الباحث القرآني

الحُكْمُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ اعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ رَفْعُهُما عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ عَلى مَعْنى: فِيما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الزّانِيَةُ والزّانِي؛ أيْ: فاجْلِدُوهُما، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ (فاجْلِدُوا) وإنَّما دَخَلَتِ الفاءُ؛ لِكَوْنِ الألِفِ واللّامِ بِمَعْنى (الَّذِي) وتَضَمُّنِهِ مَعْنى الشَّرْطِ، تَقْدِيرُهُ الَّتِي زَنَتْ والَّذِي زَنى فاجْلِدُوهُما، كَما تَقُولُ: مَن زَنا فاجْلِدُوهُ، وقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ، وقُرِئَ ”والزّانِ“ بِلا ياءٍ، واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في هَذِهِ الآيَةِ عَلى نَوْعَيْنِ، أحَدُهُما: ما يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِيّاتِ. والثّانِي: ما يَتَعَلَّقُ بِالعَقْلِيّاتِ. ونَحْنُ نَأْتِي عَلى البابَيْنِ بِقَدْرِ الطّاقَةِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. النوع الأوَّلُ: الشَّرْعِيّاتُ، واعْلَمْ أنَّ الزِّنا حَرامٌ وهو مِنَ الكَبائِرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ. أحَدُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى قَرَنَهُ بِالشِّرْكِ وقَتْلِ النَّفْسِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أثامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٦٨] وقالَ: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلًا﴾ [الإسْراءِ: ٣٢]، وثانِيها: أنَّهُ تَعالى أوْجَبَ المِائَةَ فِيها بِكَمالِها بِخِلافِ حَدِّ القَذْفِ وشُرْبِ الخَمْرِ، وشَرَعَ (p-١١٥)فِيهِ الرَّجْمَ، ونَهى المُؤْمِنِينَ عَنِ الرَّأْفَةِ وأمَرَ بِشُهُودِ الطّائِفَةِ لِلتَّشْهِيرِ، وأوْجَبَ كَوْنَ تِلْكَ الطّائِفَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ الفاسِقَ مِن صُلَحاءِ قَوْمِهِ أخْجَلُ. وثالِثُها: ما رَوى حُذَيْفَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«يا مَعْشَرَ النّاسِ اتَّقُوا الزِّنا فَإنَّ فِيهِ سِتَّ خِصالٍ؛ ثَلاثٌ في الدُّنْيا وثَلاثٌ في الآخِرَةِ، أمّا الَّتِي في الدُّنْيا فَيُذْهِبُ البَهاءَ، ويُورِثُ الفَقْرَ، ويُنْقِصُ العُمْرَ، وأمّا الَّتِي في الآخِرَةِ فَسُخْطُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وسُوءُ الحِسابِ، وعَذابُ النّارِ» “ وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: ”قُلْتُ: «يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: وأنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يَأْكُلَ مَعَكَ. قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: وأنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ» “ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى تَصْدِيقَها: ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفُرْقانِ: ٦٨]، واعْلَمْ أنَّهُ يَجِبُ البَحْثُ في هَذِهِ الآيَةِ عَنْ أُمُورٍ. أحَدُها: عَنْ ماهِيَّةِ الزِّنا. وثانِيها: عَنْ أحْكامِ الزِّنا. وثالِثُها: عَنِ الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في كَوْنِ الزِّنا مُوجِبًا لِتِلْكَ الأحْكامِ. ورابِعُها: عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ حُصُولُ الزِّنا. وخامِسُها: أنَّ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿فاجْلِدُوهُمْ﴾ مَن هُمْ؟ وسادِسُها: أنَّ الرَّجْمَ والجَلْدَ المَأْمُورَ بِهِما في الزِّنا كَيْفَ يَكُونُ حالُهُما؟ البَحْثُ الأوَّلُ: عَنْ ماهِيَّةِ الزِّنا؛ قالَ بَعْضُ أصْحابِنا: إنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ إيلاجِ فَرْجٍ في فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا، وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في أنَّ اللُّواطَةَ هَلْ يَنْطَلِقُ عَلَيْها اسْمُ الزِّنا أمْ لا؟ فَقالَ قائِلُونَ: نَعَمْ. واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ والمَعْنى، أمّا النَّصُّ فَما رَوى أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«إذا أتى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُما زانِيانِ» “ وأمّا المَعْنى فَهو أنَّ اللِّواطَ مِثْلُ الزِّنا صُورَةً ومَعْنًى. أمّا الصُّورَةُ فَلِأنَّ الزِّنا عِبارَةٌ عَنْ إيلاجِ فَرْجٍ في فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٌ قَطْعًا، والدُّبُرُ أيْضًا فَرْجٌ؛ لِأنَّ القُبُلَ إنَّما سُمِّيَ فَرَجًا لِما فِيهِ مِنَ الِانْفِراجِ، وهَذا المَعْنى حاصِلٌ في الدُّبُرِ، أكْثَرُ ما في البابِ أنَّ في العُرْفِ لا تُسَمّى اللُّواطَةُ زِنًا، ولَكِنَّ هَذا لا يَقْدَحُ في أصْلِ اللُّغَةِ، كَما يُقالُ: هَذا طَبِيبٌ ولَيْسَ بِعالِمٍ مَعَ أنَّ الطِّبَّ عِلْمٌ، وأمّا المَعْنى فَلِأنَّ الزِّنا قَضاءٌ لِلشَّهْوَةِ مِن مَحَلٍّ مُشْتَهًى طَبْعًا عَلى جِهَةِ الحَرامِ المَحْضِ، وهَذا مَوْجُودٌ في اللِّواطِ؛ لِأنَّ القُبُلَ والدُّبُرَ يُشْتَهَيانِ؛ لِأنَّهُما يَشْتَرِكانِ في المَعانِي الَّتِي هي مُتَعَلِّقُ الشَّهْوَةِ مِنَ الحَرارَةِ واللِّينِ وضِيقِ المَدْخَلِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ مَن يَقُولُ بِالطَّبائِعِ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ المَحَلَّيْنِ، وإنَّما المُفَرِّقُ هو الشَّرْعُ في التَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ، فَهَذا حُجَّةُ مَن قالَ: اللِّواطُ داخِلٌ تَحْتَ اسْمِ الزِّنا. وأمّا الأكْثَرُونَ مِن أصْحابِنا فَقَدْ سَلَّمُوا أنَّ اللِّواطَ غَيْرُ داخِلٍ تَحْتَ اسْمِ الزِّنا، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: العُرْفُ المَشْهُورُ مِن أنَّ هَذا لِواطٌ ولَيْسَ بِزِنًا وبِالعَكْسِ، والأصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ. وثانِيها: لَوْ حَلَفَ لا يَزْنِي فَلاطَ لا يَحْنَثُ. وثالِثُها: أنَّ الصَّحابَةَ اخْتَلَفُوا في حُكْمِ اللِّواطِ وكانُوا عالِمِينَ بِاللُّغَةِ، فَلَوْ سُمِّيَ اللِّواطُ زِنًا لَأغْناهم نَصُّ الكِتابِ في حَدِّ الزِّنا عَنِ الِاخْتِلافِ والِاجْتِهادِ، وأمّا الحَدِيثُ فَهو مَحْمُولٌ عَلى الإثْمِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا أتَتِ المَرْأةُ المَرْأةَ فَهُما زانِيَتانِ» “ وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«اليَدانِ تَزْنِيانِ والعَيْنانِ تَزْنِيانِ» “ وأمّا القِياسُ فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّ الفَرْجَ وإنْ كانَ سُمِّيَ فَرْجًا لِما فِيهِ مِنَ الِانْفِراجِ، فَلا يَجِبُ أنْ يُسَمّى كُلُّ ما فِيهِ انْفِراجٌ بِالفَرْجِ، وإلّا لَكانَ الفَمُ والعَيْنُ فَرْجًا، وأيْضًا فَهم سَمَّوُا النَّجْمَ نَجْمًا لِظُهُورِهِ، ثُمَّ ما سَمَّوْا كُلَّ ظاهِرٍ نَجْمًا. وسَمَّوُا الجَنِينَ جَنِينًا لِاسْتِتارِهِ، وما سَمَّوْا كُلَّ مُسْتَتِرٍ جَنِينًا، واعْلَمْ أنَّ لِلشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في فِعْلِ (p-١١٦)اللِّواطِ قَوْلَيْنِ، أصَحُّهُما: عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنا، إنْ كانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا يُجْلَدُ مِائَةً ويُغَرَّبُ عامًا. وثانِيهِما: يُقْتَلُ الفاعِلُ والمَفْعُولُ بِهِ، سَواءٌ كانَ مُحْصَنًا أوْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا، لِما رَوى ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«مَن وجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فاقْتُلُوا الفاعِلَ والمَفْعُولَ بِهِ» “ ثُمَّ في كَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ أوْجُهٌ: أحَدُها: تُحَزُّ رَقَبَتُهُ كالمُرْتَدِّ. وثانِيها: يُرْجَمُ بِالحِجارَةِ، وهو قَوْلُ مالِكٍ وأحْمَدَ وإسْحاقَ. وثالِثُها: يُهْدَمُ عَلَيْهِ جِدارٌ، يُرْوى ذَلِكَ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ورابِعُها: يُرْمى مِن شاهِقِ جَبَلٍ حَتّى يَمُوتَ، يُرْوى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ. وإنَّما ذَكَرُوا هَذِهِ الوُجُوهَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بِكُلِّ ذَلِكَ فَقالَ تَعالى: ﴿فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ [الحِجْرِ: ٧٤]. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يُحَدُّ اللِّواطِيُّ بَلْ يُعَذَّرُ، أمّا المَفْعُولُ بِهِ فَإنْ كانَ عاقِلًا بالِغًا طائِعًا، فَإنْ قُلْنا: عَلى الفاعِلِ القَتْلُ فَيُقْتَلُ المَفْعُولُ بِهِ عَلى صِفَةِ قَتْلِ الفاعِلِ؛ لِلْخَبَرِ، وإنْ قُلْنا: عَلى الفاعِلِ حَدُّ الزِّنا فَعَلى المَفْعُولِ بِهِ مِائَةُ جَلْدَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ مُحْصَنًا كانَ أوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وقِيلَ: إنْ كانَتِ امْرَأةً مُحْصَنَةً فَعَلَيْها الرَّجْمُ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأنَّها لا تَصِيرُ مُحَصَنَةً بِالتَّمْكِينِ في الدُّبُرِ، فَلا يَلْزَمُها حَدُّ المُحْصَناتِ كَما لَوْ كانَ المَفْعُولُ بِهِ ذَكَرًا. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى وُجُوبِ الحَدِّ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ اللِّواطَ إمّا أنْ يُساوِيَ الزِّنا في الماهِيَّةِ أوْ يُساوِيَهُ في لَوازِمِ هَذِهِ الماهِيَّةِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ الحَدُّ. بَيانُ الأوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا أتى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُما زانِيانِ» “ فاللَّفْظُ دَلَّ عَلى كَوْنِ اللّائِطِ زانِيًا، واللَّفْظُ الدّالُّ بِالمُطابَقَةِ عَلى ماهِيَّةٍ دالٌّ بِالِالتِزامِ عَلى حُصُولِ جَمِيعِ لَوازِمِها، ودَلالَةُ المُطابَقَةِ والِالتِزامِ مُشْتَرِكانِ في أصْلِ الدَّلالَةِ، فاللَّفْظُ الدّالُّ عَلى حُصُولِ الزِّنا دالٌّ عَلى حُصُولِ جَمِيعِ اللَّوازِمِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذا إنْ تَحَقَّقَ مُسَمّى الزِّنا في اللِّواطِ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا﴾ وإنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ مُسَمّى الزِّنا وجَبَ أنْ يَتَحَقَّقَ لَوازِمُ مُسَمّى الزِّنا لِما ثَبَتَ أنَّ اللَّفْظَ الدّالَّ عَلى تَحَقُّقِ ماهِيَّةٍ دالٌّ عَلى تَحَقُّقِ جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوازِمِ، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في حَقِّ الماهِيَّةِ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى مَعْمُولًا بِهِ في الدَّلالَةِ عَلى جَمِيعِ تِلْكَ اللَّوازِمِ، لَكِنَّ مِن لَوازِمِ الزِّنا وُجُوبَ الحَدِّ، فَوَجَبَ أنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ في اللِّواطِ. أكْثَرُ ما في البابِ أنَّهُ تُرِكَ العَمَلُ بِذَلِكَ في قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا أتَتِ المَرْأةُ المَرْأةَ فَهُما زانِيَتانِ» “ لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِن تَرْكِ العَمَلِ هُناكَ تَرْكُهُ هاهُنا. الثّانِي: أنَّ اللّائِطَ يَجِبُ قَتْلُهُ فَوَجَبَ أنْ يُقْتَلَ رَجْمًا. بَيانُ الأوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فاقْتُلُوا الفاعِلَ مِنهُما والمَفْعُولَ بِهِ» “. وبَيانُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا وجَبَ قَتْلُهُ وجَبَ أنْ يَكُونَ زانِيًا وإلّا لَما جازَ قَتْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا لِإحْدى ثَلاثٍ» “ وهاهُنا لَمْ يُوجَدْ كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، ولا قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ لَمْ يُوجَدِ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ لَوَجَبَ أنْ لا يُقْتَلَ، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ وُجِدَ الزِّنا بَعْدَ الإحْصانِ وجَبَ الرَّجْمُ لِهَذا الحَدِيثِ. الثّالِثُ: نَقِيسُ اللِّواطَ عَلى الزِّنا، والجامِعُ أنَّ الطَّبْعَ داعٍ إلَيْهِ لِما فِيهِ مِنَ الِالتِذاذِ وهو قَبِيحٌ فَيُناسِبُ الزَّجْرَ، والحَدُّ يَصْلُحُ زاجِرًا عَنْهُ. قالُوا: والفَرْقُ مِن وجْهَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ وُجِدَ في الزِّنا داعِيانِ، فَكانَ وُقُوعُهُ أكْثَرَ فَسادًا، فَكانَتِ الحاجَةُ إلى الزّاجِرِ أتَمَّ. الثّانِي: أنَّ الزِّنا يَقْتَضِي فَسادَ الأنْسابِ. والجَوابُ: إلْغاؤُهُما بِوَطْءِ العَجُوزِ الشَّوْهاءِ، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: اللِّواطُ لَيْسَ بِزِنًا عَلى ما تَقَدَّمَ، فَوَجَبَ أنْ لا (p-١١٧)يُقْتَلَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا لِإحْدى ثَلاثٍ» “. وثانِيها: أنَّ اللِّواطَ لا يُساوِي الزِّنا في الحاجَةِ إلى شَرْعِ الزّاجِرِ، ولا في الجِنايَةِ فَلا يُساوِيهِ في الحَدِّ. بَيانُ عَدَمِ المُساواةِ في الحاجَةِ أنَّ اللِّواطَ وإنْ كانَتْ يَرْغَبُ فِيها الفاعِلُ لَكِنْ لا يَرْغَبُ فِيها المَفْعُولُ طَبْعًا بِخِلافِ الزِّنا، فَإنَّ الدّاعِيَ حاصِلٌ مِنَ الجانِبَيْنِ، وأمّا عَدَمُ المُساواةِ في الجِنايَةِ فَلِأنَّ في الزِّنا إضاعَةَ النِّسَبِ ولا كَذَلِكَ اللِّواطُ، إذا ثَبَتَ هَذا فَوَجَبَ أنْ لا يُساوِيَهُ في العُقُوبَةِ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي شَرْعَ الحَدِّ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا، تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في الزِّنا، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى في اللِّواطِ عَلى الأصْلِ. وثالِثُها: أنَّ الحَدَّ كالبَدَلِ عَنِ المَهْرِ فَلَمّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِاللِّواطِ المَهْرُ فَكَذا الحَدُّ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّ اللِّواطَ وإنْ لَمْ يَكُنْ مُساوِيًا لِلزِّنا في ماهِيَّتِهِ لَكِنَّهُ يُساوِيهِ في الأحْكامِ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ اللِّواطَ وإنْ كانَ لا يَرْغَبُ فِيهِ المَفْعُولُ بِهِ لَكَنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِدادِ رَغْبَةِ الفاعِلِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ حَرِيصٌ عَلى ما مُنِعَ. وعَنِ الثّالِثِ: أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الجامِعِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى حُرْمَةِ إتْيانِ البَهائِمِ. ولِلشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في عُقُوبَتِهِ أقْوالٌ. أحَدُها: يَجِبُ بِهِ حَدُّ الزِّنا فَيُرْجَمُ المُحْصَنُ ويُجْلَدُ غَيْرُ المُحْصَنِ ويُغَرَّبُ. والثّانِي: أنَّهُ يُقْتَلُ، مُحْصَنًا كانَ أوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ. لِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«مَن أتى بَهِيمَةً فاقْتُلُوهُ واقْتُلُوها مَعَهُ“ فَقِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: ما شَأْنُ البَهِيمَةِ؟ فَقالَ: ما أراهُ قالَ ذَلِكَ إلّا أنَّهُ كَرِهَ أنْ يُؤْكَلَ لَحْمُها وقَدْ عُمِلَ بِها ذَلِكَ العَمَلُ». والقَوْلُ الثّالِثُ، وهو الأصَحُّ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ ومالِكٍ والثَّوْرِيِّ وأحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: أنَّ عَلَيْهِ التَّعْزِيزَ؛ لِأنَّ الحَدَّ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَمّا تَمِيلُ النَّفْسُ إلَيْهِ، وهَذا الفِعْلُ لا تَمِيلُ النَّفْسُ إلَيْهِ، وضَعَّفُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما لِضَعْفِ إسْنادِهِ، وإنْ ثَبَتَ فَهو مُعارَضٌ بِما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ نَهى عَنْ ذَبْحِ الحَيَوانِ إلّا لِأكْلِهِ. المسألة الثّالِثَةُ: السَّحْقُ مِنَ النِّسْوانِ وإتْيانُ المَيْتَةِ والِاسْتِمْناءُ بِاليَدِ لا يُشْرَعُ فِيها إلّا التَّعْزِيزُ. * * * البَحْثُ الثّانِي: عَنْ أحْكامِ الزِّنا. واعْلَمْ أنَّهُ كانَ في أوَّلِ الإسْلامِ عُقُوبَةُ الزّانِي الحَبْسُ إلى المَماتِ في حَقِّ الثَّيِّبِ، والأذى بِالكَلامِ في حَقِّ البِكْرِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكم فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما﴾ [النِّساءِ: ١٥، ١٦] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فَجُعِلَ حَدُّ الزِّنا عَلى الثَّيِّبِ الرَّجْمَ، وحَدُّ البِكْرِ الجَلْدَ والتَّغْرِيبَ، ولْنَذْكُرْ هاتَيْنِ المَسْألَتَيْنِ: المسألة الأُولى: الخَوارِجُ أنْكَرُوا الرَّجْمَ واحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ﴾ [النِّساءِ: ٢٥] فَلَوْ وجَبَ الرَّجْمُ عَلى المُحْصَنِ لَوَجَبَ نِصْفُ الرَّجْمِ عَلى الرَّقِيقِ، لَكِنَّ الرَّجْمَ لا نِصْفَ لَهُ. وثانِيها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ ذَكَرَ في القُرْآنِ أنْواعَ المَعاصِي مِنَ الكُفْرِ والقَتْلِ والسَّرِقَةِ، ولَمْ يَسْتَقْصِ في أحْكامِها كَما اسْتَقْصى في بَيانِ أحْكامِ الزِّنا، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى نَهى عَنِ الزِّنا بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنا﴾ [الإسْراءِ: ٣٢] ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَيْهِ ثانِيًا بِالنّارِ كَما في كُلِّ المَعاصِي، ثُمَّ ذَكَرَ الجَلْدَ ثالِثًا، ثُمَّ خَصَّ الجَلْدَ بِوُجُوبِ إحْضارِ المُؤْمِنِينَ رابِعًا، ثُمَّ خَصَّهُ بِالنَّهْيِ عَنِ الرَّأْفَةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ خامِسًا، ثُمَّ أوْجَبَ عَلى مَن رَمى مُسْلِمًا بِالزِّنا ثَمانِينَ جَلْدَةً. وسادِسًا، لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلى مَن رَماهُ بِالقَتْلِ والكُفْرِ وهُما أعْظَمُ مِنهُ، ثم قال سابِعًا: ﴿ولا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ [النُّورِ: ٤]، ثُمَّ ذَكَرَ ثامِنًا مَن رَمى زَوْجَتَهُ بِما يُوجِبُ (p-١١٨)التَّلاعُنَ واسْتِحْقاقَ غَضَبِ اللَّهِ تَعالى، ثُمَّ ذَكَرَ تاسِعًا أنَّ ﴿والزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إلّا زانٍ أوْ مُشْرِكٌ﴾ [النُّورِ: ٣]، ثُمَّ ذَكَرَ عاشِرًا أنَّ ثُبُوتَ الزِّنا مَخْصُوصٌ بِالشُّهُودِ الأرْبَعَةِ، فَمَعَ المُبالَغَةِ في اسْتِقْصاءِ أحْكامِ الزِّنا قَلِيلًا وكَثِيرًا لا يَجُوزُ إهْمالُ ما هو أجَلُّ أحْكامِها وأعْظَمُ آثارِها، ومَعْلُومٌ أنَّ الرَّجْمَ لَوْ كانَ مَشْرُوعًا لَكانَ أعْظَمَ الآثارِ، فَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ تَعالى في كِتابِهِ دَلَّ عَلى أنَّهُ غَيْرُ واجِبٍ. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ الجَلْدِ عَلى كُلِّ الزُّناةِ، وإيجابُ الرَّجْمِ عَلى البَعْضِ بِخَبَرِ الواحِدِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ الكِتابِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ؛ لِأنَّ الكِتابَ قاطِعٌ في مَتْنِهِ، وخَبَرُ الواحِدِ غَيْرُ قاطِعٍ في مَتْنِهِ، والمَقْطُوعُ راجِحٌ عَلى المَظْنُونِ. واحْتَجَّ الجُمْهُورُ مِنَ المُجْتَهِدِينَ عَلى وُجُوبِ رَجْمِ المُحْصَنِ؛ بِما ثَبَتَ بِالتَّواتُرِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَعَلَ ذَلِكَ، قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: رَوى الرَّجْمَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعَلِيٌّ وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ وأبُو هُرَيْرَةَ وبُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ وزَيْدُ بْنُ خالِدٍ، في آخَرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ، وبَعْضُ هَؤُلاءِ الرُّواةِ رَوى خَبَرَ رَجْمِ ماعِزٍ، وبَعْضُهم خَبَرَ اللَّخْمِيَّةِ والغامِدِيَّةِ، وقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ”لَوْلا أنْ يَقُولَ النّاسُ زادَ عُمَرُ في كِتابِ اللَّهِ، لَأثْبَتُّهُ في المُصْحَفِ“. والجَوابُ عَمّا احْتَجُّوا بِهِ أوَّلًا أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالجَلْدِ. فَإنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ. قُلْنا: بَلْ بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ؛ لِما بَيَّنّا أنَّ الرَّجْمَ مَنقُولٌ بِالتَّواتُرِ، وأيْضًا فَقَدْ بَيَّنّا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ تَخْصِيصَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ جائِزٌ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي أنَّهُ لا يُسْتَبْعَدُ تَجَدُّدُ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ تَجَدُّدُ المَصالِحِ، فَلَعَلَّ المَصْلَحَةَ الَّتِي تَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّجْمِ حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الآياتِ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ أنَّهُ نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ، وهو اخْتِيارُ أحْمَدَ وإسْحاقَ وداوُدَ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّ عُمُومَ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الجَلْدِ، والخَبَرُ المُتَواتِرُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّجْمِ، ولا مُنافاةَ، فَوَجَبَ الجَمْعُ. وثانِيها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ورَجْمٌ بِالحِجارَةِ» “ وثالِثُها: رَوى أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في أحْكامِ القُرْآنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ ”«أنَّ رَجُلًا زَنى بِامْرَأةٍ فَأمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَجُلِدَ، ثُمَّ أُخْبِرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّهُ كانَ مُحْصَنًا فَأمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» “. ورابِعُها: رُوِيَ «أنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ جَلَدَ شَراحَةَ الهَمْدانِيَّةَ ثُمَّ رَجَمَها وقالَ: جَلَدْتُها بِكِتابِ اللَّهِ ورَجَمْتُها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ﷺ . واعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ المُجْتَهِدِينَ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ المُحْصَنَ يُرْجَمُ ولا يُجْلَدُ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأُمُورٍ. أحَدُها: قِصَّةُ العَسِيفِ فَإنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«يا أُنَيْسُ اغْدُ إلى امْرَأةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها» “ ولَمْ يَذْكُرِ الجَلْدَ، ولَوْ وجَبَ الجَلْدُ مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ. وثانِيها: أنَّ قِصَّةَ ماعِزٍ رُوِيَتْ مِن جِهاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ولَمْ يُذْكَرْ في شَيْءٍ مِنها مَعَ الرَّجْمِ جَلْدٌ، ولَوْ كانَ الجَلْدُ مُعْتَبَرًا مَعَ الرَّجْمِ لَجَلَدَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولَوْ جَلَدَهُ لَنُقِلَ كَما نُقِلَ الرَّجْمُ؛ إذْ لَيْسَ أحَدُهُما بِالنَّقْلِ أوْلى مِنَ الآخَرِ، وكَذا في قِصَّةِ الغامِدِيَّةِ حِينَ أقَرَّتْ بِالزِّنا فَرَجَمَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ أنْ وضَعَتْ ولَوْ جَلَدَها لَنُقِلَ ذَلِكَ. وثالِثُها: ما رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قالَ: «قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بِالنّاسِ زَمانٌ حَتّى يَقُولَ قائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ تَعالى، وقَدْ قَرَأْنا: الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَجَمْنا» بَعْدَهُ. فَأخْبَرَ أنَّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعالى هو الرَّجْمُ، ولَوْ كانَ الجَلْدُ واجِبًا مَعَ الرَّجْمِ لَذَكَرَهُ. أمّا الجَوابُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالآيَةِ: فَهو أنَّها مَخْصُوصَةٌ في حَقِّ المُحْصَنِ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القُرْآنِ بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وأمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةِ ورَجْمٌ (p-١١٩)بِالحِجارَةِ» “ فَلَعَلَّ ذَلِكَ كانَ قَبْلَ قَوْلِهِ: ”«يا أُنَيْسُ اغْدُ إلى امْرَأةِ هَذا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها» “ وأمّا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ جَلَدَ امْرَأةً ثُمَّ رَجَمَها، فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ ما عَلِمَ إحْصانَها فَجَلَدَها، ثُمَّ لَمّا عَلِمَ إحْصانَها رَجَمَها، وهو الجَوابُ عَنْ فِعْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَهَذا ما يُمْكِنُ مِنَ التَّكَلُّفِ في هَذِهِ الأجْوِبَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْمَعُ بَيْنَ الجَلْدِ والتَّغْرِيبِ في حَدِّ البِكْرِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُجْلَدُ، وأمّا التَّغْرِيبُ فَمُفَوَّضٌ إلى رَأْيِ الإمامِ، وقالَ مالِكٌ: يُجْلَدُ الرَّجُلُ ويَغَرَّبُ، وتُجْلَدُ المَرْأةُ ولا تُغَرَّبُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثُ عُبادَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ ورَجْمٌ بِالحِجارَةِ» “ ويَدُلُّ أيْضًا عَلَيْهِ ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وزَيْدُ بْنُ خالِدٍ: ”«أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا عَلى هَذا وزَنى بِامْرَأتِهِ، فافْتَدَيْتُ مِنهُ بِوَلِيدَةٍ ومِائَةِ شاةٍ، ثُمَّ أخْبَرَنِي أهْلُ العِلْمِ أنَّ عَلى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وتَغْرِيبَ عامٍ، وأنَّ عَلى امْرَأةِ هَذا الرَّجْمَ، فاقْضِ بَيْنَنا، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللَّهِ؛ أمّا الغَنَمُ والوَلِيدَةُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وأمّا ابْنُكَ فَإنَّ عَلَيْهِ جَلْدَ مِائَةٍ وتَغْرِيبَ عامٍ، ثم قال لِرَجُلٍ مِن أسْلَمَ: اغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امْرَأةِ هَذا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها» “ واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى نَفْيِ التَّغْرِيبِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ إيجابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الآيَةِ، ونَسْخُ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ لا يَجُوزُ، وقَرَّرُوا النَّسْخَ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ. الأوَّلُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ رَتَّبَ الجَلْدَ عَلى فِعْلِ الزِّنا بِالفاءِ، وحَرْفُ الفاءِ لِلْجَزاءِ إلّا أنَّ أئِمَّةَ اللُّغَةِ قالُوا: اليَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ ذِكْرُ شَرْطٍ وجَزاءٍ، وفَسَّرُوا الشَّرْطَ بِالَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ إنَّ، والجَزاءَ بِالَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الفاءِ، والجَزاءُ اسْمٌ لِما يَقَعُ بِهِ الكِفايَةُ، مَأْخُوذٌ مِن قَوْلِهِمْ جازَيْناهُ؛ أيْ: كافَأْناهُ، وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«تُجْزِيكَ ولا تُجْزِي أحَدًا بَعْدَكَ» “ أيْ: تَكْفِيكَ، ومِنهُ قَوْلُ القائِلِ: اجْتَزْتُ الإبِلَ بِالعُشْبِ بِالماءِ، وإنَّما تَقَعُ الكِفايَةُ بِالجَلْدِ إذا لَمْ يَجِبْ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ، فَإيجابُ شَيْءٍ آخَرَ يَقْتَضِي نَسْخَ كَوْنِهِ كافِيًا. الثّانِي: أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ لَمّا كانَ هو الجَلْدَ فَقَدْ كانَ ذَلِكَ كَمالَ الحَدِّ، فَلَوْ جَعَلْنا النَّفْيَ مُعْتَبَرًا مَعَ الجَلْدِ لَكانَ الجَلْدُ بَعْضَ الحَدِّ لا كُلَّ الحَدِّ، فَيُفْضِي إلى نَسْخِ كَوْنِهِ كُلَّ الحَدِّ. الثّالِثُ: أنَّ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الجَلْدِ كَمالَ الحَدِّ فَإنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ رَدُّ الشَّهادَةِ، ولَوْ جَعَلْناهُ بَعْضَ الحَدِّ لَزالَ ذَلِكَ الحُكْمُ، فَثَبَتَ أنَّ إيجابَ التَّغْرِيبِ يَقْتَضِي نَسْخَ الآيَةِ. ثانِيها: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لَوْ كانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا مَعَ الجَلْدِ لَوَجَبَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ تِلاوَةِ الآيَةِ تَوْقِيفُ الصَّحابَةِ عَلَيْهِ؛ لِئَلّا يَعْتَقِدُوا عِنْدَ سَماعِ الآيَةِ أنَّ الجَلْدَ هو كَمالُ الحَدِّ، ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ اشْتِهارُهُ مِثْلَ اشْتِهارِ الآيَةِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ خَبَرُ النَّفْيِ بِهَذِهِ المَنزِلَةِ بَلْ كانَ وُرُودُهُ مِن طَرِيقِ الآحادِ، عُلِمَ أنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. وثالِثُها: ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ في الأمَةِ: ”«إذا زَنَتْ فاجْلِدُوها، فَإنْ زَنَتْ فاجْلِدُوها، فَإنْ زَنَتْ فاجْلِدُوها ثُمَّ بِيعُوها ولَوْ بِطَفِيرٍ» “ وفي رِوايَةٍ أُخْرى: ”«فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ ولا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ» “ ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ أنَّهُ لَوْ كانَ النَّفْيُ ثابِتًا لَذَكَرَهُ مَعَ الجَلْدِ. ورابِعُها: أنَّهُ إمّا أنْ يُشْرَعَ التَّغْرِيبُ في حَقِّ الأمَةِ أوْ لا يُشْرَعَ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا؛ لِأنَّهُ يَلْزَمُ مِنهُ الإضْرارُ بِالسَّيِّدِ مِن غَيْرِ جِنايَةٍ صَدَرَتْ مِنهُ وهو غَيْرُ جائِزٍ؛ ولِأنَّهُ قالَ ﷺ: ”«بِيعُوها ولَوْ بَطَفِيرٍ» “ ولَوْ وجَبَ نَفْيُها لَما جازَ بَيْعُها؛ لِأنَّ المُكْنَةَ مِن تَسْلِيمِها إلى المُشْتَرِي لا تَبْقى بِالنَّفْيِ، ولا جائِزَ أنْ لا يَكُونَ مَشْرُوعًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النِّساءِ: ٢٥]. (p-١٢٠)وخامِسُها: أنَّ التَّغْرِيبَ لَوْ كانَ مَشْرُوعًا في حَقِّ الرَّجُلِ لَكانَ إمّا أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا في حَقِّ المَرْأةِ أوْ لا يَكُونَ، والثّانِي باطِلٌ لِأنَّ التَّساوِيَ في الجِنايَةِ قَدْ وُجِدَ في حَقِّهِما، وإنْ كانَ مَشْرُوعًا في حَقِّ المَرْأةِ فَإمّا أنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا في حَقِّها وحْدَها أوْ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، والأوَّلُ غَيْرُ جائِزٍ لِلنَّصِّ والمَعْقُولِ، أمّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ أنْ تُسافِرَ مِن غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ» “ وأمّا المَعْقُولُ فَهو أنَّ الشَّهْوَةَ غالِبَةٌ في النِّساءِ، والِانْزِجارُ بِالدِّينِ إنَّما يَكُونُ في الخَواصِّ مِنَ النّاسِ، فَإنَّ الغالِبَ لِعَدَمِ الزِّنا مِنَ النِّساءِ بِوُجُودِ الحُفّاظِ مِنَ الرِّجالِ، وحَيائِهِنَّ مِنَ الأقارِبِ. وبِالتَّغْرِيبِ تَخْرُجُ المَرْأةُ مِن أيْدِي القُرَباءِ والحُفّاظِ، ثُمَّ يَقِلُّ حَياؤُها لِبُعْدِها عَنْ مَعارِفِها، فَيَنْفَتِحُ عَلَيْها بابُ الزِّنا، فَرُبَّما كانَتْ فَقِيرَةً فَيَشْتَدُّ فَقْرُها في السَّفَرِ، فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَتْحِ بابِ هَذِهِ الفاحِشَةِ العَظِيمَةِ عَلَيْها. ولا جائِزَ أنْ يُقالَ: إنّا نُغَرِّبُها مَعَ الزَّوْجِ أوِ المَحْرَمِ؛ لِأنَّ عُقُوبَةَ غَيْرِ الجانِي لا تَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنْعامِ: ١٦٤]. وسادِسُها: ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ في الخَمْرِ إلى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ، فَقالَ عُمَرُ: لا أُغَرِّبُ بَعْدَها أحَدًا. ولَمْ يَسْتَثْنِ الزِّنا. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ في البِكْرَيْنِ إذا زَنَيا: يُجْلَدانِ ولا يُنْفَيانِ، وإنَّ نَفْيَهُما مِنَ الفِتْنَةِ، وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ أمَةً لَهُ زَنَتْ فَجَلَدَها ولَمْ يَنْفِها، ولَوْ كانَ النَّفْيُ مُعْتَبَرًا في حَدِّ الزِّنا لَما خَفِيَ ذَلِكَ عَلى أكابِرِ الصَّحابَةِ. وسابِعُها: ما رُوِيَ ”«أنَّ شَيْخًا وُجِدَ عَلى بَطْنِ جارِيَةٍ يَحْنَثُ بِها في خَرِبَةٍ، فَأُتِيَ بِهِ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ: اجْلِدُوهُ مِائَةً. فَقِيلَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ مِن ذَلِكَ. فَقالَ: خُذُوا عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْراخٍ فاضْرِبُوهُ بِها وخَلُّوا سَبِيلَهُ» “. ولَوْ كانَ النَّفْيُ واجِبًا لَنَفاهُ، فَإنْ قِيلَ: إنَّما لَمْ يَنْفِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ ضَعِيفًا عاجِزًا عَنِ الحَرَكَةِ، قُلْنا: كانَ يَنْبَغِي أنْ يُكْتَرى لَهُ دابَّةٌ مِن بَيْتِ المالِ يُنْفى عَلَيْها. فَإنْ قِيلَ: كانَ عَسى يَضْعُفُ عَنِ الرُّكُوبِ، قُلْنا: مَن قَدَرَ عَلى الزِّنا كَيْفَ لا يَقْدِرُ عَلى الِاسْتِمْساكِ؟! وثامِنُها: أنَّ التَّغْرِيبَ نَظِيرُ القَتْلِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اقْتُلُوا أنْفُسَكم أوِ اخْرُجُوا مِن دِيارِكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٦٦] فَنَزَّلَهُما مَنزِلَةً واحِدَةً، فَإذا لَمْ يُشْرَعَ القَتْلُ في زِنا البِكْرِ وجَبَ أنْ لا يُشْرَعَ أيْضًا نَظِيرُهُ وهو التَّغْرِيبُ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ لَيْسَ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى إلّا إدْخالُ حَرْفِ الفاءِ عَلى الأمْرِ بِالجَلْدِ، فَأمّا أنَّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ هَذا الحَرْفُ فَإنَّهُ يُسَمّى جَزاءً، فَلَيْسَ هَذا مِن كَلامِ اللَّهِ ولا مِن كَلامِ رَسُولِهِ، بَلْ هو قَوْلُ بَعْضِ الأُدَباءِ فَلا يَكُونُ حُجَّةً. أمّا قَوْلُهُ ثانِيًا: لَوْ كانَ النَّفْيُ مَشْرُوعًا لَما كانَ الجَلْدُ كُلَّ الحَدِّ، فَنَقُولُ: لا نِزاعَ في أنَّهُ زالَ أمْرُهُ؛ لِأنَّ إثْباتَ كُلِّ شَيْءٍ لا أقَلُّ مِن أنْ يَقْتَضِيَ زَوالَ عَدَمِهِ الَّذِي كانَ، إلّا أنَّ الزّائِلَ هاهُنا لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، بَلِ الزّائِلُ مَحْضُ البَراءَةِ الأصْلِيَّةِ، ومِثْلُ هَذِهِ الإزالَةِ لا يَمْتَنِعُ إثْباتُها بِخَبَرِ الواحِدِ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ الزّائِلَ مَحْضُ العَدَمِ الأصْلِيِّ؛ وذَلِكَ لِأنَّ إيجابَ الجَلْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إيجابِ التَّغْرِيبِ وبَيْنَ إيجابِهِ مَعَ نَفْيِ التَّغْرِيبِ. والقَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ القِسْمَيْنِ لا إشْعارَ لَهُ بِواحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ. فَإذَنْ إيجابُ الجَلْدِ لا إشْعارَ فِيهِ البَتَّةَ لا بِإيجابِ التَّغْرِيبِ ولا بِعَدَمِ إيجابِهِ، إلّا أنَّ نَفْيَ التَّغْرِيبِ كانَ مَعْلُومًا بِالعَقْلِ نَظَرًا إلى البَراءَةِ الأصْلِيَّةِ، فَإذا جاءَ خَبَرُ الواحِدِ ودَلَّ عَلى وُجُوبِ التَّغْرِيبِ، فَما أزالَ البَتَّةَ شَيْئًا مِن مَدْلُولاتِ اللَّفْظِ الدّالِّ عَلى وُجُوبِ الجَلْدِ، بَلْ أزالَ البَراءَةَ الأصْلِيَّةَ، فَأمّا كَوْنُ الجَلْدِ وحْدَهُ مُجْزِيًا، وكَوْنُهُ وحْدَهُ كَمالَ الحَدِّ. وتَعَلَّقَ رَدُّ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ، فَكُلُّ ذَلِكَ (p-١٢١)تابِعٌ لِنَفْيِ وُجُوبِ الزِّيادَةِ. فَلَمّا كانَ ذَلِكَ النَّفْيُ مَعْلُومًا بِالعَقْلِ جازَ قَبُولُ خَبَرِ الواحِدِ فِيهِ، كَما أنَّ الفُرُوضَ لَوْ كانَتْ خَمْسًا لَتَوَقَّفَ عَلى أدائِها الخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ وقَبُولِ الشَّهادَةِ، ولَوْ زِيدَ فِيها شَيْءٌ آخَرُ لَتَوَقَّفَ الخُرُوجُ عَنِ العُهْدَةِ وقَبُولِ الشَّهادَةِ عَلى أداءِ تِلْكَ الزِّيادَةِ، مَعَ أنَّهُ يَجُوزُ إثْباتُهُ بِخَبَرِ الواحِدِ والقِياسِ، فَكَذا هاهُنا. أمّا لَوْ قالَ اللَّهُ تَعالى: الجَلْدُ كَمالُ الحَدِّ، وعَلِمْنا أنَّها وحْدَها مُتَعَلِّقُ رَدِّ الشَّهادَةِ، فَلا يُقْبَلُ هاهُنا في إثْباتِ الزِّيادَةِ خَبَرُ الواحِدِ؛ لِأنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الزِّيادَةِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَواتِرٍ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: أنَّهُ لَوْ صَحَّ ما ذَكَرَهُ لَوَجَبَ في كُلِّ ما خَصَّصَ آيَةً عامَّةً أنْ يَبْلُغَ في الِاشْتِهارِ مَبْلَغَ تِلْكَ الآيَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ أنَّ قَوْلَهُ: ”ثُمَّ بِيعُوها“ لا يُفِيدُ التَّعْقِيبَ، فَلَعَلَّها تُنْفى ثُمَّ بَعْدَ النَّفْيِ تُباعُ. والجَوابُ عَنِ الرّابِعِ أنَّهُ مُعارَضٌ بِما رَوى التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ جَلَدَ وغَرَّبَ، وأنَّ أبا بَكْرٍ جَلَدَ وغَرَّبَ. والجَوابُ عَنِ الخامِسِ أنَّ لِلشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَغْرِيبِ العَبْدِ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: لا يُغَرَّبُ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ» “ ولَمْ يَأْمُرْ بِالتَّغْرِيبِ، ولِأنَّ التَّغْرِيبَ لِلْمَعَرَّةِ ولا مَعَرَّةَ عَلى العَبْدِ فِيهِ؛ لِأنَّهُ يُنْقَلُ مِن يَدٍ إلى يَدٍ، ولِأنَّ مَنافِعَهُ لِلسَّيِّدِ فَفي نَفْيِهِ إضْرارٌ بِالسَّيِّدِ. والثّانِي: وهو الأصَحُّ أنَّهُ يُغَرَّبُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النِّساءِ: ٢٥] ولا يُنْظَرُ إلى ضَرَرِ المَوْلى، كَما يُقْتَلُ العَبْدُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، ويُجْلَدُ العَبْدُ في الزِّنا والقَذْفِ، وإنْ تَضَرَّرَ بِهِ المَوْلى، فَعَلى هَذا كَمْ يُغَرَّبُ؟ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يُغَرَّبُ نِصْفَ سَنَةٍ؛ لِأنَّهُ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ كَما يُجْلَدُ نِصْفَ حَدِّ الأحْرارِ. والثّانِي: يُغَرَّبُ سَنَةً؛ لِأنَّ التَّغْرِيبَ المَقْصُودَ مِنهُ الإيحاشُ، وذَلِكَ مَعْنًى يَرْجِعُ إلى الطَّبْعِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الحُرُّ والعَبْدُ كَمُدَّةِ الإيلاءِ أوِ العُنَّةِ. والجَوابُ عَنِ السّادِسِ: أنَّ المَرْأةَ لا تُغَرَّبُ وحْدَها بَلْ مَعَ مَحْرَمٍ، فَإنْ لَمْ يَتَبَرَّعِ المَحْرَمُ بِالخُرُوجِ مَعَها أُعْطِيَ أُجْرَتَهُ مِن بَيْتِ المالِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَها مَحْرَمٌ تُغَرَّبُ مَعَ النِّساءِ الثِّقاتِ، كَما يَجِبُ عَلَيْها الخُرُوجُ إلى الحَجِّ مَعَهُنَّ. قَوْلُهُ: التَّغْرِيبُ يَفْتَحُ عَلَيْها بابَ الزِّنا، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ فَإنَّ أكْثَرَ الزِّنا بِالإلْفِ والمُؤانَسَةِ وفَراغِ القَلْبِ، وأكْثَرَ هَذِهِ الأشْياءِ تَبْطُلُ بِالغُرْبَةِ، فَإنَّ الإنْسانَ يَقَعُ في الوَحْشَةِ والتَّعَبِ والنَّصَبِ فَلا يَتَفَرَّغُ لِلزِّنا. والجَوابُ عَنِ السّابِعِ: أيُّ اسْتِبْعادٍ في أنْ يَكُونَ الإنْسانُ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ رُكُوبِ الدّابَّةِ يَقْدِرُ عَلى الزِّنا؟ والجَوابُ عَنِ الثّامِنِ: أنَّهُ يُنْتَقَضُ بِالتَّغْرِيبِ إذا وقَعَ عَلى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المسألة الثّالِثَةُ: اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ يُفِيدُ الحُكْمَ في كُلِّ الزُّناةِ، لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ تِلْكَ الدَّلالَةِ، فَقالَ قائِلُونَ: لَفْظُ الزّانِي يُفِيدُ العُمُومَ، والمُخْتارُ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ. أحَدُها: أنَّ الرَّجُلَ إذا قالَ: لَبِسْتُ الثَّوْبَ أوْ شَرِبْتُ الماءَ، لا يُفِيدُ العُمُومَ. وثانِيها: أنَّهُ لا يَجُوزُ تَوْكِيدُهُ بِما يُؤَكَّدُ بِهِ الجَمْعُ، فَلا يُقالُ: جاءَنِي الرَّجُلُ أجْمَعُونَ. وثالِثُها: لا يُنْعَتُ بِنُعُوتِ الجَمْعِ فَلا يُقالُ: جاءَنِي الرَّجُلُ الفُقَراءُ، وتَكَلَّمَ الفَقِيهُ الفُضَلاءُ، فَأمّا قَوْلُهم: أهْلَكَ النّاسَ الدِّرْهَمُ البِيضُ والدِّينارُ الصُّفْرُ، فَمَجازٌ؛ بِدَلِيلِ أنَّهُ لا يَطَّرِدُ، وأيْضًا فَإنْ كانَ الدِّينارُ الصُّفْرُ حَقِيقَةً وجَبَ أنْ يَكُونَ الدِّينارُ الأصْفَرُ مَجازًا، كَما أنَّ الدَّنانِيرَ الصُّفْرَ لَمّا كانَتْ حَقِيقَةً كانَ الدَّنانِيرُ الأصْفَرُ مَجازًا. ورابِعُها: أنَّ الزّانِيَ جُزْئِيٌّ مِن هَذا الزّانِي، فَإيجابُ جَلْدِ هَذا الزّانِي إيجابُ جَلْدِ الزّانِي، فَلَوْ كانَ إيجابُ جَلْدِ الزّانِي إيجابًا لِجَلْدِ كُلِّ زانٍ لَزِمَ أنْ يَكُونَ (p-١٢٢)إيجابُ جَلْدِ هَذا الزّانِي إيجابَ جَلْدِ كُلِّ زانٍ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَطَلَ ما قالُوهُ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: اللَّفْظُ المُطْلَقُ إنَّما يُفِيدُ العُمُومَ بِشَرْطِ العَراءِ عَنْ لَفْظِ التَّعْيِينِ، أوْ يُقالُ: اللَّفْظُ المُطْلَقُ وإنِ اقْتَضى العُمُومَ إلّا أنَّ لَفْظَ التَّعْيِينِ يَقْتَضِي الخُصُوصَ، قُلْنا: أمّا الأوَّلُ فَباطِلٌ لِأنَّ العَدَمَ لا دَخْلَ لَهُ في التَّأْثِيرِ، أمّا الثّانِي فَلِأنَّهُ يَقْتَضِي التَّعارُضَ وهو خِلافُ الأصْلِ. وخامِسُها: أنْ يُقالَ: الإنْسانُ هو الضَّحّاكُ، فَلَوْ كانَ المَفْهُومُ مِن قَوْلِنا: الإنْسانُ، هو كُلُّ الإنْسانِ، لَنَزَلَ ذَلِكَ مَنزِلَةَ ما يُقالُ: كُلُّ إنْسانٍ هو الضَّحّاكُ، وذَلِكَ مُتَناقِضٌ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الإنْسانِيَّةِ في كُلِّ واحِدٍ مِنَ النّاسِ، ومَعْنى الحَصْرِ هو أنْ يَثْبُتَ فِيهِ لا في غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ أنْ يَصْدُقَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِن أشْخاصِ النّاسِ أنَّهُ هو الضَّحّاكُ لا غَيْرُ، واحْتَجَّ المُخالِفُ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِثْناءُ مِنهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [العَصْرِ: ٢، ٣] والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ تَحْتَهُ. الثّانِي: أنَّ الألِفَ واللّامَ لِلتَّعْرِيفِ، ولَيْسَ ذَلِكَ لِتَعْرِيفِ الماهِيَّةِ، فَإنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ بِأصْلِ الِاسْمِ، ولا لِتَعْرِيفِ واحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَإنَّهُ لَيْسَ في اللَّفْظِ دَلالَةٌ عَلَيْهِ، ولا لِتَعْرِيفِ بَعْضِ مَراتِبَ الخُصُوصِ، فَإنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ المَراتِبِ أوْلى مِن بَعْضٍ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى تَعْرِيفِ الكُلِّ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّ ذَلِكَ الِاسْتِثْناءَ مَجازٌ بِدَلِيلِ أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: رَأيْتُ الإنْسانَ إلّا المُؤْمِنِينَ، وعَنِ الثّانِي أنَّهُ يُشْكِلُ بِدُخُولِ الألِفِ واللّامِ عَلى صِيغَةِ الجَمْعِ، فَإنْ جَعَلْتَها هُناكَ لِلتَّأْكِيدِ فَكَذا هاهُنا، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ وإنْ كانَ لا يُفِيدُ العُمُومَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، لَكِنَّهُ يُفِيدُهُ بِحَسَبِ القَرِينَةِ وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ المُشْتَقِّ يُفِيدُ كَوْنَ ذَلِكَ الوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الحُكْمِ، لا سِيَّما إذا كانَ الوَصْفُ مُناسِبًا، وهاهُنا كَذَلِكَ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الزِّنا عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الجَلْدِ، فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: أيْنَما تَحَقَّقَ الزِّنا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الجَلْدِ ضَرُورَةَ أنَّ العِلَّةَ لا تَنْفَكُّ عَنِ المَعْلُولِ. الثّانِي: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ إمّا أنْ يَكُونَ كُلَّ الزُّناةِ أوِ البَعْضَ، فَإنْ كانَ الثّانِيَ صارَتِ الآيَةُ مُجْمَلَةً وذَلِكَ يَمْنَعُ مِن إمْكانِ العَمَلِ بِهِ، لَكِنَّ العَمَلَ بِهِ مَأْمُورٌ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلّا بِهِ فَهو واجِبٌ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ حَتّى يُمْكِنَ العَمَلُ بِهِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * البَحْثُ الثّالِثُ: في الشَّرائِطِ المُعْتَبَرَةِ في كَوْنِ الزِّنا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ تارَةً والجَلْدِ أُخْرى، فَنَقُولُ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ كَوْنَ الزِّنا مُوجِبًا لِهَذَيْنَ الحُكْمَيْنِ مَشْرُوطٌ بِالعَقْلِ وبِالبُلُوغِ، فَلا يَجِبُ الرَّجْمُ والحَدُّ عَلى الصَّبِيِّ والمَجْنُونِ، وهَذانَ الشَّرْطانِ لَيْسا مِن خَواصِّ هَذَيْنِ الحُكْمَيْنِ بَلْ هُما مُعْتَبَرانِ في كُلِّ العُقُوباتِ، أمّا كَوْنُهُما مُوجِبَيْنِ لِلرَّجْمِ فَلا بُدَّ مَعَ العَقْلِ والبُلُوغِ مِن أُمُورٍ أُخَرَ. الشَّرْطُ الأوَّلُ: الحُرِّيَّةُ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّ الرَّقِيقَ لا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الرَّجْمُ البَتَّةَ. الشَّرْطُ الثّانِي: التَّزَوُّجُ بِنِكاحٍ صَحِيحٍ، فَلا يَحْصُلُ الإحْصانُ بِالإصابَةِ بِمِلْكِ اليَمِينِ ولا بِوَطْءِ الشُّبْهَةِ ولا بِالنِّكاحِ الفاسِدِ. الشَّرْطُ الثّالِثُ: الدُّخُولُ ولا بُدَّ مِنهُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«الثَّيِّبِ بِالثَّيِّبِ» “ وإنَّما تَصِيرُ ثَيِّبًا بِالوَطْءِ، وهاهُنا مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: هَلْ يُشْتَرَطُ أنْ تَكُونَ الإصابَةُ بِالنِّكاحِ بَعْدَ البُلُوغِ والحُرِّيَّةِ والعَقْلِ؟ فِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: لا يُشْتَرَطُ، حَتّى لَوْ أصابَ عَبْدٌ أمَةً بِنِكاحٍ صَحِيحٍ أوْ في حالِ الجُنُونِ والصِّغَرِ، ثُمَّ كَمُلَ حالُهُ فَزَنى يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ؛ لِأنَّهُ وطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْلِيلُ لِلزَّوْجِ الأوَّلِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الإحْصانُ كالوَطْءِ في حالِ الكَمالِ، (p-١٢٣)ولِأنَّ عَقْدَ النِّكاحِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَبْلَ الكَمالِ فَكَذَلِكَ الوَطْءُ. والثّانِي وهو الأصَحُّ وهو ظاهِرُ النَّصِّ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُشْتَرَطُ أنْ تَكُونَ الإصابَةُ بِالنِّكاحِ بَعْدَ البُلُوغِ والحُرِّيَّةِ والعَقْلِ؛ لِأنَّهُ لَمّا شُرِطَ أكْمَلُ الإصاباتِ وهو أنْ يَكُونَ بِنِكاحٍ صَحِيحٍ شُرِطَ أنْ يَكُونَ تِلْكَ الإصابَةُ في حالِ الكَمالِ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ الكَمالُ في الطَّرَفَيْنِ أوْ يُعْتَبَرُ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما كَمالُهُ بِنَفْسِهِ دُونَ صاحِبِهِ؟ فِيهِ قَوْلانِ، أحَدُهُما: مُعْتَبَرٌ في الطَّرَفَيْنِ حَتّى لَوْ وطِئَ الصَّبِيُّ بالِغَةً حُرَّةً عاقِلَةً فَإنَّهُ لا يُحْصِنُها، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٍ. والثّانِي: يُعْتَبَرُ في كُلِّ واحِدٍ مِنهُما كَمالُهُ بِنَفْسِهِ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ. حُجَّةُ القَوْلِ الأوَّلِ: أنَّهُ وطْءٌ لا يُفِيدُ الإحْصانَ لِأحَدِ الواطِئَيْنِ، فَلا يُفِيدُ في الآخَرِ كَوَطْءِ الأمَةِ. حُجَّةُ القَوْلِ الثّانِي: أنَّهُ لا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُما عَلى صِفَةِ الإحْصانِ وقْتَ النِّكاحِ وكَذا عِنْدَ الدُّخُولِ. الشَّرْطُ الرّابِعُ: الإسْلامُ لَيْسَ شَرْطًا في كَوْنِ الزِّنا مُوجِبًا لِلرَّجْمِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبِي يُوسُفَ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: شَرْطٌ، احْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِأُمُورٍ. أحَدُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«فَإذا قَبِلُوا الجِزْيَةَ فَأنْبِئُوهم أنَّ لَهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وعَلَيْهِمْ ما عَلى المُسْلِمِينَ» “ ومِن جُمْلَةِ ما عَلى المُسْلِمِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ عِنْدَ الإقْدامِ عَلى الزِّنا، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِتَحْصُلَ التَّسْوِيَةُ. وثانِيها: حَدِيثُ مالِكٍ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَجَمَ يَهُودِيًّا ويَهُودِيَّةً زَنَيا»، فَإمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَكَمَ بِذَلِكَ بِشَرِيعَتِهِ أوْ بِشَرِيعَةِ مَن قَبْلَهُ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فالِاسْتِدْلالُ بِهِ بَيِّنٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَكَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ صارَ شَرْعًا لَهُ. وثالِثُها: أنَّ زِنا الكافِرِ مِثْلُ زِنا المُسْلِمِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ ما يَجِبُ عَلى المُسْلِمِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الزِّنا مُحَرَّمٌ قَبِيحٌ فَيُناسِبُهُ الزَّجْرُ، وإيجابُ الرَّجْمِ يَصْلُحُ زاجِرًا لَهُ، ولا يَبْقى إلّا التَّفاوُتُ بِالكُفْرِ والإيمانِ، والكُفْرُ وإنْ كانَ لا يُوجِبُ تَغْلِيظَ الجِنايَةِ فَلا يُوجِبُ تَخْفِيفَها، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ وجَبَ العَمَلُ بِهِ في حَقِّ المُسْلِمِ ولا يَجِبُ في الذِّمِّيِّ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ في الذِّمِّيِّ، ووَجْهُ الفَرْقِ أنَّ القَتْلَ بِالأحْجارِ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ فَلا يَجِبُ إلّا بِجِنايَةٍ عَظِيمَةٍ، والجِنايَةُ تَعْظُمُ بِكُفْرانِ النِّعَمِ في حَقِّ الجانِي عَقْلًا وشَرْعًا، أمّا العَقْلُ فَلِأنَّ المَعْصِيَةَ كُفْرانُ النِّعْمَةِ، وكُلَّما كانَتِ النِّعَمُ أكْثَرَ وأعْظَمَ كانَ كُفْرانُها أعْظَمَ وأقْبَحَ، وأمّا الشَّرْعُ فَلِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ في حَقِّ نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ: ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الَأحْزابِ: ٣٠] فَلَمّا كانَتْ نِعَمُ اللَّهِ تَعالى في حَقِّهِنَّ أكْثَرَ كانَ العَذابُ في حَقِّهِنَّ أكْثَرَ، وقالَ في حَقِّ الرَّسُولِ: ﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ ﴿إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ﴾ [الإسْراءِ: ٧٤، ٧٥] وإنَّما عَظُمَتْ مَعْصِيَتُهُ لِأنَّ النِّعْمَةَ في حَقِّهِ أعْظَمُ وهي نِعْمَةُ النُّبُوَّةِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعالى في حَقِّ المُسْلِمِ المُحْصَنِ أكْثَرُ مِنها في حَقِّ الذِّمِّيِّ، فَكانَتْ مَعْصِيَةُ المُسْلِمِ أعْظَمَ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ عُقُوبَتُهُ أشَدَّ. وثانِيها: أنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَزْنِ بَعْدَ الإحْصانِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ. بَيانُ الأوَّلِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ» “. بَيانُ الثّانِي: أنَّ المُسْلِمَ الَّذِي لا يَكُونُ مُحْصَنًا لا يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا لِإحْدى ثَلاثٍ» “ وإذا كانَ المُسْلِمُ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا قَبِلُوا عَقْدَ الجِزْيَةِ فَأعْلِمْهم أنَّ لَهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وعَلَيْهِمْ ما عَلى المُسْلِمِينَ» “. وثالِثُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّ إحْصانَ القَذْفِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الإسْلامُ، فَكَذا إحْصانُ الرَّجْمِ، والجامِعُ ما ذَكَرْنا مِن كَمالِ النِّعْمَةِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ خَصَّ بِهِ الثَّيِّبَ المُسْلِمَ، فَكَذا الثَّيِّبُ الذِّمِّيُّ، وما ذَكَرُوهُ مِن حَدِيثِ زِيادَةِ النِّعْمَةِ عَلى المُؤْمِنِينَ فَنَقُولُ: نِعْمَةُ (p-١٢٤)الإسْلامِ حَصَلَتْ بِكَسْبِ العَبْدِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ كالخِدْمَةِ الزّائِدَةِ، وزِيادَةُ الخِدْمَةِ إنْ لَمْ تَكُنْ سَبَبًا لِلْعُذْرِ فَلا أقَلَّ مِن أنْ لا تَكُونَ سَبَبًا لِزِيادَةِ العُقُوبَةِ، وعَنِ الثّانِي: لا نُسَلِّمُ أنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ. سَلَّمْناهُ، لَكِنَّ الإحْصانَ قَدْ يُرادُ بِهِ التَّزَوُّجُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النُّورِ: ٤] وفي التَّفْسِيرِ: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ﴾ [النِّساءِ: ٢٥] يَعْنِي فَإذا تَزَوَّجْنَ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ مُحْصَنٌ بِهَذا التَّفْسِيرِ فَوَجَبَ رَجْمُهُ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ”«أوْ زِنًا بَعْدَ إحْصانٍ» “ رَتَّبَ الحُكْمَ في حَقِّ المُسْلِمِ عَلى هَذا الوَصْفِ فَدَلَّ عَلى كَوْنِ الوَصْفِ عِلَّةً، والوَصْفُ قائِمٌ في حَقِّ الذِّمِّيِّ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ. وعَنِ الثّالِثِ أنَّ حَدَّ القَذْفِ لِدَفْعِ العارِ كَرامَةً لِلْمَقْذُوفِ، والكافِرُ لا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْكَرامَةِ وصِيانَةِ العِرْضِ بِخِلافِ ما هاهُنا. واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا ما يَتَعَلَّقُ بِالجَلْدِ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الرَّقِيقَ لا يُرْجَمُ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يُجْلَدُ، وثَبَتَ بِنَصِّ الكِتابِ أنَّ عَلى الإماءِ نِصْفَ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ، فَلا جَرَمَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ الأمَةَ تُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً، أمّا العَبْدُ فَقَدِ اتَّفَقَ الجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ يُجْلَدُ أيْضًا خَمْسِينَ، إلّا أهْلَ الظّاهِرِ فَإنَّهم قالُوا: عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ المِائَةِ عَلى العَبْدِ والأمَةِ إلّا أنَّهُ ورَدَ النَّصُّ بِالتَّنْصِيفِ في حَقِّ الأمَةِ، فَلَوْ قِسْنا العَبْدَ عَلَيْها كانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ الكِتابِ بِالقِياسِ وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، ومِنهم مَن قالَ: الأمَةُ إذا تَزَوَّجَتْ فَعَلَيْها خَمْسُونَ جَلْدَةً، وإذا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَعَلَيْها المِائَةُ، لِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ وذَكَرُوا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ﴾ [النِّساءِ: ٢٥] أيْ: تَزَوَّجْنَّ ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النِّساءِ: ٢٥]. * * * المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُما اللَّهُ: الذِّمِّيُّ يُجْلَدُ. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يُجْلَدُ. لَنا وُجُوهٌ. أحَدُها: عُمُومُ قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ وثانِيها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم فَلْيَجْلِدْها» “ وقَوْلُهُ: ”«أقِيمُوا الحُدُودَ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُكم» “ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الذِّمِّيِّ والمُسْلِمِ. وثالِثُها: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ رَجَمَ اليَهُودِيَّيْنِ، فَذاكَ الرَّجْمُ إنْ كانَ مِن شَرْعِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَقَدْ حَصَلَ المَقْصُودُ، وإنْ كانَ مِن شَرْعِهِمْ فَلَمّا فَعَلَهُ الرَّسُولُ ﷺ صارَ ذَلِكَ مِن شَرْعِهِ، وحَقِيقَةُ هَذِهِ المسألة تَرْجِعُ إلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرائِعِ. * * * البَحْثُ الرّابِعُ: فِيما يَدُلُّ عَلى صُدُورِ الزِّنا مِنهُ، اعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا مِن أحَدِ ثَلاثَةِ أوْجُهٍ. إمّا بِأنْ يَراهُ الإمامُ بِنَفْسِهِ أوْ بِأنْ يُقِرَّ أوْ بِأنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ. أمّا الوجه الأوَّلُ: وهو ما إذا رَآهُ الإمامُ. قالَ الإمامُ مُحْيِي السُّنَّةِ في كِتابِ التَّهْذِيبِ: لا خِلافَ أنَّ عَلى القاضِي أنْ يَمْتَنِعَ عَنِ القَضاءِ بِعِلْمِ نَفْسِهِ، مِثْلَ ما إذا ادَّعى رَجُلٌ عَلى آخَرَ حَقًّا وأقامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، والقاضِي يَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ أبْرَأهُ. أوِ ادَّعى أنَّهُ قَتَلَ أباهُ وقْتَ كَذا، وقَدْ رَآهُ القاضِي حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ. أوِ ادَّعى نِكاحَ امْرَأةٍ وقَدْ سَمِعَهُ القاضِي طَلَّقَها، لا يَجُوزُ أنْ يَقْضِيَ بِهِ وإنْ أقامَ عَلَيْهِ شُهُودًا، وهَلْ يَجُوزُ لِلْقاضِي أنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ مِثْلَ أنِ ادَّعى عَلَيْهِ ألْفًا، وقَدْ رَآهُ القاضِي أقْرَضَهُ أوْ سَمِعَ المُدَّعِيَ عَلَيْهِ أقَرَّ بِهِ، فِيهِ قَوْلانِ، أصَحُّهُما وبِهِ قالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ والمُزَنِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، أنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا جازَ لَهُ أنْ يَحْكُمَ بِشَهادَةِ الشُّهُودِ وهو مِن قَوْلِهِمْ عَلى ظَنٍّ، فَلَأنْ يَجُوزَ بِما رَآهُ وسَمِعَهُ وهو مِنهُ عَلى عِلْمٍ أوْلى، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتابِ الرِّسالَةِ: أقْضِي بِعِلْمِي وهو أقْوى مِن شاهِدَيْنِ، أوْ بِشاهِدَيْنِ وشاهِدٍ وامْرَأتَيْنِ، وهو أقْوى مِن شاهِدٍ ويَمِينٍ أوْ بِشاهِدٍ ويَمِينٍ، وهو أقْوى مِنَ النُّكُولِ ورَدِّ اليَمِينِ. والقَوْلُ الثّانِي: لا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وهو قَوْلُ ابْنِ أبِي لَيْلى؛ لِأنَّ انْتِفاءَ التُّهْمَةِ شَرْطٌ في القَضاءِ، ولَمْ يُوجَدْ هَذا في المالِ، أمّا في العُقُوباتِ فَيُنْظَرُ إنْ كانَ ذَلِكَ مِن حُقُوقِ العِبادِ كالقِصاصِ وحَدِّ القَذْفِ هَلْ يَحْكُمُ فِيهِ (p-١٢٥)بِعِلْمِ نَفْسِهِ ؟ يُرَتَّبُ عَلى المالِ، إنْ قُلْنا هُناكَ: لا يَقْضِي، فَهاهُنا أوْلى، وإلّا فَقَوْلانِ، والفَرْقُ أنَّ مَبْنى حُقُوقِ اللَّهِ تَعالى عَلى المُساهَلَةِ والمُسامَحَةِ، ولا فَرْقَ عَلى القَوْلَيْنِ أنْ يَحْصُلَ العِلْمُ لِلْقاضِي في بَلَدِ وِلايَتِهِ وزَمانِ وِلايَتِهِ أوْ في غَيْرِهِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ حَصَلَ لَهُ العِلْمُ في بَلَدِ وِلايَتِهِ أوْ في زَمانِ وِلايَتِهِ لَهُ أنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وإلّا فَلا، فَنَقُولُ: العِلْمُ لا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ هَذِهِ الأحْوالِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ الحُكْمُ بِاخْتِلافِها. واللَّهُ أعْلَمُ. الطَّرِيقُ الثّانِي: الإقْرارُ، قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الإقْرارُ بِالزِّنا مَرَّةً واحِدَةً يُوجِبُ الحَدَّ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَلْ لا بُدَّ مِنَ الإقْرارِ أرْبَعَ مَرّاتٍ في أرْبَعِ مَجالِسَ، وقالَ أحْمَدُ: لا بُدَّ مِنَ الإقْرارِ أرْبَعَ مَرّاتٍ لَكِنْ لا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ في أرْبَعِ مَجالِسَ أوْ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أمْرانِ، الأوَّلُ: قِصَّةُ العَسِيفِ فَإنَّهُ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها“»، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الِاعْتِرافَ مَرَّةً واحِدَةً كافٍ. والثّانِي: أنَّهُ لَمّا أقَرَّ بِالزِّنا وجَبَ الحَدُّ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اقْضِ بِالظّاهِرِ»، والإقْرارُ مَرَّةً واحِدَةً يُوجِبُ الظُّهُورَ لا سِيَّما هاهُنا، وذَلِكَ لِأنَّ الصّارِفَ عَنِ الإقْرارِ بِالزِّنا قَوِيٌّ، لِما أنَّهُ سَبَبُ العارِ في الحالِ والألَمِ الشَّدِيدِ في المَآلِ، والصّارِفُ عَنِ الكَذِبِ أيْضًا قائِمٌ، وعِنْدَ اجْتِماعِ الصّارِفَيْنِ يَقْوى الِانْصِرافُ، فَثَبَتَ أنَّهُ إنَّما أقْدَمَ عَلى هَذا الإقْرارِ لِكَوْنِهِ صادِقًا. وإذا ظَهَرَ انْدَرَجَ تَحْتَ الحَدِيثِ وتَحْتَ الآيَةِ، أوْ نَقِيسُهُ عَلى الإقْرارِ بِالقَتْلِ والرِّدَّةِ، واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: قِصَّةُ ماعِزٍ، والِاسْتِدْلالُ بِها مِن وُجُوهٍ، الأوَّلُ: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أعْرَضَ عَنْهُ في المَرَّةِ الأُولى، ولَوْ وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ؛ لِأنَّ الإعْراضَ عَنْ إقامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعالى بَعْدَ كَمالِ الحجة لا يَجُوزُ. الثّانِي: أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ”«إنَّكَ شَهِدْتَ عَلى نَفْسِكَ أرْبَعَ مَرّاتٍ» “ ولَوْ كانَ الواحِدُ مِثْلَ الأرْبَعِ في إيجابِ الحَدِّ كانَ هَذا القَوْلُ لَغْوًا. والثّالِثُ: رُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ لِماعِزٍ بَعْدَما أقَرَّ ثَلاثَ مَرّاتٍ: ”لَوْ أقْرَرْتَ الرّابِعَةَ لَرَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ“ والرّابِعُ: عَنْ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيِّ قالَ: ”كُنّا مَعْشَرَ أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ نَقُولُ: لَوْ لَمْ يُقِرَّ ماعِزٌ أرْبَعَ مَرّاتٍ ما رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ“. وثانِيها: أنَّهم قاسُوا الإقْرارَ عَلى الشَّهادَةِ فَكَما أنَّهُ لا يُقْبَلُ في الزِّنا إلّا أرْبَعُ شَهاداتٍ فَكَذا في الإقْرارِ بِهِ، والجامِعُ السَّعْيُ في كِتْمانِ هَذِهِ الفاحِشَةِ. وثالِثُها: أنَّ الزِّنا لا يَنْتَفِي إلّا بِأرْبَعِ شَهاداتٍ أوْ بِأرْبَعِ أيْمانٍ في اللِّعانِ، فَجازَ أيْضًا أنْ لا يَثْبُتَ إلّا بِالإقْرارِ أرْبَعَ مَرّاتٍ، وبِهِ يُفارِقُ سائِرَ الحُقُوقِ فَإنَّها تَنْتَفِي بِيَمِينٍ واحِدٍ، فَجازَ أيْضًا أنْ يَثْبُتَ بِإقْرارٍ واحِدٍ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ لَيْسَ في الحَدِيثِ إلّا أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَكَمَ بِالشَّهاداتِ الأرْبَعِ، وذَلِكَ لا يُنافِي جَوازَ الحُكْمِ بِالشَّهادَةِ الواحِدَةِ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُما أنَّ المَقْذُوفَ لَوْ أقَرَّ بِالزِّنا مَرَّةً لَسَقَطَ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ، ولَوْلا أنَّ الزِّنا ثَبَتَ لَما سَقَطَ، كَما لَوْ شَهِدَ اثْنانِ بِالزِّنا لا يَسْقُطُ الحَدُّ عَنِ القاذِفِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الزِّنا. واللَّهُ أعْلَمُ. والطَّرِيقُ الثّالِثُ: الشَّهادَةُ، وقَدْ أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا بُدَّ مِن أرْبَعِ شَهاداتٍ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النِّساءِ: ١٥] والكَلامُ فِيهِ سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ [النُّورِ: ٤]. * * * البَحْثُ الخامِسُ: في أنَّ المُخاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاجْلِدُوا﴾ مَن هُوَ؟ أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ المُخاطَبَ بِذَلِكَ هو الإمامُ، ثُمَّ احْتَجُّوا بِهَذا عَلى وُجُوبِ نَصْبِ الإمامِ، قالُوا: لِأنَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَ بِإقامَةِ الحَدِّ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا يَتَوَلّى إقامَتَهُ إلّا الإمامُ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ المُطْلَقُ إلّا بِهِ وكانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، فَهو واجِبٌ، فَكانَ (p-١٢٦)نَصْبُ الإمامِ واجِبًا، وقَدْ مَرَّ بَيانُ هَذِهِ الدَّلالَةِ في قَوْلِهِ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما﴾ [المائِدَةِ: ٣٨] بَقِيَ هاهُنا ثَلاثُ مَسائِلَ: المسألة الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّيِّدُ يَمْلِكُ إقامَةَ الحَدِّ عَلى مَمْلُوكِهِ. وهو قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ عُمَرَ وفاطِمَةَ وعائِشَةَ. وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ وزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لا يَمْلِكُ، وقالَ مالِكٌ: يَحُدُّهُ المَوْلى في الزِّنا وشُرْبِ الخَمْرِ والقَذْفِ، ولا يَقْطَعُهُ في السَّرِقَةِ وإنَّما يَقْطَعُهُ الإمامُ، وهو قَوْلُ اللَّيْثِ. واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«أقِيمُوا الحُدُودَ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُكم» “ وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم فَلْيَجْلِدْها» “ وفي رِوايَةٍ أُخْرى ”«فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ» “ قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لا دَلالَةَ في هَذِهِ الأخْبارِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ”«أقِيمُوا الحُدُودَ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُكم» “ هو كَقَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ مِنهُ رَفْعُهُ إلى الإمامِ لِإقامَةِ الحَدِّ، والمُخاطَبُونَ بِإقامَةِ الحَدِّ هُمُ الأئِمَّةُ، وسائِرُ النّاسِ مُخاطَبُونَ بِرَفْعِ الأمْرِ إلَيْهِمْ حَتّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الحُدُودَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ”«أقِيمُوا الحُدُودَ عَلى ما مَلَكَتْ أيْمانُكم» “ عَلى هَذا المَعْنى، وأمّا قَوْلُهُ: ”«إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكم فَلْيَجْلِدْها» “ فَإنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا؛ لِأنَّ الجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلى وجْهِ التَّعْزِيرِ، فَإذا عَزَّرْنا فَقَدْ وفَّيْنا بِمُقْتَضى الحَدِيثِ. والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ”«أقِيمُوا الحُدُودَ» “ أمْرٌ بِإقامَةِ الحَدِّ، فَحَمْلُ هَذا اللَّفْظِ عَلى رَفْعِ الواقِعَةِ إلى الإمامِ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، أقْصى ما في البابِ أنَّهُ تُرِكَ الظّاهِرُ في قَوْلِهِ: فاجْلِدُوا، لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِن تَرْكِ الظّاهِرِ هُناكَ تَرْكُهُ هاهُنا، أمّا قَوْلُهُ: ”فَلْيَجْلِدْها“ المُرادُ هو التَّعْزِيرُ، فَباطِلٌ؛ لِأنَّ الجَلْدَ المَذْكُورَ عَقِيبَ الزِّنا لا يُفْهَمُ مِنهُ إلّا الحَدُّ. وثانِيها: أنَّ السُّلْطانَ لَمّا مَلَكَ إقامَةَ الحَدِّ عَلَيْهِ فَسَيِّدُهُ بِهِ أوْلى؛ لِأنَّ تَعَلُّقَ السَّيِّدِ بِالعَبْدِ أقْوى مِن تَعَلُّقِ السُّلْطانِ بِهِ؛ لِأنَّ المِلْكَ أقْوى مَن عَقْدِ البَيْعَةِ، ووِلايَةُ السّادَةِ عَلى العَبِيدِ فَوْقَ وِلايَةِ السُّلْطانِ عَلى الرَّعِيَّةِ، حَتّى إذا كانَ لِلْأمَةِ سَيِّدٌ وأبٌ فَإنَّ وِلايَةَ النِّكاحِ لِلسَّيِّدِ دُونَ الأبِ، ثُمَّ الأبُ مُقَدَّمٌ عَلى السُّلْطانِ في وِلايَةِ النِّكاحِ، فَيَكُونُ السَّيِّدُ مُقَدَّمًا عَلى السُّلْطانِ بِدَرَجاتٍ، فَكانَ أوْلى، ولِأنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفاتِ في هَذا المَحَلِّ ما لا يَمْلِكُهُ الإمامُ، فَثَبَتَ أنَّ المَوْلى أوْلى. وثالِثُها: أجْمَعْنا عَلى أنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ التَّعْزِيرَ فَكَذا الحَدُّ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ نَظِيرُ الآخَرِ، وإنْ كانَ أحَدُهُما مُقَدَّرًا والآخَرُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، واحْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ عَلى مَذْهَبِ أبِي حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ. أحَدُها: قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ لا شَكَّ أنَّهُ خِطابٌ مَعَ الأئِمَّةِ دُونَ عامَّةِ النّاسِ، فالتَّقْدِيرُ فاجْلِدُوا أيُّها الأئِمَّةُ والحُكّامُ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، ولَمْ يُفَرِّقْ في هَذِهِ الآيَةِ بَيْنَ المَحْدُودِينَ مِنَ الأحْرارِ والعَبِيدِ، فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ الأئِمَّةُ هُمُ المُخاطَبُونَ بِإقامَةِ الحُدُودِ عَلى الأحْرارِ والعَبِيدِ دُونَ المَوالِي. وثانِيها: أنَّهُ لَوْ جازَ لِلْمَوْلى أنْ يَسْمَعَ شَهادَةَ الشُّهُودِ عَلى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ، فَلَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهادَتِهِمْ لَوَجَبَ أنْ يَتَمَكَّنَ مِن تَضْمِينِ الشُّهُودِ؛ لِأنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الحاكِمِ بِالشَّهادَةِ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَحْكُمُ بِشَهادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا، فَكانَ يَصِيرُ حاكِما لِنَفْسِهِ بِإيجابِ الضَّمانِ عَلَيْهِمْ؛ وذَلِكَ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مِنَ النّاسِ أنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ. فَعَلِمْنا أنَّ المَوْلى لا يَمْلِكُ اسْتِماعَ البَيِّنَةِ عَلى عَبْدِهِ بِذَلِكَ ولا قَطْعَهُ. وثالِثُها: أنَّ المالِكَ رُبَّما لا يَسْتَوْفِي الحَدَّ بِكَمالِهِ لِشَفَقَتِهِ عَلى مِلْكِهِ، وإذا كانَ مُتَّهَمًا وجَبَ أنْ لا يُفَوَّضَ إلَيْهِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاجْلِدُوا﴾ لَيْسَ بِصَرِيحِهِ خِطابًا مَعَ الإمامِ، لَكِنْ بِواسِطَةِ أنَّهُ لَمّا انْعَقَدَ الإجْماعُ عَلى أنَّ غَيْرَ الإمامِ لا يَتَوَلّاهُ حَمَلْنا ذَلِكَ الخِطابَ عَلى الإمامِ، وهاهُنا لَمْ يَنْعَقِدَ الإجْماعُ (p-١٢٧)عَلى أنَّ الإمامَ لا يَتَوَلّاهُ لِأنَّهُ عَيْنُ النِّزاعِ. والجَوابُ عَنِ الثّانِي: قالَ مُحْيِي السُّنَّةِ في كِتابِ ”التَّهْذِيبِ“: هَلْ يَجُوزُ لِلْمَوْلى قَطْعُ يَدِ عَبْدِهِ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ؟ فِيهِ وجْهانِ. أصَحُّهُما أنَّهُ يَجُوزُ، نَصَّ عَلَيْهِ في رِوايَةِ البُوَيْطِيِّ لِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ قَطَعَ عَبْدًا لَهُ سَرَقَ. وكَما يَجْلِدُهُ في الزِّنا وشُرْبِ الخَمْرِ. والثّانِي: لا، بَلِ القَطْعُ إلى الإمامِ بِخِلافِ الجَلْدِ؛ لِأنَّ المَوْلى يَمْلِكُ جِنْسَ الجَلْدِ وهو التَّعْزِيرُ ولا يَمْلِكُ جِنْسَ القَطْعِ، ثُمَّ قالَ: وكُلُّ حَدٍّ يُقِيمُهُ المَوْلى عَلى عَبْدِهِ إنَّما يُقِيمُهُ إذا ثَبَتَ بِاعْتِرافِ العَبْدِ، فَإنْ كانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَهَلْ يَسْمَعُ المَوْلى الشَّهادَةَ؟ فِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: يَسْمَعُ لِأنَّهُ مَلَكَ الإقامَةَ بِالِاعْتِرافِ فَيَمْلِكُ بِالبَيِّنَةِ كالإمامِ. والثّانِي: لا يَسْمَعُ بَلْ ذاكَ إلى الحُكّامِ. والجَوابُ عَنِ الثّالِثِ أنَّهُ مَنقُوضٌ بِالتَّعْزِيرِ. * * * المسألة الثّانِيَةُ: إذا فُقِدَ الإمامُ فَلَيْسَ لِآحادِ النّاسِ إقامَةُ هَذِهِ الحُدُودِ، بَلِ الأوْلى أنْ يُعَيِّنُوا واحِدًا مِنَ الصّالِحِينَ لِيَقُومَ بِهِ. المسألة الثّالِثَةُ: الخارِجِيُّ المُتَغَلِّبُ هَلْ لَهُ إقامَةُ الحُدُودِ؟ قالَ بَعْضُهُمْ: لَهُ ذَلِكَ. وقالَ آخَرُونَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ إقامَةَ الحَدِّ مِن جِهَةِ مَن يَلْزَمُنا أنْ نُزِيلَ وِلايَتَهُ أبْعَدُ مِن أنْ نُفَوِّضَ ذَلِكَ إلى رَجُلٍ مِنَ الصّالِحِينَ. * * * البَحْثُ السّادِسُ: في كَيْفِيَّةِ إقامَةِ الحَدِّ، أمّا الجَلْدُ، فاعْلَمْ أنَّ المَذْكُورَ في الآيَةِ هو الجَلْدُ، وهَذا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الجَلْدِ الشَّدِيدِ والجَلْدِ الخَفِيفِ، والجَلْدِ عَلى كُلِّ الأعْضاءِ أوْ عَلى بَعْضِ الأعْضاءِ، فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ في الآيَةِ إشْعارٌ بِشَيْءٍ مِن هَذِهِ القُيُودِ، بَلْ مُقْتَضى الآيَةِ أنْ يَكُونَ الآتِي بِالجَلْدِ كَيْفَ كانَ خارِجًا عَنِ العُهْدَةِ؛ لِأنَّهُ أتى بِما أُمِرَ بِهِ فَوَجَبَ أنْ يَخْرُجَ مِنَ العُهْدَةِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وفي لَفْظِ الجَلْدِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَتَجاوَزَ الألَمُ إلى اللَّحْمِ، ولِأنَّ الجَلْدَ ضَرْبُ الجِلْدِ، يُقالُ: جَلَدَهُ، كَقَوْلِكَ: ظَهَرَهُ، بِفَتْحِ الهاءِ، وبَطَنَهُ ورَأسَهُ، إلّا أنّا لَمّا عَرَفْنا أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ الزَّجْرُ، والزَّجْرُ لا يَحْصُلُ إلّا بِالجَلْدِ الخَفِيفِ، لا جَرَمَ تَكَلَّمَ العُلَماءُ في صِفَةِ الجَلْدِ عَلى سَبِيلِ القِياسِ. ثُمَّ هاهُنا مَسائِلُ: المسألة الأُولى: المُحْصَنُ يُجْلَدُ مَعَ ثِيابِهِ ولا يُجَرَّدُ، ولَكِنْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِلُ الألَمُ إلَيْهِ، ويُنْزَعُ مِن ثِيابِهِ الحَشْوُ والفَرْوُ. رَوى أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرّاحِ أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ في حَدٍّ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ، وقالَ: ما يَنْبَغِي لِجَسَدِ هَذا المُذْنِبِ أنْ يُضْرَبَ وعَلَيْهِ قَمِيصٌ، فَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: لا تَدَعُوهُ يَنْزِعُ قَمِيصَهُ، فَضَرَبَهُ عَلَيْهِ. أمّا المَرْأةُ فَلا خِلافَ في أنَّهُ لا يَجُوزُ تَجْرِيدُها، بَلْ يُرْبَطُ عَلَيْها ثِيابُها حَتّى لا تَنْكَشِفَ، ويَلِي ذَلِكَ مِنها امْرَأةٌ. المسألة الثّانِيَةُ: لا يُمَدُّ ولا يُرْبَطُ بَلْ يُتْرَكُ حَتّى يَتَّقِيَ بِيَدَيْهِ، ويُضْرَبُ الرَّجُلُ قائِمًا والمَرْأةُ جالِسَةً. قالَ أبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ضَرَبَ ابْنُ أبِي لَيْلى المَرْأةَ القاذِفَةَ قائِمَةً فَخَطَّأهُ أبُو حَنِيفَةَ. المسألة الثّالِثَةُ: يُضْرَبُ بِسَوْطٍ وسَطٍ لا جَدِيدٍ يَجْرَحُ ولا خَلِقٍ لَمْ يُؤْلِمْ، ويُضْرَبُ ضَرْبًا بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، لا شَدِيدٍ ولا واهٍ. رَوى أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ قالَ: أُتِيَ عُمَرُ بِرَجُلٍ في حَدٍّ ثُمَّ جِيءَ بِسَوْطٍ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقالَ: أُرِيدُ ألْيَنَ مِن هَذا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ فِيهِ لِينٌ، فَقالَ: أُرِيدُ أشَدَّ مِن هَذا، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ السَّوْطَيْنِ فَرَضِيَ بِهِ. المسألة الرّابِعَةُ: تُفَرَّقُ السِّياطُ عَلى أعْضائِهِ ولا يُجَمِّعُها في مَوْضِعٍ واحِدٍ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يَتَّقِي المَهالِكَ كالوجه والبَطْنِ والفَرْجِ، ويَضْرِبُ عَلى الرَّأْسِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا (p-١٢٨)يَضْرِبُ عَلى الرَّأْسِ، وهو قَوْلٌ عَلى حُجَّةِ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قالَ أبُو بَكْرٍ: أضْرِبُ عَلى الرَّأْسِ فَإنَّ الشَّيْطانَ فِيهِ. وعَنْ عُمَرَ أنَّهُ ضَرَبَ صَبِيغَ بْنَ عُسَيْلٍ عَلى رَأْسِهِ حِينَ سَألَ عَنِ الذّارِياتِ، عَلى وجْهِ التَّعَنُّتِ، حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أجْمَعْنا عَلى أنَّهُ لا يُضْرَبُ عَلى الوجه فَكَذا الرَّأْسُ، والجامِعُ الحُكْمُ والمَعْنى. أمّا الحُكْمُ فَلِأنَّ الشَّيْنَ الَّذِي يَلْحَقُ الرَّأْسَ بِتَأْثِيرِ الضَّرْبِ كالَّذِي يَلْحَقُ الوَجْهَ، بِدَلِيلِ أنَّ المُوضِحَةَ وسائِرَ الشِّجاجِ حُكْمُها في الرَّأْسِ والوجه واحِدٌ، وفارَقا سائِرَ البَدَنِ؛ لِأنَّ المُوضِحَةَ فِيما سِوى الرَّأْسِ والوجه إنَّما يَجِبُ فِيها حُكُومَةٌ ولا يَجِبُ فِيها أرْشُ المُوضِحَةِ الواقِعَةِ في الرَّأْسِ والوَجْهِ، فَوَجَبَ اسْتِواءُ الرَّأْسِ والوجه في وُجُوبِ صَوْنِهِما عَنِ الضَّرْبِ. وأمّا المَعْنى فَهو إنَّما مُنِعَ مِن ضَرْبِ الوجه لِما كانَ فِيهِ مِنَ الجِنايَةِ عَلى البَصَرِ، وذَلِكَ مَوْجُودٌ في الرَّأْسِ؛ لِأنَّ ضَرْبَ الرَّأْسِ يُظْلِمُ مِنهُ البَصَرُ، ورُبَّما حَدَثَ مِنهُ الماءُ في العَيْنِ، ورُبَّما حَدَثَ مِنهُ اخْتِلاطُ العَقْلِ. أجابَ أصْحابُنا عَنْهُ بِأنَّ الفَرْقَ بَيْنَ الوجه والرَّأْسِ ثابِتٌ؛ لِأنَّ الضَّرْبَةَ إذا وقَعَتْ عَلى الوَجْهِ، فَعَظْمُ الجَبْهَةِ رَقِيقٌ فَرُبَّما انْكَسَرَ بِخِلافِ عَظْمِ القَفا، فَإنَّهُ في نِهايَةِ الصَّلابَةِ، وأيْضًا فالعَيْنُ في نِهايَةِ اللَّطافَةِ، فالضَّرْبُ عَلَيْها يُورِثُ العَمى، وأيْضًا فالضَّرْبُ عَلى الوجه يَكْسِرُ الأنْفَ؛ لِأنَّهُ مِن غُضْرُوفٍ لَطِيفٍ، ويَكْسِرُ الأسْنانَ لِأنَّها عِظامٌ لَطِيفَةٌ، ويَقَعُ عَلى الخَدَّيْنِ وهُما لَحَمانِ قَرِيبانِ مِنَ الدِّماغِ، والضَّرْبَةُ عَلَيْهِما في نِهايَةِ الخَطَرِ لِسُرْعَةِ وُصُولِ ذَلِكَ الأثَرِ إلى جِرْمِ الدِّماغِ، وكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ في الضَّرْبِ عَلى الرَّأْسِ. المسألة الخامِسَةُ: لَوْ فَرَّقَ سِياطَ الحَدِّ تَفْرِيقًا لا يَحْصُلُ بِهِ التَّنْكِيلُ، مِثْلَ أنْ يَضْرِبَ كُلَّ يَوْمٍ سَوْطًا أوْ سَوْطَيْنِ لا يُحْسَبُ، وإنْ ضَرَبَ كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أوْ أكْثَرَ يُحْسَبُ، والأوْلى أنْ لا يُفَرِّقَ. * * * المسألة السّادِسَةُ: إنْ وجَبَ الحَدُّ عَلى الحُبْلى لا يُقامُ حَتّى تَضَعَ، رَوى عِمْرانُ بْنُ الحُصَيْنِ: «أنَّ امْرَأةً مِن جُهَيْنَةَ أتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهي حُبْلى مِنَ الزِّنا، فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللَّهِ أصَبْتُ حَدًّا فَأقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعا نَبِيُّ اللَّهِ ولَيَّها فَقالَ: أحْسِنْ إلَيْها، فَإذا وضَعَتْ فَأْتِنِي بِها فَفَعَلَ، فَأمَرَ بِها نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ فُشَدَّتْ عَلَيْها ثِيابُها، ثُمَّ أمَرَ بِها فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلّى عَلَيْها»، ولِأنَّ المَقْصُودَ التَّأْدِيبُ دُونَ الإتْلافِ. * * * المسألة السّابِعَةُ: إنْ وجَبَ الجَلْدُ عَلى المَرِيضِ نُظِرَ، فَإنْ كانَ بِهِ مَرَضٌ يُرْجى زَوالُهُ مِن صُداعٍ أوْ ضَعْفٍ أوْ وِلادَةٍ، يُؤَخَّرُ حَتّى يَبْرَأ، كَما لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدٌّ أوْ قَطْعٌ لا يُقامُ عَلَيْهِ حَدٌّ آخَرُ حَتّى يَبْرَأ مِنَ الأوَّلِ، وإنْ كانَ بِهِ مَرَضٌ لا يُرْجى زَوالُهُ كالسُّلِّ والزَّمانَةِ، فَلا يُؤَخَّرُ ولا يُضْرَبُ بِالسِّياطِ، فَإنَّهُ يَمُوتُ ولَيْسَ المَقْصُودُ مَوْتَهُ، وذَلِكَ لا يَخْتَلِفُ سَواءٌ كانَ زِناهُ في حالِ الصِّحَّةِ ثُمَّ مَرِضَ أوْ في حالِ المَرَضِ، بَلْ يُضْرَبُ بِعِثْكالٍ عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْراخٍ فَيَقُومُ ذَلِكَ مَقامَ مِائَةِ جَلْدَةٍ. كَما قالَ تَعالى في قِصَّةِ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤] وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُضْرَبُ بِالسِّياطِ، دَلِيلُنا ما رُوِيَ «أنَّ رَجُلًا مُقْعَدًا أصابَ امْرَأةً؛ فَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ فَأخَذُوا مِائَةَ شِمْراخٍ فَضَرَبُوهُ بِها ضَرْبَةً واحِدَةً»، ولِأنَّ الصَّلاةَ إذا كانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حالِهِ فالحَدُّ أوْلى بِذَلِكَ. * * * المسألة الثّامِنَةُ: يُقامُ الحَدُّ في وقْتِ اعْتِدالِ الهَواءِ، فَإنْ كانَ في حالِ شِدَّةِ حَرٍّ أوْ بَرْدٍ نُظِرَ إنْ كانَ الحَدُّ رَجْمًا يُقامُ عَلَيْهِ كَما يُقامُ في المَرَضِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ قَتْلُهُ، وقِيلَ: إنْ كانَ الرَّجْمُ ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإقْرارِهِ فَيُؤَخَّرُ إلى اعْتِدالِ الهَواءِ وزَوالِ المَرَضِ الَّذِي يُرْجى زَوالُهُ؛ لِأنَّهُ رُبَّما رَجَعَ عَنْ إقْرارِهِ في خِلالِ الرَّجْمِ، وقَدْ أثَّرَ الرَّجْمُ في جِسْمِهِ؛ فَتُعِينُ شِدَّةُ الحَرِّ والبَرْدِ والمَرَضِ عَلى إهْلاكِهِ، بِخِلافِ ما لَوْ ثَبَتَ بِالبَيِّنَةِ؛ لِأنَّهُ لا يَسْقُطُ، وإنْ كانَ الحَدُّ (p-١٢٩)جَلْدًا لَمْ يَجُزْ إقامَتُهُ في شِدَّةِ الحَرِّ والبَرْدِ، كَما لا يُقامُ في المَرَضِ. * * * أمّا الرَّجْمُ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ومالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجُوزُ لِلْإمامِ أنْ يَحْضُرَ رَجْمَهُ وأنْ لا يَحْضُرَ، وكَذا الشُّهُودُ لا يَلْزَمُهُمُ الحُضُورُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنْ ثَبَتَ الزِّنا بِالبَيِّنَةِ وجَبَ عَلى الشُّهُودِ أنْ يَبْدَؤُوا بِالرَّجْمِ ثُمَّ الإمامُ ثُمَّ النّاسُ، وإنْ ثَبَتَ بِإقْرارٍ بَدَأ الإمامُ ثُمَّ النّاسُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِرَجْمِ ماعِزٍ والغامِدِيَّةِ ولَمْ يَحْضُرْ رَجْمَهُما» . المسألة الثّانِيَةُ: إنْ ثَبَتَ الزِّنا بِإقْرارِهِ فَمَتى رَجَعَ تُرِكَ، وقَعَ بِهِ بَعْضُ الحَدِّ أوْ لَمْ يَقَعْ. وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- والثَّوْرِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ، وقالَ الحَسَنُ وابْنُ أبِي لَيْلى وداوُدُ لا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ، وعَنْ مالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوايَتانِ. حُجَّةُ القَوْلِ الأوَّلِ: «أنَّ ماعِزًا لَمّا مَسَّتْهُ الحِجارَةُ وهَرَبَ، فَقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”هَلّا تَرَكْتُمُوهُ“» . المسألة الثّالِثَةُ: يُحْفَرُ لِلْمَرْأةِ إلى صَدْرِها حَتّى لا تَنْكَشِفَ وتُرْمى إلَيْها، ولا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ، لِما رَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ ”«أنَّ ماعِزًا أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أصَبْتُ فاحِشَةً فَأقِمْ عَلَيَّ الحَدَّ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِرارًا، ثُمَّ سَألَ قَوْمَهُ، فَقالُوا: لا نَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا فَأمَرَنا أنْ نَرْجُمَهُ، فانْطَلَقْنا بِهِ إلى بَقِيعِ الغَرْقَدِ فَما أوْثَقْناهُ ولا حَفَرْنا لَهُ، قالَ فَرَمَيْناهُ بِالعِظامِ والمَدَرِ والخَزَفِ، قالَ فاشْتَدَّ واشْتَدَدْنا خَلْفَهُ حَتّى أتى عُرْضَ الحَرَّةِ وانْتَصَبَ لَنا فَرَمَيْناهُ بِجَلامِيدِ الحَرَّةِ حَتّى سَكَنَ» “ وجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ قالَ: ”فَما أوْثَقْناهُ ولا حَفَرْنا لَهُ“ ولِأنَّهُ هَرَبَ، ولَوْ كانَ في حُفْرَةٍ لَما أمْكَنَهُ ذَلِكَ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: إذا ماتَ في الحَدِّ يُغَسَّلُ ويُكَفَّنُ ويُصَلّى عَلَيْهِ ويُدْفَنُ في مَقابِرِ المُسْلِمِينَ، فَهَذا ما أرَدْنا ذِكْرَهُ مِن بَيانِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ. أمّا المَباحِثُ العَقْلِيَّةُ: فاعْلَمْ أنَّ مِنَ النّاسِ مَن قالَ: لا شَكَّ أنَّ البَدَنَ مُرَكَّبٌ مِن أجْزاءٍ كَثِيرَةٍ، فَإمّا أنْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ حَياةٌ وعِلْمٌ وقُدْرَةٌ عَلى حِدَةٍ. أوْ يَقُومَ بِكُلِّ الأجْزاءِ حَياةٌ واحِدَةٌ وعِلْمٌ واحِدٌ وقُدْرَةٌ واحِدَةٌ، والثّانِي مُحالٌ لِاسْتِحالَةِ قِيامِ العَرَضِ الواحِدِ بِالمَحالِّ الكَثِيرَةِ فَتَعَيَّنَ الأوَّلُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ كُلُّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ البَدَنِ حَيًّا عَلى حِدَةٍ وعالِمًا عَلى حِدَةٍ وقادِرًا عَلى حِدَةٍ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: الزّانِي هو الفَرْجُ لا الظَّهْرُ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ الحَكِيمِ أنْ يَأْمُرَ بِجَلْدِ الظَّهْرِ، ولِأنَّهُ رُبَّما كانَ الإنْسانُ حالَ إقْدامِهِ عَلى الزِّنا عَجِيفًا نَحِيفًا ثُمَّ يَسْمَنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَجُوزُ إيلامُ تِلْكَ الأجْزاءِ الزّائِدَةِ مَعَ أنَّها كانَتْ بَرِيئَةً عَنْ فِعْلِ الزِّنا، فَإنْ قالَ قائِلٌ هَذا مَدْفُوعٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو أنَّهُ لَيْسَ كُلُّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ البَدَنِ فاعِلًا عَلى حِدَةٍ وحَيًّا عَلى حِدَةٍ وذَلِكَ مُحالٌ، بَلِ الحَياةُ والعِلْمُ والقُدْرَةُ تَقُومُ بِالجُزْءِ الواحِدِ ثُمَّ تُوجِبُ حُكْمَ الحَيِيَّةِ والعالِمِيَّةِ والقادِرِيَّةِ لِمَجْمُوعِ الأجْزاءِ، فَيَكُونُ المَجْمُوعُ حَيًّا واحِدًا عالِمًا واحِدًا قادِرًا واحِدًا، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَزُولُ السُّؤالُ. الثّانِي: أنْ يُقالَ الَّذِي هو الفاعِلُ والمُحَرِّكُ والمُدْرِكُ شَيْءٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جُسْمانِيٍّ. وإنَّما هو مُدَبِّرٌ لِهَذا البَدَنِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا يَزُولُ السُّؤالُ، والجَوابُ: أمّا الأوَّلُ فَضَعِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ العِلْمَ إذا قامَ بِجُزْءٍ واحِدٍ، فَإمّا أنْ يَحْصُلَ بِمَجْمُوعِ الأجْزاءِ عالِمِيَّةٌ واحِدَةٌ فَيَلْزَمُ قِيامُ الصِّفَةِ الواحِدَةِ بِالمَحالِّ الكَثِيرَةِ وهو مُحالٌ، أوْ يَقُومَ بِكُلِّ جُزْءٍ عالِمِيَّةٌ عَلى حِدَةٍ فَيَعُودَ المَحْذُورُ المَذْكُورُ، وأمّا الثّانِي فَفي نِهايَةِ البُعْدِ لِأنَّهُ إذا كانَ الفاعِلُ لِلْقَبِيحِ هو ذَلِكَ المُبايِنُ فَلِمَ يُضْرَبُ هَذا الجَسَدُ ؟ واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن أحْكامِ الشَّرْعِ رِعايَةُ المَصالِحِ، ونَحْنُ نَعْلَمُ أنَّ (p-١٣٠)شَرْعَ الحَدِّ يُفِيدُ الزَّجْرَ، فَكانَ المَقْصُودُ حاصِلًا واللَّهُ أعْلَمُ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المسألة الأُولى: الرَّأْفَةُ الرِّقَّةُ والرَّحْمَةُ وقِراءَةُ العامَّةِ بِسُكُونِ الهَمْزَةِ، وقُرِئَ رَأفَةٌ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ ورَآفَةٌ عَلى فَعالَةٍ. المسألة الثّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنْ لا تَأْخُذَكم رَأْفَةٌ بِأنْ يُعَطَّلَ الحَدُّ أوْ يُنْقَصَ مِنهُ، والمَعْنى لا تُعَطِّلُوا حُدُودَ اللَّهِ، ولا تَتْرُكُوا إقامَتَها لِلشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، واخْتِيارُ الفَرّاءِ والزَّجّاجِ، ويُحْتَمَلُ أنْ لا تَأْخُذَكم رَأْفَةٌ بِأنْ يُخَفَّفَ الجَلْدُ، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ وقَتادَةَ، ويُحْتَمَلُ كِلا الأمْرَيْنِ والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ الأمْرُ بِنَفْسِ الجَلْدِ، ولَمْ يُذْكَرْ صِفَتُهُ، فَما يَعْقُبُهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ راجِعًا إلَيْهِ وكَفى بِرَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ في ذَلِكَ حَيْثُ قالَ: ”«لَوْ سَرَقَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَها» “ ونَبَّهَ بِقَوْلِهِ في دِينِ اللَّهِ عَلى أنَّ الدِّينَ إذا أوْجَبَ أمْرًا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمالُ الرَّأْفَةِ في خِلافِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ فَهو مِن بابِ التَّهْيِيجِ والتِهابِ الغَضَبِ لِلَّهِ تَعالى ولِدِينِهِ. قالَ الجُبّائِيُّ تَقْدِيرُ الآيَةِ: إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلا تَتْرُكُوا إقامَةَ الحُدُودِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاشْتِغالَ بِأداءِ الواجِباتِ مِنَ الإيمانِ بِخِلافِ ما تَقُولُهُ المُرْجِئَةُ، والجَوابُ: أنَّ الرَّأْفَةَ لا تَحْصُلُ إلّا إذا حَكَمَ الإنْسانُ بِطَبْعِهِ أنَّ الأوْلى أنْ لا تُقامَ تِلْكَ الحُدُودُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْكِرًا لِلدِّينِ فَيَخْرُجُ عَنِ الإيمانِ في الحَدِيثِ ”«يُؤْتى بِوالٍ نَقَصَ مِنَ الحَدِّ سَوْطًا، فَيُقالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذاكَ ؟ فَيَقُولُ رَحْمَةً لِعِبادِكَ، فَيُقالُ لَهُ أنْتَ أرْحَمُ بِهِمْ مِنِّي ! فَيُؤْمَرُ بِهِ إلى النّارِ، ويُؤْتى بِمَن زادَ سَوْطًا فَيُقالُ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ فَيَقُولُ لِيَنْتَهُوا عَنْ مَعاصِيكَ، فَيَقُولُ أنْتَ أحْكَمُ بِهِ مِنِّي! فَيُؤْمَرُ بِهِ إلى النّارِ» “ . * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ﴾ أمْرٌ وظاهِرُهُ لِلْوُجُوبِ، لَكِنَّ الفُقَهاءَ قالُوا يُسْتَحَبُّ حُضُورُ الجَمْعِ والمَقْصُودُ إعْلانُ إقامَةِ الحَدِّ، لِما فِيهِ مِن مَزِيدِ الرَّدْعِ، ولِما فِيهِ مِن رَفْعِ التُّهْمَةِ عَمَّنْ يَجْلِدُ، وقِيلَ أرادَ بِالطّائِفَةِ الشُّهُودَ لِأنَّهُ يَجِبُ حُضُورُهم لِيُعْلَمَ بَقاؤُهم عَلى الشَّهادَةِ. المسألة الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أقَلِّ الطّائِفَةِ عَلى أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ رَجُلٌ واحِدٌ وهو قَوْلُ النَّخَعِيِّ ومُجاهِدٍ. واحْتَجّا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩] وثانِيها: أنَّهُ اثْنانِ وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ وعَطاءٍ واحْتَجّا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ﴾ [التوبة: ١٢٢] وكُلُّ ثَلاثَةٍ فِرْقَةٌ والخارِجُ مِنَ الثَّلاثَةِ واحِدٌ أوِ اثْنانِ، والِاحْتِياطُ يُوجِبُ الأخْذَ بِالأكْثَرِ. وثالِثُها: أنَّهُ ثَلاثَةٌ وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وقَتادَةَ، قالُوا الطّائِفَةُ هي الفِرْقَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أنْ تُكَوِّنَ حَلَقَةً، كَأنَّها الجَماعَةُ الحافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ، وهَذِهِ الصُّورَةُ أقَلُّ ما لا بُدَّ في حُصُولِها هو الثَّلاثَةُ. ورابِعُها: أنَّهُ أرْبَعَةٌ بِعَدَدِ شُهُودِ الزِّنا، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وخامِسُها: أنَّهُ عَشَرَةٌ وهو قَوْلُ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، لِأنَّ العَشَرَةَ هي العَدَدُ الكامِلُ. المسألة الثّالِثَةُ: تَسْمِيَتُهُ عَذابًا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عُقُوبَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يُسَمّى عَذابًا لِأنَّهُ يَمْنَعُ المُعاوَدَةَ كَما سُمِّيَ نَكالًا لِذَلِكَ، ونَبَّهَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ عَلى أنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ يَجِبُ أنْ يَكُونُوا بِهَذا الوَصْفِ، (p-١٣١)لِأنَّهم إذا كانُوا كَذَلِكَ عَظُمَ مَوْقِعُ حُضُورِهِمْ في الزَّجْرِ، وعَظُمَ مَوْقِعُ إخْبارِهِمْ عَمّا شاهَدُوا فَيَخافُ المَجْلُودُ مِن حُضُورِهِمُ الشُّهْرَةَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أقْوى في الِانْزِجارِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب