الباحث القرآني
﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ نَفى تَعالى أنْ يَكُونَ التَّوْبَةُ لِلْعاصِي الصّائِرِ في حَيِّزِ اليَأْسِ مِنَ الحَياةِ، ولا لِلَّذِي وافى عَلى الكُفْرِ. فالأوَّلُ كَفِرْعَوْنَ إذْ لَمْ يَنْفَعْهُ إيمانُهُ وهو في غَمْرَةِ الماءِ والغَرَقِ، وكالَّذِينَ قالَ تَعالى فِيهِمْ: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ [غافر: ٨٥] وحُضُورُ المَوْتِ أوَّلُ أحْوالِ الآخِرَةِ، فَكَما أنَّ مَن ماتَ عَلى الكُفْرِ لا تُقْبَلُ مِنهُ التَّوْبَةُ في الآخِرَةِ، فَكَذَلِكَ هَذا الَّذِي حَضَرَهُ المَوْتُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوّى بَيْنَ الَّذِينَ سَوَّفُوا تَوْبَتَهم إلى حَضْرَةِ المَوْتِ، وبَيْنَ الَّذِينَ ماتُوا عَلى الكُفْرِ أنَّهُ لا تَوْبَةَ لَهم، لِأنَّ حَضْرَةَ المَوْتِ أوَّلُ أحْوالِ الآخِرَةِ. فَكَما أنَّ المَيِّتَ عَلى الكُفْرِ قَدْ فاتَتْهُ التَّوْبَةُ عَلى اليَقِينِ، فَكَذَلِكَ المُسَوِّفُ إلى حَضْرَةِ المَوْتِ، لِمُجاوَزَةِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما أوانَ التَّكْلِيفِ والِاخْتِيارِ، انْتَهى كَلامُهُ. وهو عَلى طَرِيقِ الِاعْتِزالِ. زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ أنَّ العِلْمَ بِاللَّهِ في دارِ التَّكْلِيفِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَظَرِيًّا، فَإذا صارَ العِلْمُ بِاللَّهِ ضَرُورِيًّا سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وأهْلُ الآخِرَةِ لِأجْلِ مُشاهَدَتِهِمْ أهْوالَها يَعْرِفُونَ اللَّهَ بِالضَّرُورَةِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ التَّكْلِيفُ. وكَذَلِكَ الحالَةُ الَّتِي يَحْصُلُ عِنْدَها العِلْمُ بِاللَّهِ عَلى سَبِيلِ الِاضْطِرارِ. والَّذِي قالَهُ المُحَقِّقُونَ: أنَّ القُرْبَ مِنَ (p-٢٠٠)المَوْتِ لا يَمْنَعُ مِن قَبُولِ التَّوْبَةِ، لِأنَّ جَماعَةً مِن بَنِي إسْرائِيلَ أماتَهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أحْياهم وكَلَّفَهم، فَدَلَّ عَلى أنَّ مُشاهَدَةَ المَوْتِ لا تُخِلُّ بِالتَّكْلِيفِ، ولِأنَّ الشَّدائِدَ الَّتِي تَلَقّاها عِنْدَ قُرْبِ المَوْتِ لَيْسَتْ أكْثَرَ مِمّا تَلَقّاها بِالقُولَنْجِ والطَّلْقِ وغَيْرِهِما، ولَيْسَ شَيْءٌ مِن هَذِهِ يَمْنَعُ مِن بَقاءِ التَّكْلِيفِ، فَكَذَلِكَ تِلْكَ. ولِأنَّهُ عِنْدَ القُرْبِ يَصِيرُ مُضْطَرًّا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقَبُولِ، ولَكِنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ ما يَشاءُ. وعَدَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ في بَعْضِ الأوْقاتِ، وبِعَدْلِهِ أخْبَرَ عَنْ عَدَمِ قَبُولِها في وقْتٍ آخَرَ، ولَهُ أنْ يَجْعَلَ المَقْبُولَ مَرْدُودًا، والمَرْدُودَ مَقْبُولًا، ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وقَدْ رَدَّ عَلى المُعْتَزِلَةِ في دَعْواهم سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِالعِلْمِ بِاللَّهِ إذا صارَ ضَرُورَةً، وفي دَعْواهم أنَّ مُشاهَدَةَ أحْوالِ الآخِرَةِ يُوجِبُ العِلْمَ بِاللَّهِ عَلى سَبِيلِ الِاضْطِرارِ.
وقالَ الرَّبِيعُ: نَزَلَتْ ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ في المُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَسَخَها: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فَحَتَمَ أنْ لا يَغْفِرُ لِلْكافِرِينَ، وأرْجى المُؤْمِنِينَ إلى مَشِيئَتِهِ. وطُعِنَ عَلى ابْنِ زَيْدٍ: بِأنَّ الآيَةَ خَبَرٌ، والأخْبارُ لا تُنْسَخُ. وأُجِيبَ: بِأنَّها تَضَمَّنَتْ تَقْرِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَيَجُوزُ نَسْخُ ذَلِكَ الحُكْمِ، ولا يُحْتاجُ إلى ادِّعاءِ نَسْخٍ، لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمْ تَتَضَمَّنْ أنَّ مَن لا تَوْبَةَ لَهُ مَقْبُولَةً مِنَ المُؤْمِنِينَ لا يُغْفَرُ لَهُ، فَيُحْتاجُ أنْ يُنْسَخَ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] . وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ أنَّ هَؤُلاءِ مُغايِرُونَ لِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ [العنكبوت: ٤]؛ لِأنَّ أصْلَ المُتَعاطِفَيْنِ أنْ يَكُونا غَيْرَيْنِ، ولِلتَّأْكِيدِ بِـ (لا) المُشْعِرَةِ بِانْتِفاءِ الحُكْمِ عَنْ كُلِّ واحِدٍ، تَقُولُ: هَذا لَيْسَ لِزَيْدٍ وعَمْرٍو، بَلْ لِأحَدِهِما، ولَيْسَ هَذا لِزَيْدٍ ولا لِعَمْرٍو، فَيَنْتَفِي عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، ولا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: بَلْ لِأحَدِهِما، ولَيْسَ هَذا لِزَيْدٍ ولا لِعَمْرٍو، فَيَنْتَفِي عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، ولا يَجُوزُ أنْ تَقُولَ: بَلْ لِأحَدِهِما. وإذا تَقَرَّرَ هَذا اتَّضَحَ ضَعْفُ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ في قَوْلِهِ: فَإنْ قُلْتَ: مَنِ المُرادُ بِالَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، أهُمُ الفُسّاقُ مِن أهْلِ القِبْلَةِ، أمِ الكُفّارُ ؟ قُلْتُ: فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يُرادَ بِهِ الكُفّارُ؛ لِظاهِرِ قَوْلِهِ: وهم كُفّارٌ، وأنْ يُرادَ الفُسّاقُ؛ لِأنَّ (p-٢٠١)الكَلامَ إنَّما وقَعَ في الزّانِيَيْنِ، والإعْراضُ عَنْهُما إنْ تابا وأصْلَحا، ويَكُونُ قَوْلُهُ: وهم كُفّارٌ وارِدًا عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ كَقَوْلِهِ: ﴿ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧] وقَوْلِهِ: (فَلْيَمُتْ إنْ شاءَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرانِيًّا)، (مَن تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ) لِأنَّ مَن كانَ مُصَدِّقًا وماتَ وهو لا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ - حالُهُ قَرِيبَةٌ مِن حالِ الكافِرِ، لِأنَّهُ لا يَجْتَرِي عَلى ذَلِكَ إلّا قَلْبٌ مُصْمَتٌ، انْتَهى كَلامُهُ. وهو في غايَةِ الِاضْطِرابِ، لِأنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَمَلَ الآيَةَ عَلى أنَّها دالَّةٌ عَلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما: الَّذِينَ سَوَّفُوا التَّوْبَةَ إلى حُضُورِ المَوْتِ، والثّانِي: الَّذِينَ ماتُوا عَلى الكُفْرِ. وفي هَذا الجَوابِ حَمْلُ الآيَةِ عَلى أنَّها أُرِيدَ بِها أحَدُ القِسْمَيْنِ، إمّا الكُفّارُ فَقَطْ، وهُمُ الَّذِينَ وُصِفُوا عِنْدَهُ بِأنَّهم يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ويَمُوتُونَ عَلى الكُفْرِ، وعَلَّلَ هَذا الوَجْهَ بِقَوْلِهِ: لِظاهِرِ قَوْلِهِ: وهم كُفّارٌ، فَجَعَلَ هَذِهِ الحالَ دالَّةً عَلى أنَّهُ أُرِيدَ بِالَّذِينِ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ هُمُ الكُفّارُ، وإمّا الفُسّاقُ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وهم كُفّارٌ لا يُرادُ بِهِ الكُفْرُ حَقِيقَةً، ولا أنَّهم يُوافُونَ عَلى الكُفْرِ حَقِيقَةً، وإنَّما جاءَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ عِنْدَهُ: فَقَدْ خالَفَ تَفْسِيرُهُ في هَذا الجَوابِ صَدْرَ تَفْسِيرِهِ الآيَةَ أوَّلًا، وكُلُّ ذَلِكَ انْتِصارٌ لِمَذْهَبِهِ حَتّى يُرَتِّبَ العَذابَ: إمّا لِلْكافِرِ، وإمّا لِلْفاسِقِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ قَوانِينِ النَّحْوِ والحَمْلِ عَلى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: وهم كُفّارٌ لَيْسَ ظاهِرُهُ إلّا أنَّهُ قَيْدٌ في قَوْلِهِ: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ﴾، وظاهِرُهُ المُوافاةُ عَلى الكُفْرِ حَقِيقَةً. وكَما أنَّهُ شَرَطَ في انْتِفاءِ قَبُولِ تَوْبَةِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ إيقاعَها في حالِ حُضُورِ المَوْتِ، كَذَلِكَ شَرَطَ في ذَلِكَ كُفْرَهم حالَةَ المَوْتِ، وظاهِرُ العَطْفِ التَّغايُرُ. والزَّمَخْشَرِيُّ كَما قِيلَ في المَثَلِ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي ويُصِمُّ. وجاءَ (يَعْمَلُونَ) بِصِيغَةِ المُضارِعِ لا بِصِيغَةِ الماضِي إشْعارًا بِأنَّهم مُصِرُّونَ عَلى عَمَلِ السَّيِّئاتِ إلى أنْ يَحْضُرَهُمُ المَوْتُ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ﴾، هو تَوْبَتُهم عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ كَما تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، فَلا تُقْبَلُ تَوْبَتُهم لِأنَّها تَوْبَةُ دَفْعٍ. وقِيلَ: قَوْلُهُ تُبْتُ الآنَ تَوْبَةٌ شَرِيطِيَّةٌ فَلَمْ تُقْبَلْ، لِأنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ بِها. وقَوْلُهُ: ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾ ظاهِرُهُ النَّفْيُ لِوُجُودِها، والمَعْنى عَلى نَفْيِ القَبُولِ أيْ أنَّ تَوْبَتَهم وإنْ وُجِدَتْ فَلَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ وُقُوعُ المَوْتِ حَقِيقَةً. فالمَعْنى: أنَّهم لَوْ تابُوا في الآخِرَةِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهم، لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ ذَلِكَ في الدُّنْيا، لِأنَّهم ماتُوا مُلْتَبِسِينَ بِالكُفْرِ. قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِقَوْلِهِ يَمُوتُونَ: يَقْرُبُونَ مِنَ المَوْتِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ أيْ عَلاماتُهُ. فَكَما أنَّ التَّوْبَةَ عَنِ المَعْصِيَةِ لا تُقْبَلُ عِنْدَ القُرْبِ مِنَ المَوْتِ، كَذَلِكَ الإيمانُ لا يُقْبَلُ عِنْدَ القُرْبِ مِنَ المَوْتِ.
﴿أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى الصِّنْفَيْنِ، ويَكُونانِ قَدْ شُرِكا في إعْدادِ العَذابِ لَهُما، وإنْ كانَ عَذابُ أحَدِهِما مُنْقَطِعًا والآخَرُ خالِدًا. ويَكُونُ ذَلِكَ وعِيدًا لِلْعاصِي الَّذِي لَمْ يَتُبْ إلّا عِنْدَ مُعايَنَةِ المَوْتِ حَيْثُ شَرَّكَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الَّذِي وافى عَلى الكُفْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ (أُولَئِكَ) إشارَةً إلى الصِّنْفِ الأخِيرِ إذْ هو أقْرَبُ مَذْكُورٍ. واسْمُ الإشارَةِ يَجْرِي مَجْرى الضَّمِيرِ، فَيُشارُ بِهِ إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، كَما يَعُودُ الضَّمِيرُ عَلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ، ويَكُونُ إعْدادُ العَذابِ مُرَتَّبًا عَلى المُوافاةِ عَلى الكُفْرِ، إذِ الكُفْرُ هو مَقْطَعُ الرَّجاءِ مِن عَفْوِ اللَّهِ تَعالى. وظاهِرُ الإعْدادِ أنَّ النّارَ مَخْلُوقَةٌ، وسَبَقَ الكَلامُ عَلى ذَلِكَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهم في الوَعِيدِ، نَظِيرُ قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [النساء: ١٧] في الوَعْدِ لِيَتَبَيَّنَ أنَّ الأمْرَيْنِ كائِنانِ لا مَحالَةَ، انْتَهى. وتَلَطَّفَ الزَّمَخْشَرِيُّ في دَسِّهِ الِاعْتِزالَ هُنا، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ قَدْ قَرَّرَ أوَّلَ كَلامِهِ بِأنَّ مَن نَفى عَنْهُمُ التَّوْبَةَ صِنْفانِ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذا عَقِيبَهُ، وفُهِمَ مِنهُ أنَّ الوَعِيدَ في حَقِّ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ كائِنٌ لا مَحالَةَ، كَما أنَّ الوَعْدَ لِلَّذِينَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهم مِنَ الصِّنْفِ المَذْكُورِ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ واقِعٌ لا مَحالَةَ، فَدَلَّ عَلى أنَّ العُصاةَ الَّذِينَ لا تَوْبَةَ لَهم وعِيدُهم كائِنٌ مَعَ وعِيدِ الكُفّارِ، وهَذا هو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ. ومَعَ احْتِمالِ أنْ يَكُونَ (p-٢٠٢)أُولَئِكَ إشارَةً إلى الَّذِينَ يُوافُونَ عَلى الكُفْرِ، ويُرَجِّحُ ذَلِكَ بِأنَّ فِعْلَ الكافِرِ أقْبَحُ مِن فِعْلِ الفاسِقِ، لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ الوَعِيدُ مَقْطُوعًا بِهِ لِلْفاسِقِ. وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ الوَعِيدُ لِلْفاسِقِ الَّذِي لا تَوْبَةَ لَهُ، فَلا يَلْزَمُ وُقُوعُ ما دَلَّ عَلَيْهِ، إذْ يَجُوزُ العِقابُ ويَجُوزُ العَفْوُ. وفائِدَةُ وُرُودِهِ حُصُولُ التَّخْوِيفِ لِلْفاسِقِ. وكُلُّ وعِيدٍ لِلْفُسّاقِ الَّذِينَ ماتُوا عَلى الإسْلامِ فَهو مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] وهَذِهِ هي الآيَةُ المُحْكَمَةُ الَّتِي يُرْجَعُ إلَيْها.
وذَهَبَ أبُو العالِيَةِ الرِّياحِيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ﴾ في حَقِّ المُنافِقِينَ، واخْتارَهُ المَرْوَزِيُّ. قالَ: فَرَّقَ بِالعَطْفِ، ودَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِالأوَّلِ المُنافِقُونَ. كَما فَرَّقَ بَيْنَهم في قَوْلِهِ: ﴿فاليَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكم فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الحديد: ١٥] لِأنَّ المُنافِقَ كانَ مُخالِفًا لِلْكافِرِ بِظاهِرِهِ في الدُّنْيا. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّها في عُصاةِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتُوبُونَ حالَ اليَأْسِ مِنَ الحَياةِ؛ لِأنَّ المُنافِقِينَ مُنْدَرِجُونَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ فَهم قِسْمٌ مِنَ الكُفّارِ لا قَسِيمَ لَهم. وقِيلَ: إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ في الصَّغائِرِ، ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في الكَبائِرِ، ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ في الكُفْرِ.
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، والحَسَنُ، وأبُو مِجْلَزٍ: كانَ أوْلِياءُ المَيِّتِ أحَقَّ بِامْرَأتِهِ مِن أهْلِها، إنْ شاءُوا تَزَوَّجَها أحَدُهم، أوْ زَوَّجُوها غَيْرَهم، أوْ مَنَعُوها. وكانَ ابْنُهُ مِن غَيْرِها يَتَزَوَّجُها، وكانَ ذَلِكَ في الأنْصارِ لازِمًا، وفي قُرَيْشٍ مُباحًا. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ الِابْنُ الأكْبَرُ أحَقَّ بِامْرَأةِ أبِيهِ، إذا لَمْ يَكُنْ ولَدَها. وقالَ السُّدِّيُّ: إنْ سَبَقَ الوَلِيُّ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَيْها كانَ أحَقَّ بِها، أوْ سَبَقَتْهُ إلى أهْلِها كانَتْ أحَقَّ بِنَفْسِها، فَأذْهَبَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ.
والخِطابُ عَلى هَذا لِلْأوْلِياءِ، نُهُوا أنْ يَرِثُوا النِّساءَ المُخَلَّفاتِ عَنِ المَوْتى كَما يُورَثُ المالُ. والمُرادُ نَفْيُ الوِراثَةِ في حالِ الطَّوْعِ والكَراهَةِ، لا جَوازُها في حالِ الطَّوْعِ اسْتِدْلالًا بِالآيَةِ، فَخَرَجَ هَذا الكُرْهُ مَخْرَجَ الغالِبِ، لِأنَّ غالِبَ أحْوالِهِنَّ أنْ يَكُنَّ مَجْبُوراتٍ عَلى ذَلِكَ، إذْ كانَ أوْلِياؤُهُ أحَقَّ بِها مِن أوْلِياءِ نَفْسِها. وقِيلَ: هو إمْساكُهُنَّ دُونَ تَزْوِيجٍ حَتّى يَمُتْنَ فَيَرِثُونَ أمْوالَهُنَّ، أوْ في حِجْرِهِ يَتِيمَةٌ لَها مالٌ فَيَكْرَهُ أنْ يُزَوِّجَها غَيْرَهُ مُحافَظَةً عَلى مالِها، فَيَتَزَوَّجُها كُرْهًا لِأجْلِهِ. أوْ تَحْتَهُ عَجُوزٌ ذاتُ مالٍ، ويَتُوقُ إلى شابَّةٍ فَيُمْسِكُ العَجُوزَ لِمالِها، ولا يَقْرَبُها حَتّى تَفْتَدِيَ مِنهُ بِمالِها، أوْ تَمُوتَ فَيَرِثَ مالَها. والخِطابُ لِلْأزْواجِ، وعَلى هَذا القَوْلِ وما قَبْلَهُ يَكُونُ المَوْرُوثُ مالَهُنَّ، لا هُنَّ. وانْتَصَبَ كَرْهًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ النِّساءِ، فَيُقَدَّرُ باسِمِ فاعِلٍ أيْ: كارِهاتٍ، أوْ بِاسْمِ مَفْعُولٍ أيْ: مُكْرَهاتٍ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ الكافِ، حَيْثُ وقَعَ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِضَمِّها، وعاصِمٌ وابْنُ عامِرٍ بِفَتْحِها في هَذِهِ السُّورَةِ وفي التَّوْبَةِ، وبِضَمِّها في الأحْقافِ وفي المُؤْمِنِينَ، وهُما لُغَتانِ: كالصَّمْتِ والصُّمْتِ، قالَهُ: الكِسائِيُّ والأخْفَشُ وأبُو عَلِيٍّ. وقالَ الفَرّاءُ: الفَتْحُ بِمَعْنى الإكْراهِ، والضَّمُّ مِن فِعْلِكَ تَفْعَلُهُ كارِهًا لَهُ مِن غَيْرِ مُكْرِهٍ كالأشْياءِ الَّتِي فِيها مَشَقَّةٌ وتَعَبٌ، وقالَهُ: أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ وابْنُ قُتَيْبَةَ أيْضًا. وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] في البَقَرَةِ. وقُرِئَ: لا تَحِلُّ لَكم بِالتّاءِ عَلى تَقْدِيرِ: لا تَحِلُّ لَكُمُ الوِراثَةُ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهم إلّا أنْ قالُوا﴾ [الأنعام: ٢٣] أيْ إلّا مَقالَتَهم، وانْتِصابُ النِّساءِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ إمّا لِكَوْنِهِنَّ هُنَّ أنْفُسِهِنِّ المَوْرُوثاتِ، وإمّا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: أمْوالَ النِّساءِ.
﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ أيْ لا تَحْبِسُوهُنَّ (p-٢٠٣)ولا تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. وظاهِرُ هَذا الخِطابِ أنَّهُ لِلْأزْواجِ؛ لِقَوْلِهِ: بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ؛ لِأنَّ الزَّوْجَ هو الَّذِي أعْطاها الصَّداقَ. وكانَ يَكْرَهُ صُحْبَةَ زَوْجَتِهِ، ولَها عَلَيْهِ مَهْرٌ، فَيَحْبِسُها ويَضْرِبُها حَتّى تَفْتَدِيَ مِنهُ قالَهُ: ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ والضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ. أوْ يَنْكِحُ الشَّرِيفَةَ فَلا تُوافِقُهُ، فَيُفارِقَها عَلى أنْ لا تَتَزَوَّجَ إلّا بِإذْنِهِ، ويُشْهِدُ عَلى ذَلِكَ، فَإذا خُطِبَتْ وأرْضَتْهُ أذِنَ لَها، وإلّا عَضَلَها قالَهُ: ابْنُ زَيْدٍ. أوْ كانَتْ عادَتُهم مَنعَ المُطَلَّقَةِ مِنَ الزَّوْجِ ثَلاثًا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لِلْأوْلِياءِ كَما بَيَّنَ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْأوْلِياءِ والأزْواجِ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فَلُفُّوا في هَذا الخِطابِ، ثُمَّ أُفْرِدَ كُلٌّ في النَّهْيِ بِما يُناسِبُهُ، فَخُوطِبَ الأوْلِياءُ بِقَوْلِهِ: لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا، وخُوطِبَ الأزْواجُ بِقَوْلِهِ: ولا تَعْضُلُوهُنَّ، فَعادَ كُلُّ خِطابٍ إلى مَن يُناسِبُهُ. وتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ العَضْلِ في البَقَرَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، والباءُ في بِـ ﴿بَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ: لِتُذْهِبُوا بَعْضَ ما آتَيْتُمُوهُنَّ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الباءُ لِلْمُصاحَبَةِ أيْ: لِتَذْهَبُوا مَصْحُوبِينَ بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ.
﴿إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ هَذا اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ، ولا حاجَةَ إلى دَعْوى الِانْقِطاعِ فِيهِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم. وهو اسْتِثْناءٌ مِن ظَرْفِ زَمانٍ عامٍّ، أوْ مِن عِلَّةٍ. كَأنَّهُ قِيلَ: ولا تَعْضُلُوهُنَّ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا وقْتَ أنْ يَأْتِينَ. أوْ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ، إلّا لِأنَّ يَأْتِينَ. والظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ بِقَوْلِهِ: ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِلْأزْواجِ إذْ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ حَبْسُها حَتّى يَذْهَبَ بِمالِها إجْماعًا مِنَ الأُمَّةِ، وإنَّما ذَلِكَ لِلزَّوْجِ عَلى ما تَبَيَّنَ.
والفاحِشَةُ هُنا الزِّنا، قالَهُ: أبُو قُلابَةَ والحَسَنُ. قالَ الحَسَنُ: إذا زَنَتِ البِكْرُ جُلِدَتْ مِائَةً ونُفِيَتْ سَنَةً، ورَدَّتْ إلى زَوْجِها ما أخَذَتْ مِنهُ. وقالَ أبُو قِلابَةَ: إذا زَنَتِ امْرَأةُ الرَّجُلِ فَلا بَأْسَ أنْ يُضارَّها ويَشُقَّ عَلَيْها حَتّى تَفْتَدِيَ مِنهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: إذا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَخُذُوا مُهُورَهُنَّ. وقالَ عَطاءٌ: كانَ هَذا الحُكْمُ ثُمَّ نُسِخَ بِالحُدُودِ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ وأبُو قِلابَةَ: لا يَحِلُّ الخُلْعُ حَتّى يُوجَدَ رَجُلٌ عَلى بَطْنِها. وقالَ السُّدِّيُّ: لا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَحْبِسَها ضِرارًا حَتّى تَفْتَدِيَ مِنهُ، يَعْنِي: وإنْ زَنَتْ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وعائِشَةُ والضَّحّاكُ وغَيْرُهم: الفاحِشَةُ هُنا: النُّشُوزُ، فَإذا نَشَزَتْ حَلَّ لَهُ أنْ يَأْخُذَ مالَها، وهَذا مَذْهَبُ مالِكٍ وقالَ قَوْمٌ: الفاحِشَةُ: البَذْءُ بِاللِّسانِ، وسُوءُ العِشْرَةِ قَوْلًا وفِعْلًا، وهَذا في مَعْنى النُّشُوزِ. والمَعْنى: إلّا أنْ يَكُونَ سُوءُ العِشْرَةِ مِن جِهَتَيْنِ، فَيَجُوزُ أخْذُ مالِهِنَّ عَلى سَبِيلِ الخُلْعِ. ويَدُلُّ عَلى هَذا المَعْنى قِراءَةُ أُبَيٍّ: إلّا أنْ يُفْحِشْنَ عَلَيْكم، وقِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: إلّا أنْ يُفْحِشْنَ وعاشِرُوهُنَّ، وهُما قِراءَتانِ مُخالِفَتانِ لِمُصْحَفِ الإمامِ، وكَذا ذَكَرَ الدّانِي عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةَ. والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أنَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ والإيضاحِ، لا عَلى أنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ. ورَأى بَعْضُهم أنْ لا يَتَجاوَزَ ما أعْطاها رُكُونًا لِقَوْلِهِ: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ وقالَ مالِكٌ: لِلزَّوْجِ أنْ يَأْخُذَ مِنَ النّاشِزِ جَمِيعَ ما تَمْلِكُهُ. وظاهِرُ الِاسْتِثْناءِ يَقْتَضِي إباحَةَ العَضْلِ لَهُ؛ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ ما أعْطاها لِأكْلِهِ، ولا ما لَمْ يُعْطِها مِن مالِهِ إذا أتَتْ بِالفاحِشَةِ المُبَيِّنَةِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو (p-٢٠٤)بَكْرٍ: مُبَيِّنَةٍ هُنا، وفي الأحْزابِ، والطَّلاقِ بِفَتْحِ الياءِ، أيْ يُبَيِّنُها مَن يَدَّعِيها ويُوَضِّحُها. وقَرَأ الباقُونَ بِالكَسْرِ، أيْ: بَيِّنَةٍ في نَفْسِها ظاهِرَةٍ. وهي اسْمُ فاعِلٍ مِن بَيَّنَ، وهو فِعْلٌ لازِمٌ بِمَعْنى بانَ أيْ ظَهَرَ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ولا تَعْضُلُوهُنَّ، أنْ لا نَهْيَ، فالفِعْلُ مَجْزُومٌ بِها، والواوُ عاطِفَةٌ جُمْلَةً طَلَبِيَّةً عَلى جُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ. فَإنْ قُلْنا: شَرْطُ عَطْفِ الجُمَلِ المُناسَبَةُ، فالمُناسَبَةُ أنَّ تِلْكَ الخَبَرِيَّةَ تَضَمَّنَتْ مَعْنى النَّهْيِ كَأنَّهُ قالَ: لا تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا فَإنَّهُ غَيْرُ حَلالٍ لَكم ولا تَعْضُلُوهُنَّ. وإنْ قُلْنا: لا يُشْتَرَطُ في العَطْفِ المُناسَبَةُ وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، فَظاهِرٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَعْضُلُوهُنَّ نَصْبًا عَطْفًا عَلى تَرِثُوا، فَتَكُونُ الواوُ مُشْرِكَةً عاطِفَةً فِعْلًا عَلى فِعْلٍ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ولا أنْ تَعْضُلُوهُنَّ، فَهَذِهِ القِراءَةُ تُقَوِّي احْتِمالَ النَّصْبِ، وأنَّ العَضْلَ مِمّا لا يَحِلُّ بِالنَّصِّ. وعَلى تَأْوِيلِ الجَزْمِ هي نَهْيٌ مُعَوِّضٌ لِطَلَبِ القَرائِنِ في التَّحْرِيمِ أوِ الكَراهَةِ، واحْتِمالُ النَّصْبِ أقْوى، انْتَهى ما ذَكَرَهُ مِن تَجْوِيزِ هَذا الوَجْهِ، وهو لا يَجُوزُ؛ وذَلِكَ أنَّكَ إذا عَطَفْتَ فِعْلًا مَنفِيًّا بِلا عَلى مُثْبَتٍ وكانا مَنصُوبَيْنِ، فَإنَّ النّاصِبَ لا يُقَدَّرُ إلّا بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ، لا بَعْدَ (لا) . فَإذا قُلْتَ: أُرِيدُ أنْ أتُوبَ ولا أدْخُلَ النّارَ، فالتَّقْدِيرُ: أُرِيدُ أنْ أتُوبَ وأنْ لا أدْخُلَ النّارَ؛ لِأنَّ الفِعْلَ يُطْلَبُ الأوَّلُ عَلى سَبِيلِ الثُّبُوتِ، والثّانِي عَلى سَبِيلِ النَّفْيِ. فالمَعْنى: أُرِيدُ التَّوْبَةَ وانْتِفاءَ دُخُولِي النّارَ. فَلَوْ كانَ الفِعْلُ المُتَسَلِّطُ عَلى المُتَعاطِفَيْنِ مَنفِيًّا، فَكَذَلِكَ ولَوْ قَدَّرْتَ هَذا التَّقْدِيرَ في الآيَةِ لَمْ يَصِحَّ لَوْ قُلْتَ: لا يَحِلُّ لَكم أنْ لا تَعْضُلُوهُنَّ لَمْ يَصِحَّ، إلّا أنْ تَجْعَلَ لا زائِدَةً لا نافِيَةً، وهو خِلافُ الظّاهِرِ. وأمّا أنْ تُقَدِّرَ أنْ بَعْدَ لا النّافِيَةِ فَلا يَصِحُّ. وإذا قَدَّرْتَ أنْ بَعْدَ لا كانَ مِن بابِ عَطْفِ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ عَلى المَصْدَرِ المُقَدَّرِ، لا مِن بابِ عَطْفِ الفِعْلِ عَلى الفِعْلِ، فالتَبَسَ عَلى ابْنِ عَطِيَّةَ العَطْفانِ، وظَنَّ أنَّهُ بِصَلاحِيَّةِ تَقْدِيرِ أنْ بَعْدَ لا يَكُونُ مِن عَطْفِ الفِعْلِ عَلى الفِعْلِ، وفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: لا أُرِيدُ أنْ يَقُومَ وأنْ لا يَخْرُجَ، وقَوْلِكَ: لا أُرِيدُ أنْ يَقُومَ ولا أنْ يَخْرُجَ، فَفي الأوَّلِ نَفْيُ إرادَةِ وُجُودِ قِيامِهِ وإرادَةِ انْتِفاءِ خُرُوجِهِ، فَقَدْ أرادَ خُرُوجَهُ. وفي الثّانِيَةِ نَفْيُ إرادَةِ وُجُودِ قِيامِهِ، ووُجُودِ خُرُوجِهِ، فَلا يُرِيدُ لا القِيامَ ولا الخُرُوجَ. وهَذا في فَهْمِهِ بَعْضُ غُمُوضٍ عَلى مَن لَمْ يَتَمَرَّنْ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ.
﴿وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ هَذا أمْرٌ بِحُسْنِ المُعاشَرَةِ، والظّاهِرُ أنَّهُ أمْرٌ لِلْأزْواجِ، لِأنَّ التَّلَبُّسَ بِالمُعاشَرَةِ غالِبًا إنَّما هو لِلْأزْواجِ، وكانُوا يُسِيئُونَ مُعاشَرَةَ النِّساءِ، وبِالمَعْرُوفِ (p-٢٠٥)هُوَ النَّصَفَةُ في المَبِيتِ والنَّفَقَةِ، والإجْمالُ في القَوْلِ. ويُقالُ: المَرْأةُ تَسْمَنُ مِن أُذُنِها.
﴿فَإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ أدَّبَ تَعالى عِبادَهُ بِهَذا. والمَعْنى: أنَّهُ لا تَحْمِلْكُمُ الكَراهَةُ عَلى سُوءِ المُعاشَرَةِ، فَإنَّ كَراهَةَ الأنْفُسِ لِلشَّيْءِ لا تَدُلُّ عَلى انْتِفاءِ الخَيْرِ مِنهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦] ولَعَلَّ ما كَرِهَتِ النَّفْسُ يَكُونُ أصْلَحَ في الدِّينِ وأحْمَدَ في العاقِبَةِ، وما أحَبَّتْهُ يَكُونُ بِضِدِّ ذَلِكَ. ولَمّا كانَتْ عَسى فِعْلًا جامِدًا دَخَلَتْ عَلَيْهِ فاءُ الجَوابِ، وعَسى هُنا تامَّةٌ، فَلا تَحْتاجُ إلى اسْمٍ وخَبَرٍ. والضَّمِيرُ في فِيهِ عائِدٌ عَلى شَيْءٍ أيْ: ويَجْعَلُ اللَّهُ في ذَلِكَ الشَّيْءِ المَكْرُوهِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الكُرْهِ وهو المَصْدَرُ المَفْهُومُ مِنَ الفِعْلِ. وقِيلَ: عائِدٌ عَلى الصَّبْرِ. وفَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ الخَيْرَ بِالوَلَدِ الصّالِحِ، وهو عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لا الحَصْرِ. وانْظُرْ إلى فَصاحَةِ ﴿فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾، حَيْثُ عَلَّقَ الكَراهَةَ بِلَفْظِ شَيْءٍ الشّامِلِ شُمُولَ البَدَلِ، ولَمْ يُعَلِّقِ الكَراهَةَ بِضَمِيرِ (هُنَّ)، فَكانَ يَكُونُ: فَعَسى أنْ تَكْرَهُوهُنَّ. وسِياقُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَعْنى الحَثُّ عَلى إمْساكِهِنَّ وعَلى صُحْبَتِهِنَّ، وإنْ كَرِهَ الإنْسانُ مِنهُنَّ شَيْئًا مِن أخْلاقِهِنَّ. ولِذَلِكَ جاءَ بَعْدَهُ: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ [النساء: ٢٠] . وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ: ويَجْعَلُ اللَّهُ في فِراقِكم لَهُنَّ خَيْرًا كَثِيرًا لَكم ولَهُنَّ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ [النساء: ١٣٠] قالَهُ الأصَمُّ: وهَذا القَوْلُ بَعِيدٌ مِن سِياقِ الآيَةِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَها وما بَعْدَها. وقَلَّ أنْ تَرى مُتَعاشِرَيْنِ يَرْضى كُلُّ واحِدٍ مِنهُما جَمِيعَ خُلُقِ الآخَرِ، ويُقالُ: ما تَعاشَرَ اثْنانِ إلّا وأحَدُهُما يَتَغاضى عَنِ الآخَرِ. وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنها خُلُقًا رَضِيَ مِنها آخَرَ) . وأنْشَدُوا في هَذا المَعْنى:
؎ومَن لا يُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وعَنْ بَعْضِ ما فِيهِ يَمُتْ وهو عاتِبُ
؎ومَن يَتَتَبَّعْ جاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ∗∗∗ يَجِدْها ولا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صاحِبُ
﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠] لَمّا أذِنَ في مُضارَّتِهِنَّ إذا أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ لِيَذْهَبَ بِبَعْضِ ما أعْطاها، بَنى تَحْرِيمَ ذَلِكَ في غَيْرِ حالِ الفاحِشَةِ، وأقامَ الإرادَةَ مَقامَ الفِعْلِ. فَكَأنَّهُ قالَ: وإنِ اسْتَبْدَلْتُمْ. أوْ حَذَفَ مَعْطُوفًا أيْ: واسْتَبْدَلْتُمْ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: وآتَيْتُمْ أنَّ الواوَ لِلْحالِ، أيْ: وقَدْ آتَيْتُمْ. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ ولَيْسَ بِظاهِرٍ. والِاسْتِبْدالُ وضْعُ الشَّيْءِ مَكانَ الشَّيْءِ، والمَعْنى: أنَّهُ إذا كانَ الفِراقُ مِنِ اخْتِيارِكم فَلا تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا. واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا﴾ [النساء: ٢٠] عَلى جَوازِ المُغالاةِ في الصَّدَقاتِ، وقَدِ اسْتَدَلَّتْ بِذَلِكَ المَرْأةُ الَّتِي خاطَبَتْ عُمَرَ حِينَ خَطَبَ وقالَ: (ألا لا تُغالُوا في مُهُورِ نِسائِكم) . وقالَ قَوْمٌ: لا تَدُلُّ عَلى المُغالاةِ، لِأنَّهُ تَمْثِيلٌ عَلى جِهَةِ المُبالَغَةِ في الكَثْرَةِ كَأنَّهُ قِيلَ: وآتَيْتُمْ هَذا القَدْرَ العَظِيمَ الَّذِي لا يُؤْتِيهِ أحَدٌ، وهَذا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ: (مَن بَنى مَسْجِدًا لِلَّهِ ولَوْ كَمَفْحَصِ قَطاةٍ بَنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّةِ) ومَعْلُومٌ أنَّ مَسْجِدًا لا يَكُونُ كَمَفْحَصِ قَطاةٍ، وإنَّما هو تَمْثِيلٌ لِلْمُبالَغَةِ في الصِّغَرِ. وقَدْ قالَ لِمَن أمْهَرَ مِائَتَيْنِ وجاءَ يَسْتَعِينُ في مَهْرِهِ وغَضِبَ: (كَأنَّكم تَقْطَعُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ مِن عُرْضِ الحَرَّةِ) وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرّازِيُّ: لا دَلالَةَ فِيها عَلى المُغالاةِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: وآتَيْتُمْ لا يَدُلُّ عَلى (p-٢٠٦)جَوازِ إيتاءِ القِنْطارِ، ولا يَلْزَمُ مِن جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كُونُ ذَلِكَ الشَّرْطِ في نَفْسِهِ جائِزَ الوُقُوعِ كَقَوْلِهِ: (مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ) انْتَهى. ولَمّا كانَ قَوْلُهُ: وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ، خِطابًا لِجَماعَةٍ كانَ مُتَعَلِّقُ الِاسْتِبْدالِ أزْواجًا مَكانَ أزْواجٍ، واكْتَفى بِالمُفْرَدِ عَنِ الجَمْعِ لِدَلالَةِ جَمْعِ المُسْتَبْدَلِينَ، إذْ لا يُوهِمُ اشْتِراطُ المُخاطَبِينَ في زَوْجٍ واحِدَةٍ مَكانَ زَوْجٍ واحِدَةٍ، ولِإرادَةِ مَعْنى الجَمْعِ - عادَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: إحْداهُنَّ جَمْعًا، والَّتِي نَهى أنْ نَأْخُذَ مِنها هي المُسْتَبْدَلُ مَكانَها، إلّا المُسْتَبْدَلَةَ، إذْ تِلْكَ هي الَّتِي أعْطاها المالَ، لا الَّتِي أرادَ اسْتِحْداثَها بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] وقالَ: وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا لِيَدُلَّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: (وآتَيْتُمُ) المُرادُ مِنهُ: وأتى كُلُّ واحِدٍ مِنكم إحْداهُنَّ، أيْ إحْدى الأزْواجِ قِنْطارًا، ولَمْ يَقُلْ: وآتَيْتُمُوهُنَّ قِنْطارًا، لِئَلّا يُتَوَهَّمُ أنَّ الجَمِيعَ المُخاطَبِينَ آتَوُا الأزْواجَ قِنْطارًا. والمُرادُ: آتى كُلُّ واحِدٍ زَوْجَتَهُ قِنْطارًا. فَدَلَّ لَفْظُ إحْداهُنَّ عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في: آتَيْتُمْ، المُرادُ مِنهُ كُلُّ واحِدٍ واحِدٍ، كَما دَلَّ لَفْظُ: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ [النساء: ٢٠] عَلى أنَّ المُرادَ اسْتِبْدالُ أزْواجٍ مَكانَ أزْواجٍ، فَأُرِيدَ بِالمُفْرَدِ هُنا الجَمْعُ لِدَلالَةِ: وإنْ أرَدْتُمْ. وأُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وآتَيْتُمْ كُلَّ واحِدٍ واحِدٍ لِدَلالَةِ إحْداهُنَّ، وهي مُفْرَدَةٌ عَلى ذَلِكَ. وهَذا مِن لَطِيفِ البَلاغَةِ، ولا يُدَلُّ عَلى هَذا المَعْنى بِأوْجَزَ مِن هَذا ولا أفْصَحَ. وتَقَدَّمَ الكَلامُ في قِنْطارٍ في أوَّلِ آلِ عِمْرانَ، والضَّمِيرُ في مِنهُ عائِدٌ عَلى قِنْطارٍ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: بِوَصْلِ ألِفِ إحْداهُنَّ، كَما قُرِئَ: ﴿إنَّها لَإحْدى الكُبَرِ﴾ [المدثر: ٣٥] بِوَصْلِ الألِفِ، حُذِفَتْ عَلى جِهَةِ التَّحْقِيقِ كَما قالَ:
؎وتَسْمَعُ مِن تَحْتِ العَجاجِ لَها ازْمَلا
وقالَ:
؎إنْ لَمْ أُقاتِلْ فالبِسُونِي بُرْقُعا
وظاهِرُ قَوْلِهِ: فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا تَحْرِيمُ أخْذِ شَيْءٍ مِمّا آتاها إذا كانَ اسْتِبْدالُ مَكانِها بِإرادَتِهِ. قالُوا: وهَذا مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ﴾ [النساء: ٤] قالُوا: وانْعَقَدَ عَلَيْهِ الإجْماعُ. ويُجْرى هَذا المَجْرى المُخْتَلِعَةُ؛ لِأنَّها طابَتْ نَفْسُها أنْ تَدْفَعَ لِلزَّوْجِ ما افْتَدَتْ بِهِ. وقالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُزْنِيُّ: لا تَأْخُذْ مِنَ المُخْتَلِعَةِ شَيْئًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ [النساء: ٢٠] وآيَةُ البَقَرَةِ مَنسُوخَةٌ بِهَذا، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ في سُورَةِ البَقَرَةِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا، والنَّهْيُ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلى عُمُومِ ما آتاها، سَواءٌ كانَ مَهْرًا أوْ غَيْرَهُ.
أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ؛ لِأنَّ هَذا لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الَّذِي آتاها مَهْرًا فَقَطْ، بَلِ المَعْنى: أنَّهُ قَدْ صارَ بَيْنَهُما مِنَ الِاخْتِلاطِ والِامْتِزاجِ ما لا يُناسِبُ أنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِمّا آتاها، سَواءٌ كانَ مَهْرًا أوْ غَيْرَهُ. وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ أوَّلُ الخِطابِ عُمُومًا في جَمِيعِ ما تَضَمَّنَهُ الِاسْمُ، ويَكُونَ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ خاصٍّ فِيهِ، ولا يُوجِبُ ذَلِكَ خُصُوصَ اللَّفْظِ الأوَّلِ، انْتَهى كَلامُهُ. وهو مِنهُ تَسْلِيمٌ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ﴾ [النساء: ٢١]، أيِ المَهْرَ. وبَيَّنّا أنَّهُ لا يَلْزَمُ ذَلِكَ. قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن أسْلَفَ امْرَأتَهُ نَفَقَتَها لِمُدَّةٍ ثُمَّ ماتَتْ قَبْلَ انْقِضاءِ المُدَّةِ، لا يَرْجِعُ في مِيراثِها بِشَيْءٍ مِمّا أعْطاها؛ لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يُرِيدَ أنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرى بَعْدَ مَوْتِها مُسْتَبْدِلًا بِها مَكانَ الأُولى. وظاهِرُ الأمْرِ قَدْ تَناوَلَ هَذِهِ الحالَةَ، انْتَهى. ولَيْسَ بِظاهِرٍ؛ لِأنَّ الِاسْتِبْدالَ يَقْتَضِي وُجُودَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ، أمّا إذا كانَ قَدْ عُدِمَ فَلا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأنَّ المُسْتَبْدِلَ يَتْرُكُ هَذا ويَأْخُذُ آخَرَ بَدَلًا مِنهُ، فَإذا كانَ مَعْدُومًا فَكَيْفَ يَتْرُكُهُ ويَأْخُذُ بَدَلَهُ آخَرَ ؟ وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى تَحْرِيمِ أخْذِ شَيْءٍ مِمّا أعْطاها إنْ أرادَ الِاسْتِبْدالَ، وآخِرُ الآيَةِ يَدُلُّ بِتَعْلِيلِهِ بِالإفْضاءِ عَلى العُمُومِ، في حالَةِ الِاسْتِبْدالِ وغَيْرِها. ومَفْهُومُ الشَّرْطِ غَيْرُ مُرادٍ، وإنَّما خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأنَّها حالَةٌ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيها أنَّهُ لِمَكانِ الِاسْتِبْدالِ وقِيامِ غَيْرِها مَقامَها - لَهُ أنْ يَأْخُذَ مَهْرَها ويُعْطِيَهُ الثّانِيَةَ، وهي أوْلى بِهِ (p-٢٠٧)مِنَ المُفارِقَةِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أنَّهُ لا يَأْخُذُ مِنها شَيْئًا. وإذا كانَتْ هَذِهِ الَّتِي اسْتَبْدَلَ مَكانَها لَمْ يُبَحْ لَهُ أخْذُ شَيْءٍ مِمّا آتاها، مَعَ سُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بَضْعِها، فَأحْرى أنْ لا يُباحَ لَهُ ذَلِكَ مَعَ بَقاءِ حَقِّهِ واسْتِباحَةِ بَضْعِها، وكَوْنِهِ أبْلَغَ في الِانْتِفاعِ بِها مِنها بِنَفْسِهِ. وقَرَأ أبُو السَّمّالِ وأبُو جَعْفَرٍ: شَيًّا بِفَتْحِ الياءِ وتَنْوِينِها، حَذَفَ الهَمْزَةَ وألْقى حَرَكَتَها عَلى الياءِ.
{"ayahs_start":18,"ayahs":["وَلَیۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّـَٔاتِ حَتَّىٰۤ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّی تُبۡتُ ٱلۡـَٔـٰنَ وَلَا ٱلَّذِینَ یَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُوا۟ ٱلنِّسَاۤءَ كَرۡهࣰاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُوا۟ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُوا۟ ٱلنِّسَاۤءَ كَرۡهࣰاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُوا۟ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق