الباحث القرآني

ولَمّا كانَ مَبْنى هَذِهِ الدّارِ عَلى الأنْسابِ في التَّوارُثِ والإمامَةِ والنِّكاحِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ومَبْنى تِلْكَ الدّارِ عَلى الأعْمالِ لِقَوْلِهِ تَعالى (p-٢٠٤)﴿فَلا أنْسابَ بَيْنَهم يَوْمَئِذٍ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وكانَ قَدْ حَثَّ في آخِرِ تِلْكَ عَلى السِّتْرِ والرَّحْمَةِ، حَذَّرَ رَحْمَةً مِنهُ في أوَّلِ هَذِهِ مِن لُبْسِ الأنْسابِ، وكَسْبِ الأعْراضِ وقَطْعِ الأسْبابِ، مُعْلِمًا أنَّ السِّتْرَ والرِّقَّةَ لَيْسا عَلى عُمُومِهِما، بَلْ عَلى ما يَحُدُّهُ سُبْحانَهُ، فَقالَ مُخاطِبًا لِلْأئِمَّةِ ومَن يُقِيمُونَهُ: ﴿الزّانِيَةُ﴾ وهي مَن فَعَلَتِ الزِّنى، وهو إيلاجُ فَرَجٍ في فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبَعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وقَدَّمَها لِأنَّ أثَرَ الزِّنى يَبْدُو عَلَيْها مِنَ الحَبَلِ وزَوالِ البَكارَةِ، ولِأنَّها أصْلُ الفِتْنَةِ بِهَتْكِ ما أُمِرَتْ بِهِ مِن حِجابِ التَّسَتُّرِ والتَّصَوُّنِ والتَّحَذُّرِ ﴿والزّانِي﴾ ولَمّا كانَ ”ال“ بِمَعْنى الِاسْمِ المَوْصُولِ، أدْخَلَ الفاءَ في الخَبَرِ فَقالَ: ﴿فاجْلِدُوا﴾ أيْ فاضْرِبُوا وإنْ كانَ أصْلُهُ ضَرْبَ الجَلْدِ بِالسَّوْطِ الَّذِي هو جَلْدُ ﴿كُلَّ واحِدٍ مِنهُما﴾ إذا لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، بَلْ كانَ مُكَلَّفًا بِكْرًا - بِما بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ ﴿مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فَبَدَأ بِحَدِّ الزِّنى المُشارِ إلَيْهِ أوَّلَ تِلْكَ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فَمَنِ ابْتَغى وراءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العادُونَ﴾ [المؤمنون: ٧] وفي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الجَلْدِ الَّذِي هو ضَرْبُ الجَلْدِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ يَكُونُ مُبَرِّحًا بِحَيْثُ يَتَجاوَزُ الألَمَ إلى اللَّحْمِ. ولَمّا كانَ هَذا ظاهِرًا في تَرْكِ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِما، صَرَّحَ بِهِ (p-٢٠٥)لِأنَّ مِن شَأْنِ كُلِّ مَن يَجُوزُ عَلى نَفْسِهِ الوُقُوعُ في مِثْلِ ذَلِكَ أنْ يَرْحَمَهُما فَقالَ: ﴿ولا تَأْخُذْكُمْ﴾ أيْ عَلى حالٍ مِنَ الأحْوالِ ﴿بِهِما رَأْفَةٌ﴾ أيْ لِينٌ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِها إعْلامًا بِأنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنْ مُطْلَقِ الرَّحْمَةِ، لِأنَّ الرَّأْفَةَ أشَدُّ الرَّحْمَةِ أوْ أرَقُّها وتَكُونُ عَنْ أسْبابٍ مِنَ المَرْؤُوفِ بِهِ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ أيِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمُ المَلِكُ المُحِيطُ بِصِفاتِ الكَمالِ - إشارَةً إلى أنَّ المَمْنُوعَ مِنهُ رَحْمَةٌ تُؤَدِّي إلى تَرْكِ الحَدِّ أوْ شَيْءٍ مِنهُ أوِ التَّهاوُنِ بِهِ أوِ الرِّضى عَنْ مُنْتَهِكِهِ لا رِقَّةُ القَلْبِ المَطْبُوعُ عَلَيْها البَشَرُ كَما يُحْكى عَنْ أبِي الدَّرْداءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ بَكى يَوْمَ فُتِحَتْ قُبْرُصُ وضُرِبَتْ رِقابُ ناسٍ مِن أسْراها فَقِيلَ لَهُ: هَذا يَوْمُ سُرُورٍ، فَقالَ: هو كَذَلِكَ، ولَكِنِّي أبْكِي رَحْمَةً لِهَؤُلاءِ العِبادِ الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ فَخَذَلَهم وأمْكَنَ مِنهم. ولَمّا عَلِمَ سُبْحانَهُ ما طَبَعَ عَلَيْهِ عِبادَهُ مِن رَحْمَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَحَثَّ عَلى هَذا الحُكْمِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، زادَ في التَّهْيِيجِ إلَيْهِ والحَضِّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ﴾ أيْ بِما هو كالجِبِلَّةِ الَّتِي لا تَنْفَكُّ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ أيِ المَلِكِ الأعْظَمِ الَّذِي هو أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، فَما شَرَعَ ذَلِكَ إلّا رَحْمَةً لِلنّاسِ عُمُومًا ولِلزّانِيَيْنِ خُصُوصًا، فَمَن نَقَصَ سَوْطًا فَقَدِ ادَّعى أنَّهُ أرْحَمُ مِنهُ، ومَن زادَ سَوْطًا فَقَدْ ظَنَّ أنَّهُ أحْكَمُ وأعْظَمُ مِنهُ. (p-٢٠٦)ولَمّا ذَكَّرَ بِالإيمانِ الَّذِي مِن شَرْطِهِ التِزامُ الأحْكامِ، وكانَ الرَّجاءُ غالِبًا عَلى الإنْسانِ، أتْبَعَهُ ما يُرْهِبُهُ فَقالَ: ﴿واليَوْمِ الآخِرِ﴾ الَّذِي يُحاسِبُ فِيهِ عَلى النَّقِيرِ والقِطْمِيرِ والخَفِيِّ والجَلِيِّ. ولَمّا كانَ الخِزْيُ والفَضِيحَةُ أعْظَمَ عِنْدَ بَعْضِ النّاسِ مِن ضَرْبِ السَّيْفِ فَضْلًا عَنْ ضَرْبِ السَّوْطِ قالَ: ﴿ولْيَشْهَدْ﴾ أيْ يَحْضُرْ حُضُورًا تامًّا ﴿عَذابَهُما طائِفَةٌ﴾ أيْ جَماعَةٌ يُمْكِنُ إطافَتُها أيْ تَحَلُّقُها وحُفُوفُها بِكُلٍّ مِنهُما ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ العَرِيقَيْنِ إشْهارًا لِأمْرِهِما نَكالًا لَهُما، وعَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ أنَّ ذَلِكَ لِيُدْعى لَهُما بِالتَّوْبَةِ والرَّحْمَةِ. وفي كُلِّ هَذا إشارَةٌ ظاهِرَةٌ إلى أنَّ إقامَةَ الحُدُودِ والغِلْظَةَ فِيها مِن رَحِمْتِهِ سُبْحانَهُ المُشارِ إلَيْها بِقَوْلِهِ ﴿وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون: ١١٨]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب