الباحث القرآني
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ أيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ، وقَوْلُهُ: ﴿إذا حَضَرَ﴾ لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ ذِكْرَ الوَصِيَّةِ عِنْدَ حُلُولِ المَوْتِ، لِأنَّهُ في شُغْلٍ عَنْهُ، ولَكِنْ تَكُونُ العَطِيَّةُ بِما تَقَدَّمَ مِنَ الوَصِيَّةِ عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾، والخَيْرُ: المالُ في قَوْلِ الجَمِيعِ، قالَ مُجاهِدٌ: الخَيْرُ في القُرْآنِ كُلِّهِ المالُ.
﴿وَإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ (p-٢٣٢)
[العادِياتِ: ٨] أيِ المالِ، ﴿إنِّي أحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ [ص: ٣٢]. ﴿فَكاتِبُوهم إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا﴾ [النُّورِ: ٣٣] وقالَ شُعَيْبٌ: ﴿إنِّي أراكم بِخَيْرٍ﴾ [هُودٍ: ٨٤] يَعْنِي الغِنى والمالَ.
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في ثُبُوتِ حُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ مِنَ التّابِعِينَ والفُقَهاءِ إلى أنَّ العَمَلَ بِها كانَ واجِبًا قَبْلَ فَرْضِ المَوارِيثِ لِئَلّا يَضَعَ الرَّجُلُ مالَهُ في البُعَداءِ طَلَبًا لِلسُّمْعَةِ والرِّياءِ، فَلَمّا نَزَلَتْ آيَةُ المَوارِيثِ في تَعْيِينِ المُسْتَحِقِّينَ، وتَقْدِيرِ ما يَسْتَحِقُّونَ، نُسِخَ بِها وُجُوبُ الوَصِيَّةِ ومَنَعَتِ السُّنَّةُ مِن جَوازِها لِلْوَرَثَةِ، وقالَ آخَرُونَ: كانَ حُكْمُها ثابِتًا في الوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ، والأقْرَبِينَ حَقٌّ واجِبٌ، فَلَمّا نَزَلَتْ آيُ المَوارِيثِ وفُرِضَ مِيراثُ الأبَوَيْنِ نُسِخَ بِها الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وكُلِّ وارِثٍ، وبَقِيَ فَرْضُ الوَصِيَّةِ لِلْأقْرَبِينَ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ عَلى حالَةٍ، وهَذا قَوْلُ الحَسَنِ، وقَتادَةَ، وطاوُسٍ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
فَإنْ أوْصى بِثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرابَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ قائِلُو هَذا القَوْلِ في حُكْمِ وصِيَّتِهِ عَلى ثَلاثَةِ مَذاهِبَ: أحَدُها: أنْ يَرُدَّ ثُلُثَ الثُّلُثِ عَلى قَرابَتِهِ ويَكُونَ ثُلُثا الثُّلُثِ لِمَن أوْصى لَهُ بِهِ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ.
والثّانِي: أنْ يَرُدَّ ثُلُثا الثُّلُثِ عَلى قَرابَتِهِ ويَكُونَ ثُلُثا الثُّلُثِ لِمَن أوْصى لَهُ بِهِ، وهَذا قَوْلُ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
والثّالِثُ: أنَّهُ يَرُدُّ الثُّلُثَ كُلَّهُ عَلى قَرابَتِهِ، وهَذا قَوْلُ طاوُسٍ.
واخْتُلِفَ في قَدْرِ المالِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُوصِيَ مِنهُ عَلى ثَلاثَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّهُ ألْفُ دِرْهَمٍ، تَأْوِيلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أنَّ الخَيْرَ ألْفُ دِرْهَمٍ وهَذا قَوْلُ عَلِيٍّ.
والثّانِي: مِن ألْفِ دِرْهَمٍ إلى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وهَذا قَوْلُ إبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ.
والثّالِثُ: أنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وأنَّ الوَصِيَّةَ تَجِبُ في قَلِيلِ المالِ وكَثِيرِهِ، وهَذا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ بِالمَعْرُوفِ وجْهَيْنِ: (p-٢٣٣)
أحَدُهُما: بِالعَدْلِ الوَسَطِ الَّذِي لا بَخْسَ فِيهِ ولا شَطَطَ.
والثّانِي: يَعْنِي بِالمَعْرُوفِ مِن مالِهِ دُونَ المَجْهُولِ.
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ يَعْنِي بِالتَّقْوى مِنَ الوَرَثَةِ أنْ لا يُسْرِفَ، والأقْرَبِينَ أنْ لا يَبْخَلَ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الأجِلُ فالأجِلُ، يَعْنِي الأحْوَجَ فالأحْوَجَ.
وَغايَةُ ما لا سَرَفَ فِيهِ: الثُّلُثُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: « (الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ)» . ورَوى الحَسَنُ أنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما وصَّيا بِالخُمُسِ وقالا: يُوصِي بِما رَضِيَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، بِالخُمُسِ، وكانَ يَقُولُ: الخُمُسُ مَعْرُوفٌ، والرُّبُعُ جُهْدٌ، والثُّلُثُ غايَةُ ما تُجِيزُهُ القُضاةُ.
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ يَعْنِي فَمَن غَيَّرَ الوَصِيَّةَ بَعْدَما سَمِعَها، وإنَّما جُعِلَ اللَّفْظُ مُذَكَّرًا وإنْ كانَتِ الوَصِيَّةُ مُؤَنَّثَةً لِأنَّهُ أرادَ قَوْلَ المُوصِي، وقَوْلُهُ مُذَكَّرٌ.
﴿فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ أيْ يَسْمَعُونَهُ ويَعْدِلُونَ بِهِ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ، إمّا مَيْلًا أوْ خِيانَةً، ولِلْمَيِّتِ أجْرُ قَصْدِهِ وثَوابُ وصِيَّتِهِ، وإنْ غُيِّرَتْ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ سَمِيعٌ لِقَوْلِ المُوصِي، عَلِيمٌ بِفِعْلِ الوَصِيِّ.
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في تَأْوِيلِ ذَلِكَ، عَلى خَمْسَةِ أقاوِيلَ: أحَدُها: أنَّ تَأْوِيلَهُ فَمَن حَضَرَ مَرِيضًا، وهو يُوصِي عِنْدَ إشْرافِهِ عَلى المَوْتِ، فَخافَ أنْ يُخْطِئَ في وصِيَّتِهِ، فَيَفْعَلُ ما لَيْسَ لَهُ أوْ أنْ يَتَعَمَّدَ جَوْرًا فِيها، فَيَأْمُرَ بِما لَيْسَ لَهُ، فَلا حَرَجَ عَلى مَن حَضَرَهُ فَسَمِعَ ذَلِكَ مِنهُ، أنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ورَثَتِهِ، بِأنْ يَأْمُرَهُ بِالعَدْلِ في وصِيَّتِهِ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. (p-٢٣٤)
والثّانِي: أنَّ تَأْوِيلَها: فَمَن خافَ مِن أوْصِياءِ المَيِّتِ جَنَفًا في وصِيَّتِهِ، فَأصْلَحَ بَيْنَ ورَثَتِهِ وبَيْنَ المُوصى لَهم فِيما أُوصِيَ بِهِ لَهم حَتّى رَدَّ الوَصِيَّةَ إلى العَدْلِ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وقَتادَةَ.
والثّالِثُ: أنَّ تَأْوِيلَها: فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا في عَطِيَّتِهِ لِوَرَثَتِهِ عِنْدَ حُضُورِ أجَلِهِ، فَأعْطى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ أنْ يُصْلِحَ بَيْنَ ورَثَتِهِ في ذَلِكَ، وهَذا قَوْلُ عَطاءٍ.
والرّابِعُ: أنَّ تَأْوِيلَها: فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا، أوْ إثْمًا في وصِيَّتِهِ لِغَيْرِ ورَثَتِهِ، بِما يَرْجِعُ نَفْعُهُ إلى ورَثَتِهِ فَأصْلَحَ بَيْنَ ورَثَتِهِ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ طاوُسٍ.
والخامِسُ: أنَّ تَأْوِيلَها: فَمَن خافَ مِن مُوصٍ لِآبائِهِ وأقْرِبائِهِ جَنَفًا عَلى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَأصْلَحَ بَيْنَ الآباءِ والأقْرِباءِ، فَلا إثْمَ عَلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ السُّدِّيِّ.
وَفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الجَنَفَ الخَطَأُ، والإثْمَ العَمْدُ، وهَذا قَوْلُ السُّدِّيِّ.
والثّانِي: أنَّ الجَنَفَ المَيْلُ، والإثْمَ أنْ يَكُونَ قَدْ أثِمَ في أثَرَةِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ، وهَذا قَوْلُ عَطاءٍ وابْنِ زَيْدٍ.
والجَنَفُ في كَلامِ العَرَبِ هو الجَوْرُ والعُدُولُ عَنِ الحَقِّ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ هُمُ المَوْلى وهم جَنَفُوا عَلَيْنا وإنّا مِن لِقائِهِمُ لَزُورُ
{"ayahs_start":180,"ayahs":["كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ","فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَاۤ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ یُبَدِّلُونَهُۥۤۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ","فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصࣲ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمࣰا فَأَصۡلَحَ بَیۡنَهُمۡ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"كُتِبَ عَلَیۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَیۡرًا ٱلۡوَصِیَّةُ لِلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق