الباحث القرآني

ولَمّا انْقَضى ما تَخَلَّلَ ذِكْرَ النِّساءِ الوالِداتِ لِلْوُرّاثِ؛ وخَتَمَهُ بِهَذا التَّهْدِيدِ الهائِلِ لِمَن فَعَلَ ما لا يَحِلُّ لَهُ؛ وصَلَ الكَلامَ فِيهِنَّ بِأمْرٍ مَن فَعَلَهُ فَهو زانٍ؛ مُصِرٌّ عَلى الزِّنا إلى المَوْتِ؛ إنِ اعْتَقَدَ حُرْمَتَهُ؛ أوْ كافِرٌ (p-٢٢٣)إنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ؛ فَقالَ - مُشِيرًا بِتَخْصِيصِ المُؤْمِنِينَ عَقِبَ -: ﴿ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ﴾ [النساء: ١٨]؛ إلى أنَّهُ لا يَرِثُ كافِرٌ مِن مُسْلِمٍ؛ وإلّا لَقالَ: ”يا أيُّها النّاسُ“ - مَثَلًا -؛ مُنَفِّرًا مِن ذَلِكَ بِالتَّقْيِيدِ بِما هو لِأدْنى الإيمانِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أيْ: فَوَقَفَ بِهِمُ الإيمانُ عِنْدَ زَواجِرِنا؛ ﴿لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ﴾؛ أيْ: مالَهُنَّ؛ ﴿كَرْهًا﴾؛ أيْ: كارِهِينَ لَهُنَّ؛ لا حامِلَ لَكم عَلى نِكاحِهِنَّ إلّا رَجاءُ الإرْثِ؛ وذَلِكَ أنَّهم كانُوا يَنْكِحُونَ اليَتامى لِمالِهِنَّ؛ ولَيْسَ لَهم فِيهِنَّ رَغْبَةً؛ إلّا تَرَبُّصُ المَوْتِ؛ لِأخْذِ مالِهِنَّ مِيراثًا - كَما سَيَأْتِي في تَفْسِيرِ ﴿ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ﴾ [النساء: ١٢٧] -؛ أوْ يَكُونُ الفِعْلُ واقِعًا عَلى نَفْسِ النِّساءِ؛ ويَكُونُ ”كَرْهًا“؛ عَلى هَذا؛ حالًا مُؤَكِّدَةً؛ أيْ: كارِهاتٍ؛ أوْ ذَواتِ كُرْهٍ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الرَّجُلَ كانَ إذا ماتَ ولَهُ امْرَأةٌ جاءَ ابْنُهُ؛ مِن غَيْرِها؛ أوْ قَرِيبُهُ مِن عَصَبَتِهِ؛ فَيُلْقِي ثَوْبَهُ عَلَيْها؛ فَيَصِيرُ أحَقَّ بِها مِن نَفْسِها؛ ومِن غَيْرِها؛ فَإنْ شاءَ تَزَوُّجَها بِغَيْرِ صَداقٍ إلّا الصَّداقَ الأوَّلَ؛ الَّذِي أصْدَقَها المَيِّتُ؛ وإنْ شاءَ زَوَّجَها غَيْرَهُ؛ وأخَذَ صَداقَها؛ وإنْ شاءَ عَضَلَها؛ ومَنَعَها مِنَ الأزْواجِ؛ يُضارُّها؛ لِتَفْتَدِيَ مِنهُ بِما ورِثَتْ مِنَ المَيِّتِ؛ أوْ تَمُوتَ هي فَيَرِثَها؛ وكانَ أهْلُ المَدِينَةِ عَلى هَذا؛ حَتّى تُوُفِّيَ (p-٢٢٤)أبُو قَيْسِ بْنُ الأسْلَتِ؛ فَفَعَلَ ابْنُهُ حِصْنٌ هَذا مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ؛ فَشَكَتْ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ رَوى البُخارِيُّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ؛ ”كانُوا إذا ماتَ الرَّجُلُ كانَ أوْلِياؤُهُ أحَقَّ بِامْرَأتِهِ؛ إنْ شاءَ بَعْضُهم تَزَوُّجَها؛ وإنْ شاؤُوا زَوَّجُوها؛ وإنْ شاؤُوا لَمْ يُزَوِّجُوها؛ وهم أحَقَّ بِها مِن أهْلِها؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ذَلِكَ؛ ﴿لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا﴾“؛ ولِهَذا أتْبَعَهُ - سُبْحانَهُ - قَوْلَهُ: ﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ﴾؛ أيْ: تَمْنَعُوهُنَّ مِنَ التَّزَوُّجِ بَعْدَ طَلاقِكم لَهُنَّ؛ أوْ بَعْدَ مَوْتِ أزْواجِهِنَّ؛ أوْ تُشَدِّدُوا عَلَيْهِنَّ بِالمُضارَّةِ؛ وهُنَّ في حَبائِلِكُمْ؛ قالَ البَيْضاوِيُّ: وأصْلُ العَضْلِ: التَّضْيِيقُ؛ يُقالُ: ”عَضَلَتِ الدَّجاجَةُ بَيْضَها“؛ انْتَهى؛ والظّاهِرُ أنَّ مَدارَ مادَّتِهِ إنَّما هو عَلى الِاشْتِدادِ؛ مِن عَضَلَةِ السّاقِ؛ وهي اللُّحْمَةُ الَّتِي في باطِنِهِ؛ ونَقَلَ عَبْدُ الحَقِّ أنَّها كُلُّ لَحْمٍ اجْتَمَعَ؛ قالَ: وقالَ الخَلِيلُ: كُلُّ لَحْمَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلى عَصَبَةٍ؛ انْتَهى؛ وتارَةً يَكُونُ الِاشْتِدادُ ناظِرًا إلى المَنعِ؛ وتارَةً إلى الغَلَبَةِ والضِّيقِ؛ ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ﴾؛ أيْ: أنْتُمْ؛ إنْ كُنَّ أزْواجًا لَكُمْ؛ أوْ مُوَرِّثُوكم إنْ كُنَّ أزْواجًا لَهُمْ؛ وعَضَلْتُمُوهُنَّ بَعْدَهُمْ؛ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ؛ بِسَبَبِ إنْفاقِهِنَّ لَهُ عَلى أنْفُسِهِنَّ في زَمَنِ العَضْلِ؛ (p-٢٢٥)أوْ بِسَبَبِ افْتِدائِهِنَّ لِأنْفُسِهِنَّ بِهِ مِنكُمْ؛ ثُمَّ اسْتَثْنى مِن تَحْرِيمِ العَضْلِ في جَمِيعِ الحالاتِ؛ فَقالَ: ﴿إلا أنْ﴾؛ أيْ: لا تَفْعَلُوا ذَلِكَ لِعِلَّةٍ مِنَ العِلَلِ؛ إلّا لِعِلَّةِ أنْ ﴿يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ﴾؛ أيْ: فِعْلَةٍ زائِدَةِ القُبْحِ؛ ﴿مُبَيِّنَةٍ﴾؛ أيْ: بِالشُّهُودِ الأرْبَعَةِ؛ إنْ كانَتْ زِنًا فاعْضُلُوهُنَّ بِالإمْساكِ في البُيُوتِ - كَما مَضى -؛ لِأنَّ مَن تَعَجَّلَ شَيْئًا قَبْلَ أوانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمانِهِ؛ أوْ بِمَن يُقْبَلُ مِنَ الشُّهُودِ؛ إنْ كانَتْ نُشُوزًا؛ وسُوءَ عِشْرَةٍ؛ فَلَكُمُ العَضْلُ حِينَئِذٍ إلى الصَّلاحِ؛ أوْ الِافْتِداءِ؛ بِما تَطِيبُ بِهِ النَّفْسُ؛ والأنْسَبُ لِسِياقِ الأمْرِ فِي: ﴿وعاشِرُوهُنَّ﴾؛ أنْ يَكُونَ ”تَعْضُلُوهُنَّ“؛ مُنْهِيًا؛ لا مَعْطُوفًا عَلى ”أنْ تَرِثُوا“؛ ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾؛ أيْ: مِنَ القَوْلِ؛ والفِعْلِ؛ بِالمَبِيتِ؛ والنَّفَقَةِ والمُوادَّةِ قَبْلَ الإتْيانِ بِالفاحِشَةِ؛ ﴿فَإنْ﴾؛ أيْ: إنْ كُنْتُمْ لا تَكْرَهُونَهُنَّ؛ فالأمْرُ واضِحٌ؛ وإنْ ﴿كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾؛ فَلا تُبادِرُوا إلى المُضاجَرَةِ؛ أوِ المُفارَقَةِ؛ واصْبِرُوا عَلَيْهِنَّ؛ نَظَرًا لِما هو الأصْلَحُ؛ لا لِمُجَرَّدِ المَيْلِ النَّفْسِيِّ؛ فَإنَّ الهَوى شَأْنُهُ ألّا يَدْعُوَ إلى خَيْرٍ؛ ثُمَّ دَلَّ عَلى هَذِهِ العِلَّةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَعَسى﴾؛ ولِوُضُوحِ دَلالَتِها عَلى ذَلِكَ صَحَّ جَعْلُها جَوابًا لِلشَّرْطِ؛ ﴿أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾؛ أيْ: مِنَ الأزْواجِ؛ أوْ غَيْرِها؛ لَمْ يُقَيِّدْهُ - سُبْحانَهُ - تَعْمِيمًا؛ تَتْمِيمًا لِلْفائِدَةِ؛ ﴿ويَجْعَلَ اللَّهُ﴾؛ أيْ: المُحِيطُ عِلْمًا وقُدْرَةً؛ وغَيَّبَ بِحِكْمَتِهِ عِلْمَكُمُ العَواقِبَ؛ (p-٢٢٦)لِئَلّا تَسْكُنُوا إلى مَأْلُوفٍ؛ أوْ تَنْفِرُوا مِن مَكْرُوهٍ؛ ﴿فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب