الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وأُوذُوا حَتّى أتاهم نَصْرُنا ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ ولَقَدْ جاءَكَ مِن نَبَإ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهم فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أو سُلَّمًا في السَماءِ فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ ولَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهم عَلى الهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ هَذِهِ الآيَةُ تَضَمَّنَتْ عَرْضَ الأُسْوَةِ الَّتِي يَنْبَغِي الِاقْتِداءُ بِها عَلى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وتَرْجِيَتُهُ أنْ يَأْتِيَهُ مِثْلُ ما أتاهم مِنَ النَصْرِ إذا امْتَثَلَ ما امْتَثَلُوهُ مِنَ الصَبْرِ؛ قالَ الضَحّاكُ ؛ وابْنُ جُرَيْجٍ: عَزّى اللهُ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ نَبِيَّهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ أنَّهُ قَرَأ: "وَأُذُوا"؛ بِغَيْرِ واوٍ بَعْدَ الهَمْزَةِ. ثُمَّ قَوّى ذَلِكَ الرَجاءَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ﴾ ؛ أيْ: لا رادَّ لِأمْرِهِ؛ وكَلِماتِهِ السابِقاتِ بِما يَكُونُ؛ ولا مُكَذِّبَ لِما أخْبَرَ بِهِ؛ فَكَأنَّ المَعْنى: "فاصْبِرْ كَما صَبَرُوا؛ وانْتَظِرْ ما يَأْتِي؛ وثِقْ بِهَذا الإخْبارِ؛ فَإنَّهُ لا مُبَدِّلَ لَهُ"؛ فالقَصْدُ هُنا هَذا (p-٣٥٣)الخَبَرُ؛ وجاءَ اللَفْظُ عامًّا جَمِيعَ كَلِماتِ اللهِ تَعالى السابِقاتِ؛ وأمّا كَلامُ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - في التَوْراةِ؛ والإنْجِيلِ؛ فَمَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أنَّهُ لا مُبَدِّلَ لَها؛ وإنَّما حَرَّفَها اليَهُودُ بِالتَأْوِيلِ؛ لا بِبَدَلِ حُرُوفٍ وألْفاظٍ؛ وجَوَّزَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ أنْ يَكُونُوا بَدَّلُوا الألْفاظَ؛ لِأنَّهُمُ اسْتُحْفِظُوها؛ وهو الأظْهَرُ؛ وأمّا القُرْآنُ فَإنَّ اللهَ تَعالى تَضَمَّنَ حِفْظَهُ؛ فَلا يَجُوزُ فِيهِ التَبْدِيلُ؛ قالَ اللهُ - تَبارَكَ وتَعالى -: ﴿وَإنّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] ؛ وقالَ في أُولَئِكَ: ﴿بِما اسْتُحْفِظُوا مِن كِتابِ اللهِ﴾ [المائدة: ٤٤]. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقَدْ جاءَكَ مِن نَبَإ المُرْسَلِينَ﴾ ؛ أيْ فِيما أنْزَلْناهُ؛ وقَصَصْناهُ عَلَيْكَ؛ ما يَقْضِي هَذا الَّذِي أخْبَرْناكَ بِهِ؛ وفاعِلُ "جاءَكَ"؛ مُضْمَرٌ؛ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَبَرِيُّ ؛ والرُمّانِيُّ؛ تَقْدِيرُهُ: "وَلَقَدْ جاءَكَ نَبَأٌ؛ أو أنْباءُ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والصَوابُ عِنْدِي في المَعْنى أنْ يُقَدَّرَ: "جَلاءٌ"؛ أو "بَيانٌ". وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿مِن نَبَإ المُرْسَلِينَ﴾ ؛ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِـ "جاءَ"؛ ودَخَلَ حَرْفُ الجَرِّ عَلى الفاعِلِ؛ وهَذا عَلى مَذْهَبِ الأخْفَشِ في تَجْوِيزِهِ دُخُولَ "مِن" في الواجِبِ؛ ووَجْهُ قَوْلِ الرُمّانِيِّ أنَّ "مِن"؛ لا تُزادُ في الواجِبِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَإنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهُمْ﴾ ؛ اَلْآيَةَ؛ آيَةٌ فِيها إلْزامُ الحُجَّةِ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وتَقْسِيمُ الأحْوالِ عَلَيْهِ؛ حَتّى يَتَبَيَّنَ أنْ لا وجْهَ إلّا الصَبْرُ؛ والمُضِيُّ لِأمْرِ اللهِ تَعالى ؛ والمَعْنى: "إنْ كُنْتَ تُعْظِمُ تَكْذِيبَهم وكُفْرَهم عَلى نَفْسِكَ؛ وتَلْتَزِمُ الحُزْنَ عَلَيْهِ؛ فَإنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلى دُخُولِ سَرْبٍ في أعْماقِ الأرْضِ؛ أو عَلى ارْتِقاءِ سُلَّمٍ في السَماءِ؛ فَدُونَكَ وشَأْنَكَ بِهِ"؛ أيْ: "إنَّكَ لا تَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِن هَذا؛ ولا بُدَّ لَكَ مِنَ التِزامِ الصَبْرِ؛ واحْتِمالِ المَشَقَّةِ؛ ومُعارَضَتِهِمْ بِالآياتِ الَّتِي نَصَبَها اللهُ تَعالى لِلنّاظِرِينَ المُتَأمِّلِينَ؛ إذْ هو (p-٣٥٤)- لا إلَهَ إلّا هو - لَمْ يُرِدْ أنْ يَجْمَعَهم عَلى الهُدى؛ وإنَّما أرادَ أنْ يَنْصُبَ مِنَ الآياتِ ما يَهْتَدِي بِالنَظَرِ فِيهِ قَوْمٌ؛ ويَضِلُّ آخَرُونَ؛ إذْ خَلَقَهم عَلى الفِطْرَةِ؛ وهَدى السَبِيلَ؛ وسَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ؛ ولَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِحَقِّ مِلْكِهِ تَعالى ؛ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ في أنْ تَأْسَفَ؛ وتَحْزَنَ عَلى أمْرٍ أرادَهُ اللهُ تَعالى وأمْضاهُ؛ وعَلِمَ المَصْلَحَةَ فِيهِ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا أُسْلُوبُ مَعْنى الآيَةِ. واسْمُ "كانَ"؛ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الأمْرَ؛ والشَأْنَ؛ و﴿كَبُرَ عَلَيْكَ إعْراضُهُمْ﴾ ؛ خَبَرُها؛ ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ "إعْراضُهُمْ"؛ هو اسْمَ "كانَ"؛ ويُقَدَّرَ في "كَبُرَ"؛ ضَمِيرٌ؛ وتَكُونَ "كَبُرَ"؛ في مَوْضِعِ الخَبَرِ؛ والأوَّلُ مِنَ الوَجْهَيْنِ أقْيَسُ. و"اَلنَّفَقُ": اَلسَّرْبُ في الأرْضِ؛ ومِنهُ: "نافِقاءُ اليَرْبُوعِ"؛ و"اَلسُّلَّمُ": اَلشَّيْءُ الَّذِي يُصْعَدُ عَلَيْهِ؛ ويُرْتَقى؛ ويُمْكِنُ أنْ يُشْتَقَّ اسْمُهُ مِن "اَلسَّلامَةُ"؛ لِأنَّهُ سَبَبُها؛ وجَمْعُهُ: "سَلالِيمُ"؛ ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ لا يَحْجِزُ المَرْءَ أحْجاءُ البِلادِ ولا ∗∗∗ تُبْنى لَهُ في السَماواتِ السَلالِيمُ و"فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ"؛ أيْ: بِعَلامَةٍ؛ ويُرِيدُ: إمّا في فِعْلِكَ ذَلِكَ؛ أيْ: تَكُونُ الآيَةُ نَفْسَ دُخُولِكَ في الأرْضِ؛ أوِ ارْتِقائِكَ في السَماءِ؛ وإمّا أنْ تَأْتِيَهم بِالآيَةِ مِن إحْدى الجِهَتَيْنِ؛ وحُذِفَ جَوابُ الشَرْطِ قَبْلُ في قَوْلِهِ: "فَإنِ اسْتَطَعْتَ"؛ إيجازًا؛ لِفَهْمِ السامِعِ بِهِ؛ تَقْدِيرُهُ: "فافْعَلْ؛ أو فَدُونَكَ"؛ كَما تَقَدَّمَ. و"لَجَمَعَهُمْ"؛ يَحْتَمِلُ: إمّا بِأنْ يَخْلُقَهم مُؤْمِنِينَ؛ وإمّا بِأنْ يُكْسِبَهُمُ الإيمانَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ؛ بِأنْ يَشْرَحَ صُدُورَهُمْ؛ و"اَلْهُدى": اَلْإرْشادُ؛ وهَذِهِ الآيَةُ تَرُدُّ عَلى القَدَرِيَّةِ المُغْرِضَةِ (p-٣٥٥)الَّذِينَ يَقُولُونَ: "إنَّ القُدْرَةَ لا تَقْتَضِي أنْ يُؤْمِنَ الكافِرُ؛ وإنَّ ما يَأْتِيهِ الإنْسانُ مِن جَمِيعِ أفْعالِهِ لا خَلْقَ لِلَّهِ تَعالى فِيهِ"؛ تَعالى اللهُ عن قَوْلِهِمْ. و"مِنَ الجاهِلِينَ"؛ يُحْتَمَلُ في ألّا يَعْلَمُ أنَّ اللهَ تَعالى لَوْ شاءَ لَجَمَعَهُمْ؛ ويُحْتَمَلُ في أنْ تَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ؛ وأرادَهُ؛ وتَذْهَبَ بِهِ لِنَفْسِكَ إلى ما لَمْ يُقَدِّرْهُ اللهُ تَعالى. يَظْهَرُ تَبايُنٌ ما بَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ؛ وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَلامُ -: ﴿إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [هود: ٤٦] ؛ وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أفْضَلُ الأنْبِياءِ؛ قالَ مَكِّيٌّ والمَهْدِيُّ: "والخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ؛ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ -؛ والمُرادُ بِهِ أُمَّتُهُ"؛ وهَذا ضَعِيفٌ؛ لا يَقْتَضِيهِ اللَفْظُ؛ وقالَ قَوْمٌ: وُقِّرَ نُوحٌ لِسِنِّهِ؛ وشَيْبَتِهِ؛ وقالَ قَوْمٌ: جاءَ الحَمْلُ أشَدَّ عَلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لِقُرْبِهِ مِنَ اللهِ تَعالى ؛ ومَكانَتِهِ عِنْدَهُ؛ كَما يَحْمِلُ المُعاتِبُ عَلى قَرِيبِهِ أكْثَرَ مِن حَمْلِهِ عَلى الأجانِبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والوَجْهُ القَوِيُّ عِنْدِي في الآيَةِ هو أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجِئْ بِحَسَبِ النَبِيَّيْنِ؛ وإنَّما جاءَ بِحَسَبِ الأمْرَيْنِ اللَذَيْنِ وقَعَ النَهْيُ عنهُما؛ والعِتابُ فِيهِما؛ وبَيِّنٌ أنَّ الأمْرَ الَّذِي نُهِيَ عنهُ مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أكْبَرُ قَدْرًا وأخْطَرُ مُواقَعَةً مِنَ الأمْرِ الَّذِي واقَعَهُ نُوحٌ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب