الباحث القرآني
(p-٣٦٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النُّورِ
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أنَّ كُلَّ زانِيَةٍ وكُلَّ زانٍ يَجِبُ جَلْدُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ؛ لِأنَّ الألِفَ واللّامَ في قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾، إنْ قُلْنا: إنَّهُما مَوْصُولٌ وصِلَتُهُما الوَصْفُ الَّذِي هو اسْمُ الفاعِلِ الَّذِي هو ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾، فالمَوْصُولاتُ مِن صِيَغِ العُمُومِ.
وَإنْ قُلْنا: إنَّهُما لِلتَّعْرِيفِ لِتَناسِي الوَصْفِيَّةِ، وأنَّ مُرْتَكِبَ تِلْكَ الفاحِشَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزّانِي، كَإطْلاقِ أسْماءِ الأجْناسِ، فَإنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الِاسْتِغْراقَ، فالعُمُومُ الشّامِلُ لِكُلِّ زانِيَةٍ وكُلِّ زانٍ، هو ظاهِرُ الآيَةِ، عَلى جَمِيعِ الِاحْتِمالاتِ.
وَظاهِرُ هَذا العُمُومِ شُمُولُهُ لِلْعَبْدِ، والحُرِّ، والأمَةِ، والحُرَّةِ، والبِكْرِ، والمُحْصَنِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ.
وَظاهِرُهُ أيْضًا: أنَّهُ لا تُغَرَّبُ الزّانِيَةُ، ولا الزّانِي عامًا مَعَ الجَلْدِ، ولَكِنَّ بَعْضَ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ دَلَّ عَلى أنَّ عُمُومَ الزّانِيَةِ يُخَصَّصُ مَرَّتَيْنِ.
إحْداهُما: تَخْصِيصُ حُكْمِ جَلْدِها مِائَةً بِكَوْنِها حُرَّةً، أمّا إنْ كانَتْ أمَةً، فَإنَّها تُجْلَدُ نِصْفَ المِائَةِ وهو خَمْسُونَ، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى في الإماءِ: ﴿فَإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥]، والمُرادُ بِالمُحْصَناتِ هُنا: الحَرائِرُ والعَذابُ الجَلْدُ، وهو بِالنِّسْبَةِ إلى الحُرَّةِ الزّانِيَةِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ والأمَةُ عَلَيْها نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ ”النِّساءِ“ هَذِهِ، وهو خَمْسُونَ؛ فَآيَةُ ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥]، مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾، بِالنِّسْبَةِ إلى الزّانِيَةِ الأُنْثى.
وَأمّا التَّخْصِيصُ المَرَّةَ الثّانِيَةَ لِعُمُومِ الزّانِيَةِ في آيَةِ ”النُّورِ“ هَذِهِ فَهو بِآيَةٍ مَنسُوخَةِ التِّلاوَةِ، باقِيَةِ الحُكْمِ، تَقْتَضِي أنَّ عُمُومَ الزّانِيَةِ هُنا مُخَصَّصٌ بِكَوْنِها بِكْرًا.
(p-٣٦٧)أمّا إنْ كانَتْ مُحْصَنَةً، بِمَعْنى أنَّها قَدْ تَزَوَّجَتْ مِن قَبْلِ الزِّنى، وجامَعَها زَوْجُها في نِكاحٍ صَحِيحٍ فَإنَّها تُرْجَمُ.
والآيَةُ الَّتِي خَصَصَتْها بِهَذا الحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنا أنَّها مَنسُوخَةُ التِّلاوَةِ باقِيَةُ الحُكْمِ، هي قَوْلُهُ تَعالى: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ، واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
وَهَذا التَّخْصِيصُ إنَّما هو عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: لا يُجْمَعُ لِلزّانِي المُحْصَنِ، بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ، وإنَّما يُرْجَمُ فَقَطْ بِدُونِ جَلْدٍ.
أمّا عَلى قَوْلِ مَن يَرى الجَمْعَ بَيْنَهُما فَلا تَخْصِيصَ، وإنَّما في آيَةِ الرَّجْمِ زِيادَتُهُ عَلى الجَلْدِ، فَكِلْتا الآيَتَيْنِ أثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الأُخْرى، وسَيَأْتِي إيضاحُ هَذا إنْ شاءَ اللَّهُ غَيْرَ بَعِيدٍ وأقْوالُ أهْلِ العِلْمِ فِيهِ ومُناقَشَةُ أدِلَّتِهِمْ.
أمّا الزّانِي الذَّكَرُ فَقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنا، أنَّها مَنسُوخَةُ التِّلاوَةِ باقِيَةُ الحُكْمِ عَلى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ، وأنَّ الَّذِي يُجْلَدُ المِائَةَ مِنَ الذُّكُورِ، إنَّما هو الزّانِي البِكْرُ، وأمّا المُحْصَنُ فَإنَّهُ يُرْجَمُ، وهَذا التَّخْصِيصُ في الذَّكَرِ أيْضًا إنَّما هو عَلى قَوْلِ مَن لا يَرى الجَمْعَ بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ؛ كَما أوْضَحْناهُ قَرِيبًا في الأُنْثى.
وَأمّا عَلى قَوْلِ مَن يَرى الجَمْعَ بَيْنَهُما فَلا تَخْصِيصَ، بَلْ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ الآيَتَيْنِ أثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الأُخْرى.
وَعُمُومُ الزّانِي في آيَةِ ”النُّورِ“ هَذِهِ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الجُمْهُورِ أيْضًا مَرَّةً أُخْرى، بِكَوْنِ جَلْدِ المِائَةِ خاصًّا بِالزّانِي الحُرِّ، أمّا الزّانِي الذَّكَرُ العَبْدُ فَإنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ المِائَةِ، وهو الخَمْسُونَ.
وَوَجْهُ هَذا التَّخْصِيصِ: إلْحاقُ العَبْدِ بِالأمَةِ في تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنى بِالرِّقِّ؛ لِأنَّ مَناطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلا شَكٍّ؛ لِأنَّ الذُّكُورَةَ والأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إلى الحُدُودِ وصْفانِ طَرْدِيّانِ، لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِما حُكْمٌ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعالى في آيَةِ ”النِّساءِ“ في الإماءِ: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾ [النساء: ٢٥]، أنَّ الرِّقَّ مَناطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنى، إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ والأُنْثى في الحُدُودِ، فالمُخَصِّصُ لِعُمُومِ الزّانِي في الحَقِيقَةِ، هو ما أفادَتْهُ آيَةُ: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ﴾، وإنْ سَمّاهُ الأُصُولِيُّونَ تَخْصِيصًا بِالقِياسِ، فَهو في الحَقِيقَةِ تَخْصِيصُ آيَةٍ بِما فُهِمَ مِن آيَةٍ أُخْرى.
* * *
(p-٣٦٨)مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ.
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ رَجْمَ الزّانِيَيْنِ المُحْصَنَيْنِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتانِ مِن كِتابِ اللَّهِ، إحْداهُما نُسِخَتْ تِلاوَتُها، وبَقِيَ حُكْمُها، والثّانِيَةُ: باقِيَةُ التِّلاوَةِ والحُكْمِ، أمّا الَّتِي نُسِخَتْ تِلاوَتُها، وبَقِيَ حُكْمُها فَهي قَوْلُهُ تَعالى: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ) إلى آخِرِها؛ كَما سَيَأْتِي، وكَوْنُ الرَّجْمِ ثابِتًا بِالقُرْآنِ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ.
قالَ البُخارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ: في بابِ رَجْمِ الحُبْلى مِنَ الزِّنى إذا أحْصَنَتْ:
حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إبْراهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كُنْتُ أُقْرِئُ رِجالًا مِنَ المُهاجِرِينَ مِنهم: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَبَيْنَما أنا في مَنزِلِهِ بِمِنًى، وهو عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ في آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّها، إذْ رَجَعَ إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقالَ: لَوْ رَأيْتَ رَجُلًا أتى أمِيرَ المُؤْمِنِينَ اليَوْمَ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هَلْ لَكَ في فُلانٍ يَقُولُ: لَوْ قَدْ ماتَ عُمَرُ لَقَدْ بايَعْتُ فُلانًا فَواللَّهِ ما كانَتْ بَيْعَةُ أبِي بَكْرٍ إلّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قالَ: إنِّي إنْ شاءَ اللَّهُ لَقائِمٌ العَشِيَّةَ في النّاسِ فَمُحَذِّرُهم هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أنْ يَغْصِبُوهم أُمُورَهم، الحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَفِيهِ: إنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالحَقِّ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتابَ، فَكانَ مِمّا أنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ، فَقَرَأْناها، وعَقَلْناها، ووَعَيْناها، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ورَجَمْنا بَعْدَهُ، فَأخْشى إنْ طالَ بِالنّاسِ زَمانٌ أنْ يَقُولَ قائِلٌ: واللَّهِ ما نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ في كِتابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ، والرَّجْمُ في كِتابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلى مَن زَنى، إذا أحْصَنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنَةُ أوْ كانَ الحَبَلُ أوْ الِاعْتِرافُ،» انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن صَحِيحِ البُخارِيِّ.
وَفِيهِ: أنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ في القُرْآنِ في آيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ، وكَوْنُها لَمْ تُقْرَأْ في الصُّحُفِ، يَدُلُّ عَلى نَسْخِ تِلاوَتِها، مَعَ بَقاءِ حُكْمِها؛ كَما هو ثابِتٌ في الحَدِيثِ المَذْكُورِ.
وَفِي رِوايَةٍ في البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَقَدْ خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بِالنّاسِ زَمانٌ حَتّى يَقُولَ قائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ، ألا وإنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلى مَن زَنى، وقَدْ أحْصَنَ إذا قامَتِ البَيِّنَةُ، أوْ كانَ الحَمْلُ، أوْ الِاعْتِرافُ» .
قالَ سُفْيانُ: كَذا حَفِظْتُ: ألا وقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا بَعْدَهُ.
(p-٣٦٩)وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“، في شَرْحِهِ لِهَذِهِ الرِّوايَةِ الأخِيرَةِ، وقَدْ أخْرَجَهُ الإسْماعِيلِيُّ مِن رِوايَةِ جَعْفَرٍ الفِرْيابِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ البُخارِيِّ فِيهِ، فَقالَ بَعْدَ قَوْلِهِ: أوْ الِاعْتِرافُ، وقَدْ قَرَأْناها: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ)، وقَدْ رَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ورَجَمْنا بَعْدَهُ، فَسَقَطَ مِن رِوايَةِ البُخارِيِّ مِن قَوْلِهِ: وقَدْ قَرَأْناها إلى قَوْلِهِ: البَتَّةَ، ولَعَلَّ البُخارِيَّ هو الَّذِي حَذَفَ ذَلِكَ عَمْدًا، فَقَدْ أخْرَجَهُ النَّسائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنصُورٍ، عَنْ سُفْيانَ كَرِوايَةِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ قالَ: لا أعْلَمُ أحَدًا ذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ. . .) غَيْرَ سُفْيانَ، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ وهِمَ في ذَلِكَ.
قُلْتُ: وقَدْ أخْرَجَ الأئِمَّةُ هَذا الحَدِيثَ مِن رِوايَةِ مالِكٍ، ويُونُسَ، ومَعْمَرٍ، وصالِحِ بْنِ كَيْسانَ، وعَقِيلٍ، وغَيْرُهم مِنَ الحُفّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ وقَعَتْ هَذِهِ الزِّيادَةُ في هَذا الحَدِيثِ مِن رِوايَةِ المُوَطَّأِ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قالَ: «لَمّا صَدَرَ عُمَرُ مِنَ الحَجِّ، وقَدِمَ المَدِينَةَ خَطَبَ النّاسَ فَقالَ: أيُّها النّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وفُرِضَتْ لَكُمُ الفَرائِضُ، وتُرِكْتُمْ عَلى الواضِحَةِ، ثُمَّ قالَ: إيّاكم أنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أنْ يَقُولَ قائِلٌ: لا نَجِدُ حَدَّيْنِ في كِتابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلا أنْ يَقُولَ النّاسُ زادَ عُمَرُ في كِتابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُها بِيَدِي: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ)»، قالَ مالِكٌ: الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ: الثَّيِّبُ والثَّيِّبَةُ.
وَوَقَعَ في الحِلْيَةِ في تَرْجَمَةِ داوُدَ بْنِ أبِي هِنْدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ: لَكَتَبْتُها في آخِرِ القُرْآنِ.
وَوَقَعَتْ أيْضًا في هَذا الحَدِيثِ في رِوايَةِ أبِي مَعْشَرٍ الآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْها، في البابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: «قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا بَعْدَهُ، ولَوْلا أنْ يَقُولُوا: كَتَبَ عُمَرُ ما لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ، لَكَتَبْتُهُ قَدْ قَرَأْنا: (الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ إذا زَنَيا فارْجُمُوهُما البَتَّةَ نَكالًا مِنَ اللَّهِ واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)» .
وَأخْرَجَ هَذِهِ الجُمْلَةَ النَّسائِيُّ وصَحَّحَهُ الحاكِمُ، مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قالَ: ولَقَدْ كانَ فِيها، أيْ سُورَةِ ”الأحْزابِ“، آيَةُ الرَّجْمِ: (الشَّيْخُ)، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
(p-٣٧٠)وَمِن حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ“» مِثْلَهُ، إلى قَوْلِهِ: ”البَتَّةَ“ .
وَمِن رِوايَةِ أُسامَةَ بْنِ سَهْلٍ أنَّ خالَتَهُ أخْبَرَتْهُ، قالَتْ: لَقَدْ أقْرَأنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ آيَةَ الرَّجْمِ، فَذَكَرَهُ إلى قَوْلِهِ: ”البَتَّةَ“، وزادَ ”بِما قَضَيا مِنَ اللَّذَّةِ“ .
وَأخْرَجَ النَّسائِيُّ أيْضًا «أنَّ مَرْوانَ بْنَ الحَكَمِ قالَ لِزَيْدٍ: ألا تَكْتُبْها في المُصْحَفِ ؟ قالَ: لا ألا تَرى أنَّ الشّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمانِ ولَقَدْ ذَكَرْنا ذَلِكَ، فَقالَ عُمَرُ: أنا أكْفِيكم، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) أكْتِبْنِي آيَةَ الرَّجْمِ، فَقالَ: ”لا أسْتَطِيعُ“» .
وَرُوِّينا في فَضائِلِ القُرْآنِ لِابْنِ الضُّرَيْسِ مِن طَرِيقِ يَعْلى وهو ابْنُ حَكِيمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ «أنَّ عُمَرَ خَطَبَ النّاسَ، فَقالَ: لا تَشُكُّوا في الرَّجْمِ فَإنَّهُ حَقٌّ، ولَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أكْتُبَهُ في المُصْحَفِ، فَسَألْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، فَقالَ: ألَيْسَ أتَيْتَنِي، وأنا أسْتَقْرِئُها رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَدَفَعْتَ في صَدْرِي، وقُلْتَ: اسْتَقْرِئْهُ آيَةَ الرَّجْمِ، وهم يَتَسافَدُونَ تَسافُدَ الحُمُرِ»، ورِجالُهُ ثِقاتٌ، وفِيهِ إشارَةٌ إلى بَيانِ السَّبَبِ في رَفْعِ تِلاوَتِها، وهو الِاخْتِلافُ.
وَأخْرَجَ الحاكِمُ مِن طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ، قالَ: «كانَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وسَعِيدُ بْنُ العاصِ يَكْتُبانِ في المُصْحَفِ، فَمَرّا عَلى هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ زَيْدٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ”الشَّيْخُ والشَّيْخَةُ فارْجُمُوهُما البَتَّةَ“، فَقالَ عُمَرُ: لَمّا نَزَلَتْ أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: أكْتُبُها ؟ فَكَأنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ، فَقالَ عُمَرُ: ألا تَرى أنَّ الشَّيْخَ إذا زَنى، ولَمْ يُحْصِنْ جُلِدَ، وأنَّ الشّابَّ إذا زَنى وقَدْ أحْصَنَ رُجِمَ» .
فَيُسْتَفادُ مِن هَذا الحَدِيثِ السَّبَبُ في نَسْخِ تِلاوَتِها لِكَوْنِ العَمَلِ عَلى غَيْرِ الظّاهِرِ مِن عُمُومِها، انْتَهى بِطُولِهِ مِن فَتْحِ البارِي.
وَفِيهِ الدَّلالَةُ الظّاهِرَةُ عَلى ما ذَكَرْنا مِن أنَّ آيَةَ الرَّجْمِ مَنسُوخَةُ التِّلاوَةِ، باقِيَةُ الحُكْمِ، وأنَّها مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الجَلْدِ، عَلى القَوْلِ بِعَدَمِ الجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ والجَلَدِ، كَما تَقَدَّمَ.
وَلَكِنْ ما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ اسْتِفادَةِ سَبَبِ نَسْخِ تِلاوَتِها مِن بَعْضِ الأحادِيثِ المَذْكُورَةِ غَيْرُ ظاهِرٍ؛ لِأنَّ كَثِيرًا مِنَ الآياتِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ تَخْصِيصَ عُمُومِهِ، ويُوَضِّحُ المَقْصُودَ بِهِ وإنْ كانَ خِلافَ الظّاهِرِ المُتَبادَرِ مِنهُ، ولَمْ يُؤَدِّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ إلى نَسْخِ تِلاوَتِهِ كَما هو مَعْلُومٌ، والآيَةُ القُرْآنِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِها تَكُونُ لَها أحْكامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كالتَّعَبُّدِ بِتِلاوَتِها، (p-٣٧١)وَكالعَمَلِ بِما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، والقِراءَةِ بِها في الصَّلاةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأحْكامِ، وإذا أرادَ اللَّهُ أنْ يَنْسَخَها بِحِكْمَتِهِ فَتارَةً يَنْسَخُ جَمِيعَ أحْكامِها مِن تِلاوَةٍ، وتَعَبُّدٍ، وعَمَلٍ بِما فِيها مِنَ الأحْكامِ كَآيَةِ عَشْرِ رَضَعاتٍ مَعْلُوماتٍ يُحَرِّمْنَ، وتارَةً يَنْسَخُ بَعْضَ أحْكامِها دُونَ بَعْضٍ، كَنَسْخِ حُكْمِ تِلاوَتِها والتَّعَبُّدِ بِها مَعَ بَقاءِ ما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وكَنَسْخِ حُكْمِها دُونَ تِلاوَتِها، والتَّعَبُّدِ بِها كَما هو غالِبُ ما في القُرْآنِ مِنَ النَّسْخِ.
وَقَدْ أوْضَحْنا جَمِيعَ ذَلِكَ بِأمْثِلَتِهِ في سُورَةِ ”النَّحْلِ“ في الكَلامِ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ﴾ الآيَةَ [النحل: ١٠١]، ولَهُ الحِكْمَةُ البالِغَةُ في جَمِيعِ ما يَفْعَلُهُ مِن ذَلِكَ.
فَآيَةُ الرَّجْمِ المَقْصُودُ مِنها إثْباتُ حُكْمِها، لا التَّعَبُّدُ بِها، ولا تِلاوَتُها، فَأُنْزِلَتْ وقَرَأها النّاسُ، وفَهِمُوا مِنها حُكْمَ الرَّجْمِ، فَلَمّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ في نُفُوسِهِمْ نَسَخَ اللَّهُ تِلاوَتَها، والتَّعَبُّدَ بِها، وأبْقى حُكْمَها الَّذِي هو المَقْصُودُ، واللَّهُ - جَلَّ وعَلا - أعْلَمُ.
فالرَّجْمُ ثابِتٌ في القُرْآنِ، وما سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: جَلَدْتُها بِكِتابِ اللَّهِ، ورَجَمْتُها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لا يُنافِي ذَلِكَ؛ لِأنَّ السُّنَّةَ هي الَّتِي بَيَّنَتْ أنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ باقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلاوَتِها فَصارَ حُكْمُها مِن هَذِهِ الجِهَةِ، فَإنَّهُ ثابِتٌ بِالسُّنَّةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي أبُو الطّاهِرِ، وحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيى قالا: حَدَّثَنا ابْنُ وهْبٍ، أخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ قالَ: أخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: أنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: «قالَ عُمَرُ بْنُ الخُطّابِ، وهو جالِسٌ عَلى مِنبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالحَقِّ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتابَ، فَكانَ مِمّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْناها ووَعَيْناها وعَقَلْناها، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ورَجَمْنا بَعْدَهُ، فَأخْشى إنْ طالَ بِالنّاسِ زَمانٌ، أنْ يَقُولَ قائِلٌ: ما نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَها اللَّهُ، وإنَّ الرَّجْمَ في كِتابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلى مَن زَنى إذا أحْصَنَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا قامَتِ البَيِّنَةُ، أوْ كانَ الحَبَلُ، أوْ الِاعْتِرافُ»، اهـ مِنهُ.
فَهَذا الحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخانِ، عَنْ هَذا الخَلِيفَةِ الرّاشِدِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، دَلِيلٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ عَلى أنَّ الرَّجْمَ ثابِتٌ بِآيَةٍ مِن كِتابِ (p-٣٧٢)اللَّهِ، أُنْزِلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَرَأها الصَّحابَةُ، ووَعَوْها، وعَقَلُوها وأنَّ حُكْمَها باقٍ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ فَعَلَهُ والصَّحابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فَعَلُوهُ بَعْدَهُ.
فَتَحَقَّقْنا بِذَلِكَ بَقاءَ حُكْمِها مَعَ أنَّها لا شَكَّ في نَسْخِ تِلاوَتِها مَعَ الرِّواياتِ الَّتِي ذَكَرْنا في كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ، ومِن جُمْلَةِ ما فِيها لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ المَذْكُورَةِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
وَأمّا الآيَةُ الَّتِي هي باقِيَةُ التِّلاوَةِ والحُكْمِ، فَهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يُدْعَوْنَ إلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهم مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: ٢٣]، عَلى القَوْلِ بِأنَّها نَزَلَتْ في رَجْمِ اليَهُودِيَّيْنِ الزّانِيَيْنِ بَعْدَ الإحْصانِ، وقَدْ رَجَمَهُما النَّبِيُّ ﷺ، وقِصَّةُ رَجْمِهِ لَهُما مَشْهُورَةٌ، ثابِتَةٌ في الصَّحِيحِ، وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنهم وهم مُعْرِضُونَ﴾، أيْ: عَمّا في التَّوْراةِ مِن حُكْمِ الرَّجْمِ، وذَمُّ المُعْرِضِ عَنِ الرَّجْمِ في هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ثابِتٌ في شَرْعِنا، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلى هَذا القَوْلِ أنَّ الرَّجْمَ ثابِتٌ في شَرْعِنا، وهي باقِيَةُ التِّلاوَةِ.
* * *
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ
الفَرْعُ الأوَّلُ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الرَّجْمَ لا يَكُونُ إلّا عَلى مَن زَنى، وهو مُحْصَنٌ.
وَمَعْنى الإحْصانِ: أنْ يَكُونَ قَدْ جامَعَ في عُمْرِهِ، ولَوْ مَرَّةً واحِدَةً في نِكاحٍ صَحِيحٍ، وهو بالِغٌ عاقِلٌ حُرٌّ، والرَّجُلُ والمَرْأةُ في هَذا سَواءٌ، وكَذَلِكَ المُسْلِمُ، والكافِرُ، والرَّشِيدُ، والمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ الكافِرَ إذا كانَ مُحْصَنًا يُرْجَمُ الحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيا بَعْدَ الإحْصانِ، وقِصَّةُ رَجْمِهِما مَشْهُورَةٌ مَعَ صِحَّتِها؛ كَما هو مَعْلُومٌ.
* * *
الفَرْعُ الثّانِي: أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ مَن زَنى، وهو مُحْصَنٌ يُرْجَمُ، ولَمْ نَعْلَمْ بِأحَدٍ مِن أهْلِ القِبْلَةِ خالَفَ في رَجْمِ الزّانِي المُحْصَنِ، ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى إلّا ما حَكاهُ القاضِي عِياضٌ وغَيْرُهُ عَنِ الخَوارِجِ، وبَعْضِ المُعْتَزِلَةِ كالنَّظّامِ وأصْحابِهِ، فَإنَّهم لَمْ يَقُولُوا بِالرَّجْمِ، وبُطْلانُ مَذْهَبِ مَن ذُكِرَ مِنَ الخَوارِجِ، وبَعْضِ المُعْتَزِلَةِ واضِحٌ مِنَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الثّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ بَعْدَهُ كَما قَدَّمْنا مِن حَدِيثِ عُمَرَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وكَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ.
* * *
الفَرْعُ الثّالِثُ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الزّانِيَ ذَكَرًا كانَ أوْ أُنْثى، إذا قامَتْ عَلَيْهِ البَيِّنَةُ (p-٣٧٣)أنَّهم رَأوْهُ أدْخَلَ فَرْجَهُ في فَرْجِها كالمِرْوَدِ في المُكْحُلَةِ، أنَّهُ يَجِبُ رَجْمُهُ إذا كانَ مُحْصَنًا، وأجْمَعَ العُلَماءُ أنَّ بَيِّنَةَ الزِّنى، لا يُقْبَلُ فِيها أقَلُّ مِن أرْبَعَةِ عُدُولٍ ذُكُورٍ، فَإنْ شَهِدَ ثَلاثَةُ عُدُولٍ، لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهم وحُدُّوا؛ لِأنَّهم قَذَفَةٌ كاذِبُونَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤]، ويَقُولُ - جَلَّ وعَلا -: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ الآيَةَ [النساء: ١٥]، وكِلْتا الآيَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ صَرِيحَةٌ في أنَّ الشُّهُودَ في الزِّنى، لا يَجُوزُ أنْ يَكُونُوا أقَلَّ مِن أرْبَعَةٍ، وقَدْ قالَ - جَلَّ وعَلا -: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ [النور: ١٣]، وقَدْ بَيَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ اشْتِراطَ الأرْبَعَةِ كَما في الآيَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ قَبْلَها، وزادَتْ أنَّ القاذِفِينَ إذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأرْبَعَةِ هُمُ الكاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَمَن كَذَبَ في دَعْواهُ الزِّنى عَلى مُحْصَنٍ أوْ مُحْصَنَةٍ وجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ القَذْفِ؛ كَما سَيَأْتِي إيضاحُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ.
وَما ذَكَرَهُ أبُو الخَطّابِ مِنَ الحَنابِلَةِ عَنْ أحْمَدَ والشّافِعِيِّ مِن أنَّ شُهُودَ الزِّنى، إذا لَمْ يَكْمُلُوا لا حَدَّ قَذْفٍ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم شُهُودٌ لا قَذَفَةٌ، لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، والصَّوابُ إنْ شاءَ اللَّهُ هو ما ذَكَرْنا.
وَمِمّا يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ مَعَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فَإنَّ رابِعَهم لَمّا لَمْ يُصَرِّحْ بِالشَّهادَةِ عَلى المُغِيرَةِ بِالزِّنى، جَلَدَ عُمَرُ الشُّهُودَ الثَّلاثَةَ جَلْدَ القَذْفِ ثَمانِينَ، وفِيهِمْ أبُو بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ، وقَدْ أوْضَحْناها في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وَجُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ العَبِيدَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهم في الزِّنى، ولا نَعْلَمُ خِلافًا عَنْ أحَدٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، في عَدَمِ قَبُولِ شَهادَةِ العَبِيدِ في الزِّنى، إلّا رِوايَةً عَنْ أحْمَدَ لَيْسَتْ هي مَذْهَبُهُ وإلّا قَوْلَ أبِي ثَوْرٍ.
وَيُشْتَرَطُ في شُهُودِ الزِّنى أنْ يَكُونُوا ذُكُورًا ولا تَصِحُّ فِيهِ شَهادَةُ النِّساءِ بِحالٍ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِن أهْلِ العِلْمِ خالَفَ في ذَلِكَ، إلّا شَيْئًا يُرْوى عَنْ عَطاءٍ، وحَمّادٍ أنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلاثَةُ رِجالٍ وامْرَأتانِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وهو شُذُوذٌ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الأرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ (p-٣٧٤)المَذْكُورِينَ، ويَقْتَضِي أنْ يُكْتَفى فِيهِ بِأرْبَعَةٍ، ولا خِلافَ أنَّ الأرْبَعَةَ إذا كانَ بَعْضُهم نِساءً لا يُكْتَفى بِهِمْ، وأنَّ أقَلَّ ما يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وهَذا خِلافُ النَّصِّ؛ ولِأنَّ في شَهادَتِهِنَّ شُبْهَةً لِتَطَرُّقِ الضَّلالِ إلَيْهِنَّ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ [البقرة: ٢٨٢]، والحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ، انْتَهى مِنهُ.
وَلا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ شَهادَةَ الكُفّارِ كالذِّمِّيِّينَ لا تُقْبَلُ عَلى المُسْلِمِ بِالزِّنى.
واخْتُلِفَ هَلْ تُقْبَلُ عَلى كافِرٍ مِثْلِهِ ؟ فَقِيلَ: لا، والنَّبِيُّ ﷺ إنَّما رَجَمَ اليَهُودِيِّينَ بِاعْتِرافِهِما بِالزِّنى، لا بِشَهادَةِ شُهُودٍ مِنَ اليَهُودِ عَلَيْهِمْ بِالزِّنى، والَّذِينَ قالُوا هَذا القَوْلَ زَعَمُوا أنَّ شَهادَةَ الشُّهُودِ في حَدِيثِ جابِرٍ أنَّها شَهادَةُ شُهُودٍ مُسْلِمِينَ، يَشْهَدُونَ عَلى اعْتِرافِ اليَهُودِيَّيْنِ المَذْكُورَيْنِ بِالزِّنى، ومِمَّنْ قالَ هَذا القَوْلَ: ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: تُقْبَلُ شَهادَةُ الكُفّارِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ إنْ تَحاكَمُوا إلَيْنا.
وَقالَ القُرْطُبِيُّ: الجُمْهُورُ عَلى أنَّ الكافِرَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ عَلى مُسْلِمٍ، ولا عَلى كافِرٍ لا في حَدٍّ ولا في غَيْرِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ والحَضَرِ في ذَلِكَ، وقَبِلَ شَهادَتَهم جَماعَةٌ مِنَ التّابِعِينَ، وبَعْضُ الفُقَهاءِ إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ، واسْتَثْنى أحْمَدُ حالَةَ السَّفَرِ إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ.
وَأجابَ القُرْطُبِيُّ عَنِ الجُمْهُورِ عَنْ واقِعَةِ اليَهُودِيَّيْنِ بِأنَّهُ ﷺ نَفَّذَ عَلَيْهِمْ ما عَلِمَ أنَّهُ حُكْمُ التَّوْراةِ، وألْزَمَهُمُ العَمَلَ بِهِ ظاهِرًا لِتَحْرِيفِهِمْ كِتابَهم، وتَغْيِيرِهِمْ حُكْمَهُ أوْ كانَ ذَلِكَ خاصًّا بِهَذِهِ الواقِعَةِ.
وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلامَ القُرْطُبِيِّ المَذْكُورَ، كَذا قالَ: والثّانِي مَرْدُودٌ، ثُمَّ قالَ: وقالَ النَّوَوِيُّ: الظّاهِرُ أنَّهُ رَجَمَهُما بِالِاعْتِرافِ، فَإنْ ثَبَتَ حَدِيثُ جابِرٍ فَلَعَلَّ الشُّهُودَ كانُوا مُسْلِمِينَ وإلّا فَلا عِبْرَةَ بِشَهادَتِهِمْ، ويَتَعَيَّنُ أنَّهُما أقَرّا بِالزِّنى.
ثُمَّ قالَ ابْنُ حَجَرٍ: قُلْتُ: لَمْ يَثْبُتْ أنَّهُما كانُوا مُسْلِمِينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الشُّهُودُ أخْبَرُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ اليَهُودِ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ كَلامَهم، ولَمْ يَحْكم فِيهِما إلّا مُسْتَنِدًا لِما أطْلَعَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ، فَحَكَمَ بِالوَحْيِ، وألْزَمَهُمُ الحُجَّةَ بَيْنَهم؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿وَشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهْلِها﴾ [يوسف: ٢٦]، وأنَّ شُهُودَهم شَهِدُوا عَلَيْهِما عِنْدَ إخْبارِهِمْ بِما ذَكَرَ، فَلَمّا رَفَعُوا الأمْرَ إلى النَّبِيِّ ﷺ اسْتَعْلَمَ القِصَّةَ عَلى وجْهِها فَذَكَرَ كُلُّ مَن حَضَرَهُ مِنَ الرُّواةِ ما حَفِظَهُ في (p-٣٧٥)ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ حُكْمِ النَّبِيِّ ﷺ إلّا ما أطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِن كَلامِ ابْنِ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي رُجْحانُهُ بِالدَّلِيلِ، هو مَذْهَبُ الجُمْهُورِ مِن عَدَمِ قَبُولِ شَهادَةِ الكُفّارِ مُطْلَقًا؛ لِأنَّ اللَّهَ يَقُولُ في المُسْلِمِينَ الفاسِقِينَ: ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا وأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [النور: ٤]، وإذا نَصَّ اللَّهُ - جَلَّ وعَلا - في مُحْكَمِ كِتابِهِ عَلى عَدَمِ قَبُولِ شَهادَةِ الفاسِقِ، فالكافِرُ أوْلى بِذَلِكَ، كَما لا يَخْفى، وقَدْ قالَ - جَلَّ وعَلا - في شُهُودِ الزِّنا، أعاذَنا اللَّهُ وإخْوانَنا المُسْلِمِينَ مِنهُ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ [النساء: ١٥]، فَخَصَّ الأرْبَعَةَ بِكَوْنِهِمْ مِنّا، ويُمْكِنُ أنْ يُجِيبَ المانِعَ بِأنَّ أوَّلَ الآيَةِ فِيهِ ﴿مِن نِسائِكُمْ﴾، فَلا نَتَناوَلُ نِساءَ أهْلِ الذِّمَّةِ ونَحْوِهِمْ مِنَ الكُفّارِ، وأنَّهُ لا تُقْبَلُ شَهادَةُ كافِرٍ في شَيْءٍ إلّا بِدَلِيلٍ خاصٍّ كالوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، إذا لَمْ يُوجَدْ مُسْلِمٌ؛ لِأنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أوْ آخَرانِ مِن غَيْرِكُمْ﴾ الآيَةَ [المائدة: ١٠٦] .
والتَّحْقِيقُ أنَّ حُكْمَها غَيْرُ مَنسُوخٍ؛ لِأنَّ القُرْآنَ لا يَثْبُتُ نَسْخُ حُكْمِهِ، إلّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، والآياتُ الَّتِي زَعَمَ مَنِ ادَّعى النَّسْخَ أنَّها ناسِخَةٌ لَها؛
• كَقَوْلِهِ: ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [الطلاق: ٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [النساء: ٢٨٢]،
• وقَوْلِهِ: ﴿وَلا تَقْبَلُوا لَهم شَهادَةً أبَدًا﴾ [النور: ٤] .
والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الأعَمَّ لا يَنْسَخُ الأخَصَّ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ.
أمّا حَدِيثُ جابِرٍ المُشارُ إلَيْهِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنهُ قَبُولُ شَهادَةِ الكُفّارِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ في حَدِّ الزِّنى، فَقَدْ قالَ فِيهِ أبُو داوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ مُوسى البَلْخِيُّ، ثَنا أبُو أُسامَةَ، قالَ مُجالِدٌ: أخْبَرَنا عَنْ عامِرٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: «جاءَتِ اليَهُودُ بِرَجُلٍ وامْرَأةٍ مِنهم زَنَيا، فَقالَ: ”ائْتُونِي بِأعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنكم“، الحَدِيثَ، وفِيهِ: فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالشُّهُودِ، فَجاءُوا بِأرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أنَّهم رَأوْا ذَكَرَهُ في فَرْجِها مِثْلَ المَيْلِ في المُكْحُلَةِ، فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِرَجْمِهِما»، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنهُ.
وَظاهِرُ المُتَبادِرِ مِنهُ: أنَّ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا مِنَ اليَهُودِ كَما لا يَخْفى، فَظاهِرُ الحَدِيثِ دالٌّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى قَبُولِ شَهادَةِ الكُفّارِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، في حَدِّ الزِّنى، إنْ كانَ صَحِيحًا، والسَّنَدُ المَذْكُورُ الَّذِي أخْرَجَهُ بِهِ أبُو داوُدَ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ فِيهِ مُجالِدًا وهو (p-٣٧٦)مُجالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ بِسِطامِ بْنِ ذِي مِرانِ بْنِ شُرَحْبِيلَ الهَمْدانِيُّ أبُو عَمْرٍو، ويُقالُ أبُو سَعِيدٍ الكُوفِيُّ، وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ عَلى ضَعْفِهِ، وعَدَمِ الِاحْتِجاجِ بِهِ، والإمامُ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ، إنَّما أخْرَجَ حَدِيثَهُ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ، فَلا عِبْرَةَ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيانَ، إنَّهُ صَدُوقٌ، ولا بِتَوْثِيقِ النَّسائِيِّ لَهُ مَرَّةً؛ لِأنَّهُ ضَعَّفَهُ مَرَّةً أُخْرى، ولا بِقَوْلِ ابْنِ عَدِيٍّ: أنَّ لَهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جابِرٍ أحادِيثَ صالِحَةً؛ لِأنَّ أكْثَرَ أهْلِ العِلْمِ بِالرِّجالِ عَلى تَضْعِيفِهِ، وعَدَمِ الِاحْتِجاجِ بِهِ، أمّا غَيْرُ مُجالِدٍ مِن رِجالِ سَنَدِ أبِي داوُدَ فَهم ثِقاتٌ مَعْرُوفُونَ؛ لِأنَّ يَحْيى بْنَ مُوسى البَلْخِيَّ ثِقَةٌ، وأبُو أُسامَةَ المَذْكُورُ فِيهِ هو حَمّادُ بْنُ أُسامَةَ القُرَشِيُّ مَوْلاهم، وهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ، رُبَّما دَلَّسَ وكانَ بِآخِرَةٍ يُحَدِّثُ مِن كُتُبِ غَيْرِهِ، وعامِرٌ الَّذِي رَوى عَنْ مُجالِدٍ هو الإمامُ الشَّعْبِيُّ، وجَلالَتُهُ مَعْرُوفَةٌ.
والحاصِلُ: أنَّ مِثْلَ هَذا السَّنَدِ الَّذِي فِيهِ مُجالِدٌ المَذْكُورُ، لا يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ عَنْ عُمُومِ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ المُقْتَضِيَةِ، أنَّ الكُفّارَ لا تُقْبَلُ شَهادَتُهم مُطْلَقًا، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *
الفَرْعُ الرّابِعُ: اعْلَمْ أنَّ أهْلَ العِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا في اشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ لِشَهادَةِ شُهُودِ الزِّنا، وعَلى اشْتِراطِ ذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا في مَجْلِسَيْنِ أوْ مَجالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ، بَطَلَتْ شَهادَتُهم، وحُدُّوا حَدَّ القَذْفِ، وعَلى عَدَمِ اشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ تَصِحُّ شَهادَتُهم ولَوْ جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وأدَّوْا شَهادَتَهم في مَجالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ، ومِمَّنْ قالَ بِاشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ: مالِكٌ وأصْحابُهُ، وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وأحْمَدُ وأصْحابُهُ، ومِمَّنْ قالَ بِعَدَمِ اشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ: الشّافِعِيُّ، وعُثْمانُ البَتِّيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ.
قالَ في المُغْنِي: وإنَّما قالُوا بِعَدَمِ اشْتِراطِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ [النور: ١٣]، ولَمْ يَذْكُرِ المَجْلِسَ. وقالَ تَعالى: ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكم فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ﴾ [النساء: ١٥]، ولِأنَّ كُلَّ شَهادَةٍ مَقْبُولَةٍ، إنِ اتَّفَقَتْ تُقْبَلُ إذا افْتَرَقَتْ في مَجالِسَ كَسائِرِ الشَّهاداتِ، ولَنا أنَّ أبا بَكْرَةَ، ونافِعًا، وشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلى المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنى ولَمْ يَشْهَدْ زِيادٌ فَحُدَّ الثَّلاثَةُ، ولَوْ كانَ المَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ لَمْ يَجُزْ أنْ يُحِدَّهم؛ لِجَوازِ أنْ يَكْمُلُوا بِرابِعٍ في مَجْلِسٍ آخَرَ؛ ولِأنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلاثَةٌ فَحَدَّهم، ثُمَّ جاءَ رابِعٌ فَشَهِدَ لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهُ، ولَوْلا اشْتِراطُ اتِّحادِ المَجْلِسِ لَكَمُلَتْ شَهادَتُهم، وبِهَذا فارَقَ سائِرَ الشَّهاداتِ.
(p-٣٧٧)وَأمّا الآيَةُ فَإنَّها لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ، ولِهَذا لَمْ تُذْكَرِ العَدالَةُ، وصِفَةُ الزِّنى؛ ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهُمْ﴾ [النور: ٤]، لا يَخْلُو مِن أنْ يَكُونَ مُطْلَقًا في الزَّمانِ كُلِّهِ أوْ مُقَيَّدًا، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُطْلَقًا؛ لِأنَّهُ يَمْنَعُ مِن جَوازِ جَلْدِهِمْ، لِأنَّهُ ما مِن زَمَنٍ إلّا يَجُوزُ أنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ، أوْ بِكَمالِهِمْ إنْ كانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهم فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمُ المَأْمُورُ بِهِ، فَيَكُونُ تَناقُضًا، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ مُقَيَّدٌ فَأوْلى ما قُيِّدَ بِهِ المَجْلِسُ؛ لِأنَّ المَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنزِلَةِ الحالِ الواحِدَةِ، ولِهَذا ثَبَتَ فِيهِ خِيارُ المَجْلِسِ، واكْتُفِيَ فِيهِ بِالقَبْضِ فِيما يُعْتَبَرُ القَبْضُ فِيهِ إذا ثَبَتَ هَذا، فَإنَّهُ لا يُشْتَرَطُ اجْتِماعُهم حالَ مَجِيئِهِمْ ولَوْ جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، قُبِلَتْ شَهادَتُهم.
وَقالَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ: إنْ جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَهم قَذَفَةٌ؛ لِأنَّهم لَمْ يَجْتَمِعُوا في مَجِيئِهِمْ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهم، كالَّذِينِ لَمْ يَشْهَدُوا في مَجْلِسٍ واحِدٍ ولَنا قِصَّةُ المُغِيرَةِ، فَإنَّ الشُّهُودَ جاءُوا واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ وسُمِعَتْ شَهادَتُهم، وإنَّما حُدُّوا لِعَدَمِ كَمالِها.
وَفِي حَدِيثِهِ أنَّ أبا بَكْرَةَ، قالَ: أرَأيْتَ إنْ جاءَ آخَرُ يَشْهَدُ أكُنْتَ تَرْجُمَهُ ؟ قالَ عُمَرُ: إي والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، ولِأنَّهُمُ اجْتَمَعُوا في مَجْلِسٍ واحِدٍ أشْبَهَ ما لَوْ جاءُوا وكانُوا مُجْتَمِعِينَ، ولِأنَّ المَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنزِلَةِ ابْتِدائِهِ لِما ذَكَرْناهُ، وإذا تَفَرَّقُوا في مَجالِسَ فَعَلَيْهِمُ الحَدُّ؛ لِأنَّ مَن شَهِدَ بِالزِّنى، ولَمْ يُكْمِلِ الشَّهادَةَ يَلْزَمُهُ الحَدُّ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤]، انْتَهى مِنَ ”المُغْنِي“ لِابْنِ قُدامَةَ.
وَقَدْ عَرَفْتَ أقْوالَ أهْلِ العِلْمِ في اشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ لِشَهادَةِ شُهُودِ الزِّنى، وما احْتَجَّ بِهِ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: أظْهَرُ القَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا هو قَبُولُ شَهادَتِهِمْ، ولَوْ جاءُوا مُتَفَرِّقِينَ في مَجالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ - جَلَّ وعَلا - صَرَّحَ في كِتابِهِ بِقَبُولِ شَهادَةِ الأرْبَعَةِ في الزِّنى، فَإبْطالُها مَعَ كَوْنِهِمْ أرْبَعَةً بِدَعْوى عَدَمِ اتِّحادِ المَجْلِسِ إبْطالٌ لِشَهادَةِ العُدُولِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وما وجَّهَ مِنَ اشْتِراطِ اتِّحادِ المَجْلِسِ قَوْلُهُ بِهِ لا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجاهِ، فَإنْ قالَ: الشُّهُودُ مَعَنا مَن يَشْهَدُ مِثْلَ شَهادَتِنا، انْتَظَرَهُ الإمامُ، وقَبِلَ شَهادَتَهُ فَإنْ لَمْ يَدْعُو زِيادَةَ شُهُودٍ ولا عَلِمَ الحاكِمُ بِشاهِدٍ أقامَ عَلَيْهِمُ الحَدَّ، لِعَدَمِ كَمالِ (p-٣٧٨)شَهادَتِهِمْ، هَذا هو الظّاهِرُ لَنا مِن عُمُومِ الأدِلَّةِ، وإنْ كانَ مُخالِفًا لِمَذْهَبِ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، وأحْمَدَ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أنَّ مالِكًا وأصْحابَهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهم زِيادَةٌ عَلى أداءِ شُهُودِ الزِّنى شَهادَتُهم في وقْتٍ واحِدٍ، أنْ يَكُونُوا شاهِدَيْنِ عَلى فِعْلٍ واحِدٍ، فَلَوِ اجْتَمَعُوا ونَظَرَ واحِدٌ بَعْدَ واحِدٍ، لَمْ تَصِحَّ شَهادَتُهم عَلى الأصَحِّ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ؛ لِاحْتِمالِ تَعَدُّدِ الوَطْءِ وأنْ يَكُونَ الزّانِي نَزَعَ فَرْجَهُ مِن فَرْجِها بَعْدَ رُؤْيَةِ الأوَّلِ، ورَأى الثّانِي إيلاجًا آخَرَ غَيْرَ الإيلاجِ الَّذِي رَآهُ مَن قَبْلَهُ؛ لِأنَّ الأفْعالَ لا يُضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ في الشَّهادَةِ عِنْدَهم، ومَتى لَمْ تُقْبَلْ شَهادَتُهم حُدُّوا حَدَّ القَذْفِ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ أيْضًا: وُجُوبُ تَفْرِقَتِهِمْ، أعْنِي شُهُودَ الزِّنى خاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِمْ مِن سائِرِ الشُّهُودِ.
وَمَعْناهُ عِنْدَهم: أنَّهُ لا بُدَّ مِن إتْيانِهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإذا جاءُوا مُجْتَمِعِينَ فُرِّقَ بَيْنَهم عِنْدَ أداءِ الشَّهادَةِ فَيُسْألُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم دُونَ حَضْرَةِ الآخَرِينَ، ويَشْهَدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم، أنَّهُ رَآهُ أدْخَلَ فَرْجَهُ في فَرْجِها، أوْ أوْلَجَهُ فِيهِ، ولا بُدَّ عِنْدَهم مِن زِيادَةٍ كالمِرْوَدِ في المُكْحُلَةِ ونَحْوِهِ، ويَجُوزُ لِلشُّهُودِ النَّظَرُ إلى عَوْرَةِ الزّانِيَيْنِ، لِيُمْكِنَهم أنْ يُؤَدُّوا الشَّهادَةَ عَلى وجْهِها، ولا إثْمَ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ، ولا يُقْدَحُ في شَهادَتِهِمْ؛ لِأنَّهُ وسِيلَةُ إقامَةِ حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ، ومَحَلُّ هَذا إنْ كانُوا أرْبَعَةً، فَإنْ كانُوا أقَلَّ مِن أرْبَعَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُمُ النَّظَرُ إلى عَوْرَةِ الزّانِي إذْ لا فائِدَةَ في شَهادَتِهِمْ؛ ولِأنَّهم يُجْلَدُونَ حَدَّ القَذْفِ.
وَقالَ بَعْضُ المالِكِيَّةِ: لا يَجُوزُ لَهُمُ النَّظَرُ إلى عَوْراتِ الزُّناةِ، ولَوْ كانُوا أرْبَعَةً، لِما نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ مِنَ اسْتِحْسانِ السَّتْرِ، ويُنْدَبُ لِلْحاكِمِ عِنْدَ المالِكِيَّةِ سُؤالُ الشُّهُودِ في الزِّنى عَمّا لَيْسَ شَرْطًا في صِحَّةِ الشَّهادَةِ، كَأنْ يَقُولَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الشُّهُودِ بِانْفِرادِهِ دُونَ حَضْرَةِ الآخَرِينَ: عَلى أيِّ حالٍ رَأيْتَهُما وقْتَ زِناهُما، وهَلْ كانَتِ المَرْأةُ عَلى جَنْبِها الأيْمَنِ، أوِ الأيْسَرِ، أوْ عَلى بَطْنِها، أوْ عَلى قَفاها، وفي أيِّ جَوانِبِ البَيْتِ ونَحْوَ ذَلِكَ، فَإنِ اخْتَلَفُوا بِأنْ قالَ أحَدُهم: كانَتْ عَلى قَفاها، وقالَ الآخَرُ: كانَتْ عَلى جَنْبِها الأيْمَنِ ونَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهادَتُهم؛ لِدَلالَةِ اخْتِلافِهِمْ عَلى كَذِبِهِمْ، وكَذَلِكَ إنِ اخْتَلَفُوا في جانِبِ البَيْتِ الَّذِي وقَعَ فِيهِ الزِّنى.
وَلا شَكَّ أنَّ مِثْلَ هَذا السُّؤالِ أحْوَطُ في الدَّفْعِ عَنْ أعْراضِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّهم إنْ كانُوا (p-٣٧٩)صادِقِينَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وإنْ كانُوا كاذِبِينَ عُلِمَ كَذِبُهم بِاخْتِلافِهِمْ، وقَدْ قَدَّمْنا ما يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِتَفْرِقَةِ شُهُودِ الزِّنى، وسُؤالِهِمْ مُتَفَرِّقِينَ في قِصَّةِ سُلَيْمانَ وداوُدَ في المَرْأةِ الَّتِي شَهِدَ عَلَيْها أرْبَعَةٌ، أنَّها زَنَتْ بِكَلْبِها فَرَجَمَها داوُدُ فَجاءَ سُلَيْمانُ بِالصِّبْيانِ، وجَعَلَ مِنهم شُهُودًا، وفَرَّقَهم وسَألَهم مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فَأخْبَرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم بِلَوْنٍ غَيْرِ اللَّوْنِ الَّذِي أخْبَرَ بِهِ الآخَرُ، فَأرْسَلَ داوُدُ لِلشُّهُودِ، وفَرَّقَهم وسَألَهم مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ الكَلْبِ الَّذِي زَنَتْ بِهِ، فاخْتَلَفُوا في لَوْنِهِ؛ كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهُ.
واعْلَمْ أنَّ كُلَّ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ يَثْبُتُ بِهِ الجَلْدُ فَطَرِيقُ ثُبُوتِهِما مُتَّحِدَةٌ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، كَما لا يَخْفى.
* * *
الفَرْعُ الخامِسُ: اعْلَمْ أنَّهُ إذا شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في هَذا البَيْتِ، واثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في بَيْتٍ آخَرَ، أوْ شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ بِالزِّنى في بَلَدٍ غَيْرِ البَلَدِ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ صاحِباهُما، أوِ اخْتَلَفُوا في اليَوْمِ الَّذِي وقَعَ فِيهِ الزِّنى، فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ تُقْبَلُ شَهادَتُهم، نَظَرًا إلى أنَّهم أرْبَعَةٌ شَهِدُوا بِالزِّنى، أوْ لا تُقْبَلُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ أرْبَعَةٌ عَلى زِنًى واحِدٍ، فَكُلُّ زِنًى شَهِدَ عَلَيْهِ اثْنانِ، ولا يَثْبُتُ زِنًى بِاثْنَيْنِ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: الجَمِيعُ قَذَفَةٌ وعَلَيْهِمُ الحَدُّ، وبِهَذا قالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، واخْتارَ أبُو بَكْرٍ أنَّهُ لا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وبِهِ قالَ النَّخَعِيُّ وأبُو ثَوْرٍ وأصْحابُ الرَّأْيِ، لِأنَّهم كَمُلُوا أرْبَعَةً، ولَنا أنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ أرْبَعَةً عَلى زِنًى واحِدٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الحَدُّ كَما لَوِ انْفَرَدَ بِالشَّهادَةِ اثْنانِ وحْدَهُما، فَأمّا المَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلا حَدَّ عَلَيْهِ في قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، وقالَ أبُو بَكْرٍ: عَلَيْهِ الحَدُّ، وحَكاهُ قَوْلًا لِأحْمَدَ، وهَذا بِعِيدٌ، فَإنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنًى واحِدٌ بِشَهادَةِ أرْبَعَةٍ، فَلَمْ يَجِبِ الحَدُّ؛ ولِأنَّ جَمِيعَ ما تُعْتَبَرُ لَهُ البَيِّنَةُ يُعْتَبَرُ فِيهِ كَمالُها في حَقٍّ واحِدٍ، فالمُوجِبُ لِلْحَدِّ أوْلى؛ لِأنَّهُ مِمّا يُحْتاطُ فِيهِ ويُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ؛ وقَدْ قالَ أبُو بَكْرٍ: إنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِامْرَأةٍ بَيْضاءَ، وشَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِسَوْداءَ فَهم قَذَفَةٌ، ذَكَرَهُ القاضِي عَنْهُ وهَذا يَنْقُضُ قَوْلَهُ، انْتَهى مِنهُ، ثُمَّ قالَ: وإنْ شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في زاوِيَةِ بَيْتٍ، وشَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في زاوِيَةٍ مِنهُ أُخْرى، وكانَتِ الزّاوِيَتانِ مُتَباعِدَتَيْنِ، فالقَوْلُ فِيهِما كالقَوْلِ في البَيْتَيْنِ وإنْ كانَتا مُتَقارِبَتَيْنِ كَمُلَتْ شَهادَتُهم، وحُدَّ المَشْهُودُ عَلَيْهِ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، وقالَ الشّافِعِيُّ: لا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ شَهادَتَهم لَمْ تَكْمُلْ، ولِأنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في المَكانِ، فَأشْبَهَ ما لَوِ اخْتَلَفُوا في البَيْتَيْنِ، وعَلى قَوْلِ أبِي بَكْرٍ تَكْمُلُ شَهادَتُهم، سَواءٌ تَقارَبَتِ الزّاوِيَتانِ، أوْ تَباعَدَتا، ولَنا أنَّهُما (p-٣٨٠)إذا تَقارَبَتا أمْكَنَ صِدْقُ الشُّهُودِ، بِأنْ يَكُونَ ابْتِداءُ الفِعْلِ في إحْداهُما وتَمامُهُ في الأُخْرى أوْ يَنْسُبُهُ كُلُّ اثْنَيْنِ إلى إحْدى الزّاوِيَتَيْنِ لِقُرْبِهِ مِنها فَيَجِبُ قَبُولُ شَهادَتِهِمْ كَما لَوِ اتَّفَقُوا، بِخِلافِ ما إذا كانَتا مُتَباعِدَتَيْنِ، فَإنَّهُ لا يُمْكِنُ كَوْنُ المَشْهُودِ بِهِ فِعْلًا واحِدًا.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المَشْهُودُ بِهِ فِعْلَيْنِ، فَلِمَ أوْجَبْتُمُ الحَدَّ مَعَ الِاحْتِمالِ، والحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ ؟
قُلْنا: لَيْسَ هَذا بِشُبْهَةٍ، بِدَلِيلِ ما لَوِ اتَّفَقُوا عَلى مَوْضِعٍ واحِدٍ، فَإنَّ هَذا يُحْتَمَلُ فِيهِ والحَدُّ واجِبٌ، والقَوْلُ في الزَّمانِ كالقَوْلِ في هَذا، وأنَّهُ مَتى كانَ بَيْنَهُما زَمَنٌ مُتَباعِدٌ لا يُمْكِنُ وُجُودُ الفِعْلِ الواحِدِ في جَمِيعِهِ، كَطَرَفَيِ النَّهارِ لَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم، ومَتى تَقارَبا كَمُلَتْ شَهادَتُهم، انْتَهى مِنَ ”المُغْنِي“ .
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأيْتَ كَلامَ أهْلِ العِلْمِ في هَذا الفَرْعِ، والظّاهِرُ أنَّهُ لا تَكْمُلُ شَهادَةُ الأرْبَعَةِ إلّا إذا شَهِدُوا عَلى فِعْلٍ واحِدٍ في مَكانٍ مُتَّحِدٍ ووَقْتٍ مُتَّحِدٍ؛ فَإنِ اخْتَلَفُوا في الزَّمانِ أوِ المَكانِ حُدُّوا؛ لِأنَّهُما فِعْلانِ، ولَمْ يَشْهَدْ عَلى واحِدٍ مِنهُما أرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَلَمْ يَثْبُتْ واحِدٌ مِنهُما. والقَوْلُ بِتَلْفِيقِ شَهادَتِهِمْ، وضَمِّ شَهادَةِ بَعْضِهِمْ إلى شَهادَةِ بَعْضٍ لا يَظْهَرُ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ مالِكًا وأصْحابَهُ زادُوا أنْ تَكُونَ شَهادَةُ الأرْبَعَةِ عَلى إيلاجٍ مُتَّحِدٍ، فَلَوْ نَظَرُوا واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ مَعَ اتِّحادِ الوَقْتِ والمَكانِ لَمْ تُقْبَلْ عِنْدَهُ شَهادَتُهم حَتّى يَنْظُرُوا فَرْجَهُ في فَرْجِها نَظْرَةً واحِدَةً في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ، ولَهُ وجْهٌ.
* * *
الفَرْعُ السّادِسُ: إنْ شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في قَمِيصٍ أبْيَضَ، وشَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في قَمِيصٍ أحْمَرَ، أوْ شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في ثَوْبِ كَتّانٍ، وشَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها في ثَوْبِ خَزٍّ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ تَكْمُلُ شَهادَتُهم أوْ لا ؟ فَقالَ بَعْضُهم: لا تَكْمُلُ شَهادَتُهم؛ لِأنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنهُما تُخالِفُ شَهادَتُهُما شَهادَةَ الِاثْنَيْنِ الآخَرَيْنِ، ومِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ الشّافِعِيُّ، وقالَ بَعْضُهم: تَكْمُلُ شَهادَتُهم قائِلًا: إنَّهُ لا تَنافِيَ بَيْنَ الشَّهادَتَيْنِ؛ لِإمْكانِ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصانِ فَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أحَدَ القَمِيصَيْنِ، وتَرَكا ذِكْرَ الآخَرِ، فَيَكُونُ الجَمِيعُ صادِقِينَ؛ لِأنَّ أحَدَ الثَّوْبَيْنِ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ هَذانِ هو الَّذِي ذَكَرَهُ ذانِكَ كَعَكْسِهِ، فَلا تَنافِيَ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ عَلَيْها هي قَمِيصٌ أحْمَرُ، وعَلَيْهِ هو قَمِيصٌ أبْيَضُ كَعَكْسِهِ، أوْ عَلَيْهِ هو ثَوْبُ كَتّانٍ، وعَلَيْها هي ثَوْبُ خَزٍّ كَعَكْسِهِ، فَيُمْكِنُ صِدْقُ الجَمِيعِ؛ وإذا أمْكَنَ صِدْقُهم فَلا (p-٣٨١)وَجْهَ لِرَدِّ شَهادَتِهِمْ، وبِهَذا جَزَمَ صاحِبُ المُغْنِي مُوَجِّهًا لَهُ بِما ذَكَرْنا.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنا في هَذا الفَرْعِ هو وُجُوبُ اسْتِفْسارِ الشُّهُودِ، فَإنْ جَزَمَ اثْنانِ بِأنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا واحِدًا أحْمَرَ، وجَزَمَ الآخَرانِ أنَّ عَلَيْهِ ثَوْبًا واحِدًا أبْيَضَ لَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم لِتَنافِي الشَّهادَتَيْنِ، وإنِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ مَثَلًا أحَدُهُما أحْمَرُ، والثّانِي أبْيَضُ، وذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ أحَدَ الثَّوْبَيْنِ، فَلا إشْكالَ في كَمالِ شَهادَتِهِمْ؛ لِاتِّفاقِ الشَّهادَتَيْنِ، وإنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِفْسارُ الشُّهُودِ لِمَوْتِهِمْ، أوْ غَيْبَتِهِمْ غَيْبَةً يَتَعَذَّرُ مَعَها سُؤالُهم، فالَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ كَمالِ شَهادَتِهِمْ؛ لِاحْتِمالِ تَخالُفِ شَهادَتِهِما، ومُطْلَقُ احْتِمالِ اتِّفاقِهِما لا يَكْفِي في إقامَةِ الحَدِّ؛ لِأنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ، فَلا يُقامُ بِشَهادَةٍ مُحْتَمَلَةِ البُطْلانِ، بَلِ الظّاهِرُ مِنَ الصِّيغَةِ اخْتِلافُ الشَّهادَتَيْنِ والعَمَلُ بِالظّاهِرِ لازِمٌ، ما لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ صارِفٌ عَنْهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ.
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهم إنْ لَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم يُحَدُّونَ حَدَّ القَذْفِ. أمّا في الشَّهادَةِ المُحْتَمَلَةِ فَإنَّهُ قَبْلَ إمْكانِ اسْتِفْسارِهِمْ، فَلا إشْكالَ في عَدَمِ إمْكانِ حَدِّهِمْ وإنْ أمْكَنَ اسْتِفْسارُهم، فَإنْ فَسَّرُوا، بِما يَقْتَضِي كَمالَ شَهادَتِهِمْ حُدَّ المَشْهُودُ عَلَيْهِ بِشَهادَتِهِمْ، وإنْ فَسَّرُوا بِما يُوجِبُ بُطْلانَ شَهادَتِهِمْ، فالظّاهِرُ أنَّهم يُحَدُّونَ حَدَّ القَذْفِ؛ كَما قَدَّمْنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ السّابِعُ: إنْ شَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها مُكْرَهَةً، وشَهِدَ اثْنانِ أنَّهُ زَنى بِها مُطاوِعَةً، فَلا حَدَّ عَلى المَرْأةِ إجْماعًا؛ لِأنَّ الشَّهادَةَ عَلَيْها لَمْ تَكْمُلْ عَلى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ، وإنَّما الخِلافُ في حُكْمِ الرَّجُلِ والشُّهُودِ.
قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وفي الرَّجُلِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: لا حَدَّ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُ أبِي بَكْرٍ، والقاضِي وأكْثَرِ الأصْحابِ، وقَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ، وأحَدُ الوَجْهَيْنِ لِأصْحابِ الشّافِعِيِّ؛ لِأنَّ البَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلى فِعْلٍ واحِدٍ، فَإنَّ فِعْلَ المُطاوِعَةِ غَيْرُ فِعْلِ المُكْرَهَةِ، ولَمْ يَتِمَّ العَدَدُ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنَ الفِعْلَيْنِ، ولِأنَّ كُلَّ شاهِدَيْنِ مِنهُما يُكَذِّبانِ الآخَرَيْنِ، وذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهادَةِ، أوْ يَكُونُ شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ ولا يَخْرُجُ عَنْ أنْ يَكُونَ قَوْلٌ واحِدٌ مِنهُما مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ إلّا بِتَقْدِيرِ فِعْلَيْنِ تَكُونُ مُطاوِعَةً في أحَدِهِما، مُكْرَهَةً في الآخَرِ، وهَذا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهادَةِ كامِلَةً عَلى فِعْلٍ واحِدٍ، ولِأنَّ شاهِدَيِ المُطاوَعَةِ قاذِفانِ لَها، ولَمْ تَكْمُلِ البَيِّنَةُ عَلَيْها، فَلا تُقْبَلُ شَهادَتُهُما عَلى غَيْرِها.
(p-٢٨٢)والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ يَجِبُ الحَدُّ عَلَيْهِ، اخْتارَهُ أبُو الخَطّابِ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ، ووَجْهٌ ثانٍ لِلشّافِعِيِّ؛ لِأنَّ الشَّهادَةَ كَمُلَتْ عَلى وُجُودِ الزِّنى مِنهُ، واخْتِلافُهُما إنَّما هو في فِعْلِها لا في فِعْلِهِ، فَلا يَمْنَعُ كَمالَ الشَّهادَةِ عَلَيْهِ.
وَفِي الشُّهُودِ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ:
أحَدُها: لا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وهو قَوْلُ مَن أوْجَبَ الحَدَّ عَلى الرَّجُلِ بِشَهادَتِهِمْ.
والثّانِي: عَلَيْهِمُ الحَدُّ لِأنَّهم شَهِدُوا بِالزِّنى، ولَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم فَلَزِمَهُمُ الحَدُّ، كَما لَوْ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهم.
والثّالِثُ: يَجِبُ الحَدُّ عَلى شاهِدَيِ المُطاوِعَةِ، لِأنَّهُما قَذَفا المَرْأةَ بِالزِّنى، ولَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم عَلَيْها، ولا تَجِبُ عَلى شاهِدَيِ الإكْراهِ لِأنَّهُما لَمْ يَقْذِفا المَرْأةَ، وقَدْ كَمُلَتْ شَهادَتُهم عَلى الرَّجُلِ، وإنَّما انْتَفى عَنْهُ الحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: قَدْ رَأيْتُ خِلافَ أهْلِ العِلْمِ في هَذا الفَرْعِ، وأظْهَرُ أقْوالِهِمْ عِنْدِي فِيهِ: أنَّ الرَّجُلَ والمَرْأةَ لا حَدَّ عَلى واحِدٍ مِنهُما، وأنَّ عَلى الشُّهُودِ الأرْبَعَةِ حَدَّ القَذْفِ، أمّا نَفْيُ الحَدِّ عَنِ المَرْأةِ، فَلا خِلافَ فِيهِ، ووَجْهُهُ ظاهِرٌ؛ لِأنَّها لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْها شَهادَةٌ بِالزِّنى، وأمّا نَفْيُ الحَدِّ عَنِ الرَّجُلِ؛ فَلِأنَّ الِاثْنَيْنِ الشّاهِدَيْنِ بِالمُطاوَعَةِ يُكَذِّبانِ الشّاهِدَيْنِ بِالإكْراهِ كَعَكْسِهِ، وإذا كانَ كُلُّ اثْنَيْنِ مِنَ الأرْبَعَةِ يُكَذِّبانِ الآخَرَيْنِ في الحالَةِ الَّتِي وقَعَ عَلَيْها الفِعْلُ لَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم عَلى فِعْلٍ واحِدٍ، فَلَمْ تَكْمُلْ عَلى الرَّجُلِ شَهادَةٌ عَلى حالَةِ زِنًى واحِدٍ؛ لِأنَّ الإكْراهَ والطَّوْعَ أمْرانِ مُتَنافِيانِ، وإذا لَمْ تَكْمُلْ عَلَيْهِ شَهادَةٌ بِفِعْلٍ واحِدٍ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ فَعَدَمُ حَدِّهِ هو الأظْهَرُ، أمّا وجْهُ حَدِّ الشُّهُودِ، فَلِأنَّ الشّاهِدَيْنِ عَلى المَرْأةِ بِأنَّها زَنَتْ مُطاوِعَةً لِلرَّجُلِ قاذِفانِ لَها بِالزِّنى، ولَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهُما عَلَيْها فَحَدُّهُما لِقَذْفِهِما المَرْأةَ ظاهِرٌ جِدًّا؛ ولِأنَّ الشّاهِدَيْنِ بِأنَّهُ زَنى بِها مُكْرَهَةً قاذِفانِ لِلرَّجُلِ بِأنَّهُ أكْرَهَها فَزَنى بِها، ولَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهم؛ لِأنَّ شاهِدَيِ الطَّوْعِ مُكَذِّبانِ لَهُما في دَعْواهُما الإكْراهَ فَحَدُّهُما لِقَذْفِهِما لِلرَّجُلِ ولَمْ تَكْمُلْ شَهادَتُهُما عَلَيْهِ ظاهِرٌ، أمّا كَوْنُ الأرْبَعَةِ قَدِ اتَّفَقَتْ شَهادَتُهم عَلى أنَّهُ زَنى بِها، فَيَرُدُّهُ أنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنهُما يُكَذِّبانِ الآخَرَيْنِ في الحالَةِ الَّتِي وقَعَ عَلَيْها الزِّنى، هَذا هو الأظْهَرُ عِنْدَنا مِن كَلامِ أهْلِ العِلْمِ في هَذا الفَرْعِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
(p-٢٨٣)وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ كُلَّ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْمُ عَلى المُحْصَنِ يَثْبُتُ بِهِ الجَلْدُ عَلى البِكْرِ، فَثُبُوتُ الأمْرَيْنِ طَرِيقُهُ واحِدَةٌ.
* * *
الفَرْعُ الثّامِنُ: اعْلَمْ أنَّهُ إنْ شَهِدَ أرْبَعَةُ عُدُولٍ عَلى امْرَأةٍ أنَّها زَنَتْ وتَمَّتْ شَهادَتُهم عَلى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، فَقالَتْ إنَّها عَذْراءُ، لَمْ تَزُلْ بَكارَتُها ونَظَرَ إلَيْها أرْبَعٌ مِنَ النِّساءِ مَعْرُوفاتٌ بِالعَدالَةِ، وشَهِدْنَ بِأنَّها عَذْراءُ لَمْ تُزَلْ بَكارَتُها بِمُزِيلٍ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ: هَلْ تَدْرَأُ شَهادَةُ النِّساءِ عَنْها الحَدَّ أوْ لا ؟ فَذَهَبَ مالِكٌ وأصْحابُهُ إلى أنَّها يُقامُ عَلَيْها الحَدُّ ولا يُلْتَفَتُ لِشَهادَةِ النِّساءِ، وعِبارَةُ المُدَوَّنَةِ في ذَلِكَ: إذا شَهِدَ عَلَيْها بِالزِّنى أرْبَعَةُ عُدُولٍ، فَقالَتْ: إنَّها عَذْراءُ ونَظَرَ إلَيْها النِّساءُ، وصَدَّقْنَها لَمْ يُنْظَرْ إلى قَوْلِهِنَّ وأُقِيمَ عَلَيْها الحَدُّ. انْتَهى بِواسِطَةِ نَقْلِ المَوّاقِ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ، وبِالبَيِّنَةِ فَلا يَسْقُطُ بِشَهادَةِ أرْبَعِ نِسْوَةٍ بِبَكارَتِها، وذَهَبَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ شَهادَةَ النِّساءِ بِبَكارَتِها تَدْرَأُ عَنْها الحَدَّ، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ. قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وبِهِ قالَ الشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأبُو ثَوْرٍ، وأصْحابُ الرَّأْيِ ووَجْهُ قَوْلِ مالِكٍ وأصْحابِهِ بِأنَّها يُقامُ عَلَيْها الحَدُّ، هو أنَّ الشَّهادَةَ عَلى زِناها تَمَّتْ بِأرْبَعَةٍ عُدُولٍ، وأنَّ شَهادَةَ النِّساءِ لا مَدْخَلَ لَها في الحُدُودِ، فَلا تَسْقُطُ بِشَهادَتِهِنَّ شَهادَةُ الرِّجالِ عَلَيْها بِالزِّنى، ووَجْهُ قَوْلِ الآخَرَيْنِ بِأنَّها لا تُحَدُّ هو أنَّ بَكارَتَها ثَبَتَتْ بِشَهادَةِ النِّساءِ، ووُجُودُ البَكارَةِ مانِعٌ مِنَ الزِّنى ظاهِرًا؛ لِأنَّ الزِّنى لا يَحْصُلُ بِدُونِ الإيلاجِ في الفَرْجِ، ولا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ بَقاءِ البَكارَةِ، لِأنَّ البِكْرَ هي الَّتِي لَمْ تُوطَأْ في قُبُلِها، وإذا انْتَفى الزِّنى لَمْ يَجِبِ الحَدُّ، كَما لَوْ قامَتِ البَيِّنَةُ بِأنَّ المَشْهُودَ عَلَيْهِ الزِّنى مَجْبُوبٌ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: ويَجِبُ أنْ يُكْتَفى بِشَهادَةِ امْرَأةٍ واحِدَةٍ؛ لِأنَّها مَقْبُولَةٌ فِيما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجالُ، يَعْنِي البَكارَةَ المَذْكُورَةَ، انْتَهى، وأمّا الأرْبَعَةُ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالزِّنى فَلا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِتَمامِ شَهادَتِهِمْ وهي أقْوى مِن شَهادَةِ النِّساءِ بِالبَكارَةِ.
وَقالَ صاحِبُ ”المُغْنِي“: وإنَّما لَمْ يَجِبِ الحَدُّ عَلَيْهِمْ لِكَمالِ عِدَّتِهِمْ، مَعَ احْتِمالِ صِدْقِهِمْ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ وطِئَها، ثُمَّ عادَتْ عُذْرَتُها، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً في دَرْءِ الحَدِّ عَنْهم، وأمّا إنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلى رَجُلٍ بِالزِّنى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرى أنَّهُ مَجْبُوبٌ، أوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلى امْرَأةٍ بِالزِّنى فَثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرى أنَّها رَتْقاءُ، فالظّاهِرُ وُجُوبُ حَدِّ القَذْفِ عَلى بَيِّنَةِ الزِّنى، لِظُهُورِ كَذِبِها؛ لِأنَّ المَجْبُوبَ مِنَ الرِّجالِ والرَّتْقاءَ مِنَ النِّساءِ لا يُمْكِنُ حُصُولُ الزِّنى مِن واحِدٍ مِنهُما، كَما هو مَعْلُومٌ.
* * *
(p-٢٨٤)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ أجْمَعُوا عَلى ثُبُوتِ الزِّنى، ووُجُوبِ الحَدِّ رَجْمًا كانَ أوْ جَلْدًا بِإقْرارِ الزّانِي والزّانِيَةِ، ولَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ يَثْبُتُ الزِّنى بِإقْرارِ الزّانِي مَرَّةً واحِدَةً، أوْ لا يَكْفِي ذَلِكَ حَتّى يُقِرَّ بِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ ؟ فَذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ، وأبُو حَنِيفَةَ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والحَكَمُ: إلى أنَّهُ لا يَثْبُتُ إلّا إذا أقَرَّ بِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ، وزادَ أبُو حَنِيفَةَ وابْنُ أبِي لَيْلى: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في أرْبَعِ مَجالِسَ، ولا تَكْفِي عِنْدَهُما الإقْراراتُ الأرْبَعَةُ في مَجْلِسٍ واحِدٍ، وذَهَبَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، والحَسَنُ، وحَمّادٌ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ إلى أنَّ الزِّنى يَثْبُتُ بِالإقْرارِ مَرَّةً واحِدَةً.
أمّا حُجَجُ مَن قالَ يَكْفِي الإقْرارُ بِهِ مَرَّةً واحِدَةً، فَمِنها أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِأُنَيْسٍ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ المَشْهُورِ: «واغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امْرَأةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها»، فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها، وفي رِوايَةٍ في الصَّحِيحِ: فاعْتَرَفَتْ فَأمَرَ بِها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِمَتْ، قالُوا: فَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، وزَيْدِ بْنِ خالِدٍ الجُهَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ظاهِرٌ ظُهُورًا واضِحًا في أنَّ الزِّنى يَثْبُتُ بِالِاعْتِرافِ بِهِ مَرَّةً واحِدَةً؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﷺ فِيهِ: ”فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها“، ظاهِرٌ في الِاكْتِفاءِ بِالِاعْتِرافِ مَرَّةً واحِدَةً، إذْ لَوْ كانَ الِاعْتِرافُ أرْبَعَ مَرّاتٍ لا بُدَّ مِنهُ لَقالَ لَهُ ﷺ: فَإنِ اعْتَرَفَتْ أرْبَعَ مَرّاتٍ فارْجُمْها، فَلَمّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ عَرَفْنا أنَّ المَرَّةَ الواحِدَةَ تَكْفِي؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ تَأْخِيرُ البَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ، كَما هو مَعْلُومٌ.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ عَلى الِاكْتِفاءِ بِالِاعْتِرافِ بِالزِّنى مَرَّةً واحِدَةً ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: «أنَّ امْرَأةً مِن جُهَيْنَةَ أتَتِ النَّبِيَّ ﷺ وهي حُبْلى مِنَ الزِّنى، فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللَّهِ، أصَبْتُ حَدًّا فَأقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعا النَّبِيُّ ﷺ ولِيَّها فَقالَ: ”أحْسِنْ إلَيْها فَإذا وضَعَتْ فَأْتِنِي بِها“، فَفَعَلَ فَأمَرَ بِها النَّبِيُّ ﷺ فَشُكَّتْ عَلَيْها ثِيابُها ثُمَّ أمَرَ بِها فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلّى عَلَيْها، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْها يا نَبِيَّ اللَّهِ وقَدْ زَنَتْ ؟ فَقالَ: ”لَقَدْ تابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَلْ وجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِن أنْ جادَتْ بِنَفْسِها لِلَّهِ تَعالى“»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ، وهو نَصٌّ صَحِيحٌ في أنَّهُ ﷺ، أمَرَ بِرَجْمِها بِإقْرارِها مَرَّةً واحِدَةً؛ لِأنَّها قالَتْ: إنِّي أصَبْتُ حَدًّا، مَرَّةً واحِدَةً، وأنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِرَجْمِها مِن غَيْرِ تَعَدُّدِ الإقْرارِ؛ لِأنَّ الحَدِيثَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ إلّا إقْرارُها مَرَّةً واحِدَةً.
وَمِن أدِلَّتِهِمْ عَلى ذَلِكَ أيْضًا: ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن قِصَّةِ «الغامِدِيَّةِ الَّتِي جاءَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ ﷺ إنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وأنَّهُ رَدَّها، فَلَمّا كانَ مِنَ الغَدِ (p-٣٨٥)قالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أنْ تَرُدَّنِي كَما رَدَدْتَ ماعِزًا، فَواللَّهِ إنِّي لَحُبْلى، فَقالَ: ”أمّا لا فاذْهَبِي حَتّى تَلِدِي“، فَلَمّا ولَدَتْ أتَتْهُ بِالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هَذا قَدْ ولَدْتُهُ، قالَ: ”اذْهَبِي فَأرْضِعِيهِ حَتّى تَفْطِمِيهِ“، فَلَمّا فَطَمَتْهُ أتَتْهُ بِالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هَذا يا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ فَطَمْتُهُ وقَدْ أكَلَ الطَّعامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ أمَرَ بِها فَحُفِرَ لَها إلى صَدْرِها، وأمَرَ النّاسَ فَرَجَمُوها، فَيُقْبِلُ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ بِحَجْرٍ فَرَمى رَأْسَها فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلى وجْهِ خالِدٍ، فَسَبَّها، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ﷺ سَبَّهُ إيّاها، فَقالَ: ”مَهْلًا يا خالِدُ، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ تابَتْ تَوْبَةً لَوْ تابَها صاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ“، ثُمَّ أمَرَ بِها فَصُلِّيَ عَلَيْها ودُفِنَتْ»، هَذا لَفْظُ مُسْلِمٍ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبِيهِ، وهو مِن أصْرَحِ الأدِلَّةِ عَلى الِاكْتِفاءِ بِإقْرارِ الزّانِي بِالزِّنا مَرَّةً واحِدَةً؛ لِأنَّ الغامِدِيَّةَ المَذْكُورَةَ لَمّا قالَتْ لَهُ ﷺ: لَعَلَّكَ أنْ تَرُدَّنِي كَما رَدَدْتَ ماعِزًا، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْها، ولَوْ كانَ الإقْرارُ أرْبَعَ مَرّاتٍ شَرْطًا في لُزُومِ الحَدِّ لَقالَ لَها إنَّما رَدَدْتُهُ، لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ أرْبَعًا.
وَقَدْ قالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“، بَعْدَ ذِكْرِهِ لِهَذِهِ الواقِعَةِ: وهَذِهِ الواقِعَةُ مِن أعْظَمِ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ تَرْبِيعَ الإقْرارِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّصْرِيحِ فِيها، بِأنَّها مُتَأخِّرَةٌ عَنْ قَضِيَّةِ ماعِزٍ، وقَدِ اكْتَفى فِيها بِدُونِ أرْبَعٍ كَما سَيَأْتِي، اهـ مِنهُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أيْضًا مِن حَدِيثِ سُلَيْمانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ، ما نَصُّهُ: قالَ: «ثُمَّ جاءَتْهُ امْرَأةٌ مِن غامِدٍ مِنَ الأزْدِ، فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقالَ: ”وَيْحَكِ ارْجِعِي فاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وتُوبِي إلَيْهِ“، فَقالَتْ: أراكَ تُرِيدُ أنْ تَرُدَّنِي كَما رَدَدْتَ ماعِزَ بْنَ مالِكٍ قالَ: ”وَما ذاكَ“ ؟ قالَتْ: إنَّها حُبْلى مِنَ الزِّنا، فَقالَ ”: آنْتِ“ ؟ قالَتْ: نَعَمْ، فَقالَ لَها ”: حَتّى تَضَعِي ما في بَطْنِكِ“، قالَ: فَكَفَلَها رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ حَتّى وضَعَتْ، قالَ: فَأتى النَّبِيَّ ﷺ، فَقالَ: قَدْ وضَعَتِ الغامِدِيَّةُ، فَقالَ ”: إذًا لا نَرْجُمُها ونَدَعُ ولَدَها صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَن يُرْضِعُهُ“، فَقامَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ فَقالَ: إلَيَّ رَضاعُهُ يا نَبِيَّ اللَّهِ، قالَ: فَرَجَمَها»، اهـ مِنهُ.
وَهَذِهِ الرِّوايَةُ كالَّتِي قَبْلَها في الدَّلالَةِ عَلى الِاكْتِفاءِ بِالإقْرارِ مَرَّةً واحِدَةً إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى عَدَمِ اشْتِراطِ تَكَرُّرِ الإقْرارِ بِالزِّنا أرْبَعًا، وأمّا حُجَّةُ مَن قالُوا: يُشْتَرَطُ في ثُبُوتِ الإقْرارِ بِالزِّنا، أنْ يُقِرَّ بِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ، وأنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ إلّا بِالإقْرارِ أرْبَعًا، فَهي ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المُتَّفَقِ عَلَيْهِ، قالَ: «أتى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ مِنَ النّاسِ وهو في المَسْجِدِ، فَناداهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، يُرِيدُ (p-٣٨٦)نَفْسَهُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ ﷺ فَتَنَحّى لِشِقِّ وجْهِهِ الَّذِي أعْرَضَ قِبَلَهُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ، فَجاءَ لِشِقِّ وجْهِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمّا شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهاداتٍ دَعاهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَقالَ ”: أبِكَ جُنُونٌ“ ؟ قالَ: لا يا رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ)، فَقالَ ”: أحْصَنْتَ“ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ ”: اذْهَبُوا فارْجُمُوهُ“»، الحَدِيثَ، هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ في صَحِيحِهِ، ولَفْظُ مُسْلِمٍ: «فَلَمّا شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهاداتٍ دَعاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ ”: أبِكَ جُنُونٌ“ ؟ قالَ: لا، قالَ ”: فَهَلْ أحْصَنْتَ“ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ”: اذْهَبُوا بِهِ فارْجُمُوهُ“» اهـ.
قالُوا: فَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ تَرْتِيبُ الرَّجْمِ عَلى أرْبَعِ شَهاداتٍ عَلى نَفْسِهِ، أيْ: أرْبَعُ إقْراراتٍ بِصِيغَةِ تَرْتِيبِ الجَزاءِ عَلى الشَّرْطِ؛ لِأنَّ لَمّا مُضَمَّنَةٌ مَعْنى الشَّرْطِ وتَرْتِيبُ الحَدِّ عَلى الأرْبَعِ تَرْتِيبَ الجَزاءِ عَلى شَرْطِهِ، دَلِيلٌ عَلى اشْتِراطِ الأرْبَعِ المَذْكُورَةِ، والرَّجُلُ المَذْكُورُ في هَذا الحَدِيثِ، هو ماعِزُ بْنُ مالِكٍ وقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ صَحِيحَةٌ، وفي ألْفاظِ رِواياتِها ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرْجُمْهُ، حَتّى شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ شَهاداتٍ؛ كَما رَأيْتَ في الحَدِيثِ المَذْكُورِ آنِفًا، وقَدْ عَلِمْتَ مِمّا ذَكَرْنا ما اسْتَدَلَّ بِهِ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: أظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ في هَذِهِ المَسْألَةِ عِنْدِي: هو الجَمْعُ بَيْنَ الأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى اشْتِراطِ الأرْبَعِ، والأحادِيثِ الدّالَّةِ عَلى الِاكْتِفاءِ بِالمَرَّةِ الواحِدَةِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ بَيْنَ الأدِلَّةِ واجِبٌ مَتى ما أمْكَنَ، لِأنَّ إعْمالَ الدَّلِيلَيْنِ أوْلى مِن إلْغاءِ أحَدِهِما، ووَجْهُ الجَمْعِ المَذْكُورِ هو حَمْلُ الأحادِيثِ الَّتِي فِيها التَّراخِي، عَنْ إقامَةِ الحَدِّ بَعْدَ صُدُورِ الإقْرارِ مَرَّةً عَلى مَن كانَ أمْرُهُ مُلْتَبِسًا في صِحَّةِ عَقْلِهِ، واخْتِلالِهِ، وفي سُكْرِهِ، وصَحْوِهِ مِنَ السُّكْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وحَمْلُ أحادِيثِ إقامَةِ الحَدِّ بَعْدَ الإقْرارِ مَرَّةً واحِدَةً عَلى مَن عُرِفَتْ صِحَّةُ عَقْلِهِ وصَحْوُهُ مِنَ السُّكْرِ، وسَلامَةُ إقْرارِهِ مِنَ المُبْطِلاتِ، وهَذا الجَمْعُ رَجَّحَهُ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“ .
وَمِمّا يُؤَيِّدُهُ أنَّ جَمِيعَ الرِّواياتِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنها اشْتِراطُ الأرْبَعِ كُلِّها في قِصَّةِ ماعِزٍ، وقَدْ دَلَّتْ رِواياتُ حَدِيثِهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ لا يَدْرِي أمْجَنُونٌ هو أمْ لا ؟ صاحٍ هو أوْ سَكْرانُ ؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ المَذْكُورِ آنِفًا ”: أبِكَ جُنُونٌ“ ؟ وسُؤالِهِ ﷺ لِقَوْمِهِ عَنْ عَقْلِهِ، وسُؤالِهِ ﷺ ”: أشَرِبَ خَمْرًا“ ؟ فَقامَ رَجُلٌ فاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنهُ رِيحَ خَمْرٍ، وكُلُّ (p-٣٨٧)ذَلِكَ ثابِتٌ في الصَّحِيحِ، وهو دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلى الجَمْعِ بَيْنَ الأحادِيثِ كَما ذَكَرْنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ
الفَرْعُ الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ الظّاهِرَ اشْتِراطُ التَّصْرِيحِ بِمُوجِبِ الحَدِّ الَّذِي هو الزِّنى تَصْرِيحًا يَنْفِي كُلَّ احْتِمالٍ؛ لِأنَّ بَعْضَ النّاسِ قَدْ يُطْلِقُ اسْمَ الزِّنى عَلى ما لَيْسَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ.
وَيَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ ﷺ لِماعِزٍ لَمّا قالَ: إنَّهُ زَنى، «”لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أوْ غَمَزْتَ أوْ نَظَرْتَ“ ؟ قالَ: لا، قالَ ”: أفَنِكْتَها“ ؟ - لا يُكَنِّي -، قالَ: نَعَمْ»، قالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أمَرَ بِرَجْمِهِ، وهَذا ثابِتٌ في صَحِيحِ البُخارِيِّ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، ويُؤْخَذُ مِنهُ التَّعْرِيضُ لِلزّانِي بِأنْ يَسْتُرَ عَلى نَفْسِهِ، ويَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فَإنَّهُ غَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا.
* * *
الفَرْعُ الثّانِي: اعْلَمْ أنَّهُ إذا تَمَّتْ شَهادَةُ الشُّهُودِ الأرْبَعَةِ بِالزِّنى فَصَدَّقَهُمُ الزّانِي المَشْهُودُ عَلَيْهِ، بِأنْ أقَرَّ أنَّهُ زَنى مَرَّةً واحِدَةً فَصارَتِ الشَّهادَةُ تامَّةً، والإقْرارُ غَيْرَ تامٍّ عِنْدَ مَن يَشْتَرِطُ أرْبَعًا.
فَأظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي: أنَّ الحَدَّ يُقامُ عَلَيْهِ لِكَمالِ البَيِّنَةِ خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّهُ لا يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ؛ لِأنَّ شَرْطَ صِحَّةِ البَيِّنَةِ الإنْكارُ، وهَذا غَيْرُ مُنْكِرٍ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: إنَّ سُقُوطَ الحَدِّ بِإقْرارِهِ مَرَّةً قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ اهـ، وكَذَلِكَ لَوْ تَمَّتْ عَلَيْهِ شَهادَةُ البَيِّنَةِ وأقَرَّ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرارِهِ، فَلا يَنْفَعُهُ الرُّجُوعُ لِوُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ بِشَهادَةِ البَيِّنَةِ، فَلا حاجَةَ لِإقْرارِهِ ولا فائِدَةَ في رُجُوعِهِ عَنْهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الثّالِثُ: اعْلَمْ أنْ أظْهَرَ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي: أنَّهُ إذا أقَرَّ بِزِنًى قَدِيمٍ قَبْلَ إقْرارِهِ، ولا يَبْطُلُ الإقْرارُ بِأنَّهُ لَمْ يُقِرَّ إلّا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ؛ لِأنَّ الظّاهِرَ اعْتِبارُ الإقْرارِ مُطْلَقًا، سَواءٌ تَقادَمَ عَهْدُهُ، أوْ لَمْ يَتَقادَمْ، وكَذَلِكَ شَهادَةُ البَيِّنَةِ، فَإنَّها تُقْبَلُ، ولَوْ لَمْ تُشْهَدْ إلّا بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ؛ لِأنَّ عُمُومَ النُّصُوصِ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأنَّها لَيْسَ فِيها التَّفْرِيقُ بَيْنَ تَعْجِيلِ الشَّهادَةِ وتَأْخِيرِها، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ ومَن وافَقَهُ في قَوْلِهِمْ: إنَّ الإقْرارَ يُقْبَلُ بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ والشَّهادَةُ لا تُقْبَلُ مَعَ التَّأْخِيرِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: وإنْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ أوْ أقَرَّ بِهِ وجَبَ الحَدُّ، وبِهَذا (p-٣٨٨)قالَ مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، واسِحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ.
وَقالَ أبُو حَنِيقَةَ: لا أقْبَلُ بَيِّنَةً عَلى زِنًى قَدِيمٍ وأحُدُّهُ بِالإقْرارِ بِهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ حامِدٍ، وذَكَرَهُ ابْنُ أبِي مُوسى مَذْهَبًا لِأحْمَدَ، اهـ مِنهُ.
أمّا قَبُولُ الإقْرارِ بِالزِّنا القَدِيمِ ووُجُوبُ الحَدِّ بِهِ فَلا وجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بِحالٍ؛ لِأنَّهُ مُقِرٌّ عَلى نَفْسِهِ، ولا يُتَّهَمُ في نَفْسِهِ.
وَأمّا شَهادَةُ البَيِّنَةِ بِزِنًا قَدِيمٍ، فالأظْهَرُ قَبُولُها، لِعُمُومِ النُّصُوصِ كَما ذَكَرْنا آنِفًا، وحُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ، ومَن وافَقَهُ في رَدِّ شَهادَةِ البَيِّنَةِ عَلى زِنًا قَدِيمٍ، هو أنَّ تَأْخِيرَ الشَّهادَةِ، يَدُلُّ عَلى التُّهْمَةِ فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الحَدَّ.
وَقالَ في ”المُغْنِي“: ومِن حُجَّتِهِمْ عَلى ذَلِكَ ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أنَّهُ قالَ: أيُّما شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ فَهم شُهُودُ ضِغْنٍ، ثُمَّ قالَ: رَواهُ الحَسَنُ مُرْسَلًا، ومَراسِيلُ الحَسَنِ لَيْسَتْ بِالقَوِيَّةِ، اهـ مِنهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ مُسْتَوْفًى عَلى مَراسِيلِ الحَسَنِ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الرّابِعُ: اعْلَمْ أنَّهُ إنْ أقَرَّ بِأنَّهُ زَنى بِامْرَأةٍ وسَمّاها فَكَذَّبَتْهُ، وقالَتْ: إنَّهُ لَمْ يَزْنِ بِها.
فَأظْهَرُ أقْوالِ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي: أنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنى بِإقْرارِهِ، وحَدُّ القَذْفِ أيْضًا؛ لِأنَّهُ قَذَفَ المَرْأةَ بِالزِّنا ولَمْ يَأْتِ بِأرْبَعَةِ شُهُودٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَدُّ القَذْفِ.
وَقالَ في ”المُغْنِي“: وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ: لا حَدَّ عَلَيْهِ، لِأنّا صَدَّقْناها في إنْكارِها فَصارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: وُجُوبُ الحَدِّ عَلَيْهِ بِإقْرارِهِ لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يَصِحَّ خِلافُهُ لِأمْرَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ أقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بِالزِّنا إقْرارًا صَحِيحًا، وقَوْلُهم إنَّنا صَدَّقْناها لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ نَحْنُ لَمْ نُصَدِّقْها، ولَمْ نَقُلْ إنَّها صادِقَةٌ، ولَكِنَّ انْتِفاءَ الحَدِّ عَنْها إنَّما وقَعَ لِأنَّها لَمْ تُقِرَّ، ولَمْ تَقُمْ عَلَيْها بَيِّنَةٌ؛ فَعَدَمُ حَدِّها لِانْتِفاءِ مُقْتَضِيهِ، لا لِأنَّها صادِقَةٌ كَما تَرى.
الأمْرُ الثّانِي: ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، ثَنا طَلْقُ بْنُ غَنّامٍ، (p-٣٨٩)ثَنا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَفْصٍ، ثَنا أبُو حازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّ رَجُلًا أتاهُ، فَأقَرَّ عِنْدَهُ أنَّهُ زَنى بِامْرَأةٍ سَمّاها لَهُ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ إلى المَرْأةِ فَسَألَها عَنْ ذَلِكَ، فَأنْكَرَتْ أنْ تَكُونَ زَنَتْ فَجَلَدَهُ الحَدَّ وتَرَكَها»، اهـ مِنهُ، وعَبْدُ السَّلامِ المَذْكُورُ في هَذا الإسْنادِ وثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وتَوْثِيقُهُ لَهُ أُولى مِن قَوْلِ أبِي حاتِمٍ الرّازِيِّ: إنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ لِأنَّ مَن حَفِظَ حُجَّةٌ عَلى مَن لَمْ يَحْفَظْ.
والحَدِيثُ المَذْكُورُ نَصٌّ في أنَّ المُقِرَّ يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ وهو واضِحٌ؛ لِأنَّ مَن أقَرَّ عَلى نَفْسِهِ بِالزِّنا لا نِزاعَ في وُجُوبِ الحَدِّ عَلَيْهِ، وأمّا كَوْنُهُ يُحَدُّ مَعَ ذَلِكَ حَدَّ القَذْفِ فَظاهِرٌ أيْضًا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾، الآيَةَ [النور: ٤] والأخْذُ بِعُمُومِ النُّصُوصِ واجِبٌ، إلّا بِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِ، وكَوْنُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ الَّذِي ذَكَرْناهُ آنِفًا عِنْدَ أبِي داوُدَ لَيْسَ فِيهِ أنَّ النَّبِيَّ حَدَّ الرَّجُلَ المَذْكُورَ حَدَّ القَذْفِ، بَلْ حَدَّ الزِّنا فَقَطْ لا يُعارَضُ بِهِ عُمُومُ النُّصُوصِ.
وَقالَ الشَّوْكانِيُّ في ”نَيْلِ الأوْطارِ“: وحَدُّهُ لِلزِّنا والقَذْفِ مَعًا هو الظّاهِرُ، لِوَجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ غايَةَ ما في حَدِيثِ سَهْلٍ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَحُدَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لِلْقَذْفِ وذَلِكَ لا يَنْتَهِضُ لِلِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى السُّقُوطِ؛ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الطَّلَبِ مِنَ المَرْأةِ أوْ لِوُجُودِ مُسْقِطٍ، إلى أنْ قالَ: الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ ظاهِرَ القَذْفِ العُمُومُ فَلا يَخْرُجُ مِن ذَلِكَ إلّا ما خَرَجَ بِدَلِيلٍ، وقَدْ صَدَقَ عَلى كُلِّ مَن كانَ كَذَلِكَ أنَّهُ قاذِفٌ، اهـ مِنهُ، وهو الظّاهِرُ الَّذِي لا يَنْبَغِي العُدُولُ عَنْهُ، وكَذَلِكَ ما جاءَ في بَعْضِ رِواياتِ حَدِيثِ ماعِزِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ عَيَّنَ الجارِيَةَ الَّتِي زَنا بِها، ولَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ ﷺ لِقَذْفِها بَلْ حَدَّهُ لِلزِّنا فَقَطْ، فَإنَّ تَرْكَ حَدِّهِ لَمْ يُوَجَّهْ بِما قَدَّمْنا قَرِيبًا.
وَعَلى كُلِّ حالٍ فَمَن قالَ: زَنَيْتُ بِفُلانَةَ فَلا شَكَّ أنَّهُ مُقِرٌّ عَلى نَفْسِهِ بِالزِّنا، وقاذِفٌ لَها هي بِهِ، وظاهِرُ النُّصُوصِ مُؤاخَذَتُهُ بِإقْرارِهِ عَلى نَفْسِهِ، وحَدُّهُ أيْضًا حَدَّ القَذْفِ؛ لِأنَّهُ قاذِفٌ بِلا شَكٍّ، كَما تَرى.
وَمِمّا يُؤَيِّدُ هَذا المَذْهَبَ ما رَواهُ أبُو داوُدَ في سُنَنِهِ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى بْنِ فارِسٍ، ثَنا مُوسى بْنُ هارُونَ البَرْدِيُّ، ثَنا هِشامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ القاسِمِ بْنِ فَيّاضٍ الأبْناوِيِّ، (p-٣٩٠)عَنْ خَلّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي بَكْرِ بْنِ لَيْثٍ أتى النَّبِيَّ ﷺ، فَأقَرَّ أنَّهُ زَنى بِامْرَأةٍ أرْبَعَ مَرّاتٍ، فَجَلَدَهُ مِائَةً وكانَ بِكْرًا، ثُمَّ سَألَهُ البَيِّنَةَ عَلى المَرْأةِ، فَقالَتْ: كَذَبَ واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَجَلَدَهُ حَدَّ الفِرْيَةِ ثَمانِينَ»، اهـ.
فَإنْ قِيلَ: هَذا الحَدِيثُ ضَعِيفٌ، لِأنَّ في إسْنادِهِ القاسِمَ بْنَ فَيّاضٍ الأبْناوِيَّ الصَّنْعانِيَّ، قالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ في التَّقْرِيبِ: مَجْهُولٌ، وقالَ فِيهِ الذَّهَبِيُّ في ”المِيزانِ“: ضَعَّفَهُ غَيْرُ واحِدٍ مِنهم عَبّاسٌ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، فالجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ القاسِمَ المَذْكُورَ قالَ فِيهِ أبُو داوُدَ: ثِقَةٌ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ في المِيزانِ، والتَّعْدِيلِ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، والتَّجْرِيحُ لا يُقْبَلُ مُجْمَلًا، كَما تَقَدَّمَ.
الثّانِي: أنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ هَذا الَّذِي فِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ حَدِّ القَذْفِ، وحَدِّ الزِّنا إنْ قالَ: أنَّهُ زَنى بِامْرَأةٍ عَيَّنَها فَأنْكَرَتْ، مُعْتَضِدٌ اعْتِضادًا قَوِيًّا بِظَواهِرِ النُّصُوصِ الدّالَّةِ عَلى مُؤاخَذَتِهِ بِإقْرارِهِ، والنُّصُوصُ الدّالَّةُ عَلى أنَّ مَن قَذَفَ امْرَأةً بِالزِّنى، فَأنْكَرَتْ ولَمْ يَأْتِ بِبَيِّنَةٍ أنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ القَذْفِ.
فالحاصِلُ: أنَّ أظْهَرَ الأقْوالِ عِنْدَنا أنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ القَذْفِ وحَدَّ الزِّنا، وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ في المُدَوَّنَةِ خِلافًا لِمَن قالَ يُحَدُّ حَدُّ الزِّنا فَقَطْ، كَأحْمَدَ والشّافِعِيِّ، ولِمَن قالَ: يُحَدُّ حَدَّ القَذْفِ فَقَطْ، ويُؤَيِّدُ هَذا المَذْهَبَ الَّذِي اخْتَرْناهُ في هَذِهِ المَسْألَةِ ما قالَهُ مالِكٌ وأصْحابُهُ: مِن أنَّ الرَّجُلَ لَوْ قالَ لِامْرَأةٍ: زَنَيْتِ، فَقالَتْ لَهُ: زَنَيْتُ بِكَ أنَّها تُحَدُّ لِلْقَذْفِ ولِلزِّنا مَعًا، ولا يُحَدُّ الرَّجُلُ لَهُما لِأنَّها صَدَّقَتْهُ، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
الفَرْعُ الخامِسُ: اعْلَمْ أنَّهُ لا يَصِحُّ إقْرارُ المُكْرَهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِالضَّرْبِ أوْ غَيْرِهِ مِن أنْواعِ التَّعْذِيبِ لِيُقِرَّ بِالزِّنا فَأقَرَّ بِهِ مُكْرَهًا لَمْ يَلْزَمْهُ إقْرارُهُ بِهِ فَلا يُحَدُّ، ولا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الزِّنا، ولا نَعْلَمُ مِن أهْلِ العِلْمِ مَن خالَفَ في هَذا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنا قَدْ قَدَّمْنا ثُبُوتَ الزِّنا بِالبَيِّنَةِ والإقْرارِ، ولا خِلافَ في ثُبُوتِهِ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما إنْ وقَعَ عَلى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، أمّا ظُهُورُ الحَمْلِ بِامْرَأةٍ، لا يُعْرَفُ لَها زَوْجٌ ولا سَيِّدٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في ثُبُوتِ الحَدِّ بِهِ، فَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: الحَبَلُ في الَّتِي لا يُعْرَفُ لَها زَوْجٌ ولا سَيِّدٌ يَثْبُتُ عَلَيْها بِهِ الزِّنا، ويَجِبُ عَلَيْها الحَدُّ بِهِ، وقَدْ ثَبَتَ هَذا في حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي قَدَّمْناهُ في قَوْلِهِ: إذا قامَتِ البَيِّنَةُ أوْ كانَ الحَبَلُ، (p-٣٩١)أوْ الِاعْتِرافُ. والحَدِيثُ المَذْكُورُ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما كَما تَقَدَّمَ، وقَدْ صَرَّحَ فِيهِ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بِأنَّ الحَبَلَ الَّذِي هو الحَمْلُ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا كَما يَثْبُتُ بِالبَيِّنَةِ والإقْرارِ، ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّ الحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا، عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَما رَأيْتَ، ومالِكٌ وأصْحابُهُ، وذَهَبَ الشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وأبُو حَنِيفَةَ وجَماهِيرُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ لا يَثْبُتُ الزِّنا ولا يَجِبُ الحَدُّ بِمُجَرَّدِ الحَبَلِ، ولَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَها زَوْجٌ ولا سَيِّدٌ، وهَذا القَوْلُ عَزاهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلشّافِعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، وجَماهِيرِ أهْلِ العِلْمِ، وإذا عُرِفَتْ أقْوالُ أهْلِ العِلْمِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، فَهَذِهِ أدِلَّتُهم.
أمّا الَّذِينَ قالُوا: إنَّ الزِّنا يَثْبُتُ بِالحَمْلِ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَها زَوْجٌ ولا سَيِّدٌ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ عُمَرَ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ المُتَقَدِّمِ وفِيهِ التَّصْرِيحُ مِن عُمَرَ بِأنَّ الحَبَلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا، كالبَيِّنَةِ والإقْرارِ.
وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: إنَّما قالَ مَن قالَ: بِوُجُوبِ الحَدِّ وثُبُوتِ الزِّنا بِالحَمْلِ، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والرَّجْمُ واجِبٌ عَلى كُلِّ مَن زَنى مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، إذا كانَ مُحْصَنًا، إذا قامَتِ البَيِّنَةُ أوْ كانَ الحَبَلُ أوْ الِاعْتِرافُ، ورُوِيَ أنَّ عُثْمانَ أُوتِيَ بِامْرَأةٍ ولَدَتْ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ فَأمَرَ بِها عُثْمانُ أنْ تُرْجَمَ، فَقالَ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ عَلَيْها سَبِيلٌ، قالَ اللَّهُ: ﴿وَحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥]، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ يَرْجُمُها بِحَمْلِها وعَنْ عُمَرَ نَحْوُ هَذا، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: يا أيُّها النّاسُ إنَّ الزِّنا زِناءانِ: زِنا سِرٍّ، وزِنا عَلانِيَةٍ، فَزِنا السِّرِّ: أنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ، فَيَكُونُ الشُّهُودُ أوَّلَ مَن يَرْمِي، وزِنا العَلانِيَةِ: أنْ يَظْهَرَ الحَبَلُ أوْ الِاعْتِرافُ، فَيَكُونُ الإمامُ أوَّلَ مَن يَرْمِي، وهَذا قَوْلُ سادَةِ الصَّحابَةِ ولَمْ يَظْهَرْ في عَصْرِهِمْ مُخالِفٌ، فَيَكُونُ إجْماعًا، انْتَهى مَحَلُّ الغَرَضِ مِنَ ”المُغْنِي“ .
وانْظُرْ أسانِيدَ الآثارِ الَّتِي ذَكَرَها عَنِ الصَّحابَةِ، هَذا هو حاصِلُ ما احْتَجَّ بِهِ مَن قالَ: إنَّ الزِّنا يَثْبُتُ بِالحَمْلِ.
وَأمّا الَّذِينَ قالُوا: إنَّ الحَمْلَ وحْدَهُ لا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا، ولا يَجِبُ بِهِ الحَدُّ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ البَيِّنَةِ أوِ الإقْرارِ، فَقَدْ قالَ في ”المُغْنِي“: حُجَّتُهم أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنَّ الحَمْلَ مِن وطْءِ إكْراهٍ أوْ شُبْهَةٍ يَسْقُطُ بِالشُّبُهاتِ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ المَرْأةَ تَحْمِلُ مِن غَيْرِ وطْءٍ بِأنْ يَدْخُلَ ماءُ الرَّجُلِ في فَرْجِها، إمّا بِفِعْلِها، أوْ فِعْلِ غَيْرِها، ولِهَذا تُصُوِّرَ حَمْلُ البِكْرِ فَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ.
وَأمّا قَوْلُ الصَّحابَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنْهم فَرَوى سَعِيدٌ: حَدَّثَنا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، (p-٣٩٢)حَدَّثَنا هاشِمٌ: أنَّ امْرَأةً رُفِعَتْ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لَيْسَ لَها زَوْجٌ، وقَدْ حَمَلَتْ فَسَألَها عُمَرُ، فَقالَتْ: إنَّنِي امْرَأةٌ ثَقِيلَةُ الرَّأْسِ وقَعَ عَلَيَّ رَجُلٌ، وأنا نائِمَةٌ فَما اسْتَيْقَظْتُ حَتّى فَرَغَ، فَدَرَأ عَنْها الحَدَّ، ورَوى البَراءُ بْنُ صَبْرَةَ، عَنْ عُمَرَ أنَّهُ أُوتِيَ بِامْرَأةٍ حامِلٍ، فادَّعَتْ أنَّها أُكْرِهَتْ، فَقالَ: خَلِّ سَبِيلَها، وكَتَبَ إلى أُمَراءِ الأجْنادِ، ألّا يُقْتَلَ أحَدٌ إلّا بِإذْنِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُما قالا: إذا كانَ في الحَدِّ لَعَلَّ وعَسى فَهو مُعَطَّلٌ، ورَوى الدّارَقُطْنِيُّ بِإسْنادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، ومُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، وعُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنَّهم - قالُوا: إذا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ الحَدُّ فادْرَأْ ما اسْتَطَعْتَ، ولا خِلافَ في أنَّ الحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ، وهي مُتَحَقِّقَةٌ هُنا، اهـ بِلَفْظِهِ مِنَ ”المُغْنِي“ .
وانْظُرْ أيْضًا أسانِيدَ هَذِهِ الآثارِ الَّتِي ذَكَرَها عَنِ الصَّحابَةِ، وهَذا الَّذِي ذَكَرَ هو حاصِلُ ما احْتَجَّ بِهِ الجُمْهُورُ الَّذِينَ قالُوا إنَّ الحَبَلَ لا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا.
قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ وغَفَرَ لَهُ -: أظْهَرُ قَوْلَيْ أهْلِ العِلْمِ عِنْدِي: أنَّ الزِّنا لا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الحَبَلِ، ولَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَها زَوْجٌ ولا سَيِّدٌ؛ لِأنَّ الحَمْلَ قَدْ يَقَعُ لا شَكَّ مِن غَيْرِ وطْءٍ في الفَرَجِ، بَلْ قَدْ يَطَأُ الرَّجُلُ المَرْأةَ في فَخِذَيْها، فَتَتَحَرَّكُ شَهْوَتُها فَيَنْزِلُ ماؤُها ويُنْزِلُ الرَّجُلُ، فَيَسِيلُ ماؤُهُ فَيَدْخُلُ في فَرْجِها، فَيَلْتَقِي ماؤُهُ بِمائِها فَتَحْمِلُ مِن غَيْرِ وطْءٍ وهَذا مُشاهَدٌ لا يُمْكِنُ إنْكارُهُ.
وَلِأجْلِ ذَلِكَ فالأصَحُّ أنَّ الزَّوْجَ إذا كانَ يَطَأُ امْرَأتَهُ في الفَخِذَيْنِ، ولَمْ يُجامِعْها في الفَرْجِ فَظَهَرَ بِها حَمْلٌ أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ اللِّعانُ لِنَفْيِ ذَلِكَ الحَمْلِ؛ لِأنَّ ماءَهُ قَدْ يَسِيلُ إلى فَرْجِها، فَتَحْمِلُ مِنهُ، وقَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا كانَ الحَبَلُ أوْ الِاعْتِرافُ اجْتِهادٌ مِنهُ؛ لِأنَّهُ يَظْهَرُ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ الحَمْلَ يَثْبُتُ بِهِ الزِّنا كالِاعْتِرافِ والبَيِّنَةِ.
وَإنَّما قُلْنا: إنَّ الأظْهَرَ لَنا خِلافُ قَوْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِأنّا نَعْلَمُ أنَّ وُجُودَ الحَمْلِ لا يَسْتَلْزِمُ الوَطْءَ في الفَرْجِ بَلْ قَدْ تَحْبَلُ بِدُونِ ذَلِكَ، وإذا كانَ الحَبَلُ لا يَسْتَلْزِمُ الوَطْءَ في الفَرْجِ فَلا وجْهَ لِثُبُوتِ الزِّنا، وإقامَةِ الحَدِّ بِأمْرٍ مُحْتَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَلْزِمٍ لِمُوجَبِ الحَدِّ، كَما تَرى.
وَمِنَ المَعْلُومِ أنَّ الحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهاتِ، هَذا هو الأظْهَرُ عِنْدَنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
* * *
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ المَسْألَةِ.
(p-٣٩٣)الفَرْعُ الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ الَّذِينَ قالُوا: بِوُجُوبِ الحَدِّ بِالحَمْلِ قالُوا: إنَّ تِلْكَ الحامِلَ إنْ كانَتْ طارِئَةً مِن بِلادٍ أُخْرى، وادَّعَتْ أنَّ حَمْلَها مِن زَوْجٍ لَها تَرَكَتْهُ في بَلَدِها فَلا حَدَّ عَلَيْها عِنْدَهم، ولا يَثْبُتُ عَلَيْها الزِّنا بِذَلِكَ الحَمْلِ.
الفَرْعُ الثّانِي: اعْلَمْ أنَّهُ إنْ ظَهَرَ بِها حَمْلٌ فادَّعَتْ أنَّها مُكْرَهَةٌ لا يُقْبَلُ دَعْواها الإكْراهَ عِنْدَ مَن يُثْبِتُ الزِّنا بِالحَمْلِ إلّا إذا اعْتَضَدَتْ دَعَواها بِما يُقَوِّيها مِنَ القَرائِنِ كَإتْيانِها صارِخَةً مُسْتَغِيثَةً مِمَّنْ فَعَلَ بِها ذَلِكَ، وكَأنْ تَأْتِيَ مُتَعَلِّقَةً بِرَجُلٍ تَزْعُمُ أنَّهُ هو الَّذِي أكْرَهَها وكَأنْ تَشْتَكِيَ مِنَ الَّذِي فَعَلَ بِها ذَلِكَ قَبْلَ ظُهُورِ الحَمْلِ.
وَقالَ بَعْضُ عُلَماءِ المالِكِيَّةِ: إنْ كانَتْ شَكْواها مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي فَعَلَ بِها ذَلِكَ مُشْبِهَةً لِكَوْنِ الرَّجُلِ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالصَّلاحِ، فَلا حَدَّ عَلَيْها، وإنْ كانَ الَّذِي ادَّعَتْ عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالصَّلاحِ، والعَفافِ، والتَّقْوى حَدَثَ ولَمْ يُقْبَلْ قَوْلُها عَلَيْهِ.
وَقالَ بَعْضُ المالِكِيَّةِ: إنْ لَمْ تُسَمِّ الرَّجُلَ الَّذِي ادَّعَتْ أنَّهُ أكْرَهَها تُعَزَّرُ، ولا تُحَدُّ إنْ كانَتْ مَعْرُوفَةً بِالصَّلاحِ والعَفافِ.
* * *
الفَرْعُ الثّالِثُ: قالَ الشَّيْخُ الحَطّابُ في شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ في مُخْتَصَرِهِ المالِكِيِّ: أوْ مُكْرَهَةً، ما نَصُّهُ: قالَ في الطِّرازِ أوْ في أواخِرِ الجُزْءِ الثّالِثِ في تَرْجَمَةِ تَفْسِيرِ الطَّلاقِ، وما يَلْزَمُ مِن ألْفاظِهِ، قالَ ابْنُ عَبْدِ الغَفُورِ: ويُقالُ إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسى سُئِلَ عَنْ جارِيَةٍ بِكْرِ زَوَّجَها فابْتَنى بِها زَوْجُها فَأتَتْ بِوَلَدٍ لِأرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لَها فَقالَتْ: إنِّي كُنْتُ نائِمَةً فانْتَبَهْتُ لِبَلَلٍ بَيْنَ فَخِذَيَّ، وذَكَرَ الزَّوْجُ أنَّهُ وجَدَها عَذْراءَ.
فَأجابَ فِيها: أنَّها لا حَدَّ عَلَيْها إذا كانَتْ مَعْرُوفَةً بِالعَفافِ، وحُسْنِ الحالِ، ويُفْسَخُ النِّكاحُ، ولَها المَهْرُ كامِلًا، إلّا أنْ تَكُونَ عَلِمَتِ الحَمْلَ، وغَرَّتْ فَلَها قَدْرُ ما اسْتَحَلَّ مِنها، انْتَهى مِنَ الِاسْتِغْناءِ، انْتَهى كَلامُ الطِّرازِ، انْتَهى ما نَقَلَهُ الحَطّابُ، وهو يُؤَيِّدُ أنَّ الحَمْلَ قَدْ يَقَعُ مِن غَيْرِ وطْءٍ يُوجِبُ الحَدَّ كَما ذَكَرْنا، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"ٱلزَّانِیَةُ وَٱلزَّانِی فَٱجۡلِدُوا۟ كُلَّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا مِا۟ئَةَ جَلۡدَةࣲۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةࣱ فِی دِینِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ وَلۡیَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَاۤىِٕفَةࣱ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق