﴿وإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ . (كَبُرَ) أيْ عَظُمَ وشَقَّ إعْراضُهم عَنِ الإيمانِ والتَّصْدِيقِ بِما جِئْتَ بِهِ، وهو قَدْ كَبُرَ عَلَيْهِ إعْراضُهم، لَكِنْ جاءَ الشَّرْطُ مُعْتَبَرًا فِيهِ التَّبْيِينُ والظُّهُورُ، وهو مُسْتَقْبَلٌ، وعُطِفَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَإنِ اسْتَطَعْتَ﴾ ولَيْسَ (p-١١٤)مَقْصُودًا وحْدَهُ بِالجَوابِ، فَمَجْمُوعُ الشَّرْطَيْنِ بِتَأْوِيلِ الأوَّلِ لَمْ يَقَعْ، بَلِ المَجْمُوعُ مُسْتَقْبَلٌ، وإنْ كانَ ظاهِرُ أحَدِهِما بِانْفِرادِهِ واقِعًا، ونَظِيرُهُ ﴿إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦]، ﴿وإنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ [يوسف: ٢٧] . ومَعْلُومٌ أنَّهُ قَدْ وقَعَ أحَدُهُما، لَكِنَّ المَعْنى أنْ يَتَبَيَّنَ ويَظْهَرَ كَوْنُهُ قُدَّ مِن كَذا، وكَذا يَتَأوَّلُ ما يَجِيءُ مِن دُخُولِ (إنْ) الشَّرْطِيَّةِ عَلى صِيغَةِ (كانَ) عَلى مَذْهَبِ جُمْهُورِ النُّحاةِ، خِلافًا لِأبِي العَبّاسِ المُبَرِّدِ، فَإنَّهُ زَعَمَ أنَّ (إنْ) إذا دَخَلَتْ عَلى كانَ، بَقِيَتْ عَلى مُضِيِّها بِلا تَأْوِيلٍ. والنَّفَقُ السِّرْبُ في داخِلِ الأرْضِ الَّذِي يُتَوارى فِيهِ. وقَرَأ نُبَيْحٌ الغَنَوِيُّ (أنْ تَبْتَغِيَ نافِقًا في الأرْضِ)، والنّافِقاءُ مَمْدُودٌ، وهو أحَدُ مَخارِجِ جُحْرِ اليَرْبُوعِ، وذَلِكَ أنَّ اليَرْبُوعَ يَخْرُجُ مِن باطِنِ الأرْضِ إلى وجْهِها، ويُرِقُّ ما واجَهَ الأرْضَ، ويَجْعَلُ لِلْجُحْرِ بابَيْنِ: أحَدُهُما؛ النّافِقاءُ، والآخَرُ؛ القاصِعاءُ، فَإذا رابَهُ أمْرٌ مِن أحَدِهِما، دَفَعَ ذَلِكَ الوَجْهَ الَّذِي أرَّقَهُ مِن أحَدِهِما، وخَرَجَ مِنهُ. وقِيلَ: لِجُحْرِهِ ثَلاثَةُ أبْوابٍ. قالَ السُّدِّيُّ: السُّلَّمُ: المِصْعَدُ. وقالَ قَتادَةُ: الدَّرَجُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: السَّبَبُ، والمِرْقاةُ. تَقُولُ العَرَبُ: اتَّخِذْنِي سُلَّمًا لِحاجَتِكَ؛ أيْ سَبَبًا؛ ومِنهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
؎ولا لَكُما مَنجًى مِنَ الأرْضِ فابْغِيا بِهِ نَفَقًا أوْ في السَّماواتِ سُلَّما
وقالَ الزَّجّاجُ: السُّلَّمُ مِنَ السَّلامَةِ، وهو الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إلى مِصْعَدِكَ، والسُّلَّمُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ، ويُرْتَقى، وهو مُذَكَّرٌ. وحَكى الفَرّاءُ فِيهِ التَّأْنِيثَ، قالَ بَعْضُهم: تَأْنِيثُهُ عَلى مَعْنى المِرْقاةِ، لا بِالوَضْعِ كَما أُنِّثَ الصَّوْتُ بِمَعْنى الصَّيْحَةِ والِاسْتِغاثَةِ في قَوْلِهِ: سائِلٌ بَنِي أسَدٍ ما هَذِهِ الصَّوْتُ. ومَعْنى الآيَةِ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعْنِي أنَّكَ لا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، والمُرادُ بَيانُ حِرْصِهِ عَلى إسْلامِ قَوْمِهِ وتَهالُكِهِ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لَوِ اسْتَطاعَ أنْ يَأْتِيَهم بِآيَةٍ مِن تَحْتِ الأرْضِ، أوْ مِن فَوْقِ السَّماءِ، لَأتى بِها رَجاءَ إيمانِهِمْ. وقِيلَ: كانُوا يَقْتَرِحُونَ الآياتِ، فَكانَ يَوَدُّ أنْ يُجابُوا إلَيْها لِتَمادِي حِرْصِهِ عَلى إيمانِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: إنِ اسْتَطَعْتَ كَذا فافْعَلْ دَلالَةً عَلى أنَّهُ بَلَغَ مِن حِرْصِهِ، أنَّهُ لَوِ اسْتَطاعَ ذَلِكَ لَفَعَلَهُ حَتّى يَأْتِيَهم بِما اقْتَرَحُوا لَعَلَّهم يُؤْمِنُونَ انْتَهى. والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ أنَّ الآيَةَ هي غَيْرُ ابْتِغاءِ النَّفَقِ في الأرْضِ، أوِ السُّلَّمِ في السَّماءِ، وأنَّ المَعْنى: أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ، فَتَدْخُلَ فِيهِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ، فَتَصْعَدَ عَلَيْهِ إلَيْها ﴿فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ غَيْرَ الدُّخُولِ في السِّرْبِ، والصُّعُودِ إلى السَّماءِ مِمّا يُرْجى إيمانُهم بِسَبَبِها، أوْ مِمّا اقْتَرَحُوهُ رَجاءَ إيمانِهِمْ، وتِلْكَ الآيَةُ مِن إحْدى الجِهَتَيْنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهُمْ﴾ إلْزامُ الحُجَّةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ، وتَقْسِيمُ الأحْوالِ عَلَيْهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ أنْ لا وجْهَ إلّا الصَّبْرُ والمُضِيُّ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، والمَعْنى إنْ كُنْتَ تُعَظِّمُ تَكْذِيبَهم وكُفْرَهم عَلى نَفْسِكَ، وتَلْتَزِمُ الحُزْنَ عَلَيْهِ، فَإنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلى دُخُولِ سِرْبٍ في أعْماقِ الأرْضِ، أوْ عَلى ارْتِقاءِ سُلَّمٍ في السَّماءِ، فَدُونَكَ وشَأْنَكَ بِهِ؛ أيْ إنَّكَ لا تَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِن هَذا، ولا بُدَّ مِنَ التِزامِ الصَّبْرِ، واحْتِمالِ المَشَقَّةِ، ومُعارَضَتِهِمْ بِالآياتِ الَّتِي نَصَبَها اللَّهُ لِلنّاظِرِينَ المُتَأمِّلِينَ، إذْ هو لا إلَهَ إلّا هو، لَمْ يُرِدْ أنْ يَجْمَعَهم عَلى الهُدى، وإنَّما أرادَ أنْ يَنْصِبَ مِنَ الآياتِ ما يَهْتَدِي بِالنَّظَرِ فِيهِ قَوْمٌ بِحَقِّ مِلْكِهِ ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ أيْ في أنْ تَأْسَفَ وتَحْزَنَ عَلى أمْرٍ أرادَهُ اللَّهُ وأمْضاهُ وعَلِمَ المَصْلَحَةَ فِيهِ انْتَهى. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ الآيَةُ الَّتِي يَأْتِي بِها، هي نَفْسُ الفِعْلِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْتِغاءَ النَّفَقِ في الأرْضِ، أوِ السُّلَّمِ في السَّماءِ، هو الإتْيانُ بِالآيَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَوِ اسْتَطَعْتَ النُّفُوذَ إلى ما تَحْتَ الأرْضِ، أوِ التَّرَقِّيَ في السَّماءِ، لَعَلَّ ذَلِكَ يَكُونُ آيَةً لَكَ يُؤْمِنُونَ بِها. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ بِعَلامَةٍ، ويُرِيدُ: إمّا في فِعْلِكَ ذَلِكَ؛ أيْ تَكُونُ الآيَةُ نَفْسَ دُخُولِكَ في الأرْضِ، وارْتِقائِكَ في السَّماءِ، وإمّا في أنْ تَأْتِيَهم بِالآيَةِ مِن إحْدى الجِهَتَيْنِ انْتَهى. وما جَوَّزُوا مِن ذَلِكَ لا يَظْهَرُ مِن دَلالَةِ اللَّفْظِ، إذْ لَوْ كانَ ذَلِكَ كَما جَوَّزاهُ، لَكانَ التَّرْكِيبُ فَتَأْتِيَهم بِذَلِكَ آيَةً، وأيْضًا فَأيُّ آيَةٍ في دُخُولِ سِرْبٍ في الأرْضِ. وأمّا (p-١١٥)الرُّقِيُّ في السَّماءِ، فَيَكُونُ آيَةً. وقِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِمْ ﴿وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠] وقَوْلُهُ: ﴿أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ﴾ إشارَةٌ إلى قَوْلِهِمْ: ﴿أوْ تَرْقى في السَّماءِ ولَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ [الإسراء: ٩٣] . وكانَ فِيها ضَمِيرُ الشَّأْنِ، والجُمْلَةُ المُصَدَّرَةُ بِـ (كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم) في مَوْضِعِ خَبَرِ (كانَ)، وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ خَبَرَ (كانَ) وأخَواتِها يَكُونُ ماضِيًا، ولا يُحْتاجُ فِيهِ إلى تَقْدِيرِ (قَدْ)؛ لِكَثْرَةِ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ في القُرْآنِ وكَلامِ العَرَبِ، خِلافًا لِمَن زَعَمَ أنَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِن (قَدْ) ظاهِرَةً، أوْ مُقَدَّرَةً، وخِلافًا لِمَن حَصَرَ ذَلِكَ بِـ (كانَ) دُونَ أخَواتِها، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ اسْمُها (إعْراضُهم)، فَلا يَكُونُ مَرْفُوعًا بِـ (كَبُرَ) كَما في القَوْلِ الأوَّلِ، وكَبُرَ فِيهِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى الإعْراضِ، وهو في مَوْضِعِ الخَبَرِ، وهي مَسْألَةُ خِلافٍ، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ؛ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، وتَقْدِيرُهُ: فافْعَلْ كَما تَقُولُ: إنْ شِئْتَ تَقُومُ بِنا إلى فُلانٍ نَزُورُهُ؛ أيْ فافْعَلْ؛ ولِذَلِكَ جاءَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِصِيغَةِ الماضِي، أوِ المُضارِعِ المَنفِيِّ بِـ (لَمْ)؛ لِأنَّهُ ماضٍ، ولا يَكُونُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ إلّا في الشِّعْرِ.
* * *
﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ أيْ إمّا يَخْلُقُ ذَلِكَ في قُلُوبِهِمْ أوَّلًا، فَلا يَضِلُّ أحَدٌ، وإمّا يَخْلُقُهُ فِيهِمْ بَعْدَ ضَلالِهِمْ، ودَلَّ هَذا التَّعْلِيقُ عَلى أنَّهُ تَعالى ما شاءَ مِنهم جَمِيعَهُمُ الهُدى، بَلْ أرادَ إبْقاءَ الكافِرِ عَلى كُفْرِهِ. قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: ويُقَرِّرُ، هَذا الظّاهِرُ. أنَّ قُدْرَةَ الكافِرِ عَلى الكُفْرِ إنْ لَمْ تَكُنْ صالِحَةً لِلْإيمانِ، فالقُدْرَةُ عَلى الكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهُ غَيْرُ صالِحَةٍ لِلْإيمانِ، فَخالِقُ تِلْكَ القُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أرادَ الكُفْرَ لا مَحالَةَ، وإنْ كانَتْ صالِحَةً لَهُ كَما صَلَحَتْ لِلْكُفْرِ، اسْتَوَتْ نِسْبَةُ القُدْرَةِ إلَيْهِما، فامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ، إلّا الدّاعِيَةُ مُرَجِّحَةٌ، ولَيْسَتْ مِنَ العَبْدِ، وإلّا وقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أنَّ خالِقَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ هو اللَّهُ، وثَبَتَ أنَّ مَجْمُوعَ الدّاعِيَةِ الصّالِحَةِ تُوجِبُ الفِعْلَ، وثَبَتَ أنَّ خالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ الدّاعِيَةِ المُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الكُفْرِ غَيْرَ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الإيمانِ فَهَذا البُرْهانُ اليَقِينِيُّ قَوّى ظاهِرَ هَذِهِ الآيَةِ، ولا بَيانَ أقْوى مِن تَطابُقِ البُرْهانِ مَعَ ظاهِرِ القُرْآنِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ الآيَةُ تَرُدُّ عَلى القَدَرِيَّةِ المُفَوِّضَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ القُدْرَةَ لا تَقْتَضِي أنْ يُؤْمِنَ الكافِرُ، وأنَّ ما يَأْتِيهِ الإنْسانُ مِن جَمِيعِ أفْعالِهِ، لا خَلْقَ فِيهِ، تَعالى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ بِآيَةٍ مُلْجِئَةٍ، ولَكِنَّهُ لا يَفْعَلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الحِكْمَةِ انْتَهى. وهَذا قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ. وقالَ القاضِي: والإلْجاءُ أنْ يُعْلِمَهم أنَّهم لَوْ حاوَلُوا غَيْرَ الإيمانِ، لَمَنَعَهم مِنهُ، وحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِن فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الإيمانِ، وهو تَعالى إنَّما تَرَكَ فِعْلَ هَذا الإلْجاءِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهم، فَيَكُونُ ما وقَعَ مِنهم، كَأنْ لَمْ يَقَعْ، وإنَّما أرادَ تَعالى أنْ يَنْتَفِعُوا بِما يَخْتارُونَهُ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ مِن جِهَةِ الوَصْلَةِ بِهِ إلى الثَّوابِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا اخْتِيارًا، وأجابَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ بِأنَّهُ تَعالى أرادَ مِنهُمُ الإقْدامَ عَلى الإيمانِ حالَ كَوْنِ الدّاعِي إلى الإيمانِ وإلى الكُفْرِ بِالسَّوِيَّةِ، أوْ حالَ حُصُولِ هَذا الرُّجْحانِ. والأوَّلُ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحانِ حالَ حُصُولِ الِاسْتِواءِ، تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وهو مُحالٌ، وإنْ كانَ الثّانِي فالطَّرَفُ الرّاجِحُ يَكُونُ واجِبَ الوُقُوعِ، والطَّرَفُ المَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْسامِ تُنافِي ما ذَكَرُوهُ مِنَ المِكْنَةِ والِاخْتِياراتِ، فَسَقَطَ قَوْلُهم بِالكُلِّيَّةِ.
* * *
﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ . تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ في أنْ تَأْسَفَ وتَحْزَنَ عَلى أمْرٍ (p-١١٦)أرادَهُ اللَّهُ تَعالى، وأمْضاهُ، وعَلِمَ المَصْلَحَةَ فِيهِ.
وقالَ أيْضًا: و(مِنَ الجاهِلِينَ) يُحْتَمَلُ في أنْ لا تَعْلَمَ أنَّ اللَّهَ ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ ويُحْتَمَلُ في أنْ تَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وأرادَهُ، وتَذْهَبَ بِكَ نَفْسُكَ إلى ما لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ انْتَهى. وضُعِّفَ الِاحْتِمالُ الأوَّلُ بِأنَّهُ مَعَ كَمالِ ذاتِهِ وتَوَفُّرِ مَعْلُوماتِهِ وعَظِيمِ اطِّلاعِهِ عَلى ما يَلِيقُ بِقُدْرَةِ الحَقِّ جَلَّ جَلالُهُ، واسْتِيلائِهِ عَلى جَمِيعِ مَقْدُوراتِهِ، لا يَنْبَغِي أنْ يُوصَفَ بِأنَّهُ جاهِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَوْ شاءَ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى؛ لِأنَّ هَذا مِن قَبِيلِ الدِّينِ والعَقائِدِ، فَلا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جاهِلًا بِها، وكَأنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ قَدْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ بِأنْ تَأْتِيَهم آيَةٌ مُلْجِئَةٌ، ولَكِنَّهُ لا يَفْعَلُ لِخُرُوجِهِ عَنِ الحِكْمَةِ، فَقالَ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ مِنَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، ويَرُومُونَ ما هو خِلافُهُ. وأشارَ بِذَلِكَ إلى الإتْيانِ بِالآيَةِ المُلْجِئَةِ إلى الإيمانِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في الإلْجاءِ. وقِيلَ: لا تَجْهَلْ أنَّهُ يُؤْمِنُ بِكَ بَعْضُهم ويَكْفُرُ بَعْضُهم، وضُعِّفَ بِأنَّ هَذا لَيْسَ مِمّا يَجْهَلُهُ ﷺ . وقِيلَ لا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لا صَبْرَ لَهُ لِأنَّ قِلَّةَ الصَّبْرِ مِن أخْلاقِ الجاهِلِينَ، وضُعِّفَ بِأنَّهُ تَعالى قَدْ أمَرَهُ بِالصَّبْرِ في آياتٍ كَثِيرَةٍ ومَعَ أمْرِ اللَّهِ لَهُ بِالصَّبْرِ وبَيانِ أنَّهُ خَيْرٌ يَبْعُدُ أنْ يُوصَفَ بَعْدَ صَبْرِهِ بِقِلَّةِ الصَّبْرِ. وقِيلَ: لا يَشْتَدُّ حُزْنُكَ لِأجْلِ كُفْرِهِمْ فَتُقارِبَ حالَ الجاهِلِ بِأحْكامِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، وقَدْ صُرِّحَ بِهَذا في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] وقالَ قَوْمٌ: جازَ هَذا الخِطابُ لِأنَّهُ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ ومَكانَتِهِ عِنْدَهُ كانَ ذَلِكَ حَمْلًا عَلَيْهِ كَما يَحْمِلُ العاقِلُ عَلى قَرِيبِهِ فَوْقَ ما يَحْمِلُهُ عَلى الأجانِبِ، خَشْيَةً عَلَيْهِ مِن تَخْصِيصِ الإذْلالِ. وقالَ مَكِّيٌّ والمَهْدَوِيُّ: الخِطابُ لَهُ والمُرادُ بِهِ أُمَّتُهُ، وتَمَّمَ هَذا القَوْلَ بِأنَّهُ كانَ يُحْزِنُهُ إصْرارُ بَعْضِهِمْ عَلى الكُفْرِ وحِرْمانُهم ثَمَراتِ الإيمانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ لا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ انْتَهى. وقِيلَ: الرَّسُولُ مَعْصُومٌ مِنَ الجَهْلِ والشَّكِّ بِلا خِلافٍ، ولَكِنَّ العِصْمَةَ لا تَمْنَعُ الِامْتِحانَ بِالأمْرِ والنَّهْيِ، أوْ لِأنَّ ضِيقَ صَدْرِهِ وكَثْرَةَ حُزْنِهِ مِنَ الجِبِلّاتِ البَشَرِيَّةِ، وهي لا تَرْفَعُها العِصْمَةُ بِدَلِيلِ: «اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ وإنِّي أغْضَبُ كَما يَغْضَبُ البَشَرُ»، الحَدِيثَ. وقَوْلِهِ: «إنَّما أنا بَشَرٌ فَإذا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» . انْتَهى. والَّذِي أخْتارُهُ أنَّ هَذا الخِطابَ لَيْسَ لِلرَّسُولِ، وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ فَهَذا إخْبارٌ وعَقْدٌ كُلِّيٌّ أنَّهُ لا يَقَعُ في الوُجُودِ إلّا ما شاءَ وُقُوعَهُ، ولا يَخْتَصُّ هَذا الإخْبارُ بِهَذا الخِطابِ بِالرَّسُولِ بَلِ الرَّسُولُ عالِمٌ بِمَضْمُونِ هَذا الإخْبارِ، فَإنَّما ذَلِكَ لِلسّامِعِ فالخِطابُ والنَّهْيُ في (فَلا تَكُونَنَّ) لِلسّامِعِ دُونَ الرَّسُولِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ولَوْ شاءَ اللَّهُ أيُّها السّامِعُ الَّذِي لا يَعْلَمُ أنَّ ما وقَعَ في الوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ جَمْعَهم عَلى الهُدى لَجَمَعَهم عَلَيْهِ، فَلا تَكُونُنَّ أيُّها السّامِعُ مِنَ الجاهِلِينَ بِأنَّ ما شاءَ اللَّهُ إيقاعَهُ وقَعَ، وأنَّ الكائِناتِ مَعْذُوقَةٌ بِإرادَتِهِ.
{"ayah":"وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِیَ نَفَقࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمࣰا فِی ٱلسَّمَاۤءِ فَتَأۡتِیَهُم بِـَٔایَةࣲۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ"}