الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ الآية. يعني: إذا تيقن حضور الموت، ورأى أعلامه، ولم يشكُك في قربهِ منه. فقوله: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ يريد: أسبابَ الموت ومقدماته، من العلل والأمراض. وكان الإيصاء فرضًا قبل نزول أسباب الموت، ولكن يتضيق عند نزول سبب الموت حتى لا يجوز التأخير، فلذلك [[في (ش): (فكذلك).]] قال: ﴿إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ ليس أنه قبل الحضور لم يكتب عليه [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، "تفسير الثعلبي" 2/ 193، "البحر المحيط" 2/ 16، وذكر قولًا آخر: وهو أن المراد بالموت حقيقته لا مقدماته، فيكون الخطاب متوجهًا للأوصياء والورثة أن ينفذوا الوصية.]]. وإنما قال: ﴿كُتِبَ﴾، لأنه أراد بالوصية الإيصاء، أو للفصل بين الفعل والوصية؛ لأن الكلام لما طال كان الفاصل بين المؤنث والفعل كالعوض من تاء التأنيث، والعرب تقول: حَضَرَ القاضي امرأةٌ، فَيُذَكِّرون؛ لأن القاضي فَصَل بين الفعل وبين المرأة. وقد أحكمنا هذا فيما سبق [[ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 60، "المحرر الوجيز" 2/ 92 - 94.]]. ورفع ﴿الْوَصِيَّةُ﴾ من وجهين: أحدُهما: على ما لم يسم فاعله، والثاني: على الابتداء، ويكون ﴿لِلْوَالِدَيْنِ﴾ الخبر، وتكون الجملة في موضع رفعٍ بـ ﴿كُتِبَ﴾، كما تقول: قيل: عبدُ الله قائم، فترفع عبدَ الله بقائم، وقائمًا بعبد الله، وتكون الجملة في موضع رفعٍ بـ (قيل) [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 110، "تفسير الثعلبي" 2/ 193، "التفسير الكبير" 1/ 60، "البحر المحيط" 1/ 19.]]. وقوله تعالى: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ الخيرُ: اسم جامعٌ للمالِ وغيرِهِ، والخيرُ يراد به المالُ في كثيرٍ من القرآنِ، كقوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ﴾ [البقرة: 272] ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: 8]، ﴿مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24] [[ينظر في معاني الخير: "المفردات" ص 167 - 168، "البحر المحيط" 1/ 17.]]. وقوله تعالى: ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ أي: بالشيء الذي يعلم ذوو التمييز أنه لا حيف فيه، فهو العدل الذي لا ينكر، يعني: لا يزيد على الثلث [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 194، "المحرر الوجيز" 2/ 97.]]. وقوله تعالى: ﴿حَقًّا﴾ أي: حقَّ ذلك عليكم حقًّا [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 251، وينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 194، "المحرر الوجيز" 2/ 97، "البحر المحيط" 1/ 21، وقيل: نصب على المفعول، أي: جعل الوصية حقًّا، وقيل: على القطع من الوصية.]]. وقوله تعالى: ﴿عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ أي: المؤمنين الذين يتقون الشرك [["تفسير الطبري" 2/ 115، "تفسير الثعلبي" 2/ 194.]]. وقد اجتمعت العلماء على نسخ هذه الآية [[تابع المؤلف -رحمه الله- الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 249 في هذا الإجماع، وسيأتي في كلامه ما يدل على نقض هذا الإجماع، وممن ذكر الخلاف في الآية فأطنب: الإمام الطبري في "تفسيره" 2/ 116، ولو قال -رحمه الله-: أجمع العلماء على نسخ حكم هذه الآية في القريب الوارث، لكان مقاربا، وهذا ما ذكره بعد عدة أسطر.]]. وكان السبب في نزول هذه الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بمالهم للبعداء رياءً وسمعةً، ويتركون العيالَ عالةً، فصرف الله بهذه الآية ما كان يُصرف إلى البعداء إلى الأهلِ والأقرباء، فَعُمِل بها ما كان العمل صلاحًا، ثم نسختها آية المواريث [[أشار إلى هذا الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 250، وذكره الرازي 5/ 60.]]، فكانت الوصية للوالدين والأقربين فرضًا على من مات وله مال، حتى نَزَلَتْ آيةُ المواريث في سورة النساء، فأجمعوا على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون [[رواه عن ابن عباس: البخاري (2747) كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وأبو داود (2869) الوصايا، باب: ما جاء في نسخ الوصية للوالدين، والدارمي 2/ 419 - 420، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص230، والطبري 2/ 117 - 119.]]؛ لقوله ﷺ: "ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" [[أخرجه الترمذي (2120) كتاب الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث، والنسائي 6/ 247 كتاب الوصايا، باب: إبطال الوصية للوارث، وأبو داود (2870) كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث، وابن ماجه (2713) كتاب الوصايا، باب: لا وصية لوارث، وأحمد في "المسند" 4/ 186 - 187، عن أبي أمامة الباهلي. وقال الترمذي: حسن صحيح. وحسنه الحافظ في "التلخيص الحبير" 3/ 106، وللحديث روايات ذكرها الزيلعي في "نصب الراية" 4/ 403، وقال الحافظ في "الفتح" 5/ 372 بعد أن ذكر رواياته: ولا يخلو إسناد كل منها من مقال، لكن مجموعها يقتضي أن للحديث أصلًا، بل جنح الشافعي في الأم إلى أن هذا المتن متواتر. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" 23/ 442: استفاض عند أهل العلم، وقوله: لا وصية لوارث استفاضة هي أقوى من الإسناد والحمد لله. وقد ذكره السيوطي ضمن الأحاديث في كتابه: "الأزهار المتناثرة" ص 119؛ وكذا الكتاني في "نظم المتناثرة من الحديث المتواترة" ص 176، ينظر: "نصب الراية" للزيلعي 4/ 403.]]. فأما الأقرباء الذين لا يرثون، والوالدان اللذان لا يرثان بكفر أو رقٍّ، ففل تجب الوصية لهم؟ اختلفوا، فذهبت جماعة إلى أن الوصية للوارث نسخت، والوصيِّة لهؤلاء الذين لا يرثون لم تنسخ، وهو [[في (م): (وهذا).]] مذهب مسلم بن يسار، والعلاء بن زياد [[العلاء بن زياد بن مطر العدوي، أبو نصر البصري، ثقة، أحد العباد، توفي في ولاية الحجاج سنة 94 هـ. ينظر: "الثقات" 5/ 246، "تهذيب التهذيب" 3/ 343.]] [[رواه عن مسلم والعلاء في أثر واحد: ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 166، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 232، والطبري في "تفسيره" 2/ 118.]]، ومسروق [[هو: أبو عائشة، مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني، تابعي ثقة، من أخص تلاميذ ابن مسعود، كان عابدًا فقيهًا مقرئًا، توفي سنة 162 هـ، وقيل بعدها. ينظر: "السير" 4/ 63 - 69، "الأعلام" 7/ 215.]] والحسن [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 118.]]، حتى قال الضحاك: من مات ولم يُوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 116، وسعيد بن منصور في "السنن" طبعة الأعظمي 1/ 135، وذكره النحاس في "الناسخ والمنسوخ" 1/ 484، ومكي في "الإيضاح" 144.]]. وقال طاوس: إن أوصى للأجانب [[في (ش): (الأجانب).]] وترك ذوي قرابته نزع منهم، ورد إلى ذوي قرابته [[رواه عبد الرزاق في "مصنفه" 9/ 81، والطبري 2/ 117، وعزاه في "الدر" 1/ 319 إلى عبد بن حميد، وذكره الثعلبي 2/ 198، والرازي 5/ 63.]]. فعلى قول هؤلاء: النسخُ تناول بعض أحكام الآية وهو الوصية للوارث [[عزا الطبري في "تفسيره" 2/ 117، 118 القول بذلك أيضًا إلى ابن عباس وقتادة والربيع وإياس بن معاوية.]]. والأكثرون من العلماء -وهو الذي يعمل به اليوم- على أن حكم الآية كلّه [[سقطت من (م).]] منسوخ، ولا تجب على أحد وصية لأحد قريب ولا بعيد. وإذا أوصى فله أن يُوصِي لكل من شاء من الأقارب والأباعد إلا الوارث [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 117، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 299، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 250، "الناسخ والمنسوخ" للنحاس 1/ 484، "تفسير البغوي" 1/ 192، "المحرر الوجيز" 2/ 97، "البحر المحيط" 1/ 17، "التفسير الكبير" 5/ 62.]]. قال أبو عبيد: وعلى هذا القول أجمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام، منهم سفيان ومالك الأوزاعي [[هو: أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو يحمد الأوزاعي، شيخ الإسلام، وعالم أهل الشام، أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلًا وزهدًا، توفي سنة 159 هـ. ينظر: "السير" 7/ 107 - 138، "الأعلام" 3/ 320.]] والليث، وجميع أهل الآثار والرأي، وهو القول المعمول به، أن الوصية جائزة للناس كلهم، ما خلا الورثة، غير واجبة [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 231.]]. والخير في هذه الآية حمل على المال الكثير [[الخير هنا: المال، في قول جميع المفسرين، وقد اختلف المفسرون فيه: فمنهم من جعل له حدًا معينًا، فمن ترك ذلك أوصى، وإلا فلا، واختلفوا في ذلك الحد، ومنهم من قيده بوصف، وهو المال الكثير عرفا كما بينه الواحدي، ومنهم من أطلق في القليل والكثير، كما روي عن الزهري، ونصره الطبري. ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 121، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 299، "التفسير الكبير" 5/ 59، "البحر المحيط" 1/ 17.]]، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مريض يعوده، فقال: إني أريد أن أوصي، فقال علي: إن الله عز وجل يقول: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وإنما تدع شيئًا يسيرًا، فَدعه لعيالك، فإنه أفضل [[رواه الثوري في "تفسيره" ص 55، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" 9/ 63، والدارمي في "سننه" 2/ 405، والطبري في "تفسيره" 2/ 121، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 298، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 659، والبيهقي 6/ 270، وابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 208، والحاكم في "المستدرك" 2/ 301، وقال: صحيح على شرط الشيخين وتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع يعني الانقطاع بين عروة بن الزبير وعلي -رضي الله عنه-.]]. وروي أيضًا أن رجُلًا قال لعائشة رضي الله عنها: إني أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: إنما قال الله: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وإن هذا شيء يسير، [[في (م): (شيئًا يسيرًا).]] فاتركه لعيالك [[رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" 11/ 208، وسعيد بن منصور في "السنن" 2/ 656، والطبري في "تفسيره" 2/ 121، والبيهقي في "الوصايا"، باب: من استحب ترك الوصية إذا لم يترك شيئًا كثيرًا 6/ 270، ونحوه عن عبد الرزاق في الوصايا، باب: الرجل يوصي وماله قليل 9/ 63.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب