الباحث القرآني

﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ بَيانُ حُكْمٍ آخَرَ مِنَ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ، وفَصْلُهُ عَمّا سَبَقَ لِلدَّلالَةِ عَلى كَوْنِهِ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا، كَما فَصَلَ اللّاحِقَ لِذَلِكَ، ولَمْ يُصَدِّرْهُ بِـ يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لِقُرْبِ العَهْدِ بِالتَّنْبِيهِ مَعَ مُلابَسَتِهِ بِالسّابِقِ في كَوْنِ كُلٍّ مِنهُما مُتَعَلِّقًا بِالأمْواتِ، أوْ لِأنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ شاقًّا لَمْ يُصَدِّرْهُ كَما صَدَرَ الشّاقُّ تَنْشِيطًا لِفِعْلِهِ، والمُرادُ مِن ( حُضُورِ المَوْتِ ) حُضُورُ أسْبابِهِ، وظُهُورُ أماراتِهِ مِنَ العِلَلِ والأمْراضِ المُخَوِّفَةِ، أوْ حُضُورُهُ نَفْسِهِ ودُنُوُّهُ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ لِإفادَةِ كَمالِ تَمَكُّنِ الفاعِلِ عِنْدَ النَّفْسِ وقْتَ وُرُودِهِ عَلَيْها. ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ أيْ: مالًا، كَما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ - ومُجاهِدٌ، وقَيَّدَهُ بَعْضُهم بِكَوْنِهِ كَثِيرًا؛ إذْ لا يُقالُ في العُرْفِ لِلْمالِ: (خَيَّرا) إلّا إذا كانَ كَثِيرًا، كَما لا يُقالُ: فُلانٌ ذُو مالٍ، إلّا إذا كانَ لَهُ مالٌ كَثِيرٌ، ويُؤَيِّدُهُ ما أخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ، وجَماعَةٌ عَنْ عُرْوَةَ، أنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - دَخَلَ عَلى مَوْلًى لَهُ في المَوْتِ ولَهُ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ أوْ سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَقالَ: ألا أُوصِي؟ قالَ: لا، إنَّما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ ولَيْسَ لَكَ كَثِيرُ مالٍ، فَدَعْ مالَكَ لِوَرَثَتِكَ. وما أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - أنَّ رَجُلًا قالَ لَها: أُرِيدُ أنْ أُوصِيَ، قالَتْ: كَمْ مالُكَ؟ قالَ: ثَلاثَةُ آلافٍ، قالَتْ: كَمْ عِيالُكَ؟ قالَ: أرْبَعَةٌ، قالَتْ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ وهَذا شَيْءٌ يَسِيرٌ فاتْرُكْهُ لِعِيالِكَ فَهو أفْضَلُ، والظّاهِرُ مِن هَذا أنَّ الكَثْرَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِمِقْدارٍ، بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حالِ الرَّجُلِ، فَإنَّهُ بِمِقْدارٍ مِنَ المالِ يُوصَفُ رَجُلٌ بِالغِنى ولا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ لِكَثْرَةِ العِيالِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - تَقْدِيرُها، فَقَدَ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ: ”مَن لَمْ يَتْرُكْ سِتِّينَ دِينارًا لَمْ يُتْرَكْ خَيْرًا“، ومَذْهَبُ الزُّهْرِيِّ أنَّ ( الوَصِيَّةَ ) مَشْرُوعَةٌ مِمّا قَلَّ أوْ كَثُرَ، فالخَيْرُ عِنْدَهُ المالُ مُطْلَقًا، وهو أحَدُ إطْلاقاتِهِ، ولَعَلَّ اخْتِيارَهُ إيذانًا بِأنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ المُوصى بِهِ حَلالًا طَيِّبًا لا خَبِيثًا؛ لِأنَّ الخَبِيثَ يَجِبُ رَدُّهُ إلى أرْبابِهِ ويَأْثَمُ بِـ ( الوَصِيَّةِ ) فِيهِ. ﴿الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾: مَرْفُوعٌ بِـ كُتُب وفي الرَّضِيِّ إذا كانَ الظّاهِرُ غَيْرَ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ مُنْفَصِلًا، فَتَرْكُ (p-53)العَلامَةِ أحْسَنُ إظْهارًا لِفَضْلِ الحَقِيقِيِّ عَلى غَيْرِهِ، ولِهَذا اخْتِيرَ هُنا تَذْكِيرُ الفِعْلِ، والوَصِيَّة اسْمٌ مِن أوْصى يُوصِي، وفي القامُوسِ أوْصاهُ ووَصّاهُ تَوْصِيَةً عَهِدَ إلَيْهِ، والِاسْمُ الوِصايَةُ و( الوَصِيَّةُ ) وهي المُوصى بِهِ أيْضًا، والجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِها، فَلا بُدَّ مِن تَأْوِيلِها بِأنَّ مَعَ الفِعْلِ عِنْدَ الجُمْهُورِ، أوْ بِالمَصْدَرِ بِناءً عَلى تَحْقِيقِ الرَّضِيِّ مِن أنَّ عَمَلَ المَصْدَرِ لا يَتَوَقَّفُ عَلى تَأْوِيلِهِ، وهو الرّاجِحُ، ولِذَلِكَ ذَكَرَ الرّاجِحَ في بَدَلِهِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ النّائِبُ عَلَيْكم والوَصِيَّة خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما المَكْتُوبُ؟ فَقِيلَ: هو الوَصِيَّةُ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ( كُتِبَ عَلَيْكم ) وقِيلَ: مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿لِلْوالِدَيْنِ﴾ والجُمْلَةُ جَوابُ الشَّرْطِ بِإضْمارِ الفاءِ؛ لِأنَّ الِاسْمِيَّةَ إذا كانَتْ جَزاءً لا بُدَّ فِيها مِنها، والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِـ كُتِبَ أوْ عَلَيْكم وحْدَهُ، والجُمْلَةُ اسْتِئْنافِيَّةٌ، ورُدَّ بِأنَّ إضْمارَ الفاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلّا في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كَما قالَ الخَلِيلُ، والعامِلُ في (إذا) مَعْنى (كُتُب) والظَّرْفُ قُيِّدَ لِلْإيجابِ مِن حَيْثُ الحُدُوثُ والوُقُوعُ، والمَعْنى تَوَجُّهُ خِطابِ اللَّهِ - تَعالى - عَلَيْكم ومُقْتَضى كِتابَتِهِ إذا حُضِّرَ وغُيِّرَ إلى ما تَرى لِيُنَظَّمَ إلى هَذا المَعْنى أنَّهُ مَكْتُوبٌ في الأزَلِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ العامِلُ الوَصِيَّةَ، وهي وإنْ كانَتِ اسْمًا، إلّا أنَّها مُؤَوَّلَةٌ بِالمَصْدَرِ أوْ بِأنْ والفِعْلِ، والظَّرْفُ مِمّا يَكْفِيهِ رائِحَةُ الفِعْلِ؛ لِأنَّ لَهُ شَأْنًا لَيْسَ لِغَيْرِهِ لِتَنْزِيلِهِ مِنَ الشَّيْءِ مَنزِلَةَ نَفْسِهِ لِوُقُوعِهِ فِيهِ، وعَدَمِ انْفِكاكِهِ عَنْهُ، ولِهَذا تُوُسِّعَ في الظُّرُوفِ ما لَمْ يُتَوَسَّعْ في غَيْرِها، ولَيْسَ كُلُّ مُؤَوَّلٍ بِشَيْءِ حُكْمُهُ حُكْمُ ما أُوِّلَ بِهِ، وقَدْ كَثُرَ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ المَصْدَرِ عَلَيْهِ في الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ تَكَلُّفٌ، ولا يُرَدُّ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ أنَّ الوَصِيَّةَ واجِبَةٌ عَلى ( مَن حَضَرَهُ المَوْتُ ) لا عَلى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ عِنْدَ حُضُورِ أحَدِهِمُ المَوْتُ؛ لِأنَّ أحَدَكم يُفِيدُ العُمُومَ عَلى سَبِيلِ البَدَلِ، فَمَعْنى ( إذا حُضِّرَ أحَدكم ) إذا حَضَرَ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، وإنَّما زِيدَ لَفْظُ أحَد لِلتَّنْصِيصِ عَلى كَوْنِها فَرْضَ عَيْنٍ لا كِفايَةٍ كَما في ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ والقَوْلُ بِأنَّ الوَصِيَّةَ لَمْ تُفْرَضْ عَلى ( مَن حَضَرَهُ المَوْتُ ) فَقَطْ بَلْ عَلَيْهِ بِأنْ يُوصِي، وعَلى الغَيْرِ بِأنْ يَحْفَظَ ولا يُبَدِّلَ، ولِهَذا قالَ: عَلَيْكم وقالَ: أحَدكم؛ لِأنَّ المَوْتَ يَحْضُرُ أحَدَ المُخاطَبِينَ بِالِافْتِراضِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ حِفْظَ الوَصِيَّةِ إنَّما يُفْرَضُ عَلى البَعْضِ بَعْدَ الوَصِيَّةِ لا وقْتَ الِاحْتِضارِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: فَرْضُ عَلَيْكم حَفِظَ الوَصِيَّةَ ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾، ولِأنَّ إرادَةَ الإيصاءِ وحِفْظَهُ مِنَ الوَصِيَّةِ تَعَسُّفٌ لا يَخْفى، واخْتارَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ ( إذا ) شَرْطِيَّةٌ وجَوابُ كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ ( إذا حُضِّرَ أحَدكم المَوْت ) فَلْيُوصِ إنْ تَرَكَ خَيْرًا فَلْيُوصِ، فَحُذِفَ جَوابُ الشَّرْطِ الأوَّلُ لِدَلالَةِ السِّياقِ عَلَيْهِ، وحُذِفَ جَوابُ الشَّرْطِ الثّانِي لِدَلالَةِ الشَّرْطِ الأوَّلِ وجَوابِهِ عَلَيْهِ، والشَّرْطُ الثّانِي عِنْدَ صاحِبِ التَّسْهِيلِ مُقَيِّدٌ لِلْأوَّلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ تارِكًا لِلْخَيْرِ فَلْيُوصِ، ومَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كُتُب وفاعِلِهِ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الإيصاءِ قَبْلُ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا الوَجْهَ مَعَ غَنائِهِ عَنْ تَكَلُّفِ تَصْحِيحِ الظَّرْفِيَّةِ وزِيادَةِ لَفْظِ أحَد أنْسَبُ بِالبَلاغَةِ القُرْآنِيَّةِ؛ حَيْثُ ورَدَ الحُكْمُ أوَّلًا مُجْمَلًا ثُمَّ مُفَصَّلًا ووَقَعَ الِاعْتِراضُ بَيْنَ الفِعْلِ وفاعِلِهِ لِلِاهْتِمامِ بِبَيانِ كَيْفِيَّةِ الوَصِيَّةِ الواجِبَةِ انْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ ما في ذَلِكَ مِن كَثْرَةِ الحَذْفِ المُهَوِّنَةِ لِما تَقَدَّمَ، ثُمَّ إنَّ هَذا الحُكْمَ كانَ في بَدْءِ الإسْلامِ ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ المَوارِيثِ كَما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وقَتادَةُ وشُرَيْحٌ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُمْ، وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ خارِجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - «أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خَطَبَهم عَلى راحِلَتِهِ، فَقالَ: ”إنَّ اللَّهَ قَدْ قَسَمَ لِكُلِّ إنْسانٍ نَصِيبَهُ مِنَ المِيراثِ، فَلا تَجُوزُ لِوارِثٍ وصِيَّةٌ“،» وأخْرَجَ أحْمَدُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أبِي أُمامَةَ الباهِلِيِّ، «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في حَجَّةِ الوَداعِ في خُطْبَتِهِ يَقُولُ: ”إنَّ اللَّهَ قَدْ أعْطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وصِيَّةَ لِوارِثٍ“،» وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ نَحْوَ ذَلِكَ، وهَذِهِ الأحادِيثُ لِتَلَقِّي الأُمَّةِ لَها بِالقَبُولِ انْتَظَمَتْ في سِلْكِ المُتَواتِرِ (p-54)فِي صِحَّةِ النَّسْخِ بِها عِنْدَ أئِمَّتِنا - قَدَّسَ اللَّهُ أسْرارَهم - بَلْ قالَ البَعْضُ: إنَّها مِنَ المُتَواتِرِ، وأنَّ التَّواتُرَ قَدْ يَكُونُ بِنَقْلِ مَن لا يُتَصَوَّرُ تَواطُؤُهم عَلى الكَذِبِ، وقَدْ يَكُونُ بِفِعْلِهِمْ بِأنْ يَكُونُوا عَمِلُوا بِهِ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ مِنهُمْ، عَلى أنَّ النَّسْخَ في الحَقِيقَةِ بِآيَةِ المَوارِيثِ والأحادِيثُ مُبَيِّنَةٌ لِجِهَةِ نَسْخِها، وبَيَّنَ فَخْرُ الإسْلامِ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ؛ الأوَّلُ: أنَّها نَزَلَتْ بَعْدَ آيَةِ الوَصِيَّةِ بِالِاتِّفاقِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصى بِها أوْ دَيْنٍ﴾ فَرُتِّبَ المِيراثُ عَلى ( وصِيَّةٍ ) مُنْكَرَةً، ( والوَصِيَّةُ ) الأُولى كانَتْ مَعْهُودَةً، فَلَوْ كانَتْ تِلْكَ ( الوَصِيَّةُ ) باقِيَةً لَوَجَبَ تَرْتِيبُهُ عَلى المَعْهُودِ، فَلَمّا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ورُتِّبَ عَلى المُطْلَقِ دَلَّ عَلى نَسْخِ الوَصِيَّةِ المُقَيَّدَةِ؛ لِأنَّ الإطْلاقَ بَعْدَ التَّقْيِيدِ نَسْخٌ كَما أنَّ التَّقْيِيدَ بَعْدَ الإطْلاقِ كَذَلِكَ لِتَغايُرِ المَعْنَيَيْنِ. والثّانِي: أنَّ النَّسْخَ نَوْعانِ؛ أحَدُهُما ابْتِداءٌ بَعْدَ انْتِهاءٍ مَحْضٍ، والثّانِي: بِطَرِيقِ الحَوالَةِ مِن مَحَلٍّ إلى آخَرَ كَما في نَسْخِ القِبْلَةِ، وهَذا مِن قَبِيلِ الثّانِي؛ لِأنَّ اللَّهَ - تَعالى - فَرَضَ الإيصاءَ في الأقْرَبِينَ إلى العِبادِ، بِشَرْطِ أنْ يُراعُوا الحُدُودَ، ويُبَيِّنُوا حَقَّ كُلِّ قَرِيبٍ بِحَسَبِ قَرابَتِهِ، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ: بِالعَدْلِ، ثُمَّ لَمّا كانَ المُوصِي قَدْ لا يُحْسِنُ التَّدْبِيرَ في مِقْدارِ ما يُوصِي لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ، ورُبَّما كانَ يَقْصِدُ المُضارَّةَ تَوَلّى بِنَفْسِهِ بَيانَ ذَلِكَ الحَقِّ عَلى وجْهٍ تُيُقِّنَ بِهِ أنَّهُ الصَّوابُ، وأنَّ فِيهِ الحِكْمَةَ البالِغَةَ، وقَصَرَهُ عَلى حُدُودٍ لازِمَةٍ مِنَ السُّدْسِ والثُّلُثِ والنِّصْفِ والثُّمُنِ لا يُمْكِنُ تَغَيُّرُها، فَتَحَوَّلَ مِن جِهَةِ الإيصاءِ إلى المِيراثِ، فَقالَ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ أيِ: الَّذِي فَوَّضَ إلَيْكم تَوَلّى شَأْنَهُ بِنَفْسِهِ؛ إذْ عَجَزْتُمْ عَنْ مَقادِيرِهِ لِجَهْلِكُمْ، ولَمّا بَيَّنَ بِنَفْسِهِ ذَلِكَ الحَقَّ بِعَيْنِهِ انْتَهى حُكْمُ تِلْكَ الوَصِيَّةِ لِحُصُولِ المَقْصُودِ بِأقْوى الطُّرُقِ كَمَن أمَرَهُ غَيْرُهُ بِإعْتاقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أعْتَقَهُ بِنَفْسِهِ، فَإنَّهُ بِذَلِكَ انْتَهى حُكْمُ الوَكالَةِ، وإلى ذَلِكَ تُشِيرُ الأحادِيثُ لِما أنَّ ( الفاءَ ) تَدُلُّ عَلى سَبَبِيَّةِ ما قَبْلَها لِما بَعْدَها، فَما قِيلَ: إنَّ مِن أنَّ آيَةَ المَوارِيثِ لا تُعارِضُ هَذا الحُكْمَ بَلْ تُحَقِّقُهُ مِن حَيْثُ تَدُلُّ عَلى تَقْدِيمِ الوَصِيَّةِ مُطْلَقًا، والأحادِيثُ مِنَ الآحادِ، وتَلَقِّي الأُمَّةِ لَها بِالقَبُولِ لا تُلْحِقُها بِالمُتَواتِرِ، ولَعَلَّهُ احْتَرَزَ عَنِ النَّسْخِ مَن فَسَّرَ الوَصِيَّةَ بِما أوْصى بِهِ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - مِن تَوْرِيثِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ أوْ بِإيصاءِ المُحْتَضِرِ لَهم بِتَوْفِيرِ ما أوْصى بِهِ اللَّهُ - تَعالى - عَلَيْهِمْ عَلى ما فِيهِ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّحْقِيقِ، وكَذا ما قِيلَ: مِن أنَّ الوَصِيَّةَ لِلْوارِثِ كانَتْ واجِبَةً بِهَذِهِ الآيَةِ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ لِأنْصِبائِهِمْ، فَلَمّا نَزَلَتْ آيَةُ المَوارِيثِ بَيانًا لِلْأنْصِباءِ بِلَفْظِ الإيصاءِ، فُهِمَ مِنها بِتَنْبِيهِ النَّبِيِّ – صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنَّ المُرادَ مِنهُ هَذِهِ الوَصِيَّةُ الَّتِي كانَتْ واجِبَةً، كَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ - تَعالى - أوْصى بِنَفْسِهِ تِلْكَ الوَصِيَّةَ، ولَمْ يُفَوِّضْها إلَيْكُمْ، فَقامَ المِيراثُ مَقامَ الوَصِيَّةِ، فَكانَ هَذا مَعْنى النَّسْخِ، لا أنَّ فِيها دَلالَةً عَلى رَفْعِ ذَلِكَ الحُكْمِ؛ لِأنَّ كَوْنَ آيَةِ المَوارِيثِ رافِعَةً لِذَلِكَ الحُكْمِ مُبَيِّنَةً لِانْتِهائِهِ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُشْتَبَهَ عَلى أحَدٍ، ثُمَّ إنَّ القائِلِينَ بِالنَّسْخِ اخْتَلَفُوا، فَمِنهم مَن قالَ: إنَّ وُجُوبَها صارَ مَنسُوخًا في حَقِّ الأقارِبِ الَّذِينَ يَرِثُونَ، وبَقِيَ في حَقِّ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ مِنَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ، كَأنَّ يَكُونُوا كافِرِينَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ - مَن لَمْ يُوصِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِذَوِي قَرابَتِهِ مِمَّنْ لا يَرِثُ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ. ومِنهم مَن قالَ: إنَّ الوُجُوبَ صارَ مَنسُوخًا في حَقِّ الكافَّةِ، وهي مُسْتَحَبَّةٌ في حَقِّ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الأكْثَرُونَ، واسْتَدَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بِالآيَةِ عَلى أنَّ مُطْلَقَ الأقْرَبِينَ لا يَتَناوَلُ الوالِدَيْنِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ. ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ 108﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْحَدَثِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كُتُب وعامِلُهُ إمّا كُتُب أوْ ( حُقَّ ) مَحْذُوفًا؛ أيْ: حُقَّ ذَلِكَ حَقًّا، فَهو عَلى طَرْزِ قَعَدْتُ جُلُوسًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ كُتُبٍ عَلَيْكم وإنِ اعْتُبِرَ إنْشاءً، فَيَكُونُ عَلى طَرْزِ ( لَهُ عَلَيَّ ألْفٌ ) عُرْفًا، وجَعَلَهُ صِفَةً (p-55)لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أيْ إيصاءً، حَقًّا لَيْسَ بِشَيْءٍ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ ( عَلى المُتَّقِينَ ) صِفَةٌ لَهُ أوْ مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ المَحْذُوفِ عَلى المُخْتارِ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِالمَصْدَرِ؛ لِأنَّ المَفْعُولَ المُطْلَقَ يَعْمَلُ نِيابَةً عَنِ الفِعْلِ، والمُرادُ بِـ المُتَّقِينَ المُؤْمِنُونُ، ووُضِعَ المُظْهَرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ المُحافَظَةَ عَلى الوَصِيَّةِ والقِيامَ بِها مِن شَعائِرِ المُتَّقِينَ الخائِفِينَ مِنَ اللَّهِ - تَعالى - .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب