماجِ. واتَّفَقَ فُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى أنَّ ضَرْبَ الجَلْدِ بِالسَّوْطِ. أيْ: بِسَيْرٍ مِن جِلْدٍ. والسَّوْطُ: هو ما يَضْرِبُ بِهِ الرّاكِبُ الفَرَسَ وهو جِلْدٌ مَضْفُورٌ، وأنْ يَكُونَ السَّوْطُ مُتَوَسِّطَ اللِّينِ، وأنْ يَكُونَ رَفْعُ يَدِ الضّارِبِ مُتَوَسِّطًا. ومَحَلُّ الجَلْدِ هو الظَّهْرُ عَنْ مالِكٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ: تُضْرَبُ سائِرُ الأعْضاءِ ما عَدا الوَجْهِ والفَرْجِ. وأجْمَعُوا عَلى تَرْكِ الضَّرْبِ عَلى المَقاتِلِ، ومِنها الرَّأْسُ في الحَدِّ. رَوىالطَّبَرِيُّ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّ جارِيَةً أحْدَثَتْ فَقالَ لِلْجالِدِ: اجْلِدْ رِجْلَيْها وأسْفَلَها، فَقالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: فَأيْنَ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ فَقالَ: فاقَتْها. وقَوْلُهُ: (كُلَّ واحِدٍ مِنهُما) تَأْكِيدٌ لِلْعُمُومِ المُسْتَفادِ مِنَ التَّعْرِيفِ فَلَمْ يَكْتَفِ بِأنْ يُقالَ: فاجْلِدُوهُما، كَما قالَ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ [المائدة: ٣٨] . وتَذْكِيرُ (كُلِّ واحِدٍ) تَغْلِيبٌ لِلْمُذَكَّرِ مِثْلَ ﴿وكانَتْ مِنَ القانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢] . والخِطابُ بِالأمْرِ بِالجَلْدِ مُوَجَّهٌ إلى المُسْلِمِينَ فَيَقُومُ بِهِ مَن يَتَوَلّى أُمُورَ المُسْلِمِينَ مِنَ الأُمَراءِ والقُضاةِ ولا يَتَوَلّاهُ الأوْلِياءُ وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ: يُقِيمُ السَّيِّدُ عَلى عَبْدِهِ وأمَتِهِ حَدَّ الزِّنى، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُقِيمُهُ (p-١٤٨)إلّا الإمامُ. وقالَ مالِكٌ: لا يُقِيمُ السَّيِّدُ حَدَّ الزِّنى عَلى أمَتِهِ إذا كانَتْ ذاتَ زَوْجٍ حُرٍّ أوْ عَبْدٍ ولا يُقِيمُ الحَدَّ عَلَيْها إلّا ولِيُّ الأمْرِ. وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ لا يُعاقِبُونَ عَلى الزِّنى؛ لِأنَّهُ بِالتَّراضِي بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ إلّا إذا كانَ لِلْمَرْأةِ زَوْجٌ أوْ ولِيٌّ يَذُبُّ عَنْ عِرْضِهِ بِنَفْسِهِ كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ. ؎تَجاوَزْتُ أحْراسًا إلَيْها ومَعْشَرًا ∗∗∗ عَلَيَّ حِراصًا لَوْ يُسِرُّونَ مَقْتَلِي وقَوْلُ عَبْدِ بَنِي الحَسْحاسِ: ؎وهُنَّ بَناتُ القَوْمِ إنْ يَشْعُرُوا بِـنَـا ∗∗∗ يَكُنْ في بَناتِ القَوْمِ إحْدى الدَّهارِسِ الدَّهارِسُ: الدَّواهِي. ولَمْ تَكُنْ في ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ ولَكِنَّهُ حُكْمُ السَّيْفِ أوِ التَّصالُحُ عَلى ما يَتَراضَيانِ عَلَيْهِ. وفي المُوَطَّأِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ وزَيْدِ بْنِ خالِدٍ الجُهَنِيِّ «أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَما إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ أحَدُهُما: يا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنا بِكِتابِ اللَّهِ. وقالَ الآخَرُ وهو أفْقَهُهُما: أجَلْ يا رَسُولَ اللَّهِ فاقْضِ بَيْنَنا بِكِتابِ اللَّهِ وائْذَنْ لِي أنْ أتَكَلَّمَ. فَقالَ: تَكَلَّمْ. فَقالَ: إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا عَلى هَذا فَزَنى بِامْرَأتِهِ فَأخْبَرُونِي أنَّ عَلى ابْنِي الرَّجْمَ فافْتَدَيْتُ بِهِ بِمِائَةِ شاةٍ وبِجارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إنِّي سَألْتُ أهْلَ العِلْمِ فَأخْبَرُونِي أنَّما عَلى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ وأخْبَرُونِي أنَّما الرَّجْمُ عَلى امْرَأتِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أما والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللَّهِ، أمّا غَنَمُكَ وجارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ. وجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وغَرَّبَهُ عامًا وأمَرَ أُنَيْسًا الأسْلَمِيَّ أنْ يَأْتِيَ امْرَأةَ الآخَرِ فَإنِ اعْتَرَفَتْ رَجَمَها فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها» . قالَ مالِكٌ: والعَسِيفُ: الأجِيرُ اهـ. فَهَذا الِافْتِداءُ أثَرٌ مِمّا كانُوا عَلَيْهِ في الجاهِلِيَّةِ، ثُمَّ فُرِضَ عِقابُ الزِّنى في الإسْلامِ بِما في سُورَةِ النِّساءِ وهو الأذى لِلرَّجُلِ الزّانِي، أيْ: بِالعِقابِ المُوجِعِ، وحَبْسٌ لِلْمَرْأةِ الزّانِيَةِ مُدَّةَ حَيّاتِها. وأشارَتِ الآيَةُ إلى أنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ؛ لِأنَّ الأذى صالِحٌ لِأنَّ يُبَيَّنَ بِالضَّرْبِ أوْ بِالرَّجْمِ وهو حُكْمٌ مُوَقَّتٌ (p-١٤٩)بِالنِّسْبَةِ إلى المَرْأةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ [النساء: ١٥] ثُمَّ فُرِضَ حَدُّ الزِّنى بِما في هَذِهِ السُّورَةِ. فَفَرْضُ حَدِّ الزِّنى بِهَذِهِ الآيَةِ جَلْدُ مِائَةٍ فَعَمَّ المُحْصَنَ وغَيْرَهُ، وخَصَّصَتْهُ السُّنَّةُ بِغَيْرِ المُحْصَنِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ. فَأمّا مَن أحْصَنَ مِنهُما، أيْ: تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ ووَقَعَ الدُّخُولُ فَإنَّ الزّانِي المُحْصَنَ حَدُّهُ الرَّجْمُ بِالحِجارَةِ حَتّى يَمُوتَ. وكانَ ذَلِكَ سُنَّةٌ مُتَواتِرَةٌ في زَمَنِ النَّبِيءِ ﷺ، ورُجِمَ ماعِزُ بْنُ مالِكٍ. وأجْمَعَ عَلى ذَلِكَ العُلَماءُ وكانَ ذَلِكَ الإجْماعُ أثَرًا مِن آثارِ تَواتُرِها. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرٍ أنَّ الرَّجْمَ كانَ في القُرْآنِ (الثَّيِّبُ والثَّيِّبَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ) وفي رِوايَةٍ (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ) وأنَّهُ كانَ يُقْرَأُ ونُسِخَتْ تِلاوَتُهُ. وفي أحْكامِ ابْنِ الفَرَسِ في سُورَةِ النِّساءِ: (وقَدْ أنْكَرَ هَذا قَوْمٌ) . ولَمْ أرَ مَن عَيَّنَ الَّذِينَ أنْكَرُوا. وذُكِرَ في سُورَةِ النُّورِ أنَّ الخَوارِجَ بِأجْمَعِهِمْ يَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ عَلى عُمُومِها في المُحْصَنِ وغَيْرِهِ ولا يَرَوْنَ الرَّجْمَ ويَقُولُونَ: لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ الرَّجْمُ فَلا رَجْمَ. ولا شَكَّ في أنَّ القَضاءَ بِالرَّجْمِ وقَعَ بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ النُّورِ. وقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أوْفى عَنِ الرَّجْمِ: أكانَ قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ أوْ بَعْدَها ؟ يُرِيدُ السّائِلُ بِذَلِكَ أنْ تَكُونَ آيَةُ سُورَةِ النُّورِ مَنسُوخَةً بِحَدِيثِ الرَّجْمِ أوِ العَكْسِ، أيْ: أنَّ الرَّجْمَ مَنسُوخٌ بِالجَلْدِ فَقالَ ابْنُ أبِي أوْفى: لا أدْرِي. وفي رِوايَةِ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ شَهِدَ الرَّجْمَ. وهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ كانَ مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ سُورَةِ النُّورِ؛ لِأنَّ أبا هُرَيْرَةَ أسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ وسُورَةُ النُّورِ نَزَلَتْ سَنَةَ أرْبَعٍ أوْ خَمْسٍ كَما عَلِمْتَ وأجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ حَدَّ الزّانِي المُحْصَنِ الرَّجْمُ. وقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أيْضًا تَغْرِيبُ الزّانِي بَعْدَ جَلْدِهِ تَغْرِيبُ سَنَةٍ كامِلَةٍ، ولا تَغْرِيبَ عَلى المَرْأةِ. ولَيْسَ التَّغْرِيبُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ بِمُتَعَيَّنٍ ولَكِنَّهُ لِاجْتِهادِ (p-١٥٠)الإمامِ إنْ رَأى تَغْرِيبَهُ لِدِعارَتِهِ. وصِفَةُ الرَّجْمِ والجَلْدِ وآلَتُهُما مُبَيَّنَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ ولا يَتَوَقَّفُ مَعْنى الآيَةِ عَلى ذِكْرِها. * * * ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ عُطِفَ عَلى جُمْلَةِ (فاجْلِدُوا)؛ فَلَمّا كانَ الجَلْدُ مُوجِعًا وكانَ المُباشِرُ لَهُ قَدْ يَرِقُّ عَلى المَجْلُودِ مِن وجَعِهِ نُهِيَ المُسْلِمُونَ أنْ تَأْخُذَهم رَأْفَةٌ بِالزّانِيَةِ والزّانِي فَيَتْرُكُوا الحَدَّ أوْ يُنْقِصُوهُ. والأخْذُ: حَقِيقَتُهُ الِاسْتِيلاءُ. وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِشِدَّةِ تَأْثِيرِ الرَّأْفَةِ عَلى المُخاطَبِينَ وامْتِلاكِها إرادَتَهم بِحَيْثُ يَضْعُفُونَ عَنْ إقامَةِ الحَدِّ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: ﴿أخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ﴾ [البقرة: ٢٠٦] فَهو مُسْتَعْمَلٌ في قُوَّةِ مُلابَسَةِ الوَصْفِ لِلْمَوْصُوفِ. و(بِهِما) يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ (رَأْفَةٌ) فالباءُ لِلْمُصاحَبَةِ؛ لِأنَّ مَعْنى الأخْذِ هُنا حُدُوثُ الوَصْفِ عِنْدَ مُشاهَدَتِهِما. ويَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِـ (تَأْخُذُكم) فَتَكُونُ الباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أيْ: أخْذُ الرَّأْفَةِ بِسَبَبِهِما، أيْ: بِسَبَبِ جَلْدِهِما. وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى عامِلِهِ لِلِاهْتِمامِ بِذِكْرِ الزّانِي والزّانِيَةِ تَنْبِيهًا عَلى الِاعْتِناءِ بِإقامَةِ الحَدِّ. والنَّهْيُ عَنْ أنْ تَأْخُذَهم رَأْفَةٌ كِنايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ أثَرِ ذَلِكَ وهو تَرْكُ الحَدِّ أوْ نَقْصُهُ. وأمّا الرَّأْفَةُ فَتَقَعُ في النَّفْسِ بِدُونِ اخْتِيارٍ فَلا يَتَعَلَّقُ بِها النَّهْيُ؛ فَعَلى المُسْلِمِ أنْ يُرَوِّضَ نَفْسَهُ عَلى دَفْعِ الرَّأْفَةِ في المَواضِعِ المَذْمُومَةِ فِيها الرَّأْفَةُ. والرَّأْفَةُ: رَحْمَةٌ خاصَّةٌ تَنْشَأُ عِنْدَ مُشاهَدَةِ ضُرِّ بِالمَرْءُوفِ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ. ويَجُوزُ سُكُونُ الهَمْزَةِ وبِذَلِكَ قَرَأ الجُمْهُورُ. ويَجُوزُ فَتْحُها وبِالفَتْحِ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ. وعُلِّقَ بِالرَّأْفَةِ قَوْلُهُ (﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾) لِإفادَةِ أنَّها رَأْفَةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ؛ لِأنَّها تُعَطِّلُ دِينَ اللَّهِ، أيْ: أحْكامَهُ، وإنَّما شَرَعَ اللَّهُ الحَدَّ اسْتِصْلاحًا فَكانَتِ الرَّأْفَةُ (p-١٥١)فِي إقامَتِهِ فَسادًا. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ اللَّهَ الَّذِي شَرَعَ الحَدَّ هو أرْأفُ بِعِبادِهِ مِن بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وفي مُسْنَدِ أبِي يَعْلى عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «يُؤْتى بِالَّذِي ضَرَبَ فَوْقَ الحَدِّ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: عَبْدِي لِمَ ضَرَبْتَ فَوْقَ الحَدِّ ؟ فَيَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ: أكانَ غَضَبُكَ أشَدَّ مِن غَضَبِي ؟ ويُؤْتى بِالَّذِي قَصَّرَ فَيَقُولُ: عَبْدِي لِمَ قَصَّرْتَ ؟ فَيَقُولُ: رَحِمْتُهُ. فَيَقُولُ: أكانَتْ رَحْمَتُكَ أشَدَّ مِن رَحْمَتِي. ويُؤْمَرُ بِهِما إلى النّارِ» وجُمْلَةُ ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ شَرْطٌ مَحْذُوفُ الجَوابِ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ، أيْ: لا تُؤَثِّرْ فِيكم رَأْفَةٌ بِهِما. والمَقْصُودُ: شِدَّةُ التَّحْذِيرِ مِن أنْ يَتَأثَّرُوا بِالرَّأْفَةِ بِهِما بِحَيْثُ يُفْرَضُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ. وهَذا صادِرٌ مَصْدَرَ التَّلْهِيبِ والتَّهْيِيجِ حَتّى يَقُولَ السّامِعُ: كَيْفَ لا أُومِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ. وعُطِفَ الإيمانُ بِاليَوْمِ الآخِرِ عَلى الإيمانِ بِاللَّهِ لِلتَّذْكِيرِ بِأنَّ الرَّأْفَةَ بِهِما في تَعْطِيلِ الحَدِّ أوْ نَقْصِهِ نِسْيانٌ لِلْيَوْمِ الآخِرِ فَإنَّ تِلْكَ الرَّأْفَةَ تُفْضِي بِهِما إلى أنْ يُؤْخَذَ مِنهُما العِقابُ يَوْمَ القِيامَةِ فَهي رَأْفَةٌ ضارَّةٌ كَرَأْفَةِ تَرْكِ الدَّواءِ لِلْمَرِيضِ، فَإنَّ الحُدُودَ جَوابِرٌ عَلى ما تُؤْذِنُ بِهِ أدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ. * * * ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أمَرَ أنْ تَحْضُرَ جَماعَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ إقامَةَ حَدِّ الزِّنا تَحْقِيقًا لِإقامَةِ الحَدِّ وحَذَرًا مِنَ التَّساهُلِ فِيهِ فَإنَّ الإخْفاءَ ذَرِيعَةٌ لِلْإنْساءِ، فَإذا لَمْ يَشْهَدْهُ المُؤْمِنُونَ فَقَدْ يَتَساءَلُونَ عَنْ عَدَمِ إقامَتِهِ فَإذا تَبَيَّنَ لَهم إهْمالُهُ فَلا يُعْدَمُ بَيْنَهم مَن يَقُومُ بِتَغْيِيرِ المُنْكَرِ مِن تَعْطِيلِ الحُدُودِ. وفِيهِ فائِدَةٌ أُخْرى وهي أنَّ مِن مَقاصِدِ الحُدُودِ مَعَ عُقُوبَةِ الجانِي أنْ يَرْتَدِعَ غَيْرُهُ، وبِحُضُورِ طائِفَةٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَتَّعِظُ بِهِ الحاضِرُونَ ويَزْدَجِرُونَ ويَشِيعُ الحَدِيثُ فِيهِ بِنَقْلِ الحاضِرِ إلى الغائِبِ. (p-١٥٢)والطّائِفَةُ: الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النساء: ١٠٢] في سُورَةِ النِّساءِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَقُولُوا إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ [الأنعام: ١٥٦] في آخِرِ الأنْعامِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في ضَبْطِ عَدَدِها هُنا. والظّاهِرُ أنَّهُ عَدَدٌ تَحْصُلُ بِخَبَرِهِ الِاسْتِفاضَةُ وهو يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأمْكِنَةِ. والمَشْهُورُ عَنْ مالِكٍ الِاثْنانِ فَصاعِدًا، وقالَ ابْنُ أبِي زَيْدٍ: أرْبَعَةٌ اعْتِبارًا بِشَهادَةِ الزِّنا. وقِيلَ: عَشْرَةٌ. وظاهِرُ الأمْرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ حُضُورِ طائِفَةٍ لِلْحَدِّ. وحَمَلَهُ الحَنَفِيَّةُ عَلى النَّدْبِ وكَذَلِكَ الشّافِعِيَّةُ ولَمْ أقِفْ عَلى تَصْرِيحٍ بِحُكْمِهِ في المَذْهَبِ المالِكِيِّ. ويَظْهَرُ مِن إطْلاقِ المُفَسِّرِينَ وأصْحابِ الأحْكامِ مِنَ المالِكِيَّةِ ومِنَ اخْتِلافِهِمْ في أقَلِّ ما يُجْزِئُ مِن عَدَدِ الطّائِفَةِ أنَّهُ يُحْمَلُ عَلى الوُجُوبِ إذْ هو مَحْمَلُ الأمْرِ عِنْدَ مالِكٍ. وأيّا ما كانَ حُكْمُهُ فَهو في الكِفايَةِ ولا يُطالَبُ بِهِ مَن لَهُ بِالمَحْدُودِ مَزِيدُ صِلَةٍ يُحْزِنُهُ أنْ يُشاهِدَ إقامَةَ الحَدِّ عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب