الباحث القرآني

(p-٩٤)﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أئِذا كُنّا تُرابًا وآباؤُنا أئِنّا لَمُخْرَجُونَ﴾ ﴿لَقَدْ وُعِدْنا هَذا نَحْنُ وآباؤُنا مِن قَبْلُ إنْ هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ في ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ﴾ ﴿ويَقُولُونَ مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ﴿قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلى النّاسِ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَشْكُرُونَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهم وما يُعْلِنُونَ﴾ ﴿وما مِن غائِبَةٍ في السَّماءِ والأرْضِ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أكْثَرَ الَّذِي هم فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ﴿وإنَّهُ لَهُدًى ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿إنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهم بِحُكْمِهِ وهو العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ ﴿فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ إنَّكَ عَلى الحَقِّ المُبِينِ﴾ ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ ﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهم مُسْلِمُونَ﴾ ﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهم دابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهم أنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ . لَمّا تَقَدَّمَ أنَّهُ تَعالى مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ الغَيْبِ، ومِن جُمْلَتِها وقْتُ السّاعَةِ، وأنَّهم لا شُعُورَ لَهم بِوَقْتِها، وأنَّ الكُفّارَ في شَكٍّ مِنها عَمُونَ، ناسَبَ ذِكْرُ مَقالاتِهِمْ في اسْتِبْعادِها، وأنَّ ما وُعِدُوا بِهِ مِن ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إنَّما ذَلِكَ ما سَطَرَ الأوَّلُونَ مِن غَيْرِ إخْبارٍ بِذَلِكَ عَنْ حَقِيقَةٍ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: ”أئِذا، أئِنّا“ بِالجَمْعِ بَيْنَ الِاسْتِفْهامَيْنِ؛ وقَلْبِ الثّانِيَةِ ياءً، وفَصَلَ بَيْنَهُما بِألِفٍ أبُو عَمْرٍو، وقَرَأهُما عاصِمٌ وحَمْزَةُ: بِهَمْزَتَيْنِ، ونافِعٌ: إذا بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، آيِنّا بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وقَلْبِ الثّانِيَةِ ياءً، وبَيْنَهُما مَدَّةٌ، والباقُونَ: آئِذا، بِاسْتِفْهامٍ مَمْدُودٍ، إنَّنا: بِنُونَيْنِ مِن غَيْرِ اسْتِفْهامٍ، والعامِلُ في إذا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلى مَضْمُونِ الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ: يَخْرُجُ، ويَمْتَنِعُ إعْمالُ ”لَمُخْرَجُونَ“ فِيهِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِن ”إنَّ“ و”لامِ“ الِابْتِداءِ والِاسْتِفْهامِ يَمْنَعُ أنْ يَعْمَلَ ما بَعْدَهُ فِيما قَبْلَهُ، إلّا اللّامَ الواقِعَةَ في خَبَرِ إنَّ، فَإنَّهُ يَتَقَدَّمُ مَعْمُولُ الخَبَرِ عَلَيْها وعَلى الخَبَرِ عَلى ما قُرِّرَ في عِلْمِ النَّحْوِ. وآباؤُنا: مَعْطُوفٌ عَلى اسْمِ كانَ، وحَسُنَ ذَلِكَ الفَصْلُ بِخَبَرِ كانَ. والإخْراجُ هُنا مِنَ القُبُورِ أحْياءً، مَرْدُودًا أرْواحُهم إلى الأجْسادِ، والجَمْعُ بَيْنَ الِاسْتِفْهامِ في ”إذا“ وفي ”إنّا“ إنْكارٌ عَلى إنْكارٍ، ومُبالَغَةٌ في كَوْنِ ذَلِكَ لا يَكُونُ، والضَّمِيرُ في ”أئِنّا“ لَهم ولِآبائِهِمْ؛ لِأنَّ صَيْرُورَتَهم تُرابًا، شامِلٌ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ ذَكَرُوا أنَّهم وُعِدُوا ذَلِكَ هم وآباؤُهم، فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِن هَذا المَوْعُودِ، ثُمَّ جَزَمُوا وحَصَرُوا أنَّ ذَلِكَ مِن أكاذِيبِ مَن تَقَدَّمَ. وجاءَ هُنا تَقْدِيمُ المَوْعُودِ بِهِ، وهو هَذا، وتَأخَّرَ في آيَةٍ أُخْرى عَلى حَسَبِ ما سِيقَ الكَلامُ لِأجْلِهِ. فَحَيْثُ تَأكَّدَ الإخْبارُ عَنْهم بِإنْكارِ البَعْثِ والآخِرَةِ، عَمَدُوا إلَيْها بِالتَّقْدِيمِ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِناءِ، وحَيْثُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَمَدُوا إلى إنْكارِ إيجادِ المَبْعُوثِ، فَقَدَّمُوهُ وأخَّرُوا المَوْعُودَ بِهِ، ثُمَّ أمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَأْمُرَهم بِالسَّيْرِ في الأرْضِ؛ وتَقَدَّمَ الكَلامُ في نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ في أوائِلِ الأنْعامِ. وأرادَ بِالمُجْرِمِينَ: الكافِرِينَ، ثُمَّ سَلّى نَبِيَّهُ فَقالَ: ﴿ولا تَحْزَنُ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ في كَوْنِهِمْ لَمْ يُسْلِمُوا ولَمْ يُذْعِنُوا إلى ما جِئْتَ بِهِ ﴿ولا تَكُنْ في ضَيْقٍ﴾ أيْ في حَرَجٍ وأمْرٍ شاقٍّ عَلَيْكَ مِمّا يَمْكُرُونَ ) فَإنَّ مَكْرَهم لاحِقٌ بِهِمْ، لا بِكَ، واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنهم. وتَقَدَّمَتْ قِراءَةُ ”ضِيقٍ“، (p-٩٥)بِكَسْرِ الضّادِ وفَتْحِها، وهُما مَصْدَرانِ. وكَرِهَ أبُو عَلِيٍّ أنْ يَكُونَ المَفْتُوحُ الضّادَ، أصْلُهُ ضَيِّقٌ، بِتَشْدِيدِ الياءِ فَخُفِّفَ، كَلَيْنٍ في لَيِّنٍ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَذْفَ المَوْصُوفِ وإقامَةَ الصِّفَةِ مَقامَهُ، ولَيْسَتْ مِنَ الصِّفاتِ الَّتِي تَقُومُ مَقامَ المَوْصُوفِ بِاطِّرادٍ. وأجازَ ذَلِكَ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ في أمْرٍ ضَيِّقٍ مِن مَكْرِهِمْ. ولَمّا اسْتَعْجَلَتْ قُرَيْشٌ بِأمْرِ السّاعَةِ، أوْ بِالعَذابِ المَوْعُودِ بِهِ هم، وسَألُوا عَنْ وقْتِ المَوْعُودِ بِهِ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، قِيلَ لَهُ: قُلْ عَسى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكم بَعْضُهُ: أيْ تَبِعَكم عَنْ قُرْبٍ وصارَ كالرَّدِيفِ التّابِعِ لَكم بَعْضُ ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ، وهو كانَ عَذابَ يَوْمِ بَدْرٍ. وقِيلَ: عَذابُ القَبْرِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: رَدِفَ، بِكَسْرِ الدّالِ. وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزٍ: بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ، وأصْلُهُ التَّعَدِّي بِمَعْنى تَبِعَ ولَحِقَ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مُضَمَّنًا مَعْنى اللّازِمِ، ولِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ بِأزِفَ وقَرُبَ لَمّا كانَ يَجِيءُ بَعْدَ الشَّيْءِ قَرِيبًا مِنهُ ضِمْنَ مَعْناهُ، أوْ مَزِيدًا، اللّامُ في مَفْعُولِهِ لِتَأْكِيدِ وصُولِ الفِعْلِ إلَيْهِ، كَما زِيدَتِ الباءُ في: ﴿ولا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥] قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وقَدْ عُدِّيَ بِمَن عَلى سَبِيلِ التَّضْمِينِ لِما يَتَعَدّى بِها، وقالَ الشّاعِرُ: ؎فَلَمّا رَدِفْنا مِن عُمَيْرٍ وصَحْبِهِ تَوَلَّوْا سِراعًا والمَنِيَّةُ تَنْعِقُ أيْ دَنَوْا مِن عُمَيْرٍ. وقِيلَ: رَدِفَهُ ورَدِفَ لَهُ، لُغَتانِ. وقِيلَ: الفِعْلُ مَحْمُولٌ عَلى المَصْدَرِ، أيِ الرّادِفَةُ لَكم. و”بَعْضُ“ عَلى تَقْدِيرِ رِدافَةِ بَعْضِ ما تَسْتَعْجِلُونَ، وهَذا فِيهِ تَكَلُّفٌ يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْهُ. وقِيلَ: اللّامُ في لَكم داخِلَةٌ عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، والمَفْعُولُ بِهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: رَدِفَ الخَلْقَ لِأجْلِكم، وهَذا ضَعِيفٌ. وقِيلَ: الفاعِلُ بِرَدِفَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى الوَعْدِ، ثُمَّ قالَ: لَكم بَعْضُ ما تَسْتَعْجِلُونَ عَلى المُبْتَدَأِ والخَبَرِ، وهَذا فِيهِ تَفْكِيكٌ لِلْكَلامِ، وخُرُوجٌ عَنِ الظّاهِرِ لِغَيْرِ حاجَةٍ تَدْعُو إلى ذَلِكَ. ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾ أيْ أفْضالٍ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ مُعاجَلَتِهِمْ بِالعُقُوبَةِ عَلى مَعاصِيهِمْ وكُفْرِهِمْ، ومُتَعَلِّقُ يَشْكُرُونَ مَحْذُوفٌ، أيْ لا يَشْكُرُونَ نِعَمَهُ عِنْدَهم، أوْ لا يَشْكُرُونَ بِمَعْنى: لا يَعْرِفُونَ حَقَّ النِّعْمَةِ، عَبَّرَ عَنِ انْتِفاءِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالنِّعْمَةِ، بِانْتِفاءِ ما يَتَرَتَّبُ عَلى مَعْرِفَتِها، وهو الشُّكْرُ. ثُمَّ أخْبَرَ - تَعالى - بِسَعَةِ عِلْمِهِ، فَبَدَأ بِما يَخُصُّ الإنْسانَ، ثُمَّ عَمَّ كُلَّ غائِبَةٍ وعَبَّرَ بِالصُّدُورِ، وهي مَحَلُّ القُلُوبِ الَّتِي لَها الفِكْرُ والتَّعَقُّلُ، كَما قالَ: ﴿ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦] عَنِ الحالِ فِيها، وهي القُلُوبُ، وأسْنَدَ الإعْلانَ إلى ذَواتِهِمْ؛ لِأنَّ الإعْلانَ مِن أفْعالِ الجَوارِحِ. ولَمّا كانَ المُضْمَرُ في الصَّدْرِ هو الدّاعِي لِما يَظْهَرُ عَلى الجَوارِحِ، والسَّبَبُ في إظْهارِهِ قِدَمُ الإكْنانِ عَلى الإعْلامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (ما تُكِنُّ) مَن أكَنَّ الشَّيْءَ: أخْفاهُ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ، وحُمَيْدٌ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ الكافِ، مِن كَنَّ الشَّيْءَ: سَتَرَهُ، والمَعْنى: ما يُخْفُونَ وما يُعْلِنُونَ مِن عَداوَةِ الرَّسُولِ ومَكايِدِهِمْ. والظّاهِرُ عُمُومُ قَوْلِهِ: ”مِن غائِبَةٍ“، أيْ ما مِن شَيْءٍ في غايَةِ الغَيْبُوبَةِ والخَفاءِ إلّا في كِتابٍ عِنْدَ اللَّهِ ومَكْنُونِ عِلْمِهِ. وقِيلَ: ما غابَ عَنْهم مِن عَذابِ السَّماءِ والأرْضِ. وقِيلَ: هو يَوْمُ القِيامَةِ وأهْوالُها، قالَهُ الحَسَنُ. والكِتابُ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ. وقِيلَ: أعْمالُ العِبادِ أُثْبِتَتْ لِيُجازَيَ عَلَيْها. وقالَ صاحِبُ الغُنْيانِ: أيْ حادِثَةٍ غائِبَةٍ، أوْ نازِلَةٍ واقِعَةٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أيْ ما مِن شَيْءٍ سِرٍّ في السَّماواتِ والأرْضِ وعَلانِيَةٍ، فاكْتَفى بِذِكْرِ السِّرِّ عَنْ مُقابِلِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَغِيبُ ويَخْفى غائِبَةً وخافِيَةً، فَكانَتِ التّاءُ فِيهِما بِمَنزِلَتِها في العاقِبَةِ والعافِيَةِ، ونَظِيرُهُما: النَّطِيحَةُ والذَّبِيحَةُ والرَّمِيَّةُ في أنَّها أسْماءٌ غَيْرُ صِفاتٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونا صِفَتَيْنِ وتاؤُهُما لِلْمُبالَغَةِ، كالرِّوايَةِ في قَوْلِهِمْ: ويْلٌ لِلشّاعِرِ مِن رِوايَةِ السُّوءِ، كَأنَّهُ قالَ: وما مِن شَيْءٍ شَدِيدِ الغَيْبُوبَةِ والخَفاءِ، إلّا وقَدْ عَلِمَهُ اللَّهُ وأحاطَ بِهِ وأثْبَتَهُ في اللَّوْحِ المُبِينِ الظّاهِرِ لِمَن يَنْظُرُ فِيهِ مِنَ المَلائِكَةِ. انْتَهى. ولَمّا ذَكَرَ - تَعالى - المَبْدَأ والمَعادَ، ذَكَرَ ما يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، وكانَ المُعْتَمَدُ الكَبِيرُ في إثْباتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ هو القُرْآنُ. ومِن جُمْلَةِ إعْجازِهِ إخْبارُهُ بِما تَضَمَّنَ مِنَ القَصَصِ، المُوافِقِ (p-٩٦)لِما في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يُخالِطِ العُلَماءَ ولا اشْتَغَلَ بِالتَّعْلِيمِ. وبَنُو إسْرائِيلَ هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى. قَصَّ فِيهِ أكْثَرَ ما اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلى وجْهِهِ، وبَيَّنَهُ لَهم، ولَوْ أنْصَفُوا أسْلَمُوا. ومِمّا اخْتَلَفُوا فِيهِ أمْرُ المَسِيحِ، تَحَزَّبُوا فِيهِ، فَمِن قائِلٍ هو اللَّهُ، ومِن قائِلٍ ابْنُ اللَّهِ، ومِن قائِلٍ ثالِثُ ثَلاثَةٍ، ومِن قائِلٍ هو نَبِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ، وقَدْ عَقَدُوا لَهُمُ اجْتِماعاتٍ، وتَبايَنُوا في العَقائِدِ، وتَناكَرُوا في أشْياءَ حَتّى لَعَنَ بَعْضُهم بَعْضًا، والظّاهِرُ عُمُومُ المُؤْمِنِينَ. وقِيلَ لِمَن آمَنَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ. والقَضاءُ والحُكْمُ: وإنْ ظَهَرَ أنَّهُما مُتَرادِفانِ، فَقِيلَ: المُرادُ بِهِ هُنا العَدْلُ، أيْ بِعَدْلِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَقْضِي إلّا بِالعَدْلِ، وقِيلَ: المُرادُ بِحِكْمَتِهِ الحُكْمُ. قِيلَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ مَن قَرَأ بِحِكَمِهِ، بِكَسْرِ الحاءِ وفَتْحِ الكافِ، جَمْعُ حِكْمَةٍ، وهو جَناحُ بْنُ جَيْشٍ. ولَمّا كانَ القَضاءُ يَقْتَضِي تَنْفِيذَ ما يَقْضِي بِهِ، والعِلْمَ بِما يَحْكُمُ بِهِ، جاءَتْ هاتانِ الصِّفَتانِ عَقِبَهُ، وهو العِزَّةُ: أيِ الغَلَبَةُ والقُدْرَةُ والعِلْمُ. ثُمَّ أمَرَهُ - تَعالى - بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وأخْبَرَهُ أنَّهُ عَلى الحَقِّ الواضِحِ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، وهو كالتَّعْلِيلِ لِلتَّوَكُّلِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ مَن كانَ عَلى الحَقِّ يَحِقُّ لَهُ أنْ يَثِقَ بِاللَّهِ، فَإنَّهُ يَنْصُرُهُ ولا يَخْذُلُهُ. ولَمّا كانَ القُرْآنُ وما قَصَّ اللَّهُ فِيهِ لا يَكادُ يُجْدِي عِنْدَهم، أخْبَرَ - تَعالى - عَنْهم أنَّهم مَوْتى القُلُوبِ، أوْ شُبِّهُوا بِالمَوْتى، وإنْ كانُوا أحْياءً صِحاحَ الأبْصارِ؛ لِأنَّهم إذا تُلِيَ عَلَيْهِمْ لا تَعِيهِ آذانُهم، فَكانَتْ حالُهم لِانْتِفاءِ جَدْوى السَّماعِ كَحالِ المَوْتى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”ولا تَسْمَعُ الصُّمُّ“ هُنا - وفي الرُّومِ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ المِيمِ - الصُّمُّ بِالرَّفْعِ، ولَمّا كانَ المَيِّتُ لا يُمْكِنُ أنْ يَسْمَعَ، لَمْ يُذْكَرْ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، بَلْ نَفى الإسْماعَ، أيْ لا يَقَعُ مِنكَ إسْماعٌ لَهم ألْبَتَّةَ لِعَدَمِ القابِلِيَّةِ. وأمّا الأصَمُّ فَقَدْ يَكُونُ في وقْتٍ يُمْكِنُ إسْماعُهُ وسَماعُهُ، فَأتى بِمُتَعَلِّقِ الفِعْلِ وهو الدُّعاءُ. و”إذا“ مَعْمُولَةٌ لِـ ”تَسْمَعُ“، وقَيَّدَ نَفْيَ الإسْماعِ أوِ السَّماعِ بِهَذا الطَّرَفِ وما بَعْدَهُ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ لِحالِ الأصَمِّ؛ لِأنَّهُ إذا تَباعَدَ عَنِ الدّاعِي بِأنْ يُوَلِّيَ مُدْبِرًا، كانَ أبْعَدَ عَنْ إدْراكِ صَوْتِهِ. شَبَّهَهم أوَّلًا بِالمَوْتى، ثُمَّ بِالصُّمِّ في حالَةٍ، ثُمَّ بِالعَمى، فَقالَ: ﴿وما أنْتَ بِهادِي العُمْيِ﴾ حَيْثُ يَضِلُّونَ الطَّرِيقَ، فَلا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَنْزِعَ ذَلِكَ عَنْهم ويُحَوِّلَهم هُداةً بُصَراءَ إلّا اللَّهُ - تَعالى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِهادِي العُمْيِ، اسْمُ فاعِلٍ مُضافٌ؛ ويَحْيَـى بْنُ الحارِثِ، وأبُو حَيْوَةَ: بِهادٍ - مُنَوَّنًا - ”العُمْيَ“؛ والأعْمَشُ، وطَلْحَةُ، وابْنُ وثّابٍ، وابْنُ يَعْمُرَ، وحَمْزَةُ: تَهْدِي، مُضارِعُ هَدى، ”العُمْيَ“ بِالنَّصْبِ؛ وابْنُ مَسْعُودٍ: وما أنْتَ تَهْتَدِي، بِزِيادَةِ أنْ بَعْدَ ما، ويَهْتَدِي مُضارِعُ اهْتَدى، والعُمْيُ بِالرَّفْعِ، والمَعْنى: لَيْسَ في وُسْعِكَ إدْخالُ الهُدى في قَلْبِ مَن عَمِيَ عَنِ الحَقِّ ولَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِهِ. ﴿إنْ تُسْمِعُ إلّا مَن يُؤْمِنُ بِآياتِنا﴾ وهُمُ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أنَّهم يُصَدِّقُونَ بِآياتِهِ. ﴿فَهم مُسْلِمُونَ﴾ مُنْقادُونَ لِلْحَقِّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ، مِن قَوْلِهِ: ﴿بَلى مَن أسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١١٢] بِمَعْنى جَعَلَهُ سالِمًا لِلَّهِ خالِصًا. انْتَهى. ﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ إذا انْتَجَزَ وعْدُ عَذابِهِمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ القَوْلُ الأزَلِيُّ مِنَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذابِ﴾ [الزمر: ٧١] فالمَعْنى: إذا أرادَ اللَّهُ أنْ يُنْفِذَ في الكافِرِينَ سابِقَ عِلْمِهِ فِيهِمْ مِنَ العَذابِ، أخْرَجَ لَهم دابَّةً تَنْفُذُ مِنَ الأرْضِ. ووَقَعَ: عِبارَةٌ عَنِ الثُّبُوتِ واللُّزُومِ، و”القَوْلُ“ إمّا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ مَضْمُونُ القَوْلِ، وإمّا أنَّهُ أطْلَقَ القَوْلَ عَلى المَقُولِ، لَمّا كانَ المَقُولُ مُؤَدًّى بِالقَوْلِ، وهو ما وُعِدُوا بِهِ مِن قِيامِ السّاعَةِ والعَذابِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ يَكُونُ بِمَوْتِ العُلَماءِ، وذَهابِ العِلْمِ، ورَفْعِ القُرْآنِ. انْتَهى. ورُوِيَ أنَّ خُرُوجَها حِينَ يَنْقَطِعُ الخَيْرُ، ولا يُؤْمَرُ بِمَعْرُوفٍ، ولا يُنْهى عَنْ مُنْكَرٍ، ولا يَبْقى مُنِيبٌ ولا تائِبٌ. وفي الحَدِيثِ: «أنَّ الدّابَّةَ وطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ مِن أوَّلِ الأشْراطِ»، ولَمْ يُعَيِّنِ الأوَّلَ، وكَذَلِكَ الدَّجّالُ؛ وظاهِرُ الأحادِيثِ أنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ آخِرُها، والظّاهِرُ أنَّ الدّابَّةَ الَّتِي تَخْرُجُ هي واحِدَةٌ. ورُوِيَ أنَّهُ يَخْرُجُ في كُلِّ بَلَدٍ دابَّةٌ مِمّا هو مَثْبُوتٌ نَوْعُها في الأرْضِ، ولَيْسَتْ واحِدَةً، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (دابَّةً) اسْمَ جِنْسٍ. واخْتَلَفُوا في ماهِيَّتِها، وشَكْلِها، ومَحَلِّ خُرُوجِها، وعَدَدِ خُرُوجِها، ومِقْدارِ ما تَخْرُجُ مِنها، وما تَفْعَلُ بِالنّاسِ، وما الَّذِي تَخْرُجُ (p-٩٧)بِهِ، اخْتِلافًا مُضْطَرِبًا مُعارِضًا بَعْضُهُ بَعْضًا، ويُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ فاطَّرَحْنا ذِكْرَهُ؛ لِأنَّ نَقْلَهُ تَسْوِيدٌ لِلْوَرَقِ بِما لا يَصِحُّ، وتَضْيِيعٌ لِزَمانِ نَقْلِهِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، مِنَ الكَلامِ؛ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ: تُنَبِّئُهم، وفي بَعْضِ القِراءاتِ: تُحَدِّثُهم، وهي قِراءَةُ يَحْيَـى بْنِ سَلّامٍ؛ وقِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: بِأنَّ النّاسَ. قالَ السُّدِّيُّ: تُكَلِّمُهم بِبُطْلانِ سائِرِ الأدْيانِ سِوى الإسْلامِ. وقِيلَ: تُخاطِبُهم، فَتَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ: هَذا مُؤْمِنٌ، ولِلْكافِرِ: هَذا كافِرٌ. وقِيلَ مَعْنى ”تُكَلِّمُهم“: تَجْرَحُهم مِنَ الكَلْمِ، والتَّشْدِيدُ لِلتَّكْثِيرِ؛ ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ، وأبِي زُرْعَةَ، والجَحْدَرَيِّ، وأبِي حَيْوَةَ، وابْنِ أبِي عَبْلَةَ: تَكْلِمُهم، بِفَتْحِ التّاءِ وسُكُونِ الكافِ مُخَفَّفَ اللّامِ، وقِراءَةُ مَن قَرَأ: تَجْرَحُهم مَكانَ تَكْلِمُهم. وسَألَ أبُو الحَوْراءِ ابْنَ عَبّاسٍ: تُكَلِّمُ أوْ تَكْلِمُ ؟ فَقالَ: كُلُّ ذَلِكَ تَفْعَلُ، تُكَلِّمُ المُؤْمِنَ وتَكْلِمُ الكافِرَ. انْتَهى. ورُوِيَ: أنَّها تَسِمُ الكافِرَ في جَبْهَتِهِ وتُرْبِدُهُ، وتَمْسَحُ عَلى وجْهِ المُؤْمِنِ فَتُبَيِّضُهُ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (أنَّ النّاسَ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وابْنُ مَسْعُودٍ: ”بِأنَّ“ وتَقَدَّمَ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: ”إنَّ“، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، فاحْتُمِلَ الكَسْرُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ، وهو الظّاهِرُ لِقَوْلِهِ: (بِآياتِنا) واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ الدّابَّةِ. ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وكُسِرَتْ إنَّ هَذا عَلى القَوْلِ، إمّا عَلى إضْمارِ القَوْلِ، أوْ عَلى إجْراءِ ”تُكَلِّمُهم“ إجْراءَ تَقُولُ لَهم. ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿بِآياتِنا﴾ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أوْ لِاخْتِصاصِها بِاللَّهِ؛ كَما تَقُولُ بَعْضُ خَواصِّ المَلِكِ: خَيْلُنا وبِلادُنا، وعَلى قِراءَةِ الفَتْحِ، فالتَّقْدِيرُ بِأنَّ كَقِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، والظّاهِرُ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ ”تُكَلِّمُهم“، أيْ تُخاطِبُهم بِهَذا الكَلامِ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الباءُ المَنطُوقُ بِها أوِ المُقَدَّرَةُ سَبَبِيَّةً، أيْ تُخاطِبُهم أوْ تَجْرَحُهم بِسَبَبِ انْتِفاءِ إيقانِهِمْ بِآياتِنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب