الباحث القرآني

﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ الأحْكامِ الَّتِي أُشِيرَ إلَيْها أوَّلًا، ورَفْعُ «الزّانِيَةَ» عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ وإقامَةُ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ والأصْلُ مِمّا يُتْلى عَلَيْكم أوْ في الفَرائِضِ أيِ المُشارِ إلَيْها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وفَرَضْناها﴾ حُكْمُ الزّانِيَةِ والزّانِي، والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ سَبَبِيَّةٌ وقِيلَ سَيْفُ خَطِيبٍ، وذَهَبَ الفِراءُ والمِبْرَدُ والزَّجّاجُ إلى أنَّ الخَبَرَ جُمْلَةُ «فاجْلِدُوا» إلَخْ، والفاءُ في المَشْهُورِ لِتَضْمَنَ المُبْتَدَأ مَعْنى الشَّرْطِ إذِ اللّامُ فِيهِ وفِيما عَطَفَ عَلَيْهِ مَوْصُولَةٌ أيِ الَّتِي زِنْتَ والَّذِي زَنى فاجْلِدُوا إلَخْ، وبَعْضُهم يُجَوِّزُ دُخُولَ الفاءِ في الخَبَرِ إذا كانَ في المُبْتَدَإ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ أنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الخَبَرُ وإنْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ مَوْصُولٌ كَما في قَوْلِهِ: «وقائِلَةُ خَوْلانِ فانْكِحْ فَتاتَهُمْ» فَإنَّ هَذِهِ القَبِيلَةَ مَشْهُورَةٌ بِالشَّرَفِ والحُسْنِ شُهْرَةَ حاتِمٍ بِالسَّخاءِ وعَنْتَرَةَ بِالشَّجاعَةِ وذَلِكَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ أنَّ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الأمْرُ بِالنِّكاحِ وعَلى هَذا يَقْوى أمْرُ دُخُولِ الفاءِ هُنا كَما لا يَخْفى، وقالَ العَلامَةُ القُطْبُ: جِيءَ بِالفاءِ لِوُقُوعِ المُبْتَدَإ بَعْدَ أمّا تَقْدِيرًا أيْ أمّا الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا إلَخْ، ونُقِلَ عَنِ الأخْفَشِ أنَّها سَيْفُ خَطِيبٍ، والدّاعِي لِسِيبَوَيْهَ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ ما يَفْهَمُ مِنَ الكِتابِ كَما قِيلَ مِن أنَّ النَّهْجَ المَأْلُوفَ في كَلامِ العَرَبِ إذا أُرِيدَ بَيانُ مَعْنًى وتَفْصِيلُهُ اعْتِناءً بِشَأْنِهِ أنْ يَذْكُرَ قَبْلَهُ ما هو عُنْوانٌ وتَرْجَمَةٌ لَهُ وهَذا لا يَكُونُ إلّا بِأنْ يُبْنى عَلى جُمْلَتَيْنِ فَما ذَهَبَ إلَيْهِ في الآيَةِ أوْلى لِذَلِكَ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُهُ، وأيْضًا هو سالِمٌ مِن وُقُوعِ الإنْشاءِ خَبَرًا والدَّغْدَغَةُ الَّتِي فِيهِ، وأمْرُ الفاءِ عَلَيْهِ ظاهِرٌ لا يَحْتاجُ إلى تَكَلُّفٍ، وقالَ أبُو حَيّانَ: سَبَبُ الخِلافِ أنَّ سِيبَوَيْهَ والخَلِيلَ يَشْتَرِطانِ في دُخُولِ الفاءِ الخَبَرَ كَوْنَ المُبْتَدَإ مَوْصُولًا لا بِما يَقْبَلُ مُباشَرَةً أداةَ الشَّرْطِ وغَيْرُهُما لا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ «والزّانِ» بِلا ياءٍ تَخْفِيفًا، وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ وعَمْرُو بْنُ قائِدٍ وأبُو جَعْفَرٍ وشَيْبَةُ وأبُو السِّمالِ ورُوَيْسٌ «الزّانِيَةَ والزّانِي» بِنَصْبِهِما عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ، والفاءُ عَلى ما قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ لِأنَّ مَآلَ المَعْنى إلى الشَّرْطِ والأمْرُ في الجَوابِ يَقْتَرِنُ بِها فَيَجُوزُ زَيْدًا فَأضْرِبُهُ لِذَلِكَ ولا يَجُوزُ زَيْدًا فَضَرَبْتُهُ بِالفاءِ لِأنَّها لا تَدْخُلُ في جَوابِ الشَّرْطِ إذا كانَ ماضِيًا. والمُرادُ هُنا عَلى ما في بَعْضِ شُرُوحِ الكَشّافِ إنْ أرَدْتُمْ مَعْرِفَةَ حُكْمِ الزّانِيَةِ والزّانِي فاجْلِدُوا إلَخْ، وقِيلَ: إنْ جَلَدْتُمُ الزّانِيَةَ والزّانِيَ فاجْلِدُوا إلَخْ وهو لا يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ المُرادِ وقِيلَ دَخَلَتِ الفاءُ لِأنَّ حَقَّ المُفَسِّرِ (p-77)أنْ يَذْكُرَ عَقْبَ المُفَسِّرِ كالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الإجْمالِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئِكم فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البَقَرَةُ: 54] ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ عاطِفَةً والمُرادُ جَلْدٌ بَعْدَ جَلْدٍ وذَلِكَ لا يُنافِي كَوْنَهُ مُفَسِّرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأنَّهُ بِاعْتِبارِ الِاتِّحادِ النَّوْعِيِّ انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَعْهَدِ العَطْفَ بِالفاءِ فِيما اتَّحَدَ فِيهِ لَفْظُ المُفَسِّرِ والمُفَسَّرِ وقَدْ نَصُّوا عَلى عَدَمِ جَوازِ زَيْدًا فَضَرَبْتُهُ بِالِاتِّفاقِ فَلَوْ ساغَ العَطْفَ فِيما ذَكَرَ لَجازَ هَذا عَلى مَعْنى ضَرْبٍ بَعْدَ ضَرْبٍ، عَلى أنَّ كَوْنَ المُرادِ فِيما نَحْنُ فِيهِ جَلْدٌ بَعْدَ جَلْدٍ مِمّا لا يَخْفى ما فِيهِ فالظّاهِرُ ما نَقَلَ عَنِ ابْنِ جِنِّيٍّ، والمَشْهُورُ أنَّ سِيبَوَيْهَ والخَلِيلَ يُفَضِّلانِ قِراءَةَ النَّصْبِ لِمَكانِ الأمْرِ، وغَيْرُهُما مِنَ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ يُفَضِّلُونَ الرَّفْعَ لِأنَّهُ كالإجْماعِ في القِراءَةِ وهو أقْوى في العَرَبِيَّةِ لِأنَّ المَعْنى عَلَيْهِ مَن زَنى فاجْلِدُوهُ كَذا قالَ الزَّجّاجُ، وقالَ الخَفاجِيُّ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلامِ سِيبَوَيْهِ في هَذا المَقامِ: لَيْسَ في كَلامِ سِيبَوَيْهَ شَيْءٌ مِمّا يَدُلُّ عَلى التَّفْضِيلِ كَما سَمِعْتُ بَلْ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الرَّفْعَ في نَحْوِ ذَلِكَ أفْصَحُ وأبْلَغُ مِنَ النَّصْبِ مِن جِهَةِ المَعْنى وأفْصَحُ مِنَ الرَّفْعِ عَلى أنَّ الكَلامَ جُمْلَةٌ واحِدَةٌ مِن جِهَةِ المَعْنى واللَّفْظِ مَعًا فَلْيُراجِعْ ولِيَتَأمَّلْ والجَلْدُ ضَرْبُ الجَلْدِ وقَدْ طَرَدَ صَوْغَ فِعْلِ المَفْتُوحِ العَيْنِ الثُّلاثِيِّ مِن أسْماءِ الأعْيانِ فَيُقالُ رَأْسُهُ وظَهْرُهُ وبَطْنُهُ، وجَوَّزَ الرّاغِبُ أنْ يَكُونَ مَعْنى جَلْدِهِ ضَرْبِهِ بِالجَلْدِ نَحْوِ عَصاهُ ضَرْبَهُ بِالعَصا، والمُرادُ هُنا المَعْنى الأوَّلَ فَإنَّ الأخْبارَ قَدْ دَلَّتْ عَلى أنَّ الزّانِيَةَ والزّانِيَ يَضْرِبانِ بِسَوْطٍ لا عُقْدَةَ عَلَيْهِ ولا فَرْعَ لَهُ، وقِيلَ: إنَّ كَوْنَ الجَلْدِ بِسَوْطٍ كَذَلِكَ كانَ في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِإجْماعِ الصَّحابَةِ وأمّا قَبْلَهُ فَكانَ تارَةً بِاليَدِ وتارَةً بِالنَّعْلِ وتارَةً بِالجَرِيدَةِ الرَّطْبَةِ وتارَةً بِالعَصا، ثُمَّ الظّاهِرُ مِن ضَرْبِ الجَلْدِ أعَمُّ مِن أنْ يَكُونَ بِلا واسِطَةٍ أوْ بِواسِطَةٍ، وزَعَمَ بَعْضُهم ولَيْسَ بِشَيْءٍ أنَّ الظّاهِرَ أنْ يَكُونَ بِلا واسِطَةٍ وأنَّهُ رُبَّما يَسْتَأْنِسُ بِهِ لِما ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُنا وبِهِ قالَ مالِكٌ مِن أنَّهُ يُنْزَعُ عَنِ الزّانِي عِنْدَ الجَلْدِ ثِيابُهُ إلّا الإزارَ فَإنَّهُ لا يَنْزِعُ لِسَتْرِ عَوْرَتِهِ بِهِ، وعَنِ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ أنَّهُ يُتْرَكُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أوْ قَمِيصانِ، ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ في حَدٍّ فَضَرَبَهُ وعَلَيْهِ كِساءٌ قَسْطَلانِيٍّ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لا يَحِلُّ في هَذِهِ الأُمَّةِ تَجْرِيدَ ولا مَدَّ، وأمّا الِامْرَأةُ فَلا يُنْزَعُ عَنْها ثِيابُها عِنْدَنا إلّا الفَرْوِ والمَحْشُوِّ ووَجْهٌ ظاهِرٌ. وفِي بَعْضِ الأخْبارِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الرَّجُلَ والمَرْأةَ في عَدَمِ نَزْعِ الثِّيابِ إلّا الفَرْوِ والمَحْشُوِّ سَواءٌ، وكَأنَّ مَن لا يَقُولُ بِنَزْعِ الثِّيابِ يَقُولُ: إنَّ الجَلْدَ في العُرْفِ الضَّرْبُ مُطْلَقًا ولَيْسَ خاصًّا بِضَرْبِ الجِلْدِ بِلا واسِطَةٍ، نَعَمْ رُبَّما يُقالُ: إنَّ في اخْتِيارِهِ عَلى الضَّرْبِ إشارَةً إلى أنَّ المُرادَ ضَرْبٌ يُؤْلِمُ الجِلْدَ وكَأنَّهُ لِهَذا قِيلَ يُنْزَعُ الفَرْوُ والمَحْشُوُّ فَإنَّ الضَّرْبَ في الأغْلَبِ لا يُؤْلِمُ جِلْدَ مَن عَلَيْهِ واحِدٌ مِنهُما، ويَنْبَغِي أنْ لا يَكُونُ الضَّرْبُ مُبَرِّحًا لِأنَّ الإهْلاكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، ومِن هُنا قالُوا: إذا كانَ مَن وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ ضَعِيفُ الخِلْقَةِ فَخِيفَ عَلَيْهِ الهَلاكُ يَجْلَدُ جَلْدًا ضَعِيفًا يَحْتَمِلُهُ، وكَذا قالُوا: يُفْرَّقُ الضَّرْبُ عَلى أعْضاءِ المَحْدُودِ لِأنَّ جَمْعَهُ في عُضْوٍ قَدْ يُفْسِدُهُ ورُبَّما يُفْضِي إلى الهَلاكِ، ويَنْبَغِي أنْ يُتَّقى الوَجْهُ والمَذاكِيرُ لِما رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلى عَلَيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرانٍ أوْ في حَدٍّ فَقالَ: اضْرِبْ وأعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ واتَّقِ الوَجْهَ والمَذاكِيرَ، وكَذا الرَّأْسُ لِأنَّهُ مَجْمَعُ الحَواسِّ الباطِنَةِ فَرُبَّما يُفْسَدُ وهو إهْلاكُ مَعْنًى، وكانَ أبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِاتِّقائِهِ ثُمَّ رَجَعَ وقالَ يُضْرَبُ ضَرْبَةً واحِدَةً، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ اسْتَثْنى البَطْنَ والصَّدْرَ وفِيهِ نَظَرٌ إلّا أنْ يُقالَ: كانَ الضَّرْبُ في زَمانِهِ (p-78)كالضَّرْبِ الَّذِي يَفْعَلُهُ ظَلَمَةُ زَمانِنا وحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أنْ يَقُولَ بِاسْتِثْناءِ الرَّأْسِ قَطْعًا، وعَنْ مالِكٍ أنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وما يَلِيهِ بِالجَلْدِ لِما صَحَّ مِن «قَوْلِهِ ﷺ لِهِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ: «البَيِّنَةُ وإلّا فَحَدَّ في ظَهْرِكَ»» وأُجِيبُ بِأنَّ المُرادَ بِالظَّهْرِ فِيهِ نَفْسُهُ أيْ فَحَدٌّ ثابِتٌ عَلَيْكَ بِدَلِيلِ ما ثَبَتَ عَنْ كِبارِ الصَّحابَةِ مِن عُمَرَ وعَلِيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وقَوْلُهُ ﷺ: ««إذا ضَرَبَ أحَدُكم فَلْيَتَّقِ الوَجْهَ»» فَإنَّهُ في نَحْوِ الحَدِّ فَما سِواهُ داخِلٌ في الضَّرْبِ، ثُمَّ خَصَّ مِنهُ الفَرْجَ بِدَلِيلِ الإجْماعِ، وعَنْ مُحَمَّدٍ في التَّعْزِيزِ ضَرَبَ الظَّهْرَ وفي الحُدُودِ ضَرَبَ الأعْضاءَ، ثُمَّ هَذا الضَّرْبُ يَكُونُ لِلرَّجُلِ قائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ ولِلْمَرْأةِ قاعِدَةً وجاءَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ، وكَأنَّ وجْهَهُ أنَّ مَبْنِيَّ الحَدِّ عَلى التَّشْهِيرِ زَجْرًا لِلْعامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ والقِيامُ أبْلَغُ فِيهِ، والمَرْأةُ مَبْنِيٌّ أمْرِها عَلى السَّتْرِ فَيُكْتَفى بِتَشْهِيرِ الحَدِّ فَقَطْ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ، وإنِ امْتَنَعَ الرَّجُلُ ولَمْ يَقِفْ أوْ لَمْ يَصْبِرْ فَلا بَأْسَ بِرَبْطِهِ عَلى أُسْطُوانَةٍ أوْ إمْساكِ أحَدٍ لَهُ، والمُرادُ مِنَ العَدَدِ المَفْرُوضِ في جَلْدِ كُلٍّ واحِدٍ مِنهُما أعْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ ما يُقالُ لَهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ وإنْ لَمْ تَتَعَيَّنِ الأوْلى والثّانِيَةُ والثّالِثَةُ وهَكَذا إلى تَمامِ المِائَةِ فَلَوْ ضَرَبَهُ مِائَةُ رَجُلٍ بِمِائَةِ سَوْطٍ دُفْعَةً واحِدَةً كَفى في الحَدِّ بَلْ قالُوا: جازَ أنْ تَجْمِعَ الأسْواطُ فَيُضْرَبُ مَرَّةً واحِدَةً بِحَيْثُ يُصِيبُهُ كُلُّ واحِدٍ مِنها ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ ضَرَبَ في حَدٍّ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفانِ أرْبَعِينَ ضَرْبَةً فَحَسْبُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ، وقَدَّمَتِ الزّانِيَةُ عَلى الزّانِي مَعَ أنَّ العادَةَ تَقْدِيمُ الزّانِي عَلَيْها لِأنَّها هي الأصْلُ إذِ الباعِثَةُ فِيها أقْوى ولَوْلا تَمْكِينُها لَمْ يَزْنِ، واشْتِقاقُهُما مِنَ الزِّنا وهو مَقْصُورٌ في اللُّغَةِ الفُصْحى وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ وقَدْ يَمُدُّ في لُغَةِ أهْلِ نَجْدٍ وعَلَيْها قالَ الفَرَزْدَقُ. ؎أبا طاهِرٍ مَن يَزِنُ يَعْرِفُ زِناؤُهُ ومَن يَشْرَبُ الخُرْطُومَ يُصْبِحُ مُسْكِرًا والزِّنا في عُرْفِ اللُّغَةِ والشَّرْعِ عَلى ما قِيلَ وطْءِ الرَّجُلِ المَرْأةِ في القُبُلِ في غَيْرِ المُلْكِ وشُبْهَةِ المُلْكِ، وفِيهِ أنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ زِنى المَرْأةِ فَإنَّهُ زِنى ولا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ، وما قِيلَ في الجَوابِ عَنْهُ: إنَّهُ فِعْلُ الوَطْءِ أمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ فَإذا وجَدَ بَيْنَهُما يُتَّصَفُ كُلٌّ مِنهُما بِهِ وتُسَمّى هي واطِئَةٌ ولِذا سَمّاها سُبْحانَهُ وتَعالى زانِيَةً لا يَخْفى ما فِيهِ مَعَ أنَّ في التَّعْرِيفِ ما لا يُصْلِحُهُ هَذا الجَوابُ لَوْ كانَ صَحِيحًا، والحَقُّ أنَّ زِناها لُغَةً تَمْكِينُها مِن زِنى الرَّجُلِ بِها وأنَّهُ إذا أُرِيدَ تَعْرِيفُ الزِّنا المُرادِ في الآيَةِ بِحَيْثُ يَشْمَلُ زِناها فَلا بُدَّ مِن زِيادَةِ التَّمْكِينِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْها بَلْ زِيادَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلى كُلٍّ مِنهُما وأنْ يُقالَ: هو إدْخالُ المُكَلَّفِ الطّائِعِ قَدْرَ حَشَفَتِهِ قَبْلَ مُشْتَهاةٍ حالًا أوْ ماضِيًا بِلا مَلِكٍ أوْ شُبْهَةٍ أوْ تَمْكِينِهِ مِن ذَلِكَ أوْ تَمْكِينِها في دارِ الإسْلامِ لِيُصَدِّقَ عَلى ما لَوْ كانَ مُسْتَلْقِيًا فَقَعَدَتْ عَلى ذِكْرِهِ فَتَرَكَها حَتّى أدْخَلَتْهُ فَإنَّهُما يَحِدّانِ في هَذِهِ الصُّورَةِ ولَيْسَ المَوْجُودُ مِنهُ سِوى التَّمْكِينِ، ويُعْلَمُ مِن هَذا التَّعْرِيفِ أنَّهُ لا حَدَّ عَلى الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ ومَن أكْرَهَهُ السُّلْطانُ، ولا عَلى مَن أوْلَجَ في دُبُرٍ أوْ في فَرْجٍ صَغِيرٍ غَيْرَ مُشْتَهاةٍ أوْ مَيِّتَةٍ أوْ بَهِيمَةٍ بِخِلافِ مَن أوْلَجَ في فَرْجِ عَجُوزٍ، ولا عَلى مَن زَنى في دارِ الحَرْبِ، ولا عَلى مَن زَنى مَعَ شُبْهَةٍ، وفي بَعْضِ ما ذَكَرَ كَلامٌ يُطْلَبُ مَن كُتِبِ الفِقْهَ، والحُكْمُ عامٌّ فِيمَن زَنى وهو مُحْصَنٌ وفي غَيْرِهِ لَكِنَّ نَسْخَ في حَقِّ المُحْصَنِ قَطْعًا فَإنَّ الحُكْمَ في حَقِّهِ الرَّجْمُ، ويَكْفِينا في تَعْيِينِ النّاسِخِ القَطْعُ بِأمْرِهِ ﷺ بِالرَّجْمِ وفِعْلُهُ في زَمانِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَرّاتٌ فَيَكُونُ مِن نَسْخِ الكِتابِ بِالسُّنَّةِ القَطْعِيَّةِ. وقَدْ أجْمَعَ الصَّحابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم ومَن تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ وعُلَماءِ الأُمَّةِ وأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ المُحَصَّنَ يُرْجَمُ بِالحِجارَةِ حَتّى يَمُوتَ، وإنْكارُ الخَوارِجِ ذَلِكَ باطِلٌ لِأنَّهم إنْ أنْكَرُوا حُجِّيَّةَ إجْماعِ الصَّحابَةِ رَضِيَ (p-79)اللَّهُ تَعالى عَنْهم فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ، وإنْ أنْكَرُوا وُقُوعَهُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِإنْكارِهِمْ حُجِّيَّةِ خَبَرِ الواحِدِ فَهو بَعْدَ بُطْلانِهِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ ما نَحْنُ فِيهِ لِأنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ مِنهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُتَواتِرُ المَعْنى كَشَجاعَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وجَوْدِ حاتِمٍ، والآحادُ في تَفاصِيلِ صُوَرِهِ وخُصُوصِيّاتِهِ وهم كَسائِرِ المُسْلِمِينَ يُوجِبُونَ العَمَلَ بِالمُتَواتِرِ مَعْنى كالمُتَواتِرِ لَفْظًا إلّا أنَّ انْحِرافَهم عَنِ الصَّحابَةِ والمُسْلِمِينَ وتَرْكِ التَّرَدُّدِ إلى عُلَماءِ المُسْلِمِينَ والرُّواةِ أوْقَعَهم في جَهالاتٍ كَثِيرَةٍ لِخَفاءِ السَّمْعِ عَنْهم والشُّهْرَةِ، ولِذا حِينَ عابُوا عَلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ في القَوْلِ بِالرَّجْمِ مِن كَوْنِهِ لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى ألْزَمَهم بِأعْدادِ الرَّكَعاتِ ومَقادِيرِ الزِّكْواتِ فَقالُوا: ذَلِكَ مَن فَعَلَهُ ﷺ والمُسْلِمِينَ فَقالَ لَهُمْ: وهَذا أيْضًا كَذَلِكَ، وقَدْ كُوشِفَ بِهِمْ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وكاشَفَ بِهِمْ حَيْثُ قالَ كَما رَوى البُخارِيُّ: خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بِالنّاسِ زَمانٌ حَتّى يَقُولَ قائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى عَزَّ وجَلَّ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ألا وإنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلى مَن زَنى وقَدْ أحْصَنَ إذا قامَتِ البَيِّنَةُ أوْ كانَ الحَبَلُ أوِ الِاعْتِرافُ، ورَوى أبُو داوُدَ أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ خَطَبَ وقالَ: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالحَقِّ وأنْزَلَ عَلَيْهِ كِتابًا فَكانَ فِيما أنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ يَعْنِي بِها قَوْلُهُ تَعالى: «الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فَقَرَأْناها ووَعَيْناها إلى أنْ قالَ: وإنِّي خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بِالنّاسِ زَمانٌ فَيَقُولُ قائِلٌ: «لا نَجِدُ الرَّجْمَ» الحَدِيثُ بِطُرُقِهِ، وقالَ: لَوْلا أنْ يُقالَ: إنَّ عُمْرَ زادَ في الكِتابِ لَكَتَبْتُها عَلى حاشِيَةِ المُصْحَفِ الشَّرِيفِ ومِنَ النّاسِ مِن ذَهَبَ إلى أنَّ النّاسِخَ الآيَةُ المَنسُوخَةِ الَّتِي ذَكَرَها عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. وقالَ العَلامَةُ ابْنُ الهُمامِ: إنَّ كَوْنَ النّاسِخِ السُّنَّةُ القَطْعِيَّةُ أوْلى مِن كَوْنِ النّاسِخِ ما ذَكَرَ مِنَ الآيَةِ لِعَدَمِ القَطْعِ بِثُبُوتِها قُرْآنًا، ثُمَّ نَسَخَ تِلاوَتَها وإنْ ذَكَرَها عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وسَكَتَ النّاسُ فَإنَّ كَوْنَ الإجْماعِ السُّكُوتِي حُجَّةٌ مُخْتَلِفٌ فِيهِ وبِتَقْدِيرِ حُجِّيَّتِهِ لا نَقْطَعُ بِأنَّ جَمِيعَ المُجْتَهِدِينَ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم كانُوا إذْ ذاكَ حُضُورًا ثُمَّ لا شَكَّ في أنَّ الطَّرِيقَ في ذَلِكَ إلى عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ظَنِّي ولِهَذا واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ قالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ حِينَ جَلَدَ شَرّاحَةً ثُمَّ رَجَمَها: جَلَدَتْها بِكِتابِ اللَّهِ تَعالى ورَجَمَتْها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يُعَلِّلِ الرَّجْمَ بِالقُرْآنِ المَنسُوخِ التِّلاوَةِ، ويَعْلَمْ مِن قَوْلِهِ المَذْكُورِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قائِلٌ بِعَدَمِ نَسْخِ عُمُومِ الآيَةِ فَيَكُونُ رَأْيُهُ أنَّ الرَّجْمَ حُكْمٌ زائِدٌ في حَقِّ المُحْصَنِ ثَبَتَ بِالسَّنَةِ وبِذَلِكَ قالَ أهْلُ الظّاهِرِ وهو رِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِما رَواهُ أبُو داوُدَ مِن قَوْلِهِ ﷺ: ««الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ورَمِيُ الحِجارَةِ» وفِي رِوايَةِ غَيْرِهِ «ورَجْمٌ بِالحِجارَةِ»» وعِنْدَ الحَنَفِيَّةِ لا يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجْمِ والجَلْدِ في المُحْصَنِ وهو قَوْلُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ ورِوايَةٍ أُخْرى عَنْ أحْمَدَ لِأنَّ الجَلْدَ يُعَرِّي عَنِ المَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ الحَدُّ لَهُ وهو الِانْزِجارُ أوْ قَصْدُهُ إذا كانَ القَتْلُ لاحِقًا لَهُ، والعُمْدَةُ في اسْتِدْلالِهِمْ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ ﷺ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُما قَطْعًا، فَقَدْ تَظافَرَتِ الطُّرُقُ «أنَّهُ ﷺ بَعْدَ سُؤالِهِ ماعِزًا عَنِ الإحْصانِ وتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ لَمْ يُزَدْ عَلى الأمْرِ بِالرَّجْمِ فَقالَ: اذْهَبُوا بِهِ فارْجُمُوهُ». وقالَ أيْضًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««اغْدُ يا أنِيسُ إلى امْرَأةِ هَذا فَإنِ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فارْجُمْها»» ولَمْ يُقِلْ فاجْلِدْها ثُمَّ ارْجُمْها، وجاءَ في باقِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ ««فاعْتَرَفَتْ فَأمَرَ بِها ﷺ فَرُجِمَتْ»» وقَدْ تَكَرَّرَ الرَّجْمُ في زَمانِهِ ﷺ ولَمْ يَرْوِ أحَدٌ أنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الجَلْدِ فَقَطَعْنا بِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ إلّا الرَّجْمُ فَوَجَبَ كَوْنُ الخَبَرِ السّابِقِ مَنسُوخًا وإنْ لَمْ يَعْلَمْ خُصُوصَ النّاسِخِ، وأُجِيبُ عَمّا فَعَلَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مِنَ الجَمْعِ بِأنَّهُ رَأْيٌ (p-80)لا يُقاوِمُ ما ذُكِرَ مِنَ القَطْعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وكَذا لا يُقاوِمُ إجْماعَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ الإحْصانُ إلّا بَعْدَ الجَلْدِ وهو بَعِيدٌ جِدًّا كَما يَظْهَرُ مِنَ الرُّجُوعِ إلى القِصَّةِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، وإحْصانُ الرَّجْمِ يَتَحَقَّقُ بِأشْياءَ نَظَمَها بَعْضُهم فَقالَ: ؎شُرُوطُ إحْصانٍ أتَتْ سِتَّةً ∗∗∗ فَخُذْها عَنِ النَّصِّ مُسْتَفْهِمًا ؎بُلُوغٌ وعَقْلٌ وحُرِّيَّةٌ ∗∗∗ ورابِعُها كَوْنُهُ مُسْلِمًا ؎وعَقْدٌ صَحِيحٌ ووَطْءٌ مُباحٌ ∗∗∗ مَتى اخْتَلَّ شَرْطٌ فَلَنْ يُرْجَما وزادَ غَيْرُ واحِدٍ كَوْنُ واحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مُساوِيًا الآخَرِ في شَرائِطِ الإحْصانِ وقْتَ الإصابَةِ بِحُكْمِ النِّكاحِ فَلَوْ تَزَوَّجَ الحُرُّ المُسْلِمُ البالِغُ العاقِلُ أمَةً أوْ صَبِيَّةً أوْ مَجْنُونَةً أوْ كِتابِيَّةً ودَخَلَ بِها لا يَصِيرُ مُحْصَنًا بِهَذا الدُّخُولِ حَتّى لَوْ زَنى مِن بَعْدُ لا يُرْجَمُ، وكَذا لَوْ تَزَوَّجَتِ الحُرَّةُ البالِغَةُ العاقِلَةُ المُسْلِمَةُ مِن عَبْدٍ أوْ مَجْنُونٍ أوْ صَبِيٍّ ودَخَلَ بِها لا تَصِيرُ مُحْصَنَةً فَلا تُرْجَمُ لَوْ زَنَتْ بَعْدُ. وذَكَرَ ابْنُ الكَمالِ شَرْطًا آخَرَ وهو أنْ لا يُبْطِلُ إحْصانُهُما بِالِارْتِدادِ فَلَوِ ارْتَدَّ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى ثُمَّ أسْلَما لَمْ يَعُدْ إلّا بِالدُّخُولِ بَعْدَهُ ولَوْ بَطُلَ بِجُنُونٍ أوْ عَتَهٍ عادَ بِالإفاقَةِ، وقِيلَ بِالوَطْءِ بَعْدَهُ. والشّافِعِيُّ لا يَشْتَرِطُ المُساواةَ في شَرائِطَ الإحْصانِ وقْتَ الإصابَةِ فَلا رَجْمَ عِنْدَهُ في المَسْألَتَيْنِ السّابِقَتَيْنِ، وكَذا لا يَشْتَرِطُ الإسْلامُ فَلَوْ زَنى الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ الحُرُّ يُجْلَدُ عِنْدَنا ويُرْجَمُ عِنْدَهُ وهو رِوايَةٌ عَنْ أبِي يُوسُفَ وبِهِ قالَ أحْمَدُ، وقَوْلُ مالِكٍ كَقَوْلِنا. واسْتَدَلَّ المُخالِفُ بِما فِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما «أنَّ اليَهُودَ جاؤُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرُوا لَهُ أنَّ امْرَأةً مِنهم ورَجُلًا زَنَيا فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ما تَجِدُونَ في التَّوْراةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقالُوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ فِيما زَعَمْتُمْ أنَّ فِيها الرَّجْمَ فَأتَوْا بِالتَّوْراةِ فَسَرَدُوها فَوَضَعَ أحَدُهم يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صُورٍ يا يَدَهُ عَلى آيَةِ الرَّجْمِ وقَرَأ ما قَبْلَها وما بَعْدَها فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإذا آيَةُ الرَّجْمِ فَقالُوا: صَدِّقْ يا مُحَمَّدُ فَأمَرَ بِهِما النَّبِيُّ ﷺ فَرُجِما». ودَلِيلُنا ما رَواهُ إسْحاقُ بْنُ رَهَوايْهٍ في مُسْنَدِهِ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنا عَبِيدُ اللَّهِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»» وقَدْ رَفَعَ هَذا الخَبَرَ كَما قالَ إسْحاقُ مَرَّةً ووَقَفَ أُخْرى، ورَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ وقالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ راهَوْيَهُ بْنُ راهَوَيْهٍ، ويُقالُ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ والصَّوابُ أنَّهُ مَوْقُوفٌ اهْـ. وفِي العِنايَةِ أنَّ لَفْظَ إسْحاقَ كَما تَراهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعٌ وإنَّما ذُكِرَ عَنِ الرّاوِي أنَّهُ مَرَّةً رَفَعَهُ ومَرَّةً أخْرَجَهُ مُخْرِجُ الفَتْوى ولَمْ يَرْفَعْهُ ولا شَكَّ في أنَّ مِثْلَهُ بَعْدَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ إلَيْهِ مَحْكُومٌ بِرَفْعِهِ عَلى ما هو المُخْتارُ في عِلْمِ الحَدِيثِ مِن أنَّهُ إذا تَعارَضَ الرَّفْعُ والوَقْفُ حَكَمَ بِالرَّفْعِ وبَعْدَ ذَلِكَ إذا خَرَجَ مَن طُرُقٍ فِيها ضَعْفٌ لا يَضُرُّ. وأجابَ بَعْضُ أجِلَّةِ أصْحابِنا بِأنَّهُ كانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا بِدُونِ اشْتِراطِ الإسْلامِ حِينَ رَجَمَ ﷺ الرَّجُلَ والمَرْأةَ اليَهُودِيَّيْنِ وذَلِكَ بِما أنْزَلَهُ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسُؤالُهُ ﷺ اليَهُودُ عَمّا يَجِدُونَهُ في التَّوْراةِ في شَأْنِهِ لَيْسَ لِأنَّ يَعْلَمُ حُكْمَهُ مِن ذَلِكَ. والقَوْلُ بِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ أوَّلَ ما قَدَمَ المَدِينَةَ مَأْمُورًا بِالحُكْمِ بِما في التَّوْراةِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَيْسَ ذَلِكَ إلّا لِيُبْكِتَهم بِتَرْكِ الحُكْمِ بِما أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ فَلَمّا حَصَلَ الغَرَضُ حَكَمَ ﷺ بِرَجْمِهِما بِشَرْعِهِ المُوافِقِ (p-81)لِشَرْعِهِمْ وإذا عَلِمَ أنَّ الرَّجْمَ كانَ ثابِتًا في شَرْعِنا حالَ رَجْمِها بِلا اشْتِراطِ الإسْلامِ. وقَدْ ثَبَتَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما المُفِيدُ لِاشْتِراطِ الإسْلامِ ولَيْسَ تارِيخٌ يُعْرَفُ بِهِ تَقَدَّمَ اشْتِراطُ الإسْلامِ عَلى عَدَمِ اشْتِراطِهِ أوْ تَأخُّرِهِ عَنْهُ حَصَلَ التَّعارُضُ بَيْنَ فِعْلِهِ ﷺ رَجْمَ اليَهُودِيِّينَ وقَوْلُهُ المَذْكُورُ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ، وقَدْ قالُوا: إذا تَعارَضَ القَوْلُ والفِعْلُ ولَمْ يُعْلَمُ المُتَقَدِّمُ مِنَ المُتَأخِّرِ يُقَدَّمُ القَوْلُ عَلى الفِعْلِ، وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ تَقْدِيمَ هَذا القَوْلِ مُوجِبٌ لِدَرْءِ الحَدِّ وتَقْدِيمِ ذَلِكَ الفِعْلِ يُوجِبُ الِاحْتِياطَ في إيجابِ الحَدِّ والأُولى في الحُدُودِ تَرْجِيحُ الرّافِعِ عِنْدَ التَّعارُضِ. ولا يَخْفى أنَّ كُلَّ مُتَرَجِّحٍ فَهو مَحْكُومٌ بِتَأخُّرِهِ اجْتِهادًا فَيَكُونُ المُعَوَّلُ عَلَيْهِ في الحُكْمِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقَوْلُ المُخالِفِ: إنَّ المُرادَ بِالمُحْصَنِ فِيهِ المُحْصَنَ الَّذِي يَقْتَصُّ لَهُ مِنَ المُسْلِمِ خِلافَ الظّاهِرِ لِأنَّ أكْثَرَ اسْتِعْمالِ الإحْصانِ في إحْصانِ الرَّجْمِ. ورَدَّ بَعْضُهم بِالآيَةِ عَلى القائِلِينَ: إنَّ حَدَّ زِنا البِكْرِ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبٌ سَنَةً وهُمُ الإمامُ الشّافِعِيُّ والإمامُ أحْمَدُ والثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، ووَجْهُ الرَّدِّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ إلَخْ شُرُوعٌ في بَيانِ حُكْمِ الزِّنا ما هو فَكانَ المَذْكُورُ تَمامَ حُكْمِهِ وإلّا كانَ تَجْهِيلًا لا بَيانًا وتَفْصِيلًا إذْ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ تَمامٌ ولَيْسَ بِتَمامٍ في الواقِعِ فَكانَ مَعَ الشُّرُوعِ في البَيانِ أبْعَدَ مِنَ البَيانِ، لِأنَّهُ أوْقَعُ في الجَهْلِ المُرَكَّبِ وقَبْلَهُ كانَ الجَهْلُ بَسِيطًا فَيَفْهَمُ بِمُقْتَضى ذَلِكَ أنَّ حَدَّ الزّانِيَةِ والزّانِي لَيْسَ إلّا الجَلْدُ، وأخْصَرُ مِن هَذا أنَّ المَقامَ مَقامُ البَيانِ فالسُّكُوتُ فِيهِ يُفِيدُ الحَصْرَ، وقالَ المُخالِفُ: لَوْ سَلَّمْنا الدَّلالَةَ عَلى الحَصْرِ وأنَّ المَذْكُورَ تَمامَ الحُكْمِ لِيَكُونَ المَعْنى أنَّ حَدَّ كُلٍّ لَيْسَ إلّا الجَلْدُ فَذَلِكَ مَنسُوخٌ بِما صَحَّ مِن رِوايَةِ عِبادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْهُ ﷺ ««البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ»» وأُجِيبُ بِأنَّهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ لا تَصِحْ دَعْوى النَّسْخِ بِما ذُكِرَ لِأنَّهُ خَبَرُ الواحِدِ وعِنْدَنا لا يَجُوزُ نَسَخُ الكِتابِ بِهِ والقَوْلُ بِأنَّ الخَبَرَ المَذْكُورَ قَدْ تَلَقَّتْهُ الأُمَّةُ بِالقَبُولِ لا يُجْدِي نَفْعًا لِأنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِتَلَقِّيهِ بِالقَبُولِ إجْماعُهم عَلى العَمَلِ بِهِ فَمَمْنُوعٌ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ لا يَقُولُ بِتَغْرِيبِهِما وقالَ: حَسْبُهُما مِنَ الفِتْنَةِ أنْ يَنْفِيا، وفي رِوايَةٍ كَفى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً، وإنْ أُرِيدَ إجْماعُهم عَلى صِحَّتِهِ بِمَعْنى صِحَّةِ سَنَدِهِ فَكَثِيرٌ مِن أخْبارِ الآحادِ كَذَلِكَ ولَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِها آحادًا، عَلى أنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أكْثَرُ مِن كَوْنِ التَّغْرِيبِ واجِبًا ولا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ واجِبٌ بِطْرِيقِ الحَدِّ بَلْ ما فِي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن قَوْلِ أبِي هُرَيْرَةَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضى فِيمَن زَنى ولَمْ يُحْصِنْ بِنَفْيِ عامٍ وإقامَةُ الحَدِّ» ظاهِرٌ في أنَّ النَّفْيَ لَيْسَ مِنَ الحَدِّ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ، وكَوْنِهِ اسْتَعْمَلَ الحَدَّ في جُزْءٍ مُسَمّاهُ وعَطَفَ عَلى الجُزْءِ الآخَرِ بِعِيدٍ فَجازَ كَوْنُهُ تَعْزِيرًا لِمَصْلَحَةٍ، وقَدْ يُغَرِّبُ الإمامُ لِمَصْلَحَةٍ يَراها في غَيْرِ ما ذَكَرَ كَما صَحَّ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ غَرَّبَ نَصْرَ بْنَ حَجّاجٍ إلى البَصْرَةِ بِسَبَبِ أنَّهُ لِجَمالِهِ افْتَتَنَ بَعْضَ النِّساءِ بِهِ فَسَمِعَ قائِلَةً يُقالُ: إنَّها أُمُّ الحَجّاجِ الثَّقَفِيِّ ولِذا قالَ لَهُ عَبْدُ المَلِكِ يَوْمًا يا ابْنَ المُتَمَنِّيَةِ تَقُولُ: ؎هَلْ مِن سَبِيلٍ إلى خَمْرٍ فَأشْرَبُها ∗∗∗ أوْ هَلْ سَبِيلٍ إلى نَصْرِ بْنِ حَجّاجٍ ؎إلى فَتى ماجِدِ الأعْراقِ مُقْتَبَلٌ ∗∗∗ سَهْلُ المَحْيا كَرِيمٌ غَيْرُ مُلْجاجٍ (p-82)والقَوْلُ بِأنَّهُ لا يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ مَعَ الحَدِّ لا يَخْفى ما فِيهِ، وادَّعى الفَقِيهُ المَرْغِينانِيُّ أنَّ الخَبَرَ المَذْكُورَ مَنسُوخٌ فَإنَّ شَطْرَهُ الثّانِيَ الدّالَّ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ مَنسُوخٌ كَما عَلِمَتْ، وفِيهِ أنَّهُ لا لُزُومَ فَيَجُوزُ أنْ تُرْوى جُمَلُ نَسْخِ بَعْضِها وبَعْضُها لَمْ يُنْسَخْ، نَعَمْ رُبَّما يَكُونُ نَسْخُ أحَدِ الشَّطْرَيْنِ مُسَهِّلًا لِتَطَرُّقِ احْتِمالِ نَسْخِ الشَّطْرِ الآخَرِ فَيَكُونُ هَذا الِاحْتِمالُ قائِمًا فِيما نَحْنُ فِيهِ فَيُضْعِفُ عَنْ دَرَجَةِ الآحادِ الَّتِي لَمْ يَتَطَرَّقْ ذَلِكَ الِاحْتِمالُ إلَيْها فَيَكُونُ أحْرى أنْ لا يَنْسَخُ ما أفادَهُ الكِتابُ مِن أنَّ الحَدَّ هو الجَلْدُ لا غَيْرَ عَلى ما سَمِعْتُ تَقْرِيرَهُ فَتَأمَّلْ. ثُمَّ إنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالرَّجُلِ عِنْدَ أُولَئِكَ الأئِمَّةِ فَقَدْ قالُوا: تَغْرُبُ المَرْأةُ مَعَ مُحْرِمٍ وأُجْرَتُهُ عَلَيْها في قَوْلٍ وفي بَيْتِ المالِ في آخَرٍ، ولَوِ امْتَنَعَ فَفي قَوْلٍ يُجْبِرُهُ الإمامُ وفي آخَرَ لا، ولَوْ كانَتِ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَفي تَغْرِيبِها بِلا مُحْرِمٍ قَوْلانِ، وعِنْدَ مالِكٍ والأوْزاعِيِّ إنَّما يُنْفى الرَّجُلُ ولا تُنْفى المَرْأةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««البِكْرُ بِالبِكْرِ»» إلَخْ، وقالَ غَيْرُهُما مِمَّنْ تَقَدَّمَ: إنَّ الحَدِيثَ يَجِبُ أنْ يَشْمَلَها فَإنَّ أوَّلَهُ ««خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى لَهُنَّ سَبِيلًا البِكْرُ بِالبِكْرِ»» إلَخْ وهو نَصٌّ عَلى أنَّ النَّفْيَ والجَلْدَ سَبِيلٌ لِلنِّساءِ والبِكْرِ يُقالُ: عَلى الأُنْثى ألّا تَرى إلى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««البِكْرُ تَسْتَأْذِنُ»» ومَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ قَدْ يُقالُ: إنَّ هَذا مِنَ المَواضِعِ الَّتِي تُثْبِتُ الأحْكامَ فِيهِ في النِّساءِ بِالنُّصُوصِ المُفِيدَةِ إيّاها لِلرِّجالِ بِتَنْقِيحِ المَناطِ، هَذا ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ الظّاهِرَ مِن ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ ما يَشْمَلُ الرَّقِيقَ وغَيْرَهُ فَيَكُونُ مِقْدارُ الحَدِّ في الجَمِيعِ واحِدًا لَكِنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النِّساءُ: 25] الآيَةُ أخْرَجَتِ الإماءَ فَإنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِنَّ، وكَذا أخْرَجَتِ العَبِيدَ إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثى بِتَنْقِيحِ المُناطِ فَيَرْجِعُ في ذَلِكَ إلى دَلالَةِ النَّصِّ بِناءً عَلى أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ في الدَّلالَةِ أوْلَوِيَّةُ المَسْكُوتِ بِالحُكْمِ مِنَ المَذْكُورِ بَلِ المُساواةُ تَكْفِي فِيهِ وقِيلَ تَدْخُلُ العَبِيدَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ عَكْسَ القاعِدَةِ وهي تَغْلِيبُ الذُّكُورِ. ولا يُشْتَرَطُ الإحْصانُ في الرَّقِيقِ لِما رَوى مُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والنِّسائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أقِيمُوا الحُدُودَ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مَن أحْصَنَ ومَن لَمْ يُحْصِنْ»» وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الشَّرْطَ أعْنِي الإحْصانَ في الآيَةِ الدّالَّةِ عَلى تَنْصِيفِ الحَدِّ لا مَفْهُومَ لَهُ، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وطاوُسٍ أنَّهُ لا حَدَّ عَلى الأُمَّةِ حَتّى تُحَصِّنَ بِزَوْجٍ، وفِيهِ اعْتِبارُ المَفْهُومِ، ثُمَّ هَذا الإحْصانُ شَرْطٌ لِلْجَلْدِ لِأنَّ الرَّجْمَ لا يَتَنَصَّفُ، ولِلشّافِعِيِّ في تَغْرِيبِ العَبْدِ أقْوالٌ: يُغَرَّبُ سَنَةً يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ لا يُغَرَّبُ أصْلًا والخِطابُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوا﴾ لِأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ ونُوّابِهِمْ. واخْتُلِفَ في إقامَةِ المَوْلى الحَدِّ عَلى عَبْدِهِ فَعِنْدَنا لا يُقِيمُهُ إلّا بِإذْنِ الإمامِ والشّافِعِيُّ ومالِكٌ وأحْمَدُ يُقِيمُهُ مِن غَيْرِ إذْنٍ، وعَنْ مالِكٍ إلّا في الأمَةِ المُزَوَّجَةِ، واسْتَثْنى الشّافِعِيُّ مِنَ المَوْلى الذِّمِّيِّ والمَكاتِبِ والمَرْأةِ، وكَذا اخْتَلَفَ في إقامَةِ الخارِجِيِّ المُتَغَلِّبِ الحَدِّ فَقِيلَ يُقِيمُ وقِيلَ لا، وأدِلَّةُ الأقْوالِ المَذْكُورَةِ وتَحْقِيقُ ما هو الحَقُّ مِنها في مَحَلِّهِ، والظّاهِرُ أنَّ إقامَةَ الحَدِّ المَذْكُورِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الزِّنا بِإحْدى الطُّرُقِ المَعْلُومَةِ، وقالَ إسْحاقُ: إذا وُجِدَ رَجُلٌ واِمْرَأةٌ في ثَوْبٍ واحِدٍ يُجْلَدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، وقالَ عَطاءُ والثَّوْرِيُّ ومالِكٌ وأحْمَدُ: يُؤَدِّيانِ عَلى مَذاهِبِهِمْ في الأدَبِ ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ﴾ تَلَطُّفٌ ومُعامَلَةٌ بِرِفْقٍ وشَفَقَةٍ ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ في طاعَتِهِ وإقامَةِ حَدِّهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَزَّ وجَلَّ، والمُرادُ النَّهْيُ عَنِ (p-83)التَّخْفِيفِ في الجَلْدِ بِأنْ يَجْلِدُوهُما جَلْدًا غَيْرَ مُؤْلِمٍ أوْ بِأنْ يَكُونَ أقَلَّ مِن مِائَةِ جَلْدَةٍ. وقالَ أبُو مُجَلْزٍ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وعَطاءُ: المُرادُ النَّهْيُ عَنْ إسْقاطِ الحَدِّ بِنَحْوِ شَفاعَةٍ كَأنَّهُ قِيلَ: أقِيمُوا عَلَيْهِما الحَدَّ ولا بُدَّ، ورُوِيَ مَعْنى ذَلِكَ عَنْ عُمْرَ وابْنِ جُبَيْرٍ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الشَّفاعَةُ في إسْقاطِ الحَدِّ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ عَدَمُ جَوازِ ذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الحَدِّ عِنْدَ الحاكِمِ، وأمّا قَبْلَ الوُصُولِ إلَيْهِ والثُّبُوتِ فَإنَّ الشَّفاعَةَ عِنْدَ الرّافِعِ لِمَنِ اتُّصِفَ بِسَبَبِ الحَدِّ إلى الحاكِمِ لِيُطْلِقَهُ قَبْلَ الوُصُولِ وقَبْلَ الثُّبُوتِ تَجَوَّزَ، ولَمْ يَخُصُّوا ذَلِكَ بِالزِّنا لِما صَحَّ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْكَرَ عَلى حُبِّهِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ في فاطِمَةَ بِنْتِ الأسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الأسَدِ المَخْزُومِيَّةِ السّارِقَةِ قَطِيفَةَ وقِيلَ حُلِيًّا فَقالَ لَهُ: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ تَعالى؟ ثُمَّ قامَ فَخَطَبَ فَقالَ: أيُّها النّاسُ إنَّما ضَلَّ مَن قَبْلَكم أنَّهم كانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وإذا سَرَقَ الضَّعِيفُ أقامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ وأيْمُ اللَّهِ تَعالى لَوْ أنَّ فاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ وحاشاها لَقَطَعْتُ يَدَها»» وكَما تُحَرَّمُ الشَّفاعَةُ يُحَرَّمُ قَبُولُها فَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قالَ: إذا بَلَغَ الحَدُّ إلى الإمامِ فَلا عَفا اللَّهُ تَعالى عَنْهُ إنْ عَفا، ( وبِهِما ) قِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلى البَيانِ أيْ أعْنِي بِهِما، وقِيلَ بِتَرْأفُوا مَحْذُوفًا أيْ ولا تَرْأفُوا بِهِما، ويُفْهَمُ صَنِيعُ أبِي البَقاءِ اخْتِيارَ تَعَلُّقِهِ بِتَأْخُذُ والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ أيْ ولا تَأْخُذُكم بِسَبَبِهِما رَأْفَةٌ ولَمْ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَهُ بِرَأْفَةٍ مُعَلِّلًا بِأنَّ المَصْدَرَ لا يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ، وعِنْدِي هو مُتَعَلِّقٌ بِالمَصْدَرِ ويَتَوَسَّعُ في الظَّرْفِ ما لا يَتَوَسَّعُ في غَيْرِهِ. وقَدْ حَقَّقَ ذَلِكَ العَلّامَةُ سَعْدُ المِلَّةِ والدِّينُ في أوَّلِ شَرْحِ التَّلْخِيصِ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، و﴿فِي دِينِ﴾ قِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِتَأْخُذُ وعَلَيْهِ أبُو البَقاءِ، وقِيلَ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِرَأْفَةٍ. وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ والسِّلْمِيُّ وابْنُ مُقْسِمٍ وداوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ «ولا يَأْخُذُكُمْ» بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ لِأنَّ تَأْنِيثَ ﴿رَأْفَةٌ﴾ مَجازِيٌّ وحَسَّنَ ذَلِكَ الفَصْلَ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ «رَأْفَةً» بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وابْنُ جُرَيْجٍ «رافَةً» بِألِفٍ بَعْدِ الهَمْزَةِ عَلى وزْنِ فَعّالَةٍ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عاصِمٍ وابْنِ كَثِيرٍ، ونَقَلَ أبُو البَقاءِ أنَّهُ قَرَأ «رافَةً» بِقَلْبِ الهَمْزَةِ ألِفًا وهي في كُلِّ ذَلِكَ مَصْدَرٌ مَسْمُوعٌ إلّا أنَّ الأشْهُرَ في الِاسْتِعْمالِ ما وافَقَ قِراءَةَ الجُمْهُورِ. ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ مِن بابِ التَّهْيِيجِ والإلْهابِ كَما يُقالُ: إنْ كُنْتَ رَجُلًا فافْعَلْ كَذا ولا شَكَّ في رُجُولِيَّتِهِ وكَذا المُخاطِبُونَ هُنا مَقْطُوعٌ بِإيمانِهِمْ لَكِنَّ قَصَدَ تَهْيِيجَهم وتَحَرِّيكَ حَمِيَّتِهِمْ لِيَجِدُوا في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى ويَجْتَهِدُوا في إجْراءِ أحْكامِهِ عَلى وجْهِها، وذَكَرَ ﴿اليَوْمَ الآخِرَ﴾ لِتَذْكِيرِ ما فِيهِ مِنَ العِقابِ في مُقابَلَةِ الرَّأْفَةِ بِهِما ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ لِيَحْضُرَهُ زِيادَةٌ في التَّنْكِيلِ فَإنَّ التَّفْضِيحَ قَدْ يُنَكِّلُ أكْثَرَ مِنَ التَّعْذِيبِ أوْ لِذَلِكَ ولِلْعِبْرَةِ والمَوْعِظَةِ، وعَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ أنَّ ذَلِكَ لَيُدْعى لَهُما بِالتَّوْبَةِ والرَّحْمَةِ لا لِلتَّفْضِيحِ وهو في غايَةِ البُعْدِ مِنَ السِّياقِ، والأمْرُ هُنا عَلى ما يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ الفُقَهاءِ لِلنَّدْبِ. واخْتُلِفَ في هَذِهِ الطّائِفَةِ فَأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حَمِيدٍ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: الطّائِفَةُ الرَّجُلُ فَما فَوْقَهُ وبِهِ قالَ أحْمَدُ وقالَ عَطاءُ وعِكْرِمَةُ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهٍ: اثْنانِ فَصاعِدًا وهو القَوْلُ المَشْهُورُ لِمالِكٍ وقالَ قَتادَةُ والزَّهْرِيُّ: ثَلاثَةٌ فَصاعِدًا، وقالَ الحَسَنُ: عَشْرَةٌ، وعَنِ الشّافِعِيِّ وزَيْدٍ: أرْبَعَةٌ وهو قَوْلٌ لِمالِكٍ قالَ الخَفاجِيُّ: وتَحْقِيقُ المَقامِ أنَّ الطّائِفَةَ في الأصْلِ اسْمُ فاعِلٍ مُؤَنَّثٍ مِنَ الطَّوافِ الدَّوَرانِ أوِ الإحاطَةِ فَهي إمّا صِفَةُ نَفْسٍ أيْ نَفْسِ طائِفَةٍ فَتُطْلَقُ عَلى الواحِدِ أوْ صِفَةِ جَماعَةٍ أيْ جَماعَةِ طائِفَةٍ فَتُطْلِقُ عَلى ما فَوْقَهُ فَهي (p-84)كالمُشْتَرِكِ بَيْنَ تِلْكَ المَعانِي فَتَحْمِلُ في كُلِّ مَقامٍ عَلى ما يُناسِبُهُ. وذَكَرَ الرّاغِبُ أنَّها إذا أُرِيدَ بِها الواحِدُ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ جَمْعًا كُنِيَ بِهِ عَنِ الواحِدِ، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ مُفْرَدًا والتّاءُ فِيها كَما في رِوايَةٍ، وفي حَواشِي العَضُدِ لِلْهَرَوِيِّ يَصِحُّ أنْ يُقالَ لِلْواحِدِ طائِفَةٌ ويُرادَ نَفْسُ طائِفَةٍ فَهي مِنَ الطَّوافِ بِمَعْنى الدَّوَرانِ. وفِي شَرْحِ البُخارِيِّ حَمَلَ الشّافِعِيُّ الطّائِفَةَ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ عَلى أوْجُهٍ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسْبِ المَواضِعِ فَهي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ﴾ [التَّوْبَةُ: 122] واحِدٌ فَأكْثَرَ واحْتَجَّ بِهِ عَلى قَبُولِ خَبَرِ الواحِدِ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ﴾ أرْبَعَةٌ وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنهم مَعَكَ﴾ [النِّساءُ: 102] ثَلاثَةٌ، وفَرَّقُوا في هَذِهِ المَواضِعِ بِحَسْبِ القَرائِنِ، أمّا في الأوْلى فَلِأنَّ الإنْذارَ يَحْصُلُ بِهِ، وأمّا في الثّانِيَةِ فَلِأنَّ التَّشْنِيعَ فِيهِ أشَدُّ، وأمّا في الثّالِثَةِ فَلِضَمِيرِ الجَمْعِ بُعْدٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَأْخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ﴾ [النِّساءُ: 102] وأقَلُّهُ ثَلاثَةٌ، وكَوْنُها مُشْتَقَّةً مِنَ الطَّوافِ لا يُنافِيهِ لِأنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنى الدَّوَرانِ أوْ هو الأصْلُ وقَدْ لا يَنْظُرُ إلَيْهِ بَعْدَ الغَلَبَةِ فَلِذا قِيلَ: إنَّ تاءَها لِلنَّقْلِ انْتَهى ولا يَخْلُو عَنْ بَحْثٍ. والحُقُّ أنَّ المُرادَ بِالطّائِفَةِ هُنا جَماعَةٌ يَحْصُلُ بِهِمُ التَّشْهِيرُ، والزَّجْرُ وتَخْتَلِفُ قِلَّةٌ وكَثْرَةٌ بِحَسْبِ اخْتِلافِ الأماكِنِ والأشْخاصِ فَرُبَّ شَخْصٍ يَحْصُلُ تَشْهِيرُهُ وزَجْرُهُ بِثَلاثَةٍ وآخَرُ لا يَحْصُلُ تَشْهِيرُهُ وزَجْرُهُ بِعَشَرَةٍ، ولِلْقائِلِ بِالأرْبَعَةِ هُنا وجْهٌ وجِيهٌ كَما لا يَخْفى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب