الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾
(p-١٧١)فِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «أنَّ الحارِثَ بْنَ عامِرِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنافٍ أتى النَّبِيَّ ﷺ في نَفَرٍ مِن قُرَيْشٍ، فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ائْتِنا بِآيَةٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ كَما كانَتِ الأنْبِياءُ تَفْعَلُ فَإنّا نُصَدِّقُ بِكَ، فَأبى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَهم بِها فَأعْرَضُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ»، والمَعْنى: وإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم عَنِ الإيمانِ بِكَ وصِحَّةِ القُرْآنِ، فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ فافْعَلْ.
فالجَوابُ مَحْذُوفٌ، وحَسُنَ هَذا الحَذْفُ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ في النُّفُوسِ. والنَّفَقُ سَرَبٌ في الأرْضِ لَهُ مَخْلَصٌ إلى مَكانٍ آخَرَ، ومِنهُ نافِقاءُ اليَرْبُوعِ لِأنَّ اليَرْبُوعَ يَثْقُبُ الأرْضَ إلى العُقْرِ، ثُمَّ يَصْعَدُ مِن ذَلِكَ العُقْرِ إلى وجْهِ الأرْضِ مِن جانِبٍ آخَرَ، فَكَأنَّهُ يَنْفُقُ الأرْضَ نَفْقًا، أيْ يَجْعَلُ لَهُ مَنفَذًا مِن جانِبٍ آخَرَ. ومِنهُ أيْضًا سُمِّيَ المُنافِقُ مُنافِقًا لِأنَّهُ يُضْمِرُ غَيْرَ ما يُظْهِرُ كالنّافِقاءِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ اليَرْبُوعُ، وأمّا السُّلَّمُ فَهو مُشْتَقٌّ مِنَ السَّلامَةِ، وهو الشَّيْءُ الَّذِي يُسَلِّمُكَ إلى مَصْعَدِكَ، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ أنْ يَقْطَعَ الرَّسُولُ طَمَعَهُ عَنْ إيمانِهِمْ، وأنْ لا يَتَأذّى بِسَبَبِ إعْراضِهِمْ عَنِ الإيمانِ وإقْبالِهِمْ عَلى الكُفْرِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى﴾ تَقْدِيرُهُ: ولَوْ شاءَ اللَّهُ هُداهم لَجَمَعَهم عَلى الهُدى وحَيْثُما جَمَعَهم عَلى الهُدى، وجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّهُ ما شاءَ هُداهم، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُرِيدُ الإيمانَ مِنَ الكافِرِ بَلْ يُرِيدُ إبْقاءَهُ عَلى الكُفْرِ، والَّذِي يُقَرِّبُ هَذا الظّاهِرَ أنَّ قُدْرَةَ الكافِرِ عَلى الكُفْرِ إمّا أنْ تَكُونَ صالِحَةً لِلْإيمانِ، أوْ غَيْرَ صالِحَةٍ لَهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ صالِحَةً لَهُ فالقُدْرَةُ عَلى الكُفْرِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْكُفْرِ، وغَيْرُ صالِحَةٍ لِلْإيمانِ، فَخالِقُ هَذِهِ القُدْرَةِ يَكُونُ قَدْ أرادَ هَذا الكُفْرَ مِنهُ لا مَحالَةَ، وأمّا إنْ كانَتْ هَذِهِ القُدْرَةُ، كَما أنَّها صَلَحَتْ لِلْكُفْرِ فَهي أيْضًا صالِحَةٌ لِلْإيمانِ، فَلَمّا اسْتَوَتْ نِسْبَةُ القُدْرَةِ إلى الطَّرَفَيْنِ امْتَنَعَ رُجْحانُ أحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلى الآخَرِ، إلّا لِداعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ، وحُصُولُ تِلْكَ الدّاعِيَةِ لَيْسَ مِنَ العَبْدِ، وإلّا وقَعَ التَّسَلْسُلُ، فَثَبَتَ أنَّ خالِقَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ هو اللَّهُ تَعالى، وثَبَتَ أنَّ مَجْمُوعَ القُدْرَةِ مَعَ الدّاعِيَةِ الحاصِلَةِ مُوجِبٌ لِلْفِعْلِ، فَثَبَتَ أنَّ خالِقَ مَجْمُوعِ تِلْكَ القُدْرَةِ مَعَ تِلْكَ الدّاعِيَةِ المُسْتَلْزِمَةِ لِذَلِكَ الكُفْرِ مُرِيدٌ لِذَلِكَ الكُفْرِ، وغَيْرُ مُرِيدٍ لِذَلِكَ الإيمانِ. فَهَذا البُرْهانُ اليَقِينِيُّ قَوِيٌّ ظاهِرٌ بِهَذِهِ الآيَةِ، ولا بَيانَ أقْوى مِن أنْ يَتَطابَقَ البُرْهانُ مَعَ ظاهِرِ القُرْآنِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: المُرادُ لَوْ شاءَ اللَّهُ أنْ يُلْجِئَهم إلى الإيمانِ لِجَمَعَهم عَلَيْهِ. قالَ القاضِي: والإلْجاءُ هو أنْ يُعْلِمَهم أنَّهم لَوْ حاوَلُوا غَيْرَ الإيمانِ لَمَنَعَهم مِنهُ، وحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُونَ مِن فِعْلِ شَيْءٍ غَيْرِ الإيمانِ. ومِثالُهُ: أنَّ أحَدَنا لَوْ حَصَلَ بِحَضْرَةِ السُّلْطانِ وحَضَرَ هُناكَ مِن حَشَمِهِ الجَمْعُ العَظِيمُ، وهَذا الرَّجُلُ عَلِمَ أنَّهُ لَوْ هَمَّ بِقَتْلِ السُّلْطانِ لَقَتَلُوهُ في الحالِ، فَإنَّ هَذا العِلْمَ يَصِيرُ مانِعًا لَهُ مِن قَصْدِ قَتْلِ ذَلِكَ السُّلْطانِ، ويَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ مَلْجَأً إلى تَرْكِ ذَلِكَ الفِعْلِ فَكَذا هَهُنا.
إذا عَرَفْتَ الإلْجاءَ فَنَقُولُ: إنَّهُ تَعالى إنَّما تَرَكَ فِعْلَ هَذا الإلْجاءِ لِأنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ تَكْلِيفَهم فَيَكُونُ ما يَقَعُ مِنهم كَأنْ لَمْ يَقَعْ، وإنَّما أرادَ تَعالى أنْ يَنْتَفِعُوا بِما يَخْتارُونَهُ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ مِن جِهَةِ الوَصْلَةِ إلى الثَّوابِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا اخْتِيارًا.
والجَوابُ: أنَّهُ تَعالى أرادَ مِنهُمُ الإقْدامَ عَلى الإيمانِ حالَ كَوْنِ الدّاعِي إلى الإيمانِ وإلى الكُفْرِ عَلى (p-١٧٢)السَّوِيَّةِ أوْ حالَ حُصُولِ هَذا الرُّجْحانِ. والأوَّلُ تَكْلِيفُ ما لا يُطاقُ، لِأنَّ الأمْرَ بِتَحْصِيلِ الرُّجْحانِ حالَ حُصُولِ الِاسْتِواءِ، تَكْلِيفٌ بِالجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وهو مُحالٌ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فالطَّرَفُ الرّاجِحُ يَكُونُ واجِبَ الوُقُوعِ، والطَّرَفُ المَرْجُوحُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ الوُقُوعِ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْسامِ تُنافِي ما ذَكَرُوهُ مِنَ المُكْنَةِ والِاخْتِيارِ، فَسَقَطَ قَوْلُهم بِالكُلِّيَّةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ نَهْيٌ لَهُ عَنْ هَذِهِ الحالَةِ، وهَذا النَّهْيُ لا يَقْتَضِي إقْدامَهُ عَلى مَثَلِ هَذِهِ الحالَةِ كَما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تُطِعِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ﴾ [الأحزاب: ٤٨] لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ﷺ أطاعَهم وقَبِلَ دِينَهم، والمَقْصُودُ أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَشْتَدَّ تَحَسُّرُكَ عَلى تَكْذِيبِهِمْ، ولا يَجُوزَ أنْ تَجْزَعَ مِن إعْراضِهِمْ عَنْكَ فَإنَّكَ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ قَرُبَ حالُكَ مِن حالِ الجاهِلِ، والمَقْصُودُ مِن تَغْلِيظِ الخِطابِ التَّبْعِيدُ والزَّجْرُ لَهُ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِیَ نَفَقࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمࣰا فِی ٱلسَّمَاۤءِ فَتَأۡتِیَهُم بِـَٔایَةࣲۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











