الباحث القرآني

(p-١٤٦)(﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾) اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ لِبَيانِ حُكْمِ المالِ بَعْدَ مَوْتِ صاحِبِهِ، فَإنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ تَشْرِيعٌ ولَمْ يَفْتَتِحْ بِـ ”يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا“ لِأنَّ الوَصِيَّةَ كانَتْ مَعْرُوفَةً قَبْلَ الإسْلامِ، فَلَمْ يَكُنْ شَرْعُها إحْداثَ شَيْءٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ، لِذَلِكَ لا يَحْتاجُ فِيها إلى مَزِيدِ تَنْبِيهٍ لِتَلَقِّي الحُكْمِ، ومُناسَبَةُ ذِكْرِهِ أنَّهُ تَغْيِيرٌ لِما كانُوا عَلَيْهِ في أوَّلِ الإسْلامِ مِن بَقايا عَوائِدِ الجاهِلِيَّةِ في أمْوالِ الأمْواتِ، فَإنَّهم كانُوا كَثِيرًا ما يَمْنَعُونَ القَرِيبَ مِنَ الإرْثِ بِتَوَهُّمِ أنَّهُ يَتَمَنّى مَوْتَ قَرِيبِهِ لِيَرِثَهُ، ورُبَّما فَضَّلُوا بَعْضَ الأقارِبِ عَلى بَعْضٍ، ولَمّا كانَ هَذا مِمّا يُفْضِي بِهِمْ إلى الإحَنِ، وبِها تَخْتَلُّ الحالَةُ الِاجْتِماعِيَّةُ بِإلْقاءِ العَداوَةِ بَيْنَ الأقارِبِ، كَما قالَ طَرَفَةُ: ؎وظُلْمُ ذَوِي القُرْبى أشُدُّ مَضاضَةً عَلى المَرْءِ مَن وقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ كانَ تَغْيِيرُها إلى حالِ العَدْلِ فِيها مِن أهَمِّ مَقاصِدِ الإسْلامِ، كَما بَيَّنّا تَفْصِيلَهُ فِيما تَقَدَّمَ في آيَةِ ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨] . أمّا مُناسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ حُكْمِ القِصاصِ، فَهو جَرَيانُ ذِكْرِ مَوْتِ القَتِيلِ ومَوْتِ القاتِلِ قِصاصًا. والقَوْلُ في (كُتِبَ) تَقَدَّمَ في الآيَةِ السّابِقَةِ، وهو ظاهِرٌ في الوُجُوبِ قَرِيبٌ مِنَ النَّصِّ فِيهِ. وتَجْرِيدُهُ مِن عَلامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ كَوْنِ مَرْفُوعِهِ مُؤَنَّثًا لَفْظًا لِاجْتِماعِ مُسَوِّغَيْنِ لِلتَّجْرِيدِ، وهُما كَوْنُ التَّأْنِيثِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، ولِلْفَصْلِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفِعْلِ بِفاصِلٍ، وقَدْ زَعَمَ الشَّيْخُ الرَّضِيُّ أنَّ اجْتِماعَ هَذَيْنِ المُسَوِّغَيْنِ يُرَجِّحُ تَجْرِيدَ الفِعْلِ عَنْ عَلامَةِ التَّأْنِيثِ والدَّرْكُ عَلَيْهِ. ومَعْنى حُضُورِ المَوْتِ حُضُورُ أسْبابِهِ وعَلاماتِهِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ المَوْتَ المُتَخَيَّلَ لِلنّاسِ قَدْ حَضَرَ عِنْدَ المَرِيضِ ونَحْوِهِ لِيُصَيِّرَهُ مَيِّتًا، قالَ تَأبَّطَ شَرًّا: ؎والمَوْتُ خَزْيانُ يَنْظُرُ فَإنَّ حُضُورَ الشَّيْءِ حُلُولُهُ ونُزُولُهُ وهو ضِدُّ الغَيْبَةِ، فَلَيْسَ إطْلاقُ (حَضَرَ) هُنا مِن قَبِيلِ إطْلاقِ الفِعْلِ عَلى مُقارَبَةِ الفِعْلِ نَحْوَ: قَدْ قامَتِ الصَّلاةُ، ولا عَلى مَعْنى إرادَةِ الفِعْلِ كَما في ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦]، ﴿فَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨] ولَكِنَّهُ (p-١٤٧)إسْنادٌ مَجازِيٌّ إلى المَوْتِ؛ لِأنَّهُ حُضُورُ أسْبابِهِ، وأمّا الحُضُورُ فَمُسْتَعارٌ لِلْعَرْوِ والظُّهُورِ، ثُمَّ إنَّ إطْلاقَ المَوْتِ عَلى أسْبابِهِ شائِعٌ قالَ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطّائِيُّ: وقُلْ لَهم بادِرُوا بِالعَفْوِ والتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئُكم إنِّي أنا المَوْتُ والخَيْرُ المالُ، وقِيلَ الكَثِيرُ مِنهُ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ في المالِ قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ الوَصِيَّةَ لا تَجِبُ إلّا في المالِ الكَثِيرِ. كانَتْ عادَةُ العَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ أنَّ المَيِّتَ إذا كانَ لَهُ ولَدٌ أوْ أوْلادٌ ذُكُورٌ اسْتَأْثَرُوا بِمالِهِ كُلِّهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ولَدٌ ذَكَرٌ اسْتَأْثَرَ بِمالِهِ أقْرَبُ الذُّكُورِ لَهُ مِن أبٍ أوْ عَمٍّ أوِ ابْنِ عَمِّ الأدْنِينَ فالأدْنِينَ، وكانَ صاحِبُ المالِ رُبَّما أوْصى بِبَعْضِ مالِهِ أوْ بِجَمِيعِهِ لِبَعْضِ أوْلادِهِ أوْ قَرابَتِهِ أوْ أصْدِقائِهِ، فَلَمّا اسْتَقَرَّ المُسْلِمُونَ بِدارِ الهِجْرَةِ واخْتَصُّوا بِجَماعَتِهِمْ شَرَّعَ اللَّهُ لَهم تَشْرِيكَ بَعْضِ القَرابَةِ في أمْوالِهِمْ مِمَّنْ كانُوا قَدْ يُهْمِلُونَ تَوْرِيثَهُ مِنَ البَناتِ والأخَواتِ والوالِدَيْنِ في حالِ وُجُودِ البَنِينَ، ولِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الأبْناءَ في هَذِهِ الآيَةِ. وعَبَّرَ بِفِعْلِ (تَرَكَ) وهو ماضٍ عَنْ مَعْنى المُسْتَقْبَلِ، أيْ: إنْ يَتْرُكْ، لِلتَّنْبِيهِ عَلى اقْتِرابِ المُسْتَقْبَلِ مِنَ المُضِيِّ إذا أوْشَكَ أنْ يَصِيرَ ماضِيًا، والمَعْنى: إنْ أوْشَكَ أنْ يَتْرُكَ خَيْرًا أوْ شارَفَ أنْ يَتْرُكَ خَيْرًا، كَما قَدَّرُوهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ٩] في سُورَةِ النِّساءِ، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] ﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ [يونس: ٩٧] في سُورَةِ يُونُسَ؛ أيْ: حَتّى يُقارِبُوا رُؤْيَةَ العَذابِ. والوَصِيَّةُ فَعِيلَةٌ مِن وصّى فَهي المُوَصّى بِها، فَوَقَعَ الحَذْفُ والإيصالُ لِيَتَأتّى بِناءُ فَعِيلَةٍ بِمَعْنى مُفَعُولَةٍ؛ لِأنَّ زِنَةَ فَعِيلَةٍ لا تُبْنى مِنَ القاصِرِ. والوَصِيَّةُ الأمْرُ بِفِعْلِ شَيْءٍ أوْ تَرْكِهِ مِمّا فِيهِ نَفْعٌ لِلْمَأْمُورِ أوْ لِلْآمِرِ في مَغِيبِ الآمِرِ في حَياتِهِ أوْ فِيما بَعْدَ مَوْتِهِ، وشاعَ إطْلاقُها عَلى أمْرٍ بِشَيْءٍ يَصْلُحُ بَعْدَ مَوْتِ المُوصِي، وفي حَدِيثِ العِرْباضِ بْنِ سارِيَةَ قالَ: «وعَظَنا رَسُولُ اللَّهِ مَوْعِظَةً وجَلَتْ مِنها القُلُوبُ وذَرَفَتْ مِنها العُيُونُ، فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ كَأنَّها مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأوْصِنا» إلَخْ. والتَّعْرِيفُ في الوَصِيَّةِ تَعْرِيفُ الجِنْسِ؛ أيْ: كُتِبَ عَلَيْكم ما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَكم بِالوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، فَقَوْلُهُ: (لِلْوالِدَيْنِ) مُتَعَلِّقٌ بِالوَصِيَّةِ مَعْمُولٌ لَهُ؛ لِأنَّ اسْمَ المَصْدَرِ يَعْمَلُ عَمَلَ المَصْدَرِ، ولا يَحْتاجُ إلى تَأْوِيلِهِ بِـ ”أنْ“ والفِعْلِ، و(الوَصِيَّةُ) مَرْفُوعٌ نائِبٌ عَنِ الفاعِلِ لِفِعْلِ (كُتِبَ) و(إذا) ظَرْفٌ. (p-١٤٨)والمَعْرُوفُ: الفِعْلُ الَّذِي تَأْلَفُهُ العُقُولُ ولا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ فَهو الشَّيْءُ المَحْبُوبُ المَرْضِيُّ، سُمِّيَ مَعْرُوفًا؛ لِأنَّهُ لِكَثْرَةِ تَداوُلِهِ والتَّأنُّسِ بِهِ صارَ مَعْرُوفًا بَيْنَ النّاسِ، وضِدُّهُ يُسَمّى المُنْكَرَ، وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. والمُرادُ بِالمَعْرُوفِ هُنا العَدْلُ الَّذِي لا مُضارَةَ فِيهِ، ولا يَحْدُثُ مِنهُ تَحاسُدٌ بَيْنَ الأقارِبِ بِأنْ يَنْظُرَ المُوصِي في تَرْجِيحِ مَن هو الأوْلى بِأنْ يُوصِيَ إلَيْهِ لِقُوَّةِ قَرابَةٍ أوْ شِدَّةِ حاجَةٍ، فَإنَّهُ إنْ تَوَخّى ذَلِكَ اسْتَحْسَنَ فِعْلَهُ النّاسُ ولَمْ يَلُومُوهُ، ومِنَ المَعْرُوفِ في الوَصِيَّةِ ألّا تَكُونَ لِلْإضْرارِ بِوارِثٍ أوْ زَوْجٍ أوْ قَرِيبٍ وسَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ [البقرة: ١٨٢] والباءُ في (بِالمَعْرُوفِ) لِلْمُلابَسَةِ، والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الوَصِيَّةِ. وقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ: (بِالمَعْرُوفِ) تَقْدِيرُ ما يُوصِي بِهِ وتَمْيِيزُ مَن يُوصى لَهُ، ووَكَلَ ذَلِكَ إلى نَظَرِ المُوصِي فَهو مُؤْتَمَنٌ عَلى تَرْجِيحِ مَن هو أهْلٌ لِلتَّرْجِيحِ في العَطاءِ، كَما أشارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ”﴿عَلى المُتَّقِينَ﴾“ . وقَوْلُهُ: (حَقًّا) مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِـ (كُتِبَ) لِأنَّهُ بِمَعْناهُ، و(عَلى المُتَّقِينَ) صِفَةٌ؛ أيْ: حَقًّا كائِنًا عَلى المُتَّقِينَ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مَعْمُولَ ”حَقًّا“ ولا مانِعَ مِن أنْ يَعْمَلَ المَصْدَرُ المُؤَكِّدُ في شَيْءٍ، ولا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا بِما زادَ عَلى مَعْنى فِعْلِهِ؛ لِأنَّ التَّأْكِيدَ حاصِلٌ بِإعادَةِ مَدْلُولِ الفِعْلِ، نَعَمْ إذا أوْجَبَ ذَلِكَ المَعْمُولُ لَهُ تَقْيِيدًا يَجْعَلُهُ نَوْعًا أوْ عَدَدًا؛ فَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنِ التَّأْكِيدِ. وخَصَّ هَذا الحَقَّ بِالمُتَّقِينَ تَرْغِيبًا في الرِّضا بِهِ؛ لِأنَّ ما كانَ مِن شَأْنِ المُتَّقِي فَهو أمْرٌ نَفِيسٌ، فَلَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذا الوُجُوبَ عَلى المُتَّقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ العُصاةِ، بَلْ مَعْناهُ أنَّ هَذا الحُكْمَ هو مِنَ التَّقْوى وأنَّ غَيْرَهُ مَعْصِيَةٌ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: خَصَّ المُتَّقُونَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا؛ لِلرُّتْبَةِ لِيَتَبارى النّاسُ إلَيْها. وخَصَّ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ؛ لِأنَّهم مَظِنَّةُ النِّسْيانِ مِنَ المُوصِي؛ لِأنَّهم كانُوا يُوَرِّثُونَ الأوْلادَ أوْ يُوصُونَ لِسادَةِ القَبِيلَةِ. وقَدَّمَ الوالِدَيْنِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُما أرْجَحُ في التَّبْدِيَةِ بِالوَصِيَّةِ، وكانُوا قَدْ يُوصُونَ بِإيثارِ بَعْضِ أوْلادِهِمْ عَلى بَعْضٍ أوْ يُوصُونَ بِكَيْفِيَّةِ تَوْزِيعِ أمْوالِهِمْ عَلى أوْلادِهِمْ، ومِن أشْهَرِ الوَصايا في ذَلِكَ وصِيَّةُ نِزارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنانَ إذْ أوْصى لِابْنِهِ مُضَرٍ بِالحَمْراءِ، ولِابْنِهِ رَبِيعَةَ بِالفَرَسِ، (p-١٤٩)ولِابْنِهِ أنْمارَ بِالحِمارِ، ولِابْنِهِ إيادٍ بِالخادِمِ، وجَعَلَ القِسْمَةَ في ذَلِكَ لِلْأفْعى الجُرْهُمِيِّ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ العَرَبَ كانُوا يُوصُونَ لِلْأباعِدِ طَلَبًا لِلْفَخْرِ ويَتْرُكُونَ الأقْرَبِينَ في الفَقْرِ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِأجْلِ العَداوَةِ والشَّنَآنِ. وهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ في إيجابِ الوَصِيَّةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾) صَرِيحٌ في ذَلِكَ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّها ثَبَتَ بِها حُكْمُ وُجُوبِ الإيصاءِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، وقَدْ وقَّتَ الوُجُوبَ بِوَقْتِ حُضُورِ المَوْتِ، ويَلْحَقُ بِهِ وقْتُ تَوَقُّعِ المَوْتِ، ولَمْ يُعَيِّنِ المِقْدارَ المُوصّى بِهِ، وقَدْ حَرَّضَتِ السُّنَّةُ عَلى إعْدادِ الوَصِيَّةِ مِن وقْتِ الصِّحَّةِ بِقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ «ما حَقُّ امْرِئٍ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» أيْ: لِأنَّهُ قَدْ يَفْجَأهُ المَوْتُ. والآيَةُ تُشْعِرُ بِتَفْوِيضِ تَعْيِينِ المِقْدارِ المُوَصّى بِهِ إلى ما يَراهُ المُوصِي، وأمَرَهُ بِالعَدْلِ بِقَوْلِهِ: (﴿بِالمَعْرُوفِ﴾) فَتَقَرَّرَ حُكْمُ الإيصاءِ في صَدْرِ الإسْلامِ لِغَيْرِ الأبْناءِ مِنَ القَرابَةِ زِيادَةً عَلى ما يَأْخُذُهُ الأبْناءُ، ثُمَّ إنَّ آيَةَ المَوارِيثِ الَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةَ نَسْخًا مُجْمَلًا، فَبَيَّنَتْ مِيراثَ كُلِّ قَرِيبٍ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ يَبْقَ حَقُّهُ مَوْقُوفًا عَلى إيصاءِ المَيِّتِ لَهُ، بَلْ صارَ حَقُّهُ ثابِتًا مُعَيَّنًا رِضِيَ المَيِّتُ أمْ كَرِهَ، فَيَكُونُ تَقَرُّرُ حُكْمِ الوَصِيَّةِ في أوَّلِ الأمْرِ اسْتِئْناسًا لِمَشْرُوعِيَّةِ فَرائِضِ المِيراثِ، ولِذَلِكَ صَدَّرَ اللَّهُ تَعالى آيَةَ الفَرائِضِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] فَجَعَلَها وصِيَّةَ نَفْسِهِ سُبْحانَهُ إبْطالًا لِلْمِنَّةِ الَّتِي كانَتْ لِلْمُوصِي. وبِالفَرائِضِ نُسِخَ وُجُوبُ الوَصِيَّةِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ، وبَقِيَتِ الوَصِيَّةُ مَندُوبَةً بِناءً عَلى أنَّ الوُجُوبَ إذا نُسِخَ بَقِيَ النَّدْبُ، وإلى هَذا ذَهَبَ جُمْهُورُ أهْلِ النَّظَرِ مِنَ العُلَماءِ الحَسَنُ وقَتادَةُ والنَّخَعِيُّ والشَّعْبِيُّ ومالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، فَفي البُخارِيِّ في تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّساءِ «عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: عادَنِي النَّبِيءُ وأبُو بَكْرٍ في بَنِي سَلَمَةَ ماشِيَيْنِ فَوَجَدَنِي النَّبِيءُ لا أعْقِلُ فَدَعا بِماءٍ فَتَوَضَّأ مِنهُ ثُمَّ رَشَّ عَلَيَّ فَأفَقْتُ فَقُلْتُ: ما تَأْمُرُنِي أنْ أصْنَعَ في مالِي يا رَسُولَ اللَّهِ فَنَزَلَتْ ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] الآيَةَ» ا هـ. فَدَلَّ عَلى أنَّ آخِرَ عَهْدٍ بِمَشْرُوعِيَّةِ الوَصايا سُؤالُ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وفي البُخارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَ المالُ لِلْوَلَدِ وكانَتِ الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ فَنَسَخَ اللَّهُ مِن ذَلِكَ ما أحَبَّ إلَخْ. وقِيلَ: نُسِخَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الوَصِيَّةِ فَصارَتْ مَمْنُوعَةً قالَهُ إبْراهِيمُ بْنُ خُثَيْمٍ وهو شُذُوذٌ (p-١٥٠)وخِلافٌ لِما اشْتُهِرَ في السُّنَّةِ إلّا أنْ يُرِيدَ بِأنَّها صارَتْ مَمْنُوعَةً لِلْوارِثِ، وقِيلَ: الآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ، والمَقْصُودُ بِها مِن أوَّلِ الأمْرِ الوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الوارِثِ مِنَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ مِثْلَ الأبَوَيْنِ الكافِرَيْنِ والعَبْدَيْنِ والأقارِبِ الَّذِينَ لا مِيراثَ لَهم، وبِهَذا قالَ الضَّحّاكُ والحَسَنُ في رِوايَةٍ وطاوُسٌ واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، والأصَحُّ هو الأوَّلُ، ثُمَّ القائِلُونَ بِبَقاءِ حُكْمِ الوَصِيَّةِ بَعْدَ النَّسْخِ مِنهم مَن قالَ: إنَّها بَقِيَتْ مَفْرُوضَةً لِلْأقْرَبِينَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ وطاوُسٍ والضَّحّاكِ والطَّبَرِيِّ؛ لِأنَّهم قالُوا: هي غَيْرُ مَنسُوخَةٍ، وقالَ بِهِ مِمَّنْ قالَ إنَّها مَنسُوخَةٌ - ابْنُ عَبّاسٍ ومَسْرُوقٌ ومُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ والعَلاءُ بْنُ زِيادٍ، ومِنهم مَن قالَ: بَقِيَتْ مَندُوبَةً لِلْأقْرَبِينَ وغَيْرِهِمْ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ إلّا أنَّهُ إذا كانَ أقارِبُهُ في حاجَةٍ ولَمْ يُوصِ لَهم فَبِئْسَ ما صَنَعَ ولا تَبْطُلُ الوَصِيَّةُ، وقِيلَ: تَخْتَصُّ بِالقَرابَةِ، فَلَوْ أوْصى لِغَيْرِهِمْ بَطُلَتْ وتُرَدُّ عَلى أقارِبِهِ قالَهُ جابِرُ بْنُ زَيْدٍ والشَّعْبِيُّ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ والحَسَنُ البَصْرِيُّ، والَّذِي عَلَيْهِ قَوْلُ مَن تُعْتَمَدُ أقْوالُهم أنَّ الوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الوارِثِ إذا لَمْ يَخْشَ بِتَرْكِها ضَياعَ حَقِّ أحَدٍ عِنْدَ المُوصِي - مَطْلُوبَةٌ، وأنَّها مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الوُجُوبِ والسُّنَّةِ المُؤَكَّدَةِ لِحَدِيثِ «لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ لَهُ مالٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ» إذا كانَ هَذا الحَدِيثُ قَدْ قالَهُ النَّبِيءُ ﷺ بَعْدَ مَشْرُوعِيَّةِ الفَرائِضِ، فَإنْ كانَ قَبْلَ ذَلِكَ كانَ بَيانًا لِآيَةِ الوَصِيَّةِ وتَحْرِيضًا عَلَيْها، ولَمْ يَزَلِ المُسْلِمُونَ يَرَوْنَ الوَصِيَّةَ في المالِ حَقًّا شَرْعِيًّا، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ قالَ: سَألْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبِي أوْفى هَلْ كانَ النَّبِيءُ أوْصى فَقالَ: لا، فَقُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَتْ عَلى النّاسِ الوَصِيَّةُ، ولَمْ يُوَصِّ ؟ قالَ: أوْصى بِكِتابِ اللَّهِ ا هـ. يُرِيدُ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ لَمّا كانَ لا يُورَثُ فَكَذَلِكَ لا يُوصِي بِمالِهِ، ولَكِنَّهُ أوْصى بِما يَعُودُ عَلى المُسْلِمِينَ؛ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتابِ الإسْلامِ، وقَدْ كانَ مِن عادَةِ المُسْلِمِينَ أنْ يَقُولُوا لِلْمَرِيضِ إذا خِيفَ عَلَيْهِ المَوْتُ أنْ يَقُولُوا لَهُ: أوْصِ. وقَدِ اتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ لا تَكُونُ لِوارِثٍ لِما رَواهُ أصْحابُ السُّنَنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ خارِجَةَ وما رَواهُ أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ عَنْ أبِي أُمامَةَ كِلاهُما يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيءَ قالَ: «إنَّ اللَّهَ أعْطى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ ألا لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ» وذَلِكَ في حَجَّةِ الوَداعِ، فَخَصَّ بِذَلِكَ عُمُومَ الوالِدَيْنِ وعُمُومَ الأقْرَبِينَ وهَذا التَّخْصِيصُ نَسْخٌ؛ لِأنَّهُ وقَعَ بَعْدَ العَمَلِ بِالعامِّ، وهو وإنْ كانَ خَبَرَ أحادٍ، فَقَدِ اعْتُبِرَ مِن قَبِيلِ المُتَواتِرِ؛ لِأنَّهُ سَمِعَهُ الكافَّةُ وتَلَقّاهُ عُلَماءُ الأُمَّةِ بِالقَبُولِ. (p-١٥١)والجُمْهُورُ عَلى أنَّ الوَصِيَّةَ بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ باطِلَةٌ لِلْحَدِيثِ المَشْهُورِ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ أنَّهُ مَرَضَ فَعادَهُ النَّبِيءُ ﷺ فاسْتَأْذَنَهُ في أنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مالِهِ فَمَنَعَهُ إلى أنْ قالَ لَهُ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّكَ إنْ تَدَعْ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهم عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النّاسَ»، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي ورَثَةٌ، ولَوْ عَصَبَةٌ دُونَ بَيْتِ المالِ؛ جازَ لِلْمُوصِي أنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ مالِهِ، ومَضى ذَلِكَ أخْذًا بِالإيماءِ إلى العِلَّةِ في قَوْلِهِ: «إنَّكَ إنْ تَدَعْ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ» إلَخْ. وقالَ: إنَّ بَيْتَ المالِ جامِعٌ لا عاصِبٌ، ورُوِيَ أيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وابْنِ عَبّاسٍ ومَسْرُوقٍ وإسْحاقَ بْنِ راهَوَيْهِ، واخْتُلِفَ في إمْضائِها لِلْوارِثِ إذا أجازَها بَقِيَّةُ الوَرَثَةِ، ومَذْهَبُ العُلَماءِ مِن أهْلِ الأمْصارِ أنَّها إذا أجازَها الوارِثُ مَضَتْ، هَذا وقَدِ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى عَيَّنَ كَيْفِيَّةَ قِسْمَةِ تَرِكَةِ المَيِّتِ بِآيَةِ المَوارِيثِ، وأنَّ آيَةَ الوَصِيَّةِ المَذْكُورَةَ هُنا صارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مُرادٍ مِنها ظاهِرُها، فالقائِلُونَ بِأنَّها مُحْكَمَةٌ قالُوا: بَقِيَتِ الوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الوارِثِ، والوَصِيَّةُ لِلْوارِثِ بِما زادَ عَلى نَصِيبِهِ مِنَ المِيراثِ، فَلا نَسْخَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ. والقائِلُونَ بِالنَّسْخِ يَقُولُ مِنهم مَن يَرَوْنَ الوَصِيَّةَ لَمْ تَزَلْ مَفْرُوضَةً لِغَيْرِ الوارِثِ: إنَّ آيَةَ المَوارِيثِ نَسَخَتِ الِاخْتِيارَ في المُوَصّى لَهُ، والإطْلاقَ في المِقْدارِ المُوصى بِهِ، ومَن يَرى مِنهُمُ الوَصِيَّةَ قَدْ نُسِخَ وُجُوبُها وصارَتْ مَندُوبَةً يَقُولُونَ: إنَّ آيَةَ المَوارِيثِ نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةَ كُلَّها فَأصْبَحَتِ الوَصِيَّةُ المَشْرُوعَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ مَنسُوخَةً بِآيَةِ المَوارِيثِ لِلْإجْماعِ عَلى أنَّ آيَةَ المَوارِيثِ نَسَخَتْ عُمُومَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ الوارِثِينَ، ونَسَخَتِ الإطْلاقَ الَّذِي في لَفْظِ الوَصِيَّةِ، والتَّخْصِيصَ بَعْدَ العَمَلِ بِالعامِّ، والتَّقْيِيدَ بَعْدَ العَمَلِ بِالمُطْلَقِ، كِلاهُما نُسِخَ، وإنْ كانَ لَفْظُ آيَةِ المَوارِيثِ لا يَدُلُّ عَلى ما يُناقِضُ آيَةَ الوَصِيَّةِ، لِاحْتِمالِها أنْ يَكُونَ المِيراثُ بَعْدَ إعْطاءِ الوَصايا أوْ عِنْدَ عَدَمِ الوَصِيَّةِ، بَلْ ظاهِرُها ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ﴾ [النساء: ١١] وإنْ كانَ الحَدِيثانِ الوارِدانِ في ذَلِكَ آحادًا لا يَصْلُحانِ لِنَسْخِ القُرْآنِ عِنْدَ مَن لا يَرَوْنَ نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الآحادِ، فَقَدْ ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ وهو النَّدْبُ أوِ الوُجُوبُ عَلى الخِلافِ في غَيْرِ الوارِثِ وفي الثُّلُثِ بِدَلِيلِ الإجْماعِ المُسْتَنِدِ لِلْأحادِيثِ وفِعْلِ الصَّحابَةِ، ولَمّا ثَبَتَ حُكْمٌ جَدِيدٌ لِلْوَصِيَّةِ فَهو حُكْمٌ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنَ الآيَةِ المَنسُوخَةِ، بَلْ هو حُكْمٌ مُسْتَنِدٌ لِلْإجْماعِ، هَذا تَقْرِيرُ أصْلِ اسْتِنْباطِ العُلَماءِ في هَذِهِ المَسْألَةِ، وفِيهِ ما يَدْفَعُ عَنِ النّاظِرِ إشْكالاتٌ كَثِيرَةٌ لِلْمُفَسِّرِينَ والفُقَهاءِ في تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ النَّسْخِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب