الباحث القرآني

ولَمّا فَرَغَ مِن عَظِيمِ زَجْرِهِمْ بِتَسْلِيَتِهِ ﷺ في أمْرِهِمْ وخَتَمَ بِالإسْلامِ، عَطَفَ عَلَيْهِ ذِكْرَ ما يُوعَدُونَ مِمّا تَقَدَّمَ اسْتِعْجالَهم لَهُ اسْتِهْزاءً (p-٢١٥)بِهِ، وبَدَأ مِنهُ بِالدّابَّةِ الَّتِي تُمَيِّزُ المُسْلِمَ مِن غَيْرِهِ، فَقالَ مُحَقِّقًا بِأداةِ التَّحْقِيقِ: ﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ﴾ أيْ: حانَ حِينَ وُقُوعِ الوَعِيدِ الَّذِي هو مَعْنى القَوْلِ، وكَأنَّهُ لِعِظَمِهِ لا قَوْلَ غَيْرِهِ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ بَعْضُهُ بِالإتْيانِ حَقِيقَةً وبَعْضُهُ بِالقُرْبِ جِدًّا ﴿أخْرَجْنا﴾ [أيْ: ] بِما لَنا مِنَ العَظَمَةِ ﴿لَهُمْ﴾ مِن أشْراطِ السّاعَةِ ﴿دابَّةً﴾ وأيُّ دابَّةٍ في هَوْلِها وعِظَمِها خَلْقًا وخُلُقًا ﴿مِنَ الأرْضِ﴾ أيْ: أرْضِ مَكَّةَ الَّتِي هي أمُّ الأرْضِ، لِأنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ إرْسالِ أكْمَلِ الخَلْقِ بِأعْلى الكُتُبِ إلّا كَشْفُ الغِطاءِ. ولَمّا كانَ التَّعْبِيرُ بِالدّابَّةِ يُفْهِمُ أنَّها كالحَيَواناتِ العُجْمِ لا كَلامَ لَها قالَ: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ أيْ: بِكَلامٍ يَفْهَمُونَهُ، رَوى البَغَوِيُّ مِن طَرِيقِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ أوَّلَ الآياتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وخُرُوجُ الدّابَّةِ عَلى النّاسِ ضُحًى، وأيَّتَهُما كانَتْ قَبْلَ صاحِبَتِها فالأُخْرى عَلى أثَرِها قَرِيبًا»، ومِن طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ أبِي شُرَيْحَةَ الغِفارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «يَكُونُ لِلدّابَّةِ ثَلاثُ خُرُجاتٍ مِنَ الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خُرُوجًا بِأقْصى اليَمَنِ فَيَفْشُو ذِكْرُها بِالبادِيَةِ، ولا يَدْخُلُ ذِكْرُها القَرْيَةَ - يَعْنِي مَكَّةَ - ثُمَّ تَمَكَّنَ زَمانًا طَوِيلًا، ثُمَّ تَخْرُجُ خُرْجَةً أُخْرى [قَرِيبًا] مِن مَكَّةَ فَيَفْشُو ذِكْرُها بِالبادِيَةِ ويَدْخُلُ ذِكْرُها القَرْيَةَ، ثُمَّ بَيْنَما (p-٢١٦)النّاسُ يَوْمًا في أعْظَمِ المَساجِدِ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ حُرْمَةً وأكْرَمِها عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ - يَعْنِي المَسْجِدَ الحَرامَ - لَمْ يَرُعْهم إلّا وهي في ناحِيَةِ المَسْجِدِ تَدْنُو وتَدْنُو -كَذا قالَ عَمْرٌو - يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ العَبْقَرِيَّ أحَدَ رُواةِ الحَدِيثِ ما بَيْنَ الرُّكْنِ الأسْوَدِ إلى بابِ بَنِي مَخْزُومٍ عَنْ يَمِينِ الخارِجِ في وسَطِ ذَلِكَ، فارْفَضَّ النّاسُ عَنْها وثَبَتَ لَها عِصابَةٌ عَرَفُوا أنَّهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ تَنْفُضُ رَأْسَها مِنَ التُّرابِ، فَمَرَّتْ بِهِمْ فَجَلَتْ عَنْ وُجُوهِهِمْ حَتّى تَرَكَتْها كَأنَّها الكَواكِبُ الدُّرِّيَّةُ، ثُمَّ ولَّتْ في الأرْضِ لا يُدْرِكُها طالِبٌ، ولا يُعْجِزُها هارِبٌ، حَتّى أنَّ الرَّجُلَ لَيَقُومُ فَيَتَعَوَّذُ مِنها بِالصَّلاةِ، فَتَأْتِيهِ مِن خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يا فُلانُ! الآنَ تُصَلِّي، فَيُقْبِلُ عَلَيْها بِوَجْهِهِ فَتَسِمُهُ في وجْهِهِ، فَيَتَجاوَرُ النّاسُ في دِيارِهِمْ، ويَصْطَحِبُونَ في أسْفارِهِمْ، ويَشْتَرِكُونَ في الأمْوالِ، يُعْرَفُ الكافِرُ مِنَ المُؤْمِنِ، فَيُقالُ لِلْمُؤْمِنِ: يا مُؤْمِنُ، ويُقالُ لِلْكافِرِ: يا كافِرُ»؛ ومِن طَرِيقِ الإمامِ أحْمَدَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «تَخْرُجُ الدّابَّةُ ومَعَها عَصا مُوسى، وخاتَمُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِما السَّلامُ، فَتَجْلُو وجْهَ المُؤْمِنِ بِالعَصا، وتَخْطِمُ أنْفَ الكافِرِ بِالخاتَمِ، حَتّى أنَّ أهْلَ الخِوانِ (p-٢١٧)لَيَجْتَمِعُونَ فَيَقُولُ هَذا: يا مُؤْمِنُ، وهَذا: يا كافِرُ» . ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحانَهُ إخْراجَهُ لَها بِقَوْلِهِ: ﴿أنَّ النّاسَ﴾ أيْ: بِما هم ناسٌ لَمْ يَصِلُوا إلى أوَّلِ أسْنانِ الإيمانِ، وهو سِنُّ الَّذِينَ آمَنُوا بَلْ هم نائِسُونَ مُتَرَدِّدُونَ مُذَبْذَبُونَ تارَةً، وتارَةً ﴿كانُوا﴾ أيْ: [كَوْنًا] هو لَهم كالجِبِلَّةِ ﴿بِآياتِنا﴾ أيْ: المَرْئِيّاتِ الَّتِي كَتَبْناها بِعَظَمَتِنا في ذَواتِ العالَمِ، والمَسْمُوعاتِ المَتْلُوّاتِ، الَّتِي أتَيْناهم بِها عَلى ألْسِنَةِ أكْمَلِ [الخَلْقِ: ] الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، حَتّى خَتَمْناهم بِإمامِهِمُ الَّذِي هو أكْمَلُ العالَمِينَ، قَطْعًا لِحِجاجِهِمْ، ورَدّا عَنْ لَجاجِهِمْ، ولِذا عَمَّمْنا بِرِسالَتِهِ وأوْجَبْنا عَلى جَمِيعِ العَقْلِ اتِّباعَهُ ﴿لا يُوقِنُونَ﴾ مِنَ اليَقِينِ، وهو إتْقانُ العِلْمِ بِنَفْيِ الشُّبَهِ بَلْ هم فِيها مُزَلْزَلُونَ، فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ ﷺ إلّا كَشْفُ الغِطاءِ عَمّا لَيْسَ مِن جِنْسِ البَشَرِ بِما لا تَثْبُتُ لَهُ عُقُولُهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب