الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: ١٩].
بعدَما ذكَرَ اللهُ المواريثَ على وجهٍ مشروعٍ، نَبَّهَ على الممنوعِ منها بالإكراهِ والتحايُلِ والإضرارِ، وذلك أنّهم كانوا يَستعجلونَ مَنِيَّةَ المرأةِ، وربَّما تسبَّبُوا في ذلك أو أحَبُّوهُ، وكانوا يَحبِسُونَ النساءَ، ليتسبَّبَ في موتِهنَّ فيَرِثُوهنَّ، ثمَّ استثنى مَن تأتي بفاحشةٍ ـ وهي الزِّنى ـ مِن العَضْلِ والحبسِ.
واختُلِفَ في نسخِ هذه الآيةِ:
فجعَلَ عطاءٌ ـ وتَبِعَهُ الشافعيُّ ـ هذه الآيةَ تابعةً للآيتَيْنِ السابقتَيْنِ في حُكْمِ مَن زنى وحَبْسِهِ حتى الموتِ، فنُسِخَتْ معها بآياتِ الحدودِ في النورِ.
وقال آخَرُونَ: إنّ الآيةَ مُحكَمَةٌ، فقد صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ في البخاريِّ: أنّ أولياءَ المرأةِ بعدَ موتِ زوجِها في الجاهليَّةِ، كانوا أحَقَّ بها حتى مِن نفسِها، إنْ شاؤُوا تزوَّجُوها، وإنْ شاؤُوا زوَّجُوها غيرَهم أو عَضَلُوها، فأعلَمَ اللهُ أنّ ذلك حرامٌ[[أخرجه البخاري (٤٥٧٩) (٦/٤٤).]].
وفي قولِه تعالى: ﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ دليلٌ على الخُلْعِ وإباحتِهِ، لأنّ اللهَ حرَّمَهُ مع العَضْلِ، وهو جائزٌ بغيرِهِ بالاتِّفاقِ.
جهاتُ النشوزِ:
وللنُّشوزِ بينَ الزوجَيْنِ ثلاثُ جهاتٍ:
الجهةُ الأُولى: نشوزُ الزوجةِ وحدَها مِن غيرِ تقصيرٍ مِن زوجِها، فيجوزُ للزوجِ أنْ يُخالِعَها، وتَفتدِيَ نفسَها بمالِها، وذلك حتى لا يُتَّخَذَ نشوزُ النساءِ بابًا للإضرارِ بالأزواجِ في أموالِهم.
الجهةُ الثانيةُ: نشوزُ الزوجِ وحدَهُ مِن غيرِ تقصيرٍ مِن الزوجةِ في حقِّه، فلا يجوزُ للزوجِ أنْ يأخُذَ مِن مالِها شيئًا، ولا أنْ يَعْضُلَها لِتَفتدِيَ نفسَها بمالِها دفعًا لعَضْلِهِ وضررِهِ لها، وهذا لا خلافَ فيه إلا في قولٍ غيرِ معتبَرٍ.
الجهةُ الثالثةُ: نشوزُ الزوجَيْنِ بعضِهما عن بعضٍ، فلا يَرْغَبانِ في البقاءِ بعضِهما مع بعضٍ، لانصرافِ النفسِ عن المودَّةِ والأُلْفةِ، مع حِرْصِهما على الإصلاحِ وبَذْلِ الحقوقِ، فيجوزُ للزوجِ مخالَعَةُ امرأتِهِ بمالٍ مِن غيرِ عَضْلِها لِتَفتدِيَ نفسَها، لأنّ العضلَ إضرارٌ بالزوجةِ، وأمّا المالُ فيجوزُ أخْذُهُ، لأنّ الزوجةَ نَشَزَتْ عنه، فربَّما لو كانتْ راضيةً به تُرِيدُ البقاءَ معه، لَخَفَّ نُشُوزُهُ ونُفُورُهُ منها، وقد أباحَ اللهُ للزوجَيْنِ الخُلْعَ عندَ الخوفِ مِن عدمِ إقامةِ حدودِ اللهِ لتنافُرِ نفسَيْهما عن الأُلْفةِ والمودَّةِ: ﴿ولا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلاَّ أنْ يَخافا ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩].
أخذُ الزوجِ من مهرِ زوجتِهِ:
والأصلُ: أنّه لا يَحِلُّ للزوجِ أنْ يأخُذَ مِن مهرِ زوجتِهِ شيئًا إلا بطِيبِ نَفْسِها ولو لم يُرِدْ طلاقَها، لأنّه حقٌّ لها، وربَّما ظَنَّتْ أنّ بقاءَ زوجِها معها وحُبَّهُ لها مرهونٌ بإعطائِه مِن مالِها ومهرِها، فتُعطِيهِ بنفسٍ غيرِ طيِّبةٍ، لِيُبقِيَها في عِصْمَتِه، فحَرَّمَ اللهُ ذلك، على ما تقدَّمَ في أولِ السورةِ: ﴿فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ﴾ [النساء: ٤].
حكمُ الخُلْعِ بقصدِ أخْذِ المالِ:
وفي آيةِ البابِ: نهيٌ عن مخالَعَةِ المرأةِ على وجهِ الإضرارِ بها وأَخْذِ مالِها، ولا خلافَ عندَ العلماءِ: أنّ مَن خالَعَ امرأتَهُ، لِيُضِرَّ بها، ويأخُذَ مالَها: أنّه عاصٍ وآخِذٌ للمالِ بغيرِ حقِّه، ولا يَحِلُّ له، بل تجبُ إعادتُه لها.
وقال بعضُ أهلِ الرأيِ: بصحَّةِ الخُلْعِ مع الإثمِ، وهذا قولٌ يُخالِفُ ما عليه السلفُ وظواهرَ الأدلَّةِ، كهذه الآيةِ، وحديثِ امرأةِ ثابتٍ.
ونُقِلَ عن مالكٍ جوازُهُ إذا رَضِيَتْ ولو كان النشوزُ مِن قِبَلِ الزوجِ، ويَحِلُّ له ما أخَذَهُ مِن مالِها.
وأمّا لو رضِيَتِ المرأةُ، وأعطَتْ زوجَها المالَ بلا شرطٍ منه، وهو يُرِيدُ طلاقَها بلا مقابلٍ، ولم يظهَرْ منه ما يُضِرُّ بها ويُلْجِئُها إلى مُخالعتِه، فأرادَتْ أنْ تكونَ حَسَنَةَ العهدِ، ولها اليدُ عليه، صحَّ وجازَ، لأنّ اللهَ نَهى عن الإضرارِ، وهذا ليس بإضرارٍ.
أخذُ مهرِ مَن فعَلَتِ الفاحشةَ:
وأباحَ اللهُ أخْذَ المهرِ منهنَّ إذا أتَيْنَ بفاحشةٍ، والفاحشةُ هنا: كلُّ ما فَحُشَ مِن القولِ، مِن البذاءةِ واللعنِ والقذفِ والسَّبِّ والتعيِيرِ، وبهذا قال عامَّةُ السلفِ مِن المفسِّرينَ، فالفاحشةُ في هذا الموضِعِ غيرُ الفاحشةِ في الآياتِ السابقةِ، فهي هناك يُرادُ بها الزِّنى، وهذه قرينةٌ على أنّ الآيةَ مُحكَمةٌ لا منسوخةٌ، كما يقولُه عطاءٌ والشافعيُّ، فعامَّةُ المفسِّرينَ مِن السلفِ على أنّ الفاحشةَ في هذه الآيةِ: بذاءةُ اللسانِ، وقد قال ذلك ابنُ عبّاسٍ وابنُ مسعودٍ والضحّاكُ وقتادةُ.
وخالَفَ أبو قِلابَةَ، فقال: إنّ الفاحشةَ في هذا الموضِعِ هي الزِّنى، ورُوِيَ نحوُه عن ابنِ سِيرِينَ.
وهذا القولُ فيه نظرٌ، فالزِّنى أعْلى الفاحشةِ، ولكنَّ الفاحشةَ هي الزيادةُ، أيْ: كلُّ ما خرَجَ عن المباحِ مِن الأقوالِ والأفعالِ، وعندَ العربِ الفواحشُ: القبائحُ، ففي «الصحيحِ»، قال النبيُّ ﷺ لعائشةَ: (عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وإيّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ)[[أخرجه البخاري (٦٠٣٠) (٨/١٢).]]، وفي «الصحيحينِ»، مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ فاحِشًا ولا مُتَفَحِّشًا»[[أخرجه البخاري (٣٥٥٩) (٤/١٨٩)، ومسلم (٢٣٢١) (٤/١٨١٠).]]، وفي «السُّنَنِ»: (إنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الفاحِشَ البَذِيءَ)[[أخرجه الترمذي (٢٠٠٢) (٤/٣٦٢).]].
ومَن وجَدَ مِن امرأتِهِ فُحْشًا وبذاءةً في القولِ، جازَ له أنْ يُضارَّها، حتى تَختلِعَ وتَفتدِيَ نفسَها بمالِها، وأمّا الزِّنى، فجعَلَ اللهُ للزوجِ اللِّعانَ إنْ شاء، أو الطلاقَ بلا لِعانٍ لو أراد، خلافًا لأبي قلابةَ في قولِه: «إنّ للزوجِ الإضرارَ مع فاحشةِ الزِّنى لِتفتديَ نفسَها».
وقولُه تعالى: ﴿إلاَّ أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ قيَّدَ الفاحشةَ بالبيِّنةِ، إشارةً إلى حُرْمةِ الأخذِ بالشكِّ والرِّيبةِ وسُوءِ الظنِّ، فإنّ ذلك مِن المحرَّماتِ، ولا يجوزُ أخذُ المالِ إلا ببيِّنةٍ، لأنّ مهرَها حقٌّ لها، فلا يجوزُ أخذُه بغيرِ حقٍّ وبيِّنةٍ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا یَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُوا۟ ٱلنِّسَاۤءَ كَرۡهࣰاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُوا۟ بِبَعۡضِ مَاۤ ءَاتَیۡتُمُوهُنَّ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَیَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِیهِ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق