الباحث القرآني
* بابُ القَوْلِ في وُجُوبِ الوَصِيَّةِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّ قَوْلَهُ: " خَيْرًا " أرادَ بِهِ مالًا، واخْتَلَفُوا في المِقْدارِ المُرادِ بِالمالِ الَّذِي أوْجَبَ اللَّهُ الوَصِيَّةَ فِيهِ حِينَ كانَتِ الوَصِيَّةُ فَرْضًا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ مَعْناهُ فُرِضَ عَلَيْكم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلى المُؤْمِنِينَ كِتابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء: ١٠٣] يَعْنِي فَرْضًا مُوَقَّتًا.
ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ أنَّهُ دَخَلَ عَلى مَوْلًى لَهُ في مَرَضِهِ ولَهُ سَبْعُ مِائَةِ دِرْهَمٍ أوْ سِتُّ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَقالَ: ألا أُوصِي ؟ قالَ: لا، إنَّما قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ ولَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مالٍ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: " أرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وما دُونَها نَفَقَةٌ " . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " لا وصِيَّةَ في ثَمانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ " .
وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في امْرَأةٍ أرادَتِ الوَصِيَّةَ فَمَنَعَها أهْلُها، وقالُوا: لَها ولَدٌ، ومالُها يَسِيرٌ، فَقالَتْ: كَمْ ولَدُها ؟ قالُوا: أرْبَعَةٌ، قالَتْ: فَكَمْ مالُها ؟ قالُوا: ثَلاثَةُ آلافٍ، فَكَأنَّها عَذَرَتْهم، وقالَتْ: ما في هَذا المالِ فَضْلٌ. وقالَ إبْراهِيمُ: " ألْفُ دِرْهَمٍ إلى خَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ " ورَوى هَمّامٌ عَنْ قَتادَةَ ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ قالَ: " كانَ يُقالُ: خَيْرُ المالِ ألْفُ دِرْهَمٍ فَصاعِدًا "، وقالَ الزُّهْرِيُّ: " هي في كُلِّ ما وقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ المالِ مِن قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ " . وكُلُّ هَؤُلاءِ القائِلِينَ فَإنَّما تَأوَّلُوا تَقْدِيرَ المالِ عَلى وجْهِ الِاسْتِحْبابِ لا عَلى وجْهِ الإيجابِ لِلْمَقادِيرِ المَذْكُورَةِ، وكانَ ذَلِكَ مِنهم عَلى طَرِيقِ الِاجْتِهادِ فِيما تَلْحَقُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ المالِ.
ومَعْلُومٌ في العادَةِ أنَّ مَن تَرَكَ دِرْهَمًا لا يُقالُ تَرَكَ خَيْرًا، فَلَمّا كانَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مَوْقُوفَةً عَلى العادَةِ، وكانَ طَرِيقُ التَّقْدِيرِ فِيها عَلى الِاجْتِهادِ وغالِبِ الرَّأْيِ مَعَ العِلْمِ بِأنَّ القَدْرَ اليَسِيرَ لا تَلْحَقُهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، وأنَّ الكَثِيرَ تَلْحَقُهُ، فَكانَ طَرِيقُ الفَصْلِ فِيها الِاجْتِهادَ، وغالِبَ الرَّأْيِ مَعَ ما كانُوا عَرَفُوا مِن سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وقَوْلِهِ: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ وأنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ».
واخْتَلَفَ النّاسُ في الوَصِيَّةِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ هَلْ كانَتْ واجِبَةً أمْ لا ؟ فَقالَ قائِلُونَ: " إنَّها لَمْ تَكُنْ واجِبَةً، وإنَّما كانَتْ نَدْبًا وإرْشادًا " . وقالَ آخَرُونَ: " قَدْ كانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ " عَلى الِاخْتِلافِ مِنهم في المَنسُوخِ مِنها، واحْتَجَّ مَن قالَ: " إنَّها لَمْ تَكُنْ واجِبَةً " بِأنَّ في سِياقِ الآيَةِ وفَحْواها دَلالَةٌ عَلى نَفْيِ وُجُوبِها، وهو قَوْلُهُ: ﴿الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ﴾ فَلَمّا (p-٢٠٣)قِيلَ فِيها: " بِالمَعْرُوفِ " وإنَّها " عَلى المُتَّقِينَ " دَلَّ عَلى أنَّها غَيْرُ واجِبَةٍ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: قَوْلُهُ: " بِالمَعْرُوفِ " لا يَقْتَضِي الإيجابَ، والآخَرُ: قَوْلُهُ " عَلى المُتَّقِينَ " ولَيْسَ عَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، الثّالِثُ: تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِها والواجِباتُ لا يَخْتَلِفُ فِيها المُتَّقُونَ، وغَيْرُهم.
قالَ أبُو بَكْرٍ: ولا دَلالَةَ فِيما ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ عَلى نَفْيِ وُجُوبِها؛ لِأنَّ إيجابَها بِالمَعْرُوفِ لا يَنْفِي وُجُوبَها؛ لِأنَّ المَعْرُوفَ مَعْناهُ العَدْلُ الَّذِي لا شَطَطَ فِيهِ ولا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣] ولا خِلافَ في وُجُوبِ هَذا الرِّزْقِ والكِسْوَةِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [النساء: ١٩] بَلِ المَعْرُوفُ هو الواجِبُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [لقمان: ١٧] وقالَ: ﴿تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ [آل عمران: ١١٠] فَذِكْرُ المَعْرُوفِ فِيما أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الوَصِيَّةِ لا يَنْفِي وُجُوبَها بَلْ هو يُؤَكِّدُ وُجُوبَها؛ إذْ كانَ جَمِيعُ أوامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ.
ومَعْلُومٌ أيْضًا أنَّ ضِدَّ المَعْرُوفِ هو المُنْكَرُ، وأنَّ ما لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ هو مُنْكَرٌ، والمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، فَإذًا المَعْرُوفُ واجِبٌ. وأمّا قَوْلُهُ: " حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ " فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِإيجابِها؛ لِأنَّ عَلى النّاسِ أنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [آل عمران: ١٠٢] ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ تَقْوى اللَّهِ فَرْضٌ، فَلَمّا جَعَلَ تَنْفِيذَ هَذِهِ الوَصِيَّةِ مِن شَرائِطِ التَّقْوى فَقَدْ أبانَ عَنْ إيجابِها.
وأمّا تَخْصِيصُهُ المُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى نَفْيِ وُجُوبِها؛ وذَلِكَ لِأنَّ أقَلَّ ما فِيهِ اقْتِضاءُ الآيَةِ وُجُوبَها عَلى المُتَّقِينَ، ولَيْسَ فِيها نَفْيُها عَنْ غَيْرِ المُتَّقِينَ، كَما أنَّهُ لَيْسَ في قَوْلِهِ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] نَفْيُ أنْ يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ، وإذا وجَبَتْ عَلى المُتَّقِينَ بِمُقْتَضى الآيَةِ وجَبَ عَلى غَيْرِهِمْ، وفائِدَةُ تَخْصِيصِهِ المُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ أنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِن تَقْوى اللَّهِ، وعَلى النّاسِ أنْ يَكُونُوا كُلُّهم مُتَّقِينَ، فَإذًا عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ. ودَلالَةُ الآيَةِ ظاهِرَةٌ في إيجابِها، وتَأْكِيدِ فَرْضِها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: " كُتِبَ عَلَيْكم " مَعْناهُ فُرِضَ عَلَيْكم عَلى ما بَيَّنّا فِيما سَلَفَ، ثُمَّ أكَّدَ بِقَوْلِهِ: ﴿بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ ولا شَيْءَ في ألْفاظِ الوُجُوبِ آكَدُ مِن قَوْلِ القائِلِ: " هَذا حَقٌّ عَلَيْكَ " وتَخْصِيصُهُ المُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ كَما بَيَّنّاهُ آنِفًا، مَعَ اتِّفاقِ أهْلِ التَّفْسِيرِ مِنَ السَّلَفِ أنَّها كانَتْ واجِبَةً بِهَذِهِ الآيَةِ.
وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ما يَدُلُّ عَلى أنَّها كانَتْ واجِبَةً، وهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أيُّوبَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الوَهّابِ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ يَبِيتُ ثَلاثًا إلّا ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ (p-٢٠٤)الباقِي قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ قالَ: حَدَّثَنا أيُّوبُ قالَ: سَمِعْتُ نافِعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيْلَتانِ إلّا ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» .
وقَدْ رَواهُ هِشامُ بْنُ الغازِي عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «ما يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلّا ووَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ» .
وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ قَدْ كانَتْ واجِبَةً. ثُمَّ اخْتَلَفَ القائِلُونَ بِوُجُوبِها بَدِيًّا، فَقالَتْ مِنهم طائِفَةٌ: " جَمِيعُ ما في هَذِهِ الآيَةِ مِن إيجابِ الوَصِيَّةِ مَنسُوخٌ " مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، حَدَّثَنا أبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أحْمَدَ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ المُؤَدِّبُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدِ القاسِمِ بْنِ سَلّامٍ قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وعُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ الخُراسانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ قالَ: " نَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ٧] .
ورَوى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ قالَ: " نُسِخَ مِن ذَلِكَ مَن يَرِثُ ولَمْ يُنْسَخْ مَن لا يَرِثُ " . فاخْتَلَفَتِ الرِّوايَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في ذَلِكَ: في أحَدَيْهِما أنَّ الجَمِيعَ مَنسُوخٌ، وفي الأُخْرى أنَّهُ مَنسُوخٌ مِمَّنْ يَرِثُ مِنَ الأقْرَبِينَ دُونَ مَن لا يَرِثُ.
وحَدَّثَنا أبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الفَضْلِ المُؤَدِّبُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مَهْدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ عَنْ عُمارَةَ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ " نَسَخَتْها الفَرائِضُ " .
وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ: " كانَ المِيراثُ لِلْوَلَدِ والوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ فَهي مَنسُوخَةٌ " .
وقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: " قَدْ كانَتِ الوَصِيَّةُ واجِبَةً لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ فَنُسِخَتْ عَمَّنْ يَرِثُ وجُعِلَتْ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ " رَواهُ يُونُسُ وأشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ.
ورُوِيَ عَنْ الحَسَنِ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وعَبْدِ المَلِكِ بْنِ يَعْلى " في الرَّجُلِ يُوصِي لِغَيْرِ ذِي القَرابَةِ، ولَهُ ذُو قَرابَةٍ مِمَّنْ لا يَرِثُهُ أنَّ ثُلُثَيِ الثُّلُثِ لِذِي القَرابَةِ، وثُلُثُ الثُّلُثِ لِمَن أوْصى لَهُ " وقالَ طاوُسٌ: " يُرَدُّ كُلُّهُ إلى ذَوِي القَرابَةِ " .
وقالَ الضَّحّاكُ: " لا وصِيَّةَ إلّا لِذِي قَرابَةٍ إلّا أنْ يَكُونَ لَهُ ذُو قَرابَةٍ "
وقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى: " قَدْ كانَتِ الوَصِيَّةُ في الجُمْلَةِ واجِبَةً لِذِي القَرابَةِ، ولَمْ يَكُنْ عَلى المُوصِي أنْ يُوصِيَ بِها لِجَمِيعِهِمْ، بَلْ كانَ لَهُ الِاقْتِصارُ عَلى الأقْرَبِينَ مِنهم، فَلَمْ تَكُنْ واجِبَةً لِلْأبْعَدِينَ، ثُمَّ نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ لِلْأقْرَبِينَ فَبَقِيَ الأبْعَدُونَ (p-٢٠٥)عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ مِن جَوازِ الوَصِيَّةِ لَهم أوْ تَرْكِها " .
ثُمَّ اخْتَلَفَ القائِلُونَ بِنَسْخِها فِيما نُسِخَتْ بِهِ، وقَدْ رَوَيْنا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ أنَّ آيَةَ المَوارِيثِ نَسَخَتْها، وذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ [النساء: ٧]
وقالَ آخَرُونَ: نَسَخَها ما ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» رَواهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خارِجَةَ، عَنْهُ ﷺ قالَ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» .
ورَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «لا يَجُوزُ لِوارِثٍ وصِيَّةٌ»، وإسْماعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ قالَ: سَمِعْتُ أبا أُمامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ في خُطْبَتِهِ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ: «ألا إنَّ اللَّهَ قَدْ أعْطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» وحَجّاجَ بْنَ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يَجُوزُ لِوارِثٍ وصِيَّةٌ إلّا أنْ يُجِيزَها الوَرَثَةُ» .
ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَواهُ حَجّاجٌ عَنْ أبِي إسْحاقَ عَنْ الحارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: " لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ " وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: " لا يَجُوزُ لِوارِثٍ وصِيَّةٌ "، وهَذَ الخَبَرُ المَأْثُورُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في ذَلِكَ. ووُرُودُهُ مِنَ الجِهاتِ الَّتِي وصَفْنا هو عِنْدَنا في حَيِّزِ التَّواتُرِ؛ لِاسْتِقامَتِهِ وشُهْرَتِهِ في الأُمَّةِ، وتَلَقَّيِ الفُقَهاءُ إيّاهُ بِالقَبُولِ واسْتِعْمالِهِمْ لَهُ، وجائِزٌ عِنْدَنا نَسْخُ القُرْآنِ بِمِثْلِهِ، إذْ كانَ في حَيِّزِ ما يُوجِبُ العِلْمَ والعَمَلَ مِنَ الآياتِ.
فَأمّا إيجابُ اللَّهِ تَعالى المِيراثَ لِلْوَرَثَةِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ نَسْخَ الوَصِيَّةِ لِجَوازِ اجْتِماعِ المِيراثِ والوَصِيَّةِ مَعًا، ألا تَرى أنَّهُ ﷺ قَدْ أجازَها لِلْوارِثِ إذا أجازَتْها الوَرَثَةُ ؟ فَلَمْ يَكُنْ يَسْتَحِيلُ اجْتِماعُ المِيراثِ والوَصِيَّةِ لِواحِدٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلّا آيَةُ المِيراثِ، عَلى أنَّ اللَّهَ إنَّما جَعَلَ المِيراثَ بَعْدَ الوَصِيَّةِ، فَما الَّذِي كانَ يَمْنَعُ أنْ يُعْطى قِسْطَهُ مِنَ الوَصِيَّةِ ثُمَّ يُعْطى المِيراثَ بَعْدَها.
وقالَ الشّافِعِيُّ في كِتابِ الرِّسالَةِ: " يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المَوارِيثُ ناسِخَةً لِلْوَصِيَّةِ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ ثابِتَةٌ مَعَها، فَلَمّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن طَرِيقِ مُجاهِدٍ، وهو مُنْقَطِعٌ أنَّهُ قالَ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» اسْتَدْلَلْنا بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِن ذَلِكَ عَلى أنَّ المَوارِيثَ ناسِخَةٌ لِلْوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ مَعَ الخَبَرِ المُنْقَطِعِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ أعْطى القَوْلَ بِاحْتِمالِ اجْتِماعِ الوَصِيَّةِ والمِيراثِ فَإذًا لَيْسَ في نُزُولِ آيَةِ المِيراثِ ما يُوجِبُ نَسْخَ الوَصِيَّةِ لِلْوارِثِ، فَلَمْ تَكُنِ الوَصِيَّةُ مَنسُوخَةً بِالمِيراثِ لِجَوازِ اجْتِماعِهِما، والخَبَرُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ؛ لِأنَّهُ ورَدَ مِن طَرِيقٍ مُنْقَطِعٍ، وهو لا يَقْبَلُ المُرْسَلَ، ولَوْ ورَدَ مِن جِهَةِ الِاتِّصالِ والتَّواتُرِ لَما قَضى بِهِ عَلى حُكْمِ الآيَةِ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ عِنْدَهُ نَسْخَ (p-٢٠٦)القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، فَواجِبٌ أنْ تَكُونَ الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ ثابِتَةَ الحُكْمِ غَيْرَ مَنسُوخَةٍ؛ إذْ لَمْ يَرِدْ ما يُوجِبُ نَسْخَها.
قالَ الشّافِعِيُّ: «وحَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ في سِتِّ مَمْلُوكِينَ أعْتَقَهم رَجُلٌ لا مالَ لَهُ غَيْرُهم، فَجَزَّأهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ثَلاثَةَ أجْزاءٍ، فَأعْتَقَ اثْنَيْنِ وأرَقَّ أرْبَعَةً. والَّذِي أعْتَقَهم رَجُلٌ مِنَ العَرَبِ، والعَرَبُ إنَّما تَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مِنَ العَجَمِ، فَأجازَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ الوَصِيَّةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ لَوْ كانَتْ تَبْطُلُ لِغَيْرِ قَرابَةٍ بَطَلَتْ لِلْعَبِيدِ المُعْتَقِينَ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا بِقَرابَةٍ لِلْمَيْتِ وبَطَلَتْ وصِيَّةُ الوالِدَيْنِ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا كَلامٌ ظاهِرُ الِاخْتِلالِ مُنْتَقَضٌ عَلى أصْلِهِ، فَأمّا اخْتِلالُهُ فَقَوْلُهُ: إنَّ العَرَبَ إنَّما تَمْلِكُ مَن لا قَرابَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مِنَ العَجَمِ "، وهَذا خَطَأٌ مِن قِبَلِ أنَّهُ جائِزٌ أنْ تَكُونَ أُمُّهُ أعْجَمِيَّةً، فَيَكُونُ أقْرِباؤُهُ مِن قِبَلِ أُمِّهِ عَجَمًا، فَيَكُونُ العِتْقُ الَّذِي أوْقَعَهُ المَرِيضُ وصِيَّةً لِأقْرِبائِهِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أنَّ آيَةَ المَوارِيثِ نَسَخَتِ الوَصِيَّةَ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ فَإنَّما نَسَخَتْها لِمَن كانَ مِنهم وارِثًا، فَأمّا مَن لا يَرِثُ مِنهم فَلَيْسَ في إثْباتِ المِيراثِ لِغَيْرِهِ ما يُوجِبُ نَسْخَ وصِيَّتِهِ، وأمّا انْتِقاضُهُ عَلى أصْلِهِ فَإيجابُهُ نَسْخَ الوَصِيَّةِ لِلْأقْرَبِينَ بِخَبَرِ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ في عِتْقِ المَرِيضِ لِعَبِيدِهِ، ومِن أصْلِهِ أنَّ السُّنَّةَ لا تَنْسَخُ القُرْآنَ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّدْرِ الأوَّلِ والتّابِعِينَ تَجْوِيزُ الوَصِيَّةِ لِلْأجانِبِ، وأنَّها تَنْفُذُ عَلى ما أوْصى بِها، ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ أوْصى لِأُمَّهاتِ أوْلادِهِ لِكُلِّ امْرَأةٍ مِنهُنَّ بِأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ.
وعَنْ عائِشَةَ وإبْراهِيمَ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وسالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينارٍ والزُّهْرِيِّ قالُوا: تُنَفَّذُ وصِيَّتُهُ حَيْثُ جَعَلَها " وقَدْ حَصَلَ الِاتِّفاقُ مِنَ الفُقَهاءِ بَعْدَ عَصْرِ التّابِعِينَ عَلى جَوازِ الوَصايا لِلْأجانِبِ والأقارِبِ.
والَّذِي أوْجَبَ نَسْخَ الوَصِيَّةِ عِنْدَنا لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ قَوْلُهُ تَعالى في سِياقِ آيَةِ المَوارِيثِ: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ [النساء: ١٢] فَأجازَها مُطْلَقَةً ولَمْ يَقْصُرْها عَلى الأقْرَبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وفي ذَلِكَ إيجابُ نَسْخِها لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ؛ لِأنَّ الوَصِيَّةَ لَهم قَدْ كانَتْ فَرْضًا، وفي هَذِهِ إجازَةُ تَرْكِها لَهم، والوَصِيَّةُ لِغَيْرِهِمْ وجَعْلِ ما بَقِيَ مِيراثًا لِلْوَرَثَةِ عَلى سِهامِ مَوارِيثِهِمْ، ولَيْسَ يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا، وقَدْ نَسَخَ تِلْكَ الوَصِيَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهَذِهِ الوَصِيَّةِ المَذْكُورَةِ في آيَةِ المَوارِيثِ، وإيجابِ المَوارِيثِ بَعْدَها الوَصِيَّةَ الواجِبَةَ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ فَيَكُونَ حُكْمُها ثابِتًا لِمَن لا يَرِثُ مِنهم. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن قِبَلِ أنَّهُ أطْلَقَ الوَصِيَّةَ في هَذا المَوْضِعِ بِلَفْظٍ مَنكُورٍ يَقْتَضِي شُيُوعَها في الجِنْسِ، إذْ كانَ ذَلِكَ حُكْمَ النَّكِراتِ، والوَصِيَّةُ المَذْكُورَةُ (p-٢٠٧)لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ لَفْظُها لَفْظُ المَعْرِفَةِ، فَغَيْرُ جائِزٍ صَرْفُها إلَيْها؛ إذْ لَوْ أرادَها. لَقالَ: " مِن بَعْدِ الوَصِيَّةِ " حَتّى يَرْجِعَ الكَلامُ إلى المُعَرَّفِ المَعْهُودِ مِنَ الوَصِيَّةِ الَّتِي قَدْ عُلِمَتْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهُمْ﴾ [النور: ٤] وقالَ في آيَةٍ أُخْرى لَمّا أرادَ الشُّهَداءَ المَذْكُورِينَ: ﴿فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ﴾ [النور: ١٣] فَعَرَّفَهم بِالألِفِ واللّامِ؛ إذْ كانَ المُرادُ " أُولَئِكَ الشُّهَداءَ " .
فَلَمّا أطْلَقَ الوَصِيَّةَ في آيَةِ المَوارِيثِ بِلَفْظٍ مَنكُورٍ ثَبَتَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِها الوَصِيَّةَ المَذْكُورَةَ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، وأنَّها مُطْلَقَةٌ جائِزَةٌ لِسائِرِ النّاسِ إلّا ما خَصَّتْهُ السُّنَّةُ أوِ الإجْماعُ مِنَ الوَصِيَّةِ لِلْوارِثِ أوْ لِلْقاتِلِ ونَحْوِهِما، وفي ثُبُوتِ ذَلِكَ نَسْخُ الوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: اسْتَدَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلى أنَّ الوالِدَيْنِ لَيْسُوا مِنَ الأقْرِباءِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ ولِأنَّهم لا يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ ورَحِمِهِمْ بِأنْفُسِهِمْ، وسائِرُ الأرْحامِ سِواهُما إنَّما يُدْلُونَ بِغَيْرِهِمْ، فالأقْرَبُونَ مَن يَقْرُبُ إلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وقالَ: " إنَّ ولَدَ الصُّلْبِ لَيْسُوا مِنَ الأقْرَبِينَ أيْضًا؛ لِأنَّهُ بِنَفْسِهِ يُدْلِي بِرَحِمِهِ لا بِواسِطَةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَ والِدِهِ ولِأنَّهُ إذا لَمْ يَكُنِ الوالِدانِ مِنَ الأقْرَبِينَ، والوَلَدُ أقْرَبُ إلى والِدِهِ مِنَ الوالِدِ إلى ولَدِهِ، فَهو أحْرى أنْ لا يَكُونَ مِنَ الأقْرَبِينَ " ولِذَلِكَ قالَ فِيمَن أوْصى لِأقْرِباءِ بَنِي فُلانٍ: " إنَّهُ لا يَدْخُلُ فِيها ولَدُهُ ولا والِدُهُ.
ويَدْخُلُ فِيها ولَدُ الوَلَدِ والجَدُّ والإخْوَةُ ومَن جَرى مَجْراهم؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهم يُدْلِي إلَيْهِ بِواسِطَةٍ غَيْرِ مُدْلٍ بِنَفْسِهِ " وفي مَعْنى الأقْرِباءِ خِلافٌ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الوَصِيَّةِ لِلْوارِثِ إذا أجازَتْها الوَرَثَةُ
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنّا نَسْخَ الوَصِيَّةِ لِلْوَرَثَةِ بِما قَدَّمْنا، وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ إلّا أنْ يُجِيزَها الوَرَثَةُ»، وفِيهِ بَيانُ أنَّ الأخْبارَ الوارِدَةَ بِأنْ لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ مِن غَيْرِ ذِكْرِ إجازَةِ الوَرَثَةِ هي مَحْمُولَةٌ عَلى أنَّ الوَرَثَةَ لَمْ يُجِيزُوها.
ويَدُلَّ أيْضًا عَلى أنَّ إجازَةَ الوَرَثَةِ هي مَحْمُولَةٌ عَلى أنَّ إجازَتَهم مُعْتَبَرَةٌ بَعْدَ المَوْتِ؛ لِأنَّهم في حالِ حَياتِهِ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ، وإنَّما تَحْصُلُ لَهم هَذِهِ السِّمَةُ بَعْدَ مَوْتِ المُوَرِّثِ، فَمَتى أجازَ ولَيْسَ بِوارِثٍ فَإجازَتُهُ باطِلَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» ودَلَّ عَلى أنَّ الوَرَثَةَ مَتى أجازَتِ الوَصِيَّةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ هِبَةً مُسْتَأْنَفَةً مِن جِهَتِهِمْ فَتُحْمَلُ عَلى أحْكامِ الهِباتِ في شَرْطِ القَبْضِ والتَّسْلِيمِ ونَفْيِ الشُّيُوعِ فِيما يُقَسَّمُ، والرُّجُوعِ فِيها، بَلْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلى أحْكامِ الوَصايا الجائِزَةِ دُونَ الهِباتِ مِن قِبَلِ مُجِيزِيها مِنَ الوَرَثَةِ.
ودَلَّ أيْضًا عَلى جَوازِ العُقُودِ المَوْقُوفَةِ الَّتِي لَها مُجِيزٌ؛ لِأنَّ المَيِّتَ عَقَدَ (p-٢٠٨)الوَصِيَّةَ عَلى مالٍ هو لِلْوارِثِ في حالِ وُقُوعِ الوَصِيَّةِ.
وجَعَلَها النَّبِيُّ ﷺ مَوْقُوفَةً عَلى إجازَةِ الوارِثِ، فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا فِيمَن عَقَدَ عَقْدَ بَيْعٍ أوْ عِتْقٍ أوْ هِبَةٍ أوْ رَهْنٍ أوْ إجارَةٍ عَلى مالِ الغَيْرِ أنَّهُ يَقِفُ عَلى إجازَةِ مالِكِهِ؛ إذْ كانَ عَقَدًا لَهُ مالِكٌ يَمْلِكُ ابْتِداءَهُ وإيقاعَهُ، وقَدْ دَلَّ أيْضًا عَلى أنَّهُ؛ إذا أوْصى بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ كانَتْ مَوْقُوفَةً عَلى إجازَةِ الوَرَثَةِ، كَما وقَفَها النَّبِيُّ ﷺ عَلى إجازَتِهِمْ إذا أوْصى بِها لِوارِثٍ فَهَذِهِ المَعانِي كُلُّها في ضِمْنَ قَوْلِهِ ﷺ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ إلّا أنْ يُجِيزَها الوَرَثَةُ» .
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيمَن أوْصى بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ فَأجازَهُ الوَرَثَةُ قَبْلَ المَوْتِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ: " إذا أجازُوهُ في حَياتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتّى يُجِيزُوهُ بَعْدَ المَوْتِ " ورُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وشُرَيْحٍ وإبْراهِيمَ.
وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى وعُثْمانُ البَتِّيُّ: " لَيْسَ لَهم أنْ يَرْجِعُوا فِيهِ بَعْدَ المَوْتِ، وهي جائِزَةٌ عَلَيْهِمْ " .
وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " إذا اسْتَأْذَنَهم فَكُلُّ وارِثٍ بائِنٌ عَنِ المَيِّتِ، مِثْلُ الوَلَدِ الَّذِي قَدْ بانَ عَنْ أبِيهِ والأخِ وابْنِ العَمِّ الَّذِينَ لَيْسُوا في عِيالِهِ، فَإنَّهم لَيْسَ لَهم أنْ يَرْجِعُوا، وأمّا امْرَأتُهُ وبَناتُهُ اللّاتِي لَمْ يَبِنَّ مِنهُ، وكُلُّ مَن في عِيالِهِ، وإنْ كانَ قَدِ احْتَلَمَ فَلَهم أنْ يَرْجِعُوا، وكَذَلِكَ العَمُّ وابْنُ العَمِّ، ومَن خافَ مِنهم إنْ لَمْ يُجِزْ لَحِقَهُ ضَرَرٌ مِنهُ في قَطْعِ النَّفَقَةِ إنْ صَحَّ، فَلَهم أنْ يَرْجِعُوا " .
ورَوى ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ " في المَرِيضِ يَسْتَأْذِنُ ورَثَتَهُ في الوَصِيَّةِ لِبَعْضِ ورَثَتِهِ فَأذِنُوا لَهُ فَلَيْسَ لَهم أنْ يَرْجِعُوا في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، ولَوْ كانَ اسْتَأْذَنَهم في الصِّحَّةِ فَلَهم أنْ يَرْجِعُوا إنْ شاءُوا، وإنَّما يَجُوزُ إذْنُهم في حالِ المَرَضِ؛ لِأنَّهُ يُحْجَبُ عَنْ مالِهِ بِحَقِّهِمْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ " وقَوْلُ اللَّيْثِ في ذَلِكَ كَقَوْلِ مالِكٍ.
ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّهم إذا أجازُوهُ بَعْدَ المَوْتِ فَلَيْسَ لَهم أنْ يَرْجِعُوا فِيهِ، ورُوِيَ عَنْ طاوُسٍ وعَطاءٍ أنَّهم إذا أجازُوهُ في الحَياةِ جازَ عَلَيْهِمْ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: عُمُومُ قَوْلِهِ ﷺ: «لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ إلّا أنْ يُجِيزَها الوَرَثَةُ» يَنْفِي جَوازَ الوَصِيَّةِ في كُلِّ حالِ، فَلَمّا خُصَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " إلّا أنْ يُجِيزَها الوَرَثَةُ " وهم إنَّما يَكُونُونَ ورَثَةً عَلى الحَقِيقَةِ بَعْدَ المَوْتِ لا قَبْلَهُ، فالمَخْصُوصُ مِنَ الجُمْلَةِ إجازَتَهم بَعْدَ المَوْتِ.
وما عَدا ذَلِكَ فَهو مَحْمُولٌ عَلى عُمُومِ بَقِيَّةِ الوَصِيَّةِ، والنَّظَرُ يَدُلَّ عَلى ذَلِكَ؛ إذْ لَيْسُوا مالِكِينَ لِلْمالِ في حالِ الحَياةِ فَلا تَعْمَلُ إجازَتُهم فِيهِ كَما لا تَجُوزُ هِبَتُهم ولا بَيْعُهم، وإنْ حَدَثَ المَوْتُ بَعْدَهُ فالإجازَةُ أبْعَدُ مِن ذَلِكَ، ولَمّا كانَ المُوصى لَهُ إنَّما تَقَعُ الوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ المَوْتِ، فَكَذَلِكَ الإجازَةُ حُكْمُها أنْ يَكُونَ في حالِ وُقُوعِ الوَصِيَّةِ، وأنْ (p-٢٠٩)لا تَعْمَلَ الإجازَةُ قَبْلَ وُقُوعِها.
وأيْضًا لَمّا كانَ لِلْمَيِّتِ إبْطالُ الوَصِيَّةِ في حالِ الحَياةِ مَعَ كَوْنِهِ مالِكًا، فالوَرَثَةُ أحْرى بِجَوازِ الرُّجُوعِ عَمّا أجازُوهُ، وإذا جازَ لَهُمُ الرُّجُوعُ فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الإجازَةَ لا تَصِحُّ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ حَقُّ الوَرَثَةِ ثابِتًا في مالِهِ بِالمَرَضِ ومِن أجْلِهِ مُنِعَ ذَلِكَ في المَرَضِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ كَما مُنِعَ بَعْدَ المَوْتِ وجَبَ أنْ يَكُونَ حالُ المَرَضِ حالَ المَوْتِ في بابِ لُزُومِهِمْ حُكْمَ الإجازَةِ إذا أجازُوا. قِيلَ لَهُ: تَصَرُّفُ المَرِيضِ جائِزٌ عِنْدَنا في جَمِيعِ مالِهِ بِالهِبَةِ، والصَّدَقَةِ، والعِتْقِ، وسائِرِ مَعانِي التَّصَرُّفِ ووُجُوهِهِ، وإنَّما نُسِخَ مِنها بَعْدَ المَوْتِ ما زادَ عَلى الثُّلُثِ لِثُبُوتِ حَقِّ الوَرَثَةِ بِالمَوْتِ، وأمّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلا اعْتِبارَ بِقَوْلِ الوارِثِ فِيهِ، ألا تَرى أنَّ الوارِثَ لَيْسَ لَهُ أنْ يَفْسَخَ عُقُودَهُ قَبْلَ المَوْتِ، وإنَّما ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ المَوْتِ عِنْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ في مالِهِ ؟ فَكَذَلِكَ إجازَتُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ كَلا إجازَةٍ، كَما لا يَعْمَلُ فَسْخُهُ في عُقُودِهِ.
وأمّا ما فَرَّقَ بِهِ مالِكٌ بَيْنَ مَن يَخْشى ضَرَرًا مِن جِهَتِهِ في تَرْكِ الإجازَةِ وبَيْنَ مَن لا يَخْشى ذَلِكَ مِنهُ، فَلا مَعْنى لَهُ مِن قِبَلِ أنَّ خَشْيَةَ الضَّرَرِ مِن جِهَتِهِ لا تَمْنَعُ صِحَّةَ عُقُودِهِ، وقَوْلُهُ: " إذْ لَيْسَ يُكْسِبُهُ ذَلِكَ حُكْمَ المُكْرَهِ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ باعَ مِنهُ شَيْئًا طَلَبَهُ مِنهُ، وقالَ: خَشِيتُ أنْ تُقْطَعَ عَنِّي نَفَقَتُهُ، وجِرايَتُهُ بِتَرْكِ إجابَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا في إبْطالِ البَيْعِ ؟ وكَذَلِكَ لَوِ اسْتَوْهَبَهُ المَرِيضُ شَيْئًا فَوَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ ما يَخافُهُ بِتَرْكِ إجابَتِهِ مُؤَثِّرًا في هِبَتِهِ، فَكانَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ مَن يَخْشى مِن قِبَلِهِ ضَرَرًا.
فَإذًا لا اعْتِبارَ لِخَوْفِ الضَّرَرِ في قَطْعِ النَّفَقَةِ والجِرايَةِ في إيجابِ العِتْقِ بَيْنَ مَن هو في عِيالِهِ أوْ لَيْسَ في عِيالِهِ. واللَّهُ المُوَفِّقُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ.
{"ayah":"كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق