الباحث القرآني
* (فَصْلٌ)
وَلَمّا كانَتِ العَثْرَةُ عَثْرَتَيْنِ: عَثْرَةَ الرِّجْلِ وعَثْرَةَ اللِّسانِ، جاءَتْ إحْداهُما قَرِينَةَ الأُخْرى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣].
فَوَصَفَهم بِالِاسْتِقامَةِ في لَفْظاتِهِمْ وخُطُواتِهِمْ، كَما جَمَعَ بَيْنَ اللَّحَظاتِ والخَطَراتِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَعْلَمُ خائِنَةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩].
وَهَذا كُلُّهُ ذَكَرْناهُ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْرِيمِ الفَواحِشِ ووُجُوبِ حِفْظِ الفَرْجِ، وقَدْ قالَ ﷺ: «أكْثَرُ ما يُدْخِلُ النّاسَ النّارَ: الفَمُ، والفَرْجُ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ: الثَّيِّبِ الزّانِي، والنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، والتّارِكِ لِدِينِهِ المُفارِقِ لِلْجَماعَةِ»، وهَذا الحَدِيثُ في اقْتِرانِ الزِّنى بِالكُفْرِ وقَتْلِ النَّفْسِ، نَظِيرُ الآيَةِ الَّتِي في الفُرْقانِ، ونَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَبَدَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالأكْثَرِ وُقُوعًا، والَّذِي يَلِيهِ، فالزِّنى أكْثَرُ وُقُوعًا مِن قَتْلِ النَّفْسِ، وقَتْلُ النَّفْسِ أكْثَرُ وُقُوعًا مِنَ الرِّدَّةِ، وأيْضًا فَإنَّهُ تَنَقَّلَ مِنَ الأكْبَرِ إلى ما هو أكْبَرُ مِنهُ، ومَفْسَدَةُ الزِّنى مُناقِضَةٌ لِصَلاحِ العالَمِ: فَإنَّ المَرْأةَ إذا زَنَتْ أدْخَلَتِ العارَ عَلى أهْلِها وزَوْجِها وأقارِبِها، ونَكَّسَتْ رُءُوسَهم بَيْنَ النّاسِ، وإنْ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنى، فَإنْ قَتَلَتْ ولَدَها جَمَعَتْ بَيْنَ الزِّنى والقَتْلِ، وإنْ حَمَلَتْهُ عَلى الزَّوْجِ أدْخَلَتْ عَلى أهْلِهِ وأهْلِها أجْنَبِيًّا لَيْسَ مِنهُمْ، فَوَرِثَهم ولَيْسَ مِنهُمْ، ورَآهم وخَلا بِهِمْ وانْتَسَبَ إلَيْهِمْ ولَيْسَ مِنهُمْ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَفاسِدِ زِناها.
وَأمّا زِنى الرَّجُلِ فَإنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلاطَ الأنْسابِ أيْضًا، وإفْسادَ المَرْأةِ المَصُونَةِ وتَعْرِيضَها لِلتَّلَفِ والفَسادِ، وفي هَذِهِ الكَبِيرَةِ خَرابُ الدُّنْيا والدِّينِ، وإنْ عَمَرَتِ القُبُورَ في البَرْزَخِ والنّارَ في الآخِرَةِ، فَكَمْ في الزِّنى مِنِ اسْتِحْلالٍ لِحُرُماتٍ وفَواتِ حُقُوقٍ ووُقُوعِ مَظالِمَ؟
وَمِن خاصِّيَّتِهِ: أنَّهُ يُوجِبُ الفَقْرَ، ويُقَصِّرُ العُمُرَ، ويَكْسُو صاحِبَهُ سَوادَ الوَجْهِ، وثَوْبَ المَقْتِ بَيْنَ النّاسِ.
وَمِن خاصِّيَّتِهِ أيْضًا: أنَّهُ يُشَتِّتُ القَلْبَ ويُمْرِضُهُ إنْ لَمْ يُمِتْهُ، ويَجْلِبُ الهَمَّ والحَزَنَ والخَوْفَ، ويُباعِدُ صاحِبَهُ مِنَ المَلَكِ ويُقَرِّبُهُ مِنَ الشَّيْطانِ، فَلَيْسَ بَعْدَ مَفْسَدَةِ القَتْلِ أعْظَمُ مِن مَفْسَدَتِهِ، ولِهَذا شُرِعَ فِيهِ القَتْلُ عَلى أشْنَعِ الوُجُوهِ وأفْحَشِها وأصْعَبِها، ولَوْ بَلَغَ العَبْدَ أنَّ امْرَأتَهُ أوْ حُرْمَتَهُ قُتِلَتْ كانَ أسْهَلَ عَلَيْهِ مِن أنْ يَبْلُغَهُ أنَّها زَنَتْ.
«وَقالَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ رَأيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: تَعْجَبُونَ مِن غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ واللَّهِ لَأنا أغْيَرُ مِنهُ، واللَّهُ أغْيَرُ مِنِّي، ومِن أجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا عَنْهُ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ يَغارُ، وإنَّ المُؤْمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ اللَّهِ أنْ يَأْتِيَ العَبْدُ ما حَرَّمَ عَلَيْهِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ: «لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ، ولا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ أرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، ولا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ أثْنى عَلى نَفْسِهِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ في خُطْبَتِهِ ﷺ في صَلاةِ الكُسُوفِ أنَّهُ قالَ: «يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، واللَّهِ إنَّهُ لا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أوْ تَزْنِيَ أمَتُهُ، يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟».
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الكَبِيرَةِ بِخُصُوصِها عَقِبَ صَلاةِ الكُسُوفِ سِرٌّ بَدِيعٌ لِمَن تَأمَّلَهُ، وظُهُورُ الزِّنى مِن أماراتِ خَرابِ العالَمِ، وهو مِن أشْراطِ السّاعَةِ، كَما في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: «لَأُحَدِّثَنَّكم حَدِيثًا لا يُحَدِّثُكُمُوهُ أحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: مِن أشْراطِ السّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ ويَظْهَرَ الجَهْلُ ويُشْرَبَ الخَمْرُ ويَظْهَرَ الزِّنى ويَقِلَّ الرِّجالُ وتَكْثُرَ النِّساءُ، حَتّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةً القَيِّمُ الواحِدُ».
وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ في خَلْقِهِ أنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنى يَغْضَبُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ويَشْتَدُّ غَضَبُهُ، فَلا بُدَّ أنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ في الأرْضِ عُقُوبَةً.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ما ظَهَرَ الرِّبا والزِّنى في قَرْيَةٍ إلّا أذِنَ اللَّهُ بِإهْلاكِها.
وَرَأى بَعْضُ أحْبارِ بَنِي إسْرائِيلَ ابْنَهُ يَغْمِزُ امْرَأةً، فَقالَ: مَهْلًا يا بُنَيَّ، فَصُرِعَ الأبُ عَنْ سَرِيرِهِ فانْقَطَعَ نُخاعُهُ وأسْقَطَتِ امْرَأتُهُ، وقِيلَ لَهُ: هَكَذا غَضَبُكَ لِي؟ لا يَكُونُ في جِنْسِكَ خَيْرٌ أبَدًا.
وَخَصَّ سُبْحانَهُ حَدَّ الزِّنى مِن بَيْنِ الحُدُودِ بِثَلاثِ خَصائِصَ:
أحَدُها: القَتْلُ فِيهِ بِأشْنَعِ القَتَلاتِ، وحَيْثُ خَفَّفَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ العُقُوبَةِ عَلى البَدَنِ بِالجَلْدِ وعَلى القَلْبِ بِتَغْرِيبِهِ عَنْ وطَنِهِ سَنَةً.
الثّانِي: أنَّهُ نَهى عِبادَهُ أنْ تَأْخُذَهم بِالزُّناةِ رَأْفَةٌ في دِينِهِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُهم مِن إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ مِن رَأْفَتِهِ بِهِمْ ورَحْمَتِهِ بِهِمْ شَرَعَ هَذِهِ العُقُوبَةَ؛ فَهو أرْحَمُ بِكُمْ، ولَمْ تَمْنَعْهُ رَحْمَتُهُ مِن أمْرِهِ بِهَذِهِ العُقُوبَةِ، فَلا يَمْنَعْكم أنْتُمْ ما يَقُومُ بِقُلُوبِكم مِنَ الرَّأْفَةِ مِن إقامَةِ أمْرِهِ.
وَهَذا - وإنْ كانَ عامًّا في سائِرِ الحُدُودِ - ولَكِنْ ذُكِرَ في حَدِّ الزِّنى خاصَّةً لِشِدَّةِ الحاجَةِ إلى ذِكْرِهِ، فَإنَّ النّاسَ لا يَجِدُونَ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الغِلْظَةِ والقَسْوَةِ عَلى الزّانِي ما يَجِدُونَهُ عَلى السّارِقِ والقاذِفِ وشارِبِ الخَمْرِ، فَقُلُوبُهم تَرْحَمُ الزّانِيَ أكْثَرَ مِمّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِن أرْبابِ الجَرائِمِ، والواقِعُ شاهِدٌ بِذَلِكَ، فَنُهُوا أنْ تَأْخُذَهم هَذِهِ الرَّأْفَةُ وتَحْمِلَهم عَلى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ.
وَسَبَبُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ: أنَّ هَذا ذَنْبٌ يَقَعُ مِنَ الأشْرافِ والأوْساطِ والأراذِلِ، وفي النُّفُوسِ أقْوى الدَّواعِي إلَيْهِ، والمُشارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ، وأكْثَرُ أسْبابِهِ العِشْقُ، والقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ إلى رَحْمَةِ العاشِقِ، وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَعُدُّ مُساعَدَتَهُ طاعَةً وقُرْبَةً، وإنْ كانَتِ الصُّورَةُ المَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، ولا يَسْتَنْكِرُ هَذا الأمْرَ، فَهو مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ ما شاءَ اللَّهُ مِن أشْباهِ الأنْعامِ، ولَقَدْ حَكى لَنا مِن ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا نُقّاصُ العُقُولِ كالخُدّامِ والنِّساءِ.
وَأيْضًا فَإنَّ هَذا ذَنْبٌ غالِبًا ما يَقَعُ مَعَ التَّراضِي مِنَ الجانِبَيْنِ، ولا يَقَعُ فِيهِ مِنَ العُدْوانِ والظُّلْمِ والِاغْتِصابِ ما تَنْفُرُ النُّفُوسُ مِنهُ.
وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غالِبَةٌ لَهُ فَيُصَوِّرُ ذَلِكَ لَها، فَتَقُومُ بِها رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إقامَةَ الحَدِّ، وهَذا كُلُّهُ مِن ضَعْفِ الإيمانِ. وكَمالُ الإيمانِ أنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ يُقِيمُ بِها أمْرَ اللَّهِ، ورَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِها المَحْدُودَ، فَيَكُونُ مُوافِقًا لِرَبِّهِ تَعالى في أمْرِهِ ورَحْمَتِهِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَ أنْ يَكُونَ حَدُّهُما بِمَشْهَدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَلا يَكُونُ في خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لا يَراهُما أحَدٌ، وذَلِكَ أبْلَغُ في مَصْلَحَةِ الحَدِّ، والحِكْمَةُ الزَّجْرُ، وحَدُّ الزّانِي المُحْصَنِ مُشْتَقٌّ مِن عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعالى لِقَوْمِ لُوطٍ بِالقَذْفِ بِالحِجارَةِ، وذَلِكَ لِاشْتِراكِ الزِّنا واللِّواطِ في الفُحْشِ، وفي كُلٍّ مِنهُما فَسادٌ يُناقِضُ حِكْمَةَ اللَّهِ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ، فَإنَّ في اللِّواطِ مِنَ المَفاسِدِ ما يَفُوتُ الحَصْرَ والتَّعْدادَ، ولَأنْ يُقْتَلَ المَفْعُولُ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يُؤْتى، فَإنَّهُ يَفْسَدُ فَسادًا لا يُرْجى لَهُ بَعْدَهُ صَلاحٌ أبَدًا، ويَذْهَبُ خَيْرُهُ كُلُّهُ، وتَمُصُّ الأرْضُ ماءَ الحَياءِ مِن وجْهِهِ، فَلا يَسْتَحِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ ولا مِن خَلْقِهِ، وتَعْمَلُ في قَلْبِهِ ورُوحِهِ نُطْفَةُ الفاعِلِ ما يَعْمَلُ السُّمُّ في البَدَنِ.
[الحِكْمَةُ في حَدِّ الزِّنا وتَنْوِيعِهِ]
وَأمّا الزّانِي فَإنَّهُ يَزْنِي بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، والتَّلَذُّذُ بِقَضاءِ شَهْوَتِهِ يَعُمُّ البَدَنَ، والغالِبُ مِن فِعْلِهِ وُقُوعُهُ بِرِضا المَزْنِيِّ بِها، فَهو غَيْرُ خائِفٍ ما يَخافُهُ السّارِقُ مِن الطَّلَبِ، فَعُوقِبَ بِما يَعُمُّ بَدَنَهُ مِن الجَلْدِ مَرَّةً والقَتْلِ بِالحِجارَةِ مَرَّةً؛ ولَمّا كانَ الزِّنا مِن أُمَّهاتِ الجَرائِمِ وكَبائِرِ المَعاصِي لِما فِيهِ مِن اخْتِلافِ الأنْسابِ الَّذِي يَبْطُلُ مَعَهُ التَّعارُفُ والتَّناصُرُ عَلى إحْياءِ الدِّينِ، وفي هَذا هَلاكُ الحَرْثِ والنَّسْلِ فَشاكَلَ في مَعانِيهِ أوْ في أكْثَرِها القَتْلَ الَّذِي فِيهِ هَلاكُ ذَلِكَ، فَزُجِرَ عَنْهُ بِالقِصاصِ لِيَرْتَدِعَ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ مَن يَهُمُّ بِهِ، فَيَعُودُ ذَلِكَ بِعِمارَةِ الدُّنْيا وصَلاحِ العالَمِ المُوَصِّلِ إلى إقامَةِ العِباداتِ المُوَصِّلَةِ إلى نَعِيمِ الآخِرَةِ.
ثُمَّ إنّ لِلزّانِي حالَتَيْنِ:
إحْداهُما: أنْ يَكُونَ مُحْصَنًا قَدْ تَزَوَّجَ، فَعَلِمَ ما يَقَعُ بِهِ مِن العَفافِ عَنْ الفُرُوجِ المُحَرَّمَةِ، واسْتَغْنى بِهِ عَنْها، وأحْرَزَ نَفْسَهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِحَدِّ الزِّنا، فَزالَ عُذْرُهُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ في تَخَطِّي ذَلِكَ إلى مُواقَعَةِ الحَرامِ.
والثّانِيَةُ: أنْ يَكُونَ بِكْرًا، لَمْ يَعْلَمْ ما عَلِمَهُ المُحْصَنُ ولا عَمِلَ ما عَمِلَهُ؛ فَحَمَلَ لَهُ مِن العُذْرِ بَعْضَ ما أوْجَبَ لَهُ التَّخْفِيفَ؛ فَحُقِنَ دَمُهُ، وزُجِرَ بِإيلامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِأعْلى أنْواعِ الجَلْدِ رَدْعًا عَنْ المُعاوَدَةِ لِلِاسْتِمْتاعِ بِالحَرامِ، وبَعْثًا لَهُ عَلى القَنَعِ بِما رَزَقَهُ اللَّهُ مِن الحَلالِ.
وَهَذا في غايَةِ الحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ، جامِعٌ لِلتَّخْفِيفِ في مَوْضِعِهِ والتَّغْلِيظُ في مَوْضِعِهِ.
وَأيْنَ هَذا مِن قَطْعِ لِسانِ الشّاتِمِ والقاذِفِ وما فِيهِ مِن الإسْرافِ والعُدْوانِ؟
ثُمَّ إنّ قَطْعَ فَرْجِ الزّانِي فِيهِ مِن تَعْطِيلِ النَّسْلِ، وقَطْعُهُ عَكْسُ مَقْصُودِ الرَّبِّ تَعالى مِن تَكْثِيرِ الذُّرِّيَّةِ وذُرِّيَّتِهِمْ فِيما جَعَلَ لَهم مِن أزْواجِهِمْ، وفِيهِ مِن المَفاسِدِ أضْعافُ ما يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِن مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ، وفِيهِ إخْلاءُ جَمِيعِ البَدَنِ مِن العُقُوبَةِ، وقَدْ حَصَلَتْ جَرِيمَةُ الزِّنا بِجَمِيعِ أجْزائِهِ؛ فَكانَ مِن العَدْلِ أنْ تَعُمَّهُ العُقُوبَةُ، ثُمَّ إنّهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ في حَقِّ المَرْأةِ، وكِلاهُما زانٍ؛ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَوِيا في العُقُوبَةِ، فَكانَ شَرْعُ اللَّهِ سُبْحانَهُ أكْمَلَ مِن اقْتِراحِ المُقْتَرِحِينَ.
* [فَصْلٌ: المَعاصِي مَجْلَبَةُ الهَلاكَ]
وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تَسْتَجْلِبُ مَوادَّ هَلاكِ العَبْدِ مِن دُنْياهُ وآخِرَتِهِ، فَإنَّ الذُّنُوبَ هي أمْراضٌ، مَتى اسْتَحْكَمَتْ قَتَلَتْ ولابُدَّ، وكَما أنَّ البَدَنَ لا يَكُونُ صَحِيحًا إلّا بِغِذاءٍ يَحْفَظُ قُوَّتَهُ، واسْتِفْراغٍ يَسْتَفْرِغُ المَوادَّ الفاسِدَةَ والأخْلاطَ الرَّدِيَّةَ، الَّتِي مَتى غَلَبَتْ أفْسَدَتْهُ، وحِمْيَةٍ يَمْتَنِعُ بِها مِمّا يُؤْذِيهِ ويَخْشى ضَرَرَهُ، فَكَذَلِكَ القَلْبُ لا تَتِمُّ حَياتُهُ إلّا بِغِذاءٍ مِنَ الإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، تَحْفَظُ قُوَّتَهُ، واسْتِفْراغٍ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، تَسْتَفْرِغُ المَوادَّ الفاسِدَةَ والأخْلاطَ الرَّدِيَّةَ مِنهُ، وحِمْيَةٍ تُوجِبُ لَهُ حِفْظَ الصِّحَّةِ وتَجَنُّبَ ما يُضادُّها، وهي عِبارَةٌ عَنِ اسْتِعْمالِ ما يُضادُّ الصِّحَّةَ.
والتَّقْوى: اسْمٌ مُتَناوِلٌ لِهَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ، فَما فاتَ مِنها فاتَ مِنَ التَّقْوى بِقَدَرِهِ.
وَإذا تَبَيَّنَ هَذا فالذُّنُوبُ مُضادَّةٌ لِهَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ، فَإنَّها تَسْتَجْلِبُ المَوادَّ المُؤْذِيَةَ وتُوجِبُ التَّخْطِيطَ المُضادَّ لِلْحِمْيَةِ، وتَمْنَعُ الِاسْتِفْراغَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ.
فانْظُرْ إلى بَدَنٍ عَلِيلٍ قَدْ تَراكَمَتْ عَلَيْهِ الأخْلاطُ ومَوادُّ المَرَضِ، وهو لا يَسْتَفْرِغُها، ولا يَحْتَمِي لَها، كَيْفَ تَكُونُ صِحَّتُهُ وبَقاؤُهُ، ولَقَدْ أحْسَنَ القائِلُ:
؎جِسْمُكَ بِالحِمْيَةِ حَصَّنْتَهُ ∗∗∗ مَخافَةً مِن ألَمٍ طارِي
؎وَكانَ أوْلى بِكَ أنْ تَخْشى ∗∗∗ مِنَ المَعاصِي خَشْيَةَ البارِي
فَمَن حَفِظَ القُوَّةَ بِامْتِثالِ الأوامِرِ، واسْتَعْمَلَ الحِمْيَةَ بِاجْتِنابِ النَّواهِي، واسْتَفْرَغَ التَّخْطِيطَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا، ولا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَبًا، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ: العُقُوباتُ الشَّرْعِيَّةُ عَلى المَعاصِي]
فَإنْ لَمْ تَرْدَعْكَ هَذِهِ العُقُوباتُ، ولَمْ تَجِدْ لَها تَأْثِيرًا في قَلْبِكَ، فَأحْضِرْهُ العُقُوباتِ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَها اللَّهُ ورَسُولُهُ عَلى الجَرائِمِ، كَما قَطَعَ اليَدَ في سَرِقَةِ ثَلاثَةِ دَراهِمَ، وقَطَعَ اليَدَ والرِّجْلَ في قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلى مَعْصُومِ المالِ والنَّفْسِ، وشَقَّ الجِلْدَ بِالسَّوْطِ عَلى كَلِمَةٍ قَذَفَ بِها المُحْصَنُ، أوْ قَطْرَةِ خَمْرٍ يُدْخِلُها جَوْفَهُ، وقَتَلَ بِالحِجارَةِ أشْنَعَ قِتْلَةٍ في إيلاجِ الحَشَفَةِ في فَرْجٍ حَرامٍ، وخَفَّفَ هَذِهِ العُقُوبَةَ عَمَّنْ لَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِ نِعْمَةُ الإحْصانِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ، ويُنْفى سَنَةً عَنْ وطَنِهِ وبَلَدِهِ إلى بَلَدِ الغُرْبَةِ، وفَرَّقَ بَيْنَ رَأْسِ العَبْدِ وبَدَنِهِ إذا وقَعَ عَلى ذاتِ رَحِمٍ مِنهُ، أوْ تَرَكَ الصَّلاةَ المَفْرُوضَةَ، أوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ، وأمَرَ بِقَتْلِ مَن وطِئَ ذَكَرًا مِثْلَهُ وقَتْلِ المَفْعُولَ بِهِ، وأمَرَ بِقَتْلِ مَن أتى بَهِيمَةً وقَتْلِ البَهِيمَةَ مَعَهُ، وعَزَمَ عَلى تَحْرِيقِ بُيُوتِ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلاةِ في الجَماعَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العُقُوباتِ الَّتِي رَتَّبَها اللَّهُ عَلى الجَرائِمِ، وجَعَلَها بِحِكْمَتِهِ عَلى حَسَبِ الدَّواعِي إلى تِلْكَ الجَرائِمِ، وحَسَبِ الوازِعِ عَنْها.
فَما كانَ الوازِعُ عَنْهُ طَبِيعِيًّا وما لَيْسَ في الطِّباعِ داعٍ إلَيْهِ اكْتُفِيَ بِالتَّحْرِيمِ مَعَ التَّعْزِيرِ، ولَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا، كَأكْلِ الرَّجِيعِ، وشُرْبِ الدَّمِ، وأكْلِ المَيْتَةِ.
وَما كانَ في الطِّباعِ داعٍ إلَيْهِ رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ العُقُوبَةِ بِقَدْرِ مَفْسَدَتِهِ، وبِقَدْرِ داعِي الطَّبْعِ إلَيْهِ.
وَلِهَذا لَمّا كانَ داعِي الطِّباعِ إلى الزِّنا مِن أقْوى الدَّواعِي كانَتْ عُقُوبَتُهُ العُظْمى مِن أشْنَعِ القِتْلاتِ وأعْظَمِها، وعُقُوبَتُهُ السَّهْلَةُ أعْلى أنْواعِ الجَلْدِ مَعَ زِيادَةِ التَّغْرِيبِ.
وَلَمّا كانَتْ جَرِيمَةُ اللِّواطِ فِيها الأمْرانِ، كانَ حَدَّهُ القَتْلُ بِكُلِّ حالٍ، ولَمّا كانَ داعِي السَّرِقَةِ قَوِيًّا ومَفْسَدَتُها كَذَلِكَ، قَطَعَ فِيها اليَدَ.
وَتَأمَّلْ حِكْمَتَهُ في إفْسادِ العُضْوِ الَّذِي باشَرَ بِهِ الجِنايَةَ، كَما أفْسَدَ عَلى قاطِعِ الطَّرِيقِ يَدَهُ ورِجْلَهُ اللَّتَيْنِ هُما آلَةُ قَطْعِهِ، ولَمْ يُفْسِدْ عَلى القاذِفِ لِسانَهُ الَّذِي جَنى بِهِ، إذْ مَفْسَدَتُهُ تَزِيدُ عَلى مَفْسَدَةِ الجِنايَةِ ولا يَبْلُغُها، فاكْتَفى مِن ذَلِكَ بِإيلامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِالجَلْدِ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلّا أفْسَدَ عَلى الزّانِي فَرْجَهُ الَّذِي باشَرَ بِهِ المَعْصِيَةَ.
قِيلَ: لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ مَفْسَدَةَ ذَلِكَ تَزِيدُ عَلى مَفْسَدَةِ الجِنايَةِ، إذْ فِيهِ قَطْعُ النَّسْلِ وتَعْرِيضُهُ لِلْهَلاكِ.
الثّانِي: أنَّ الفَرْجَ عُضْوٌ مَسْتُورٌ، لا يَحْصُلُ بِقَطْعِهِ مَقْصُودُ الحَدِّ مِنَ الرَّدْعِ والزَّجْرِ لِأمْثالِهِ مِنَ الجُناةِ، بِخِلافِ قَطْعِ اليَدِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ إذا قَطَعَ يَدَهُ أبْقى لَهُ يَدًا أُخْرى تُعَوِّضُ عَنْها، بِخِلافِ الفَرْجِ.
الرّابِعُ: أنَّ لَذَّةَ الزِّنا عَمَّتْ جَمِيعَ البَدَنِ، فَكانَ الأحْسَنُ أنْ تَعُمَّ العُقُوبَةُ جَمِيعَ البَدَنِ، وذَلِكَ أوْلى مِن تَخْصِيصِها بِبُضْعَةٍ مِنهُ.
فَعُقُوباتُ الشّارِعِ جاءَتْ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ وأوْفَقِها لِلْعَقْلِ، وأقْوَمِها بِالمَصْلَحَةِ.
والمَقْصُودُ أنَّ الذُّنُوبَ إنَّما تَتَرَتَّبُ عَلَيْها العُقُوباتُ الشَّرْعِيَّةُ أوِ القَدَرِيَّةُ أوْ يَجْمَعُها اللَّهُ لِلْعَبْدِ، وقَدْ يَرْفَعُها عَمَّنْ تابَ وأحْسَنَ.
فإن قيل: هل تقولون إن الله سبحانه هو الذي جعل الزانيين يزنيان، وهو الذي جمع بينهما على الفعل وساق أحدهما إلى صاحبه؟
قيل أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل فيطلقها من يريد حقها فينكرها من يريد باطلها فيرد عليه من يريد حقها وهذا باب إذا تأمله الذكي الفطن رأى منه عجائب وخلصه من ورطات تورط فيها أكثر الطوائف فالجعل المضاف إلى الله سبحانه يراد به الجعل الذي يحبه ويرضاه والجعل الذي قدره وقضاه قال الله: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ولا سائِبَةٍ ولا وصِيلَةٍ ولا حامٍ﴾
فهذا نفي لجعله الشرعي الديني أي ما شرع ذلك ولا أمر به ولا أحبه ورضيه وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْناهم أئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾
فهذا جعل كوني قدري أي قدرنا ذلك وقضيناه وجعل العبد إماما يدعو إلى النار أبلغ من جعله يزني ويسرق ويقتل وجعله كذلك أيضا لفظ مجمل يراد به أنه جبره وأكرهه عليه واضطره إليه وهذا محال في حق الرب تعالى وكماله المقدس يأبى ذلك وصفات كماله تمنع منه كما تقدم ويراد به أنه مكنه من ذلك وأقدره عليه من غير أن يضطره إليه ولا أكرهه ولا أجبره فهذا حق.
فإن قيل هذا كله عدول عن المقصود فمن أحدث معصية وأوجدها وأبرزها من العدم إلى الوجود؟
قيل الفاعل لها هو الذي أوجدها وأحدثها وأبرزها من العدم إلى الوجود بأقدار الله له على ذلك وتمكينه منه من غير إلجاء له ولا اضطرار منه إلى فعلها.
فإن قيل فمن الذي خلقها إذًا؟
قيل لكم ومن الذي فعلها؟ فإن قلتم الرب سبحانه هو الفاعل للفسوق والعصيان أكذبكم العقل والفطرة وكتب الله المنزلة وإجماع رسله وإثبات حمده وصفات كماله فإن فعله سبحانه كله خير وتعالى أن يفعل شرا بوجه من الوجوه فالشر ليس إليه والخير هو الذي إليه ولا يفعل إلا خيرا ولا يريد إلا خيرا ولو شاء لفعل غير ذلك ولكنه تعالى تنزه عن فعل مالا ينبغي وإرادته ومشيئته كما هو منزه عن الوصف به والتسمية به.
وإن قلتم العبد هو الذي فعلها بما خلق فيه من الإرادة والمشيئة؟
قيل فالله سبحانه خالق أفعال العباد كلها بهذا الاعتبار ولو سلك الجبري مع القدري هذا المسلك لاستراح معه وأراحه وكذلك القدري معه ولكن انحرف الفريقان عن سواء السبيل كما قال:
؎سارت مشرقة وسرت مغربا ∗∗∗ شتان بين مشرق ومغرب
* [فَصْلٌ: عُقُوباتُ الذُّنُوبِ شَرْعِيَّةٌ وقَدَرِيَّةٌ]
فَإذا أُقِيمَتِ الشَّرْعِيَّةٌ رُفِعَتِ العُقُوبَةُ القَدَرِيَّةُ وخَفَّفَتْها، ولا يَكادُ الرَّبُّ تَعالى يَجْمَعُ عَلى العَبْدِ بَيْنَ العُقُوبَتَيْنِ إلّا إذا لَمْ يَفِ أحَدُهُما بِرَفْعِ مُوجَبِ الذَّنْبِ، ولَمْ يَكْفِ في زَوالِ دائِهِ، وإذا عُطِّلَتِ العُقُوباتُ الشَّرْعِيَّةُ اسْتَحالَتْ قَدَرِيَّةً، ورُبَّما كانَتْ أشَدَّ مِنَ الشَّرْعِيَّةِ، ورُبَّما كانَتْ دُونَها، ولَكِنَّها تَعُمُّ، والشَّرْعِيَّةُ تَخُصُّ، فَإنَّ الرَّبَّ تَبارَكَ وتَعالى لا يُعاقِبُ شَرْعًا إلّا مَن باشَرَ الجِنايَةَ أوْ تَسَبَّبَ إلَيْها.
وَأمّا العُقُوبَةُ القَدَرِيَّةُ فَإنَّها تَقَعُ عامَّةً وخاصَّةً، فَإنَّ المَعْصِيَةَ إذا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلّا صاحِبَها، وإذا أُعْلِنَتْ ضَرَّتِ الخاصَّةَ والعامَّةَ، وإذا رَأى النّاسُ المُنْكَرَ فَتَرَكُوا إنْكارَهُ أوْشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقابِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ العُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ شَرَعَها اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى قَدْرِ مَفْسَدَةِ الذَّنْبِ وتَقاضِي الطَّبْعِ لَها، وجَعَلَها سُبْحانَهُ ثَلاثَةَ أنْواعٍ: القَتْلَ والقَطْعَ والجَلْدَ، وجَعَلَ القَتْلَ بِإزاءِ الكُفْرِ وما يَلِيهِ ويَقْرُبُ مِنهُ، وهو الزِّنا واللِّواطُ، فَإنَّ هَذا يُفْسِدُ الأدْيانَ، وهَذا يُفْسِدُ الأنْسابَ ونَوْعَ الإنْسانِ.
قالَ الإمامُ أحْمَدُ: لا أعْلَمُ بَعْدَ القَتْلِ ذَنْبًا أعْظَمَ مِنَ الزِّنا، واحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قالَ: أنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وهو خَلَقَكَ، قالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ: أنْ تَقْتُلَ ولَدَكَ مَخافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قالَ أنْ تُزانِيَ بِحَلِيلَةِ جارِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَها» ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ولا يَزْنُونَ﴾ [الفرقان: ٦٨].
والنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ مِن كُلِّ نَوْعٍ أعْلاهُ لِيُطابِقَ جَوابُهُ سُؤالَ السّائِلِ، فَإنَّهُ سَألَهُ عَنْ أعْظَمِ الذَّنْبِ، فَأجابَهُ بِما تَضَمَّنَ ذِكْرَ أعْظَمِ أنْواعِها، وما هو أعْظَمُ كُلِّ نَوْعٍ.
فَأعْظَمُ أنْواعِ الشِّرْكِ أنْ يَجْعَلَ العَبْدُ لِلَّهِ نِدًّا.
وَأعْظَمُ أنْواعِ القَتْلِ: أنْ يَقْتُلَ ولَدَهُ خَشْيَةَ أنْ يُشارِكَهُ في طَعامِهِ وشَرابِهِ.
وَأعْظَمُ أنْواعِ الزِّنا: أنْ يَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جارِهِ، فَإنَّ مَفْسَدَةَ الزِّنا تَتَضاعَفُ بِتَضاعُفِ ما انْتَهَكَهُ مِنَ الحَقِّ.
فالزِّنا بِالمَرْأةِ الَّتِي لَها زَوْجٌ أعْظَمُ إثْمًا وعُقُوبَةً مِنَ الَّتِي لا زَوْجَ لَها، إذْ فِيهِ انْتِهاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وإفْسادُ فِراشِهِ وتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنهُ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِن أنْواعِ أذاهُ، فَهو أعْظَمُ إثْمًا وجُرْمًا مِنَ الزِّنا بِغَيْرِ ذاتِ البَعْلِ.
فالزِّنا بِمِائَةِ امْرَأةٍ لا زَوْجَ لَها أيْسَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الزِّنا بِامْرَأةِ الجارِ، فَإنْ كانَ زَوْجُها جارًا لَهُ انْضافَ إلى ذَلِكَ سُوءُ الجِوارِ، وأذى جارِهِ بِأعْلى أنْواعِ الأذى وذَلِكَ مِن أعْظَمِ البَوائِقِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوائِقَهُ» ولا بائِقَةَ أعْظَمُ مِنَ الزِّنا بِامْرَأةِ الجارِ.
فَإنْ كانَ الجارُ أخًا لَهُ أوْ قَرِيبًا مِن أقارِبِهِ انْضَمَّ إلى ذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ، فَيَتَضاعَفُ الإثْمُ لَهُ، فَإنْ كانَ الجارُ غائِبًا في طاعَةِ اللَّهِ كالصَّلاةِ وطَلَبِ العِلْمِ والجِهادِ تَضاعَفَ لَهُ الإثْمُ، حَتّى إنَّ الزّانِيَ بِامْرَأةِ الغازِي في سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ، ويُقالُ خُذْ مِن حَسَناتِهِ ما شِئْتَ.
قالَ النَّبِيُّ ﷺ: فَما ظَنُّكُمْ؟ أيْ ما ظَنُّكم أنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ حَسَناتٍ، قَدْ حُكِّمَ في أنْ يَأْخُذَ مِنها ما شاءَ؟ عَلى شِدَّةِ الحاجَةِ إلى حَسَنَةٍ واحِدَةٍ، حَيْثُ لا يَتْرُكُ الأبُ لِابْنِهِ ولا الصَّدِيقُ لِصَدِيقِهِ حَقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ تَكُونَ المَرْأةُ رَحِمًا مِنهُ انْضافَ إلى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِها، فَإنِ اتَّفَقَ أنْ يَكُونَ الزّانِي مُحْصَنًا كانَ الإثْمُ أعْظَمَ، فَإنْ كانَ شَيْخًا كانَ أعْظَمَ إثْمًا، وهو أحَدُ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ، فَإنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أنْ يَكُونَ في شَهْرٍ حَرامٍ أوْ بَلَدٍ حَرامٍ أوْ وقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ، كَأوْقاتِ الصَّلاةِ وأوْقاتِ الإجابَةِ، تَضاعَفَ الإثْمُ. وعَلى هَذا فاعْتَبِرْ مَفاسِدَ الذُّنُوبِ وتَضاعُفَ دَرَجاتِها في الإثْمِ والعُقُوبَةِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ: العُقُوباتُ القَدَرِيَّةُ]
وَأمّا العُقُوباتُ القَدَرِيَّةُ فَهي نَوْعانِ: نَوْعٌ عَلى القُلُوبِ والنُّفُوسِ، ونَوْعٌ عَلى الأبْدانِ والأمْوالِ.
والَّتِي عَلى القُلُوبِ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: آلامٌ وُجُودِيَّةٌ يُضْرَبُ بِها القَلْبُ.
والثّانِي: قَطْعُ المَوادِ الَّتِي بِها حَياتُهُ وصَلاحُهُ عَنْهُ.
وَإذا قُطِعَتْ عَنْهُ حَصَلَ لَهُ أضْدادُها، وعُقُوبَةُ القُلُوبِ أشَدُّ العُقُوبَتَيْنِ، وهي أصْلُ عُقُوبَةِ الأبْدانِ.
وَهَذِهِ العُقُوبَةُ تَقْوى وتَتَزايَدُ، حَتّى تَسْرِيَ مِنَ القَلْبِ إلى البَدَنِ، كَما يَسْرِي ألَمُ البَدَنِ إلى القَلْبِ، فَإذا فارَقَتِ النَّفْسُ البَدَنَ صارَ الحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِها فَظَهَرَتْ عُقُوبَةُ القَلْبِ حِينَئِذٍ، وصارَتْ عَلانِيَةً ظاهِرَةً، وهي المُسَمّاةُ بِعَذابِ القَبْرِ، ونِسْبَتُهُ إلى البَرْزَخِ كَنِسْبَةِ عَذابِ الأبْدانِ إلى هَذِهِ الدّارِ.
* [فَصْلٌ: العُقُوباتُ القَدَرِيَّةُ عَلى الأبْدانِ]
والَّتِي عَلى الأبْدانِ أيْضًا نَوْعانِ:
نَوْعٌ في الدُّنْيا، ونَوْعٌ في الآخِرَةِ.
وَشِدَّتُها ودَوامُها بِحَسَبِ مَفاسِدِ ما رُتِّبَتْ عَلَيْهِ في الشِّدَّةِ والخِلْقَةِ، فَلَيْسَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ شَرٌّ أصْلًا إلّا الذُّنُوبَ وعُقُوباتِها، فالشَّرُّ اسْمٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ، وأصْلُهُ مِن شَرِّ النَّفْسِ وسَيِّئاتِ الأعْمالِ، وهُما الأصْلانِ اللَّذانِ كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعِيذُ مِنهُما في خُطْبَتِهِ بِقَوْلِهِ: «وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِن شُرُورِ أنْفُسِنا ومِن سَيِّئاتِ أعْمالِنا».
وَسَيِّئاتُ الأعْمالِ مِن شُرُورِ النَّفْسِ، فَعادَ الشَّرُّ كُلُّهُ إلى شَرِّ النَّفْسِ، فَإنَّ سَيِّئاتِ الأعْمالِ مِن فُرُوعِهِ وثَمَراتِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ في مَعْنى قَوْلِهِ: «وَمِن سَيِّئاتِ أعْمالِنا» هَلْ مَعْناهُ: السَّيِّئُ مِن أعْمالِنا، فَيَكُونُ مِن بابِ إضافَةِ النَّوْعِ إلى جِنْسِهِ، أوْ تَكُونُ " مِن " بَيانِيَّةً؟ وقِيلَ: مَعْناهُ: مِن عُقُوباتِها الَّتِي تَسُوءُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: ومِن عُقُوباتِ أعْمالِنا الَّتِي تَسُوءُنا، ويُرَجِّحُ هَذا القَوْلَ: أنَّ الِاسْتِعاذَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ الشَّرِّ، فَإنَّ شُرُورَ الأنْفُسِ تَسْتَلْزِمُ الأعْمالَ السَّيِّئَةَ، وهي تَسْتَلْزِمُ العُقُوباتِ السَّيِّئَةَ، فَنَبَّهَ بِشُرُورِ الأنْفُسِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ مِن قُبْحِ الأعْمالِ، واكْتَفى بِذِكْرِها مِنهُ، أوْ هي أصْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ غايَةَ الشَّرِّ ومُنْتَهاهُ، فَهو السَّيِّئاتُ الَّتِي تَسُوءُ العَبْدَ مِن عَمَلِهِ، مِنَ العُقُوباتِ والآلامِ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعاذَةُ أصْلَ الشَّرِّ وفُرُوعَهُ وغايَتَهُ ومُقْتَضاهُ.
وَمِن دُعاءِ المَلائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلُهُمْ: ﴿وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ ومَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ [غافر: ٩].
فَهَذا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ وِقايَتِهِمْ مِن سَيِّئاتِ الأعْمالِ وعُقُوباتِها الَّتِي تَسُوءُ صاحِبَها، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ مَتى وقاهم عَمَلَ السَّيِّئِ وقاهم جَزاءَ السَّيِّئِ، وإنْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَن تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ﴾ أظْهَرَ في عُقُوباتِ الأعْمالِ المَطْلُوبِ وِقايَتُها يَوْمَئِذٍ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ سَألُوهُ سُبْحانَهُ أنْ يَقِيَهم عَذابَ الجَحِيمِ، وهَذا هو وِقايَةُ العُقُوباتِ السَّيِّئَةِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَألُوا وِقايَتَها، الأعْمالُ السَّيِّئَةُ، يَكُونُ الَّذِي سَألَهُ المَلائِكَةُ نَظِيرَ ما اسْتَعاذَ مِنهُ النَّبِيُّ ﷺ.
وَلا يَرِدُ عَلى هَذا قَوْلُهُ: " يَوْمَئِذٍ " فَإنَّ المَطْلُوبَ وِقايَةُ شُرُورِ سَيِّئاتِ الأعْمالِ ذَلِكَ اليَوْمَ، وهي سَيِّئاتٌ في أنْفُسِها.
قِيلَ: وِقايَةُ السَّيِّئاتِ نَوْعانِ.
أحَدُهُما: وِقايَةُ فِعْلِها بِالتَّوْفِيقِ فَلا تَصْدُرُ مِنهُ.
والثّانِي: وِقايَةُ جَزائِها بِالمَغْفِرَةِ، فَلا يُعاقَبُ عَلَيْها، فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ سُؤالَ الأمْرَيْنِ، والظَّرْفُ تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ.
وَتَأمَّلْ ما تَضَمَّنَهُ هَذا الخَبَرُ عَنِ المَلائِكَةِ مِن مَدْحِهِمْ بِالإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ والإحْسانِ إلى المُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفارِ لَهُمْ، وقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفارِهِمْ تَوَسُّلَهم إلى اللَّهِ تَعالى بِسَعَةِ عِلْمِهِ وسَعَةِ رَحْمَتِهِ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ وأسْبابِها وضَعْفِهِمْ عَنِ العِصْمَةِ، واسْتِيلاءِ عَدُوِّهِمْ وأنْفُسِهِمْ وهَواهم وطِباعِهِمْ وما زُيِّنَ لَهم مِنَ الدُّنْيا وزِينَتِها، وعِلْمَهُ بِهِمْ إذْ أنْشَأهم مِنَ الأرْضِ، وإذْ هم أجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ، وعِلْمَهُ السّابِقَ بِأنَّهم لا بُدَّ أنْ يَعْصُوهُ، وأنَّهُ يُحِبُّ العَفْوَ والمَغْفِرَةَ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لا يُحِيطُ بِهِ أحَدٌ سِواهُ.
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أنَّهُ لا يَهْلَكُ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِهِ أهْلِ تَوْحِيدِهِ ومَحَبَّتِهِ، فَإنَّهُ واسِعُ الرَّحْمَةِ لا يُخْرِجُ عَنْ دائِرَةِ رَحِمَتِهِ إلّا الأشْقِياءَ، ولا أشْقى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ سَألُوهُ أنْ يَغْفِرَ لِلتّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ، وهو صِراطُهُ المُوَصِّلُ إلَيْهِ الَّذِي هو مَعْرِفَتُهُ ومَحَبَّتُهُ وطاعَتُهُ، فَتابُوا مِمّا يَكْرَهُ، واتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي يُحِبُّها، ثُمَّ سَألُوهُ أنْ يَقِيَهم عَذابَ الجَحِيمِ، وأنْ يُدْخِلَهم والمُؤْمِنِينَ مِن أُصُولِهِمْ وفُرُوعِهِمْ وأزْواجِهِمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وعَدَهم بِها، وهو سُبْحانَهُ، وإنْ كانَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ، فَإنَّهُ وعَدَهم بِها بِأسْبابٍ، ومِن جُمْلَتِها: دُعاءُ مَلائِكَتِهِ لَهم أنْ يُدْخِلَهم إيّاها بِرَحْمَتِهِ الَّتِي مِنها أنْ وفَّقَهم لِأعْمالِهِمْ وأقامَ مَلائِكَتَهُ يَدْعُونَ لَهم بِها.
ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عَنْ مَلائِكَتِهِ أنَّهم قالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ: ﴿إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [غافر: ٨].
أيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وسَبَبُهُ وغايَتُهُ صادِرٌ عَنْ كَمالِ قُدْرَتِكَ وكَمالِ عِلْمِكَ، فَإنَّ العِزَّةَ كَمالُ القُدْرَةِ، والحِكْمَةَ كَمالُ العِلْمِ، وبِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ يَقْضِي سُبْحانَهُ وتَعالى ما شاءَ، ويَأْمُرُ ويَنْهى ويُثِيبُ ويُعاقِبُ، فَهاتانِ الصِّفَتانِ مَصْدَرُ الخَلْقِ والأمْرِ.
والمَقْصُودُ أنَّ عُقُوباتِ السَّيِّئاتِ تَتَنَوَّعُ إلى عُقُوباتٍ شَرْعِيَّةٍ، وعُقُوباتٍ قَدَرِيَّةٍ، وهي إمّا في القَلْبِ، وإمّا في البَدَنِ، وإمّا فِيهِما، وعُقُوباتٍ في دارِ البَرْزَخِ بَعْدَ المَوْتِ، وعُقُوباتٍ يَوْمَ عَوْدِ الأجْسادِ، فالذَّنْبُ لا يَخْلُو مِن عُقُوبَةٍ ألْبَتَّةَ، ولَكِنْ لِجَهْلِ العَبْدِ لا يَشْعُرُ بِما فِيهِ مِنَ العُقُوبَةِ، لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ السَّكْرانِ والمُخَدَّرِ والنّائِمِ الَّذِي لا يَشْعُرُ بِالألَمِ.
فَتَرَتُّبُ العُقُوباتِ عَلى الذُّنُوبِ كَتَرَتُّبِ الإحْراقِ عَلى النّارِ، والكَسْرِ عَلى الِانْكِسارِ، والغَرَقِ عَلى الماءِ، وفَسادِ البَدَنِ عَلى السُّمُومِ، والأمْراضِ عَلى الأسْبابِ الجالِبَةِ لَها، وقَدْ تُقارِنُ المَضَرَّةُ الذَّنْبَ وقَدْ تَتَأخَّرُ عَنْهُ، إمّا يَسِيرًا وإمّا مُدَّةً، كَما يَتَأخَّرُ المَرَضُ عَنْ سَبَبِهِ أنْ يُقارِنَهُ، وكَثِيرًا ما يَقَعُ الغَلَطُ لِلْعَبْدِ في هَذا المَقامِ ويُذْنِبُ الذَّنْبَ فَلا يَرى أثَرَهُ عَقِبَهُ، ولا يَدْرِي أنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، كَما تَعْمَلُ السُّمُومُ والأشْياءُ الضّارَّةُ حَذْوَ القَذَّةِ بِالقَذَّةِ، فَإنْ تَدارَكَ العَبْدُ نَفْسَهُ بِالأدْوِيَةِ والِاسْتِفْراغِ والحِمْيَةِ، وإلّا فَهو صائِرٌ إلى الهَلاكِ، هَذا إذا كانَ ذَنْبًا واحِدًا لَمْ يَتَدارَكْهُ بِما يُزِيلُ أثَرَهُ، فَكَيْفَ بِالذَّنْبِ عَلى الذَّنْبِ كُلَّ يَوْمٍ وكُلَّ ساعَةٍ؟
واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةࣲۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةࣱ فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ وَلۡیَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق