الباحث القرآني

قوله عزّ وجل: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ ذكرنا الكلام في وجه ارتفاع الزانية عند قوله ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ﴾ الآية [المائدة: 38] [["الزانية" رفع بالابتداء، وفي خبرها وجهان: أحدهما: أنه محذوف. قال سيبويه 1/ 143: كأنَّه لما قال -جل ثناؤه-: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا﴾ قال: في الفرائض الزانية والزاني، أو: الزانية والزاني في الفرائض. اهـ. وقدَّره بعضهم: فيما يتلى عليكم الزانية. الثاني: أن خبره جملة الأمر ﴿فَاجْلِدُوا﴾، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط. وهو قول الفراء والزجاج والمبرد والزمخشري وغيرهم. انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 244، "معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب 2/ 508، "الكشاف" 3/ 47، "البيان" للأنباري 2/ 191، "البحر المحيط" 6/ 427، "الدر المصون" 8/ 379.]]. ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ معنى الجلد في اللغة: ضرب الجلد. يقال: جلده؛ إذا ضرب جلده. كما تقول: رأسه وبطنه، إذا ضرب رأسه وبطنه [[انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 10/ 656 (جلد).]]. وليس حكم [[(حكم) ساقطة من (أ).]] الآية على ظاهرها [[لو قيل: وليس حكم، والآية على عمومها لكان أولى.]]؛ لأن جلد المائة ليس حدَّ كل زان على الإطلاق، إنّما هو حدّ الزاني إذا كان حرًا [[موضع الحاء من قوله: "حرا" بياض في (ع).]] بالغًا بكرًا غير محصن، وكذلك الزانية تجلد مائة إذا كانت بهذه الصفة. فالمراد بالزانية والزاني المذكورين في هذه الآية. هما اللذان جمعا هذه الأوصاف، وجلدهما يجب بنص الكتاب، وتغريب عام يجب بالسنة [[روى البخاري في "صحيحه" (كتاب الحدود- باب: البكران يجلدان وينفيان، 12/ 156) عن زيد بن خالد الجهني قال: سمعت النبي -ﷺ- يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام.]]. قوله ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ يقال: رؤف [[في (ظ)، (ع): (رأف).]] يرؤف رأفة ورآفةً، مثل النشأة والنشاءة [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 245، و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، و"تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 238 (روى)، و"الكشف والبيان" للثعلبي 3/ 67 أ.]]. قال أبو زيد: رأف يرأف، وكل من كلام العرب [[قول أبي زيد في "تهذيب اللغة" للأزهري 15/ 238 (روى)، و"الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 310 وقد نقله الواحدي عن أحدهما. فظهر بذلك أن في "رأف" ثلاث لغات: رؤف، رأف، رئف. ولذا قال الفيروزآبادي 3/ 142: رأف الله تعالى بك مثلثة وانظر أيضًا "الصحاح" للجوهري 4/ 1362، "لسان العرب" لابن منظور 9/ 112 (رأف).]]. وقرأ ابن كثير ﴿رَأْفَةٌ﴾ هاهنا بفتح الهمزة [[أي "رأفة". وقرأ الباقون بإسكان الهمزة. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452، و"التيسير للداني" ص 161، و"الغاية" للنيسابوري ص 217، و"النشر" لابن الجزري 2/ 330.]]. قال أبو علي: ولعل التي قرأها ابن كثير لغة [["الحجة" للفارسي 5/ 310. قال مكي في "الكشف" 2/ 133: وهما لغتان في "فعل وفَعْله" إذا كان حرف الحلق عينه أو لامه. والفتح الأصل، وهو مصدر، والإسكان فيه أكثر وأهر. وانظر: "علل القراءات" للأزهري 2/ 446، و"إعراب القراءات السبع وعللها" لابن خالويه 2/ 99، "حجة القراءات" لابن زنجلة ص 495.]]. ولم يقرأ التي في سورة الحديد وهي قوله ﴿وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً﴾ [الحديد: 27] مفتوحة الهمز [[قرأ ابن كثير آية الحديد بإسكان الهمزة كالباقين. انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص 452 و"التيسير" للداني ص 161، و"النشر" لابن الجزري (2/ 330).]]؛ لأن العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات [[من قوله: لأن العرب .. إلى هنا هذا كلام الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 67 أ.]]، ولو فتح الهمز في الحديد لاجتمع أربع فتحات. وذكر قولان في معنى هذه الآية: أحدهما: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ فتعطلوا الحد ولا تقيموه رحمة عليهما وشفقة. وهو قول مجاهد في رواية ابن أبي نجيح [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وفي "مصنفه" 7/ 367، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، 64، والطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 7 أعن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 125 عن مجاهد، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]، والكلبي [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وفي "مصنفه" 7/ 367.]]، وعطاء [[رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 367، وسعيد بن منصور في "تفسيره" (ل 157 ب)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 64، والطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم 7/ 7 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 1258 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]، ومقاتل [["تفسير مقاتل" 2/ 34 أ.]]، وسعيد بن جبير [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 أ. وروى الطبري 18/ 67، وابن أبي حاتم 7/ 7 أعنه في قوله "ولا تأخذكم بهما رأفة" قال: الجلد.]]، والشعبي [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 أ. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، والطبري 18/ 68 عنه قال: الضَّرْب. زاد الطبري: الشديد. وروى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 125 عنه وعن إبراهيم النخعي قالا: شدة الجلد في الزنا، ويعطى كل عضو من حقه، وهذه الرواية ورواية الطبري مشعرة بأن الشعبي يقول بالقول الثاني. والله أعلم.]]، وابن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي مجلز، قالوا [[في (ع): (قال وفي).]] في هذه الآية: ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحد [[هذا كلام أبي مجلز.]]. وهو اختيار الفراء وأبي علي. قال الفراء: يقول: لا ترأفوا بالزاني والزانية فتعطلوا حدود الله [["معاني القرآن" للفراء 2/ 245.]]. وقال أبو علي: كأنه نهى عن رحمتهما؛ لأن رحمتهما قد تؤدي إلى تضييع لحد وترك إقامته عليهما [["الحجة" لأبي علي الفارسي 5/ 310.]]. القول الثاني: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ فتخففوا الضرب ولا توجعوهما. وهو قول الحسن، وسعيد بن المسيب، والزهري، وإبراهيم، وقتادة، كل هؤلاء قالوا [[ذكره الثعلبي 3/ 67 أعن الحسن وسعيد.= وروى الطبري 18/ 68 عنهما قالا: الجلد الشديد. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 7 أبهذا اللفظ عن الحسن وحده. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 125 عن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد والطبري. ورواه عن الزهري وقتادة: عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والطبري 18/ 68. وروى عبد بن حميد كما في "الدر المنثور" 6/ 125 عن إبراهيم -يعني النخعي- وعامر -يعني الشعبي- في قوله: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ قالا: شدة الجلد في الزنا، ويعطى كل عضو منه حقه. لكن روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 63، والطبري 18/ 63 عنه قال: الضرَّب. ولذا ذكره الثعلبي 3/ 67 أمع القائلين بالقول الأول، وقبله الطبري، فإنَّه لما ذكر الروايات عن قائلي القول الأول ذكر الرواية عن إبراهيم بأنَّه الضرب.]]: يوجع الزاني ضربًا ولا يخفف رأفة. قال الزهري وقتادة: يجتهد في حد الزانين ولا يخفف كما يخفف في الشرب. وجلد ابن عمر جارية له [[له: ساقطة من (ع).]] قد أحدثت [[أحدثت: أي: زنت. انظر: "لسان العرب" 2/ 134 (حدث).]]. قال نافع [[ظاهر سياق الواحدي لهذا الأثر عن ابن عمر أن نافعًا هو مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، وهو الذي قال لابن عمر: فقلت له .. والصحيح أن نافعًا هذا هو أحد رواة هذا الأثر -كما سنبين ذلك عند سوقنا للروايات- وقد وهم الواحدي في سياقه لهذا الأثر. ونافع هنا: هو نافع بن عمر بن عبد الله، الجمحي، الإمام الحافظ، المكي.]]: فقلت له: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾! قال: أو أخذني بها رأفة؟ إنَّ الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حين ضربت [[رواه الطبري 18/ 66 - 67 قال: حدثنا أبو هشام، قال: حدثنا يحيى بن أبي == زائدة، عن نافع بن عمر -تصحف في المطبوع إلى: نافع عن ابن عمر-، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: جلد ابن عمر جارية له أحدثت، فجلد رجليها. قال نافع: وحسبت أنَّه قال: وظهرها فقلت: ﴿وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾! فقال: وأخذتني بها رأفة، إن الله لم يأمرني أن أقتلها. ورواه ابن أبي حاتم 7/ 6 ب قال: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن نافع عن ابن أبي مليكة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن جارلة لابن عمر زنت، فضرب رجليها. قال نافع: أراه قال وظهرها. قال: قلت: لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله! قال: يا بُنيّ ورأيتني أخذتني بها رأفة! إن الله لم .. ضربت. يتبين بذلك أن قول نافع معرض في الرواية لبيان أنَّه يظن أن عبيد الله قال في حديثه: "وظهرها"، ثم عاد إلى سوق الرواية فقوله: "فقلت": القائل هو عبيد الله بن عبد الله بن عمر، يقول لأبيه عبد الله وقد جاء هذا الأثر من غير رواية نافع، فرواه عبد الرزاق في "مصنفه" 7/ 376، والطبري 18/ 67، والبيهقي في "السنن" 8/ 245 من طريق ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن عبد الله بن عمر حد جارلة له، .. فذكره بنحوه. وإسناد الطريق الأول والثاني صحيح.]]. وذكر الزجاج القولين جميعًا [[انظر: "معاني القرآن" للزجاج 4/ 28. قال ابن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1326: وهو عندي محمول عليهما جميعًا، فلا يجوز أن تحمل أحدًا رأفةٌ على زان بأن يسقط الحد أو يخففه عنه.]]. قوله ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: في حكم الله، كقوله ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76] أي في: حكمه [[ذكره عنه ابن الجوزي 8/ 6 مختصرًا. وذكره بمثل ما هنا الثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 67 أ، والقرطبي 12/ 166 من غير نسبة لأحد.]]. وقال مقاتل: في أمر الله [["تفسير مقاتل" 2/ 34 أ.]]. ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ قال مقاتل: يعني إن كنتم تصدقون بتوحيد الله وبالبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحد [["تفسير مقاتل" 2/ 34 أ.]]. وهذا يقوّي القول الأول؛ لأن قوله ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ كالوعيد في ترك الحد، ومثل هذا الوعيد لا يلحق في التخفيف. قوله: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا﴾ أي: وليحضر ضرب الزانيين. ﴿طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [[في (أ): زيادة (قال) بعد قوله: (المؤمنين).]] رجل فما فوقه إلى ألف [[هذا قول مجاهد. رواه عنه الطبري 18/ 69 وابن أبي حاتم 7/ 7 ب.]]. وهو قول ابن عباس في رواية الكلبي عن أبي صالح [[روى الفراء في "معاني القرآن" 2/ 245 قال: حدثني حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه واحد فما فوقه. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 7 ب من طريق علي بن أبي طلحة عنه، من غير قوله إلى ألف.]]، وإبراهيم [[ذكره الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه الطبري 18/ 69.]]. وقال عطاء: رجلان فصاعدًا [[ذكره الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 60، والطبري 18/ 69.]]. وهو قول عكرمة [[ذكره الثعلبي 3/ 67 ب، ورواه الطبري 18/ 69، وابن أبي حاتم 7/ 7 ب.]]، ومقاتل بن سليمان قال: يعني رجلين فصاعدًا، يكون ذلك نكالًا لهما [["تفسير مقاتل" 2/ 34 أ.]]. وقال الزهري: ثلاثة فصاعدًا [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 61، و"الطبري" 18/ 70، وابن أبي حاتم 8/ 7 أ.]]. وقال ابن زيد: أربعة بعدد من تقبل شهادته على الزنا [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه الطبري 18/ 70.]]. وقال الحسن: ﴿طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي عشرة [[رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 61. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 126 وعزاه لعبد بن حميد.]]. وقال قضادة: نفرٌ من المسلمين [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 67 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 50، والطبري 18/ 70، وابن أبي حاتم 8/ 7 أ.]]. وروي عن ابن عباس: أربعة إلى أربعين [[ذكره عنه النيسابوري في "غرائب القرآن" 18/ 57 دون قوله أربعة، وزاد من المصدقين بالله.]]. قال أبو إسحاق: أمّا من قال: واحد. فهو على غير ما عند أهل اللغة؛ لأنّ الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. فأقل ما يجب في الطائفة عندي اثنان. والذي ينبغي أن يتحزى في شهادة عذاب الزنا [[في "معاني القرآن" 4/ 29: عذاب الزاني.]] أن يكونوا جماعة؛ لأن الأغلب على الطائفة الجماعة [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 28، 29. قال أبو بكر بن العربي في "أحكام القرآن" 3/ 1328: سياق الآية هاهنا يقتضي أن يكونوا جماعة لحصول المقصود من التشديد والعظة والاعتبار. ثم قال: والصحيح سقوط العدد واعتبار الجماعة الذين يقع بهم التشديد من غير حدّ.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب