الباحث القرآني
قال اللهُ تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ١٨٠].
أصلُ الوصيَّةِ معروفٌ في الجاهليَّةِ، وإنّما دخَلَها تبديلٌ وتغييرٌ، بتقديمِ قريبٍ على قريبٍ، وحِرْمانِ مستحِقٍّ بالهَوى والتعصُّبِ، والأموالُ حقوقٌ، والتغييرُ فيها والتعطيلُ والتبديلُ لها: ظلمٌ، وهذا الظلمُ يحتاجُ إلى بيانِ حُكْمِهِ، وإلى ضبطِ الوصيَّةِ، حتى يعلَمَ المُوصِي والموصى له: ما له وما عليه، فبيَّنَ اللهُ شِرعتَهُ العادلةَ بقولِه: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾.
وقد تقدَّم سابقًا الكلامُ على معنى: «كُتِبَ».
وإنّما قال تعالى: «كُتِبَ»، ولم يقلْ: «كُتِبَتْ»، مع أنّ المكتوبَ هو الوصيَّةُ، وهي مؤنَّثةٌ، لأنّ التأنيثَ لا على الحقيقةِ، ولأنّه فُصِلَ بينَ المكتوبِ وفِعْلِه «كُتِبَ» بفاصلٍ.
وذكَرَ اللهُ حضورَ الموتِ، والمرادُ بحضورِهِ: ظهورُ علاماتِه، كالمَرَضِ المَخُوفِ، والكِبَرِ بمقاربةِ الهَرَمِ، أو قُرْبِ إقامةِ حدِّ القتلِ، أو مواجهةِ عدوٍّ يَغْلِبُ على الظنِّ معه عدمُ السلامةِ.
وهناك أحوالٌ دُونَها مَرْتَبةً يَظْهَرُ معها الخوفُ مِن المَوْتِ، لكنَّها ليستْ سببًا غالبًا له، كركوبِ البحرِ، أو قصدِ السفرِ في متاهةٍ بَرِّيَّةٍ، ونحوِ ذلك.
والعربُ تسمِّي علاماتِ الموتِ وأسبابَهُ: مَوْتًا، قال رُوَيْشِدُ بنُ كَثِيرٍ الطّائيُّ:
وقُلْ لهُمْ بادِرُوا بِالعُذْرِ والتَمِسُوا
قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إنِّي أنا المَوْتُ[[«غريب الحديث» للخطابي (٢/٧٢).]]
فجعَلَ نفسَهُ هو الموتَ، لكونِهِ سببًا في حصولِه.
ومعنى قولِه تعالى: ﴿إنْ تَرَكَ﴾، أيْ: قارَبَ أنْ يدَعَ مالَهُ وتَرِكَتَهُ لِمَن بعدَهُ، وهذا التركُ يفسِّرُهُ ما في سورةِ النساءِ، قال تعالى: ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٩].
وقولُه: ﴿خَيْرًا﴾، الخيرُ: هو المالُ، مِن النقدَيْنِ، وبهائمِ الأنعامِ، والزروعِ، والدُّورِ، وغيرِها، ويقولُ الناسُ: أُعطِيَ فلانٌ خيرًا، يعني: مالًا، وسُمِّيَ خيرًا، باعتبارِ أنّ المقصِدَ مِن رزقِ الخالقِ له هو الانتفاعُ وكسبُ الخيرِ، ولكنْ قد يجعلُهُ الإنسانُ في شرٍّ، فيكونُ فعلُ الإنسانِ وتصرُّفُهُ فيه هو الشرَّ، وليس أصلَ المالِ.
روى ابنُ أبي حاتمٍ في «تفسيرِه»، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ: قوله: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، يعني: مالًا[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٩٩).]].
وروى عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهِدٍ، في قولِ اللَّهِ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، قال: مالًا[[أخرجه مجاهد في «تفسيره» (١/٢٢٠)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (١/٢٩٩).]].
ويُطلِقُ الناسُ كلمةَ الخيرِ على المالِ الكثيرِ لا القليلِ الذي لا يَكْفِي الإنسانَ وذريتَهُ، روى ابنُ أبي حاتمٍ في «تفسيرِه»، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيهِ، أنَّ عَلِيًّا دَخَلَ على رَجُلٍ مِن قَوْمِهِ يَعُودُهُ، فقالَ له: أأُوصِي؟ فقالَ له عَلِيٌّ: إنّما قالَ اللَّهُ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ﴾، وإنّكَ إنّما تَرَكْتَ شيئًا يَسِيرًا، فاتْرُكْهُ لِوَلَدِكَ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٩٨).]].
ورُوِيَ مِن حديثِ الحَكَمِ بنِ أبانَ، حدَّثنِي عِكْرِمةُ، عنِ ابنِ عَبّاسٍ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾، قال ابنُ عَبّاسٍ: «مَن لم يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينارًا، لم يَتْرُكْ خَيْرًا»، وقالَ الحَكَمُ: «لم يَتْرُكْ خَيْرًا مَن لم يَتْرُكْ ثَمانِينَ دِينارًا»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٩٩).]].
وبعضُ العلماءِ لم يفرِّقْ بين المالِ القليلِ والكثيرِ، إلا أنّها تتأكَّدُ في المالِ الكثيرِ، لعِظَمِ الأمانةِ فيه، وأنّ مَن ترَكَ مالًا كثيرًا يُخشى مِن فسادِهِ أو فسادِ الناسِ به، ربَّما أثِمَ في عدمِ وصيَّتِهِ به، فالوصيةُ تضبِطُ الأمرَ وتسلِّطُ المالَ على هَلَكَتِه في الحقِّ.
والوصيَّةُ هي الأمرُ بفعلِ شيءٍ في حالِ غيابِ الآمِرِ أو وفاتِه، وغلَبَ استعمالُها بعدَ الموتِ، واستقَرَّ الاصطلاحُ الشرعيُّ على ما يأمُرُ بفعلِهِ الإنسانُ غيرَهُ عندَ قُرْبِ أجَلِه، ومِن ذلك: ما في حديثِ العِرْباضِ بنِ سارِيَةَ، قال: «وعَظَنا رسولُ اللهِ ﷺ مَوْعِظةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقُلْنا: يا رَسُولَ اللهِ، كأنّها مَوْعِظةُ مُوَدِّعٍ فأَوْصِنا...»، الحديثَ، أخرَجَهُ أحمدُ، وأبو داودَ، والترمذيُّ[[أخرجه أحمد (١٧١٤٤) (٤/١٢٦)، وأبو داود (٤٦٠٧) (٤/٢٠٠)، والترمذي (٢٦٧٦) (٥/٤٤)، وغيرهم.]].
وهذا ما ينبَغي للعاقلِ أنْ يُوصِيَ غيرَهُ بالحقِّ، فهو عندَ حضورِ الأَجَلِ أشدُّ وقعًا، وأصدَقُ معنًى، لخلوصِهِ مِن كلِّ مطمعٍ يُرجى، وهكذا كان يُوصِي الأنبياءُ، قال تعالى: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣]، وقال تعالى: ﴿ووَصّى بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يابَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: ١٣٢].
وخُطْبةُ الوداعِ هي في معنى الوصيَّةِ مِن الرسولِ ﷺ لأمَّتِهِ، لأنّها مِن آخِرِ خُطَبِهِ المُشعِرةِ بقُرْبِ أجَلِه.
وتأتي الوصيَّةُ في القرآنِ والسُّنَّةِ بمعنى التأديبِ والدَّلالةِ والإرشادِ، منها ما يأتي بلفظِ الوصيَّةِ، ومنها ما يأتي بغيرِ هذا اللفظِ:
فمِن لفظِ الوصيَّةِ: قولُهُ تعالى: ﴿ولَقَدْ وصَّيْنا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِكُمْ وإيّاكُمْ أنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: ١٣١]، وقولُهُ تعالى: ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨]، وقولُهُ: ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ مِن إمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وإيّاهُمْ ولا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالحَقِّ ذَلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنعام: ١٥١].
وأمّا قولُهُ تعالى: ﴿لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ﴾، فقدَّمَ الوالدَيْنِ في الآيةِ لمنزلتِهما، وذلك أنّ العربَ كانوا في الجاهليَّةِ يقدِّمونَ الأبناءَ في وصيَّتِهم، وكان بعضُ العربِ يُوصِي للأَبْعَدِينَ مفاخَرةً وطلبًا للصِّيتِ بالكرمِ، ويترُكُونَ الأبناءَ، ولذا مما يشتهرُ: «العربُ يُوصُونَ للأباعدِ طلبًا للفَخْرْ، ويترُكُونَ الأقرَبِينَ في الفَقْرْ»[[«التحرير والتنوير» (٢/١٤٩).]].
حكمُ الوصيَّةِ:
وجعَلَ اللهُ الوصيَّةَ بالمعروفِ: ﴿بِالمَعْرُوفِ حَقًّا﴾، وهو العدلُ، وهو ما ينفي الضَّرَرَ والظُّلْمَ، الذي يجلِبُ التحاسُدَ والتباغُضَ وقطيعةَ الأرحامِ.
وبهذه الآيةِ استدَلَّ مَن قال بوجوبِ الوصيَّةِ، وذلك أنّ اللهَ تعالى أوجَبَها بقولِه: ﴿كُتِبَ﴾، وأَكَّدَها بقولِه: ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ ﴾.
وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ مَن ترَكَها، فقد ترَكَ التقوى، وربَّما وقَعَ في المعصيةِ، وهي ضدُّ التقوى.
واستدَلَّ بما ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ، مرفوعًا: (ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) [[أخرجه البخاري (٢٧٣٨) (٤/٢)، ومسلم (١٦٢٧) (٣/١٢٤٩).]].
ويُشكِلُ على الاستدلالِ بهذا الحديثِ: أنّ ابنَ عُمَرَ ـ راويَ الخبرِ ـ لم يُوصِ بشيءٍ مِن مالِه، وهو أعلَمُ الناسِ بمَرْوِيِّهِ، وأعرفُ الناسِ بمعنى قولِه ﷺ في الحقِّ: (ما حَقُّ امْرِئٍ)، وراوي الحديثِ المرفوعِ وراوي عدَمِ وصيَّةِ ابنِ عمرَ: واحدٌ، وهو نافعٌ مَوْلاهُ.
فقد روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، مِن حديثِ أيوبَ، عن نافعٍ، أنّ ابنَ عمرَ لم يُوصِ، وقال: «أمّا مالي، فاللهُ أعلَمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ، وأمّا رِباعِي، فما أُحِبُّ أنْ يَشْرَكَ ولدي فيها أحدٌ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٣٣).]].
ويظهرُ أنّ المرادَ بقولِه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ: (ما حَقُّ امْرِئٍ): ما حَزْمُهُ وحياطتُهُ، وذلك لأنّها إبراءٌ للذِّمَّةِ، ويؤكِّدُ هذا أنّ الحديثَ جاء مقيَّدًا بمَن يخافُ على ذِمَّتِهِ التَّبِعَةَ وفواتَ حقِّ غيرِه، وجاء في بعضِ ألفاظِ الحديثِ في «الصحيحِ»: (ولَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ) [[أخرجه أحمد (٥٥١٣) (٢/٨٠)، ومسلم (١٦٢٧) (٣/١٢٤٩)، والترمذي (٩٧٤) (٣/٢٩٥).]]، وفي لفظٍ آخَرَ: (يُرِيدُ أنْ يُوصِيَ فِيهِ) [[أخرجه أحمد (٥١١٨) (٢/٥٠).]].
فقيَّدَ الوصيَّةَ بمُوجِبِها، وهو إرادةُ إبراءِ الذِّمَّةِ، أو وجودُ ما يُوجِبُ الوصيَّةَ، وتعليقُ الأمرِ بإرادةِ الفاعلِ ومشيئتِهِ: ممّا يَصرِفُ الأمرَ مِن الوجوبِ إلى الاستحبابِ والتأكيدِ غيرِ المُلْزِمِ، وهذا ما يميلُ إليه الشافعيُّ، قال رحمه الله: «معنى الحديثِ: ما الحزمُ والاحتياطُ للمُسْلمِ إلا أنْ تكونَ وصيتُهُ مكتوبةً عندَهُ، فيُستحَبُّ تعجيلُها، وأنْ يَكْتُبَها في صِحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويكتُبَ فيها ما يحتاجُ إليه»[[ينظر: «المجموع» للنووي (١٥/٤٠٨)، و«شرح النووي على مسلم» (١١/٧٥).]].
وأمّا ما جاء في «الصحيحِ»، مِن حديثِ ابنِ شِهابٍ، عن نافعٍ، قال: قال عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: «ما مَرَّتْ عليَّ ليلةٌ منذُ سمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ قال ذلك، إلا وعندي وصيَّتي»[[أخرجه مسلم (١٦٢٧) (٣/١٢٥٠).]].
فظاهرُهُ: أنّ الوصيةَ كانتْ أولَ الأمرِ منه، فيظهرُ أنّه أنفَقَ مالَهُ الذي أوْصى به بعدَ ذلك، ثمَّ لم يُوصِ بعدُ، لأنّه قال في روايةِ أيوبَ، عن نافعٍ: «أمّا مالي، فاللهُ أعلَمُ ما كنتُ أصنَعُ فيه في الحياةِ»[[تقدم تخريجه.]].
حكمُ الوصيَّةِ للورثةِ:
وقد اتَّفَقَ العلماءُ أنّ الوصيَّةَ لا تكونُ لوارثٍ، ولا تكونُ في حرامٍ.
وقد منَعَ مِن ذلك النبيُّ ﷺ في آخِرِ حياتِه في حَجَّةِ الوداعِ، لِما رواهُ أصحابُ «السننِ»، عن عمرِو بنِ خارجةَ، وما رواهُ أبو داودَ والترمذيُّ، عن أبي أمامةَ، كلاهُما يقولُ: سمعتُ النبيَّ قال: (إنَّ اللهَ قَدْ أعْطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ألا لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ) [[أخرجه أبو داود (٢٨٧٠) (٣/١١٤)، والترمذي (٢١٢٠) (٤/٤٣٣)، وغيرهما.]].
الخلافُ في وجوب الوصيَّةِ:
وقد اختلَفَ العلماءُ في الأصلِ في الوصيَّةِ: هل هو على الوجوبِ، أو على الاستحبابِ؟ على قولَيْنِ:
القولُ الأولُ: الاستحبابُ، وهو قولُ أكثرِ العلماءِ، بل عامَّتِهم، وهو قولُ الحسنِ، وقتادةَ، والنَّخَعيِّ، والشَّعْبيِّ، ومالكٍ، وأبي حنيفةَ، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وجابرِ بنِ زيدٍ[[ينظر: «البحر الرائق» (٨/٤٥٩)، و«التمهيد» (١٤/٢٩٢)، و«المجموع» (١٥/٤٠١)، و«المغني» (٦/١٣٧).]].
وهذا هو الأرجحُ، لأنّ الآيةَ منسوخةٌ، وحكى بعضُ العلماءِ عدمَ معرفةِ الخلافِ في نَسْخِها، وإنّما اختُلِفَ في مقدارِ ما نُسِخَ منها، منهم مَن قال: كلُّها، ومنهم مَن قال: بعضُها.
وقد كان الحُكْمُ في الآيةِ في ابتداءِ الأمرِ لمّا كان المشرِكُونَ على ظلمٍ في الوصيةِ، وعدمِ عدلٍ مع القَرابةِ، وعدمِ الوفاءِ بالحقِّ، وكان هذا قَبْلَ المِيراثِ، وبَقِيَ هذا المعنى عندَ مَن أسلَمَ منهم.
ودليلُ هذا: ما رواهُ البخاريُّ في «صحيحِه»، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: عادَني النبيُّ ﷺ وأبو بكرٍ في بَنِي سَلِمةَ ماشِيَيْنِ، فوجَدَني النبيُّ لا أعْقِلُ، فدَعا بماءٍ، فتوضَّأَ منه، ثمَّ رَشَّ عَلَيَّ، فأَفَقْتُ، فقلتُ: ما تأمُرُني أنْ أصنَعَ في مالي يا رسولَ اللهِ؟ فنزَلتْ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] [[أخرجه البخاري (٤٥٧٧) (٦/٤٣).]].
ولا خلافَ أنّ آيةَ المواريثِ نزَلتْ بعدَ آيةِ الوصيَّةِ.
ونصَّ على نسخِ آيةِ الوصيَّةِ مِن السلفِ: ابنُ عبّاسٍ، وابنُ عمرَ، وأبو موسى الأشعريُّ، وابنُ المسيَّبِ، ومسروقٌ، وزيدُ بنُ أسلَمَ، وشُرَيْحٌ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، وابنُ سِيرِينَ، ومسلمُ بنُ يسارٍ، والعلاءُ بنُ زيادٍ، والزُّهْريُّ، وقتادةُ، وغيرُهم، أخرَجَهُ عنهم وعن بعضِهم ابنُ أبي حاتمٍ، وابنُ جريرٍ، وابنُ المنذرِ في «التفسيرِ».
وروى البخاريُّ، عن ابنِ عباسٍ، قال: «كان المالُ للوَلَدِ، وكانتِ الوصيَّةُ للوالِدَيْنِ، فنسَخَ اللهُ مِن ذلكَ ما أحَبَّ»[[أخرجه البخاري (٢٧٤٧) (٤/٤).]].
ونسَخَ اللهُ الوجوبَ، ولم يَنْسَخِ الفضلَ والعملَ به، وإنّما نسَخَ اللهُ التأكيدَ والإلزامَ في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾.
وآيةُ المواريثِ لا تدُلُّ على ما يُخالفُ آيةَ الوصيَّةِ، لأنّ الوصيَّةَ تكونُ في بعضِ المالِ، والإرثَ في باقِيهِ، وذلك لقولِهِ تعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ﴾ [النساء: ١٢].
القولُ الثاني: وجوبُ الوصيَّةِ وإحكامُ الآيةِ، وعدمُ نسخِها بكاملِها، وأنّ ما نُسِخَ هو فرضُ الوصيَّةِ للوارثِ فحَسْبُ، لأنّ اللهَ قَسَمَ له حقَّه وبيَّنَهُ له، وهو قولُ الحسَنِ، والضحّاكِ، وطاوسِ بنِ كَيْسانَ، وقال به الطبريُّ وغيرُهُ[[«تفسير الطبري» (٣/١٣٨).]].
وقد روى البخاريُّ ومسلمٌ، مِن حديثِ طَلْحةَ بنِ مصرِّفٍ، قال: «سَأَلْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ أبي أوْفى رضي الله عنهما: هَلْ كانَ النَّبِيُّ ﷺ أوْصى؟ فَقالَ: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلى النّاسِ الوَصِيَّةُ أوْ أُمِرُوا بِالوَصِيَّةِ؟ قالَ: أوْصى بِكِتابِ اللهِ»[[أخرجه البخاري (٢٧٤٠) (٤/٣)، ومسلم (١٦٣٤) (٣/١٢٥٦).]].
يُريدُ: أنّ النبيَّ ﷺ لمّا كان لا يُورَثُ، فكذلك لا يُوصِي بمالِه، ولكنَّه أوصى بما يعودُ على المسلِمِينَ بالتمسُّكِ بكتابِ الإسلامِ، وقد كان مِن عادةِ المسلِمِينَ أنْ يقولُوا للمريضِ إذا خِيفَ عليه الموتُ: «أوْصِ».
والقولُ ببقاءِ حُكْمِ الوصيَّةِ للأقرَبِينَ غيرِ الوارِثِينَ روايةٌ عن ابنِ عباسٍ، ومسروقٍ، ومسلمِ بنِ يسارٍ، والعلاءِ بنِ زيادٍ، وغيرِهم:
روى ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عِكْرِمةَ، عن ابنِ عباسٍ، قولَه: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ﴾، قال: «نسَخَ مَن يَرِثُ، ولم يَنْسَخِ الأقرَبِينَ الذين لا يَرِثُونَ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٢٨).]].
وروى عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عباسٍ، قولَه: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ﴾: «فنسَخَ مِن الوصيَّةِ الوالِدَيْنِ، وأثبَتَ الوصيَّةَ للأقرَبِينَ الذين لا يَرِثُونَ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٣٠).]].
وروى عن ابنِ طاوُسٍ، عن أبيهِ، قال: «كانتِ الوصيَّةُ قبلَ المِيراثِ للوالِدَيْنِ والأقرَبِينَ، فلمّا نزَلَ الميراثُ، نَسَخَ الميراثُ مَن يَرِثُ، وبَقِيَ مَن لا يَرِثُ، فمَن أوْصى لذي قَرابَتِهِ، لم تَجُزْ وصيتُهُ، فأنزَلَ اللهُ بعدَ هذا: ﴿ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إنْ كانَ لَهُ ولَدٌ فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ووَرِثَهُ أبَواهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ [النساء: ١١]، فبَيَّنَ اللهُ سبحانَهُ ميراثَ الوالدَيْنِ، وأقَرَّ وصيَّةَ الأقرَبِينَ في ثُلُثِ مالِ الميتِ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٢٩ ـ ١٣٠).]].
وبعضُ مَن قال بالنسخِ قَيَّدَ مشروعيَّةَ أصلِ الوصيَّةِ بقراباتِ المُوصِي، وأنّه لو أوْصى لغيرِهم، بطَلَتْ، قال به جابرُ بنُ زيدٍ، والشعبيُّ، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، والحسنُ البصريُّ[[«تفسير الطبري» (٣/١٢٨ ـ ١٣٣)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٥٧٦)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٩٩).]].
{"ayah":"كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق