(p-٤٦٨٦)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[٨٢] ﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهم دابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهم أنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾
﴿وإذا وقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنا لَهم دابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهم أنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ في هَذا الوَعِيدِ وُجُوهًا مِنَ التَّأْوِيلِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ دُنْيَوِيٌّ، عَنى بِهِ نَصْرَ الرَّسُولِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِمْ. والمَعْنى أنَّ أُولَئِكَ الصُّمَّ عَنْ سَماعِ الآياتِ، العُمْيَ عَنِ النَّظَرِ فِيها، الجاحِدِينَ لَها، سَيَأْتِيهِمْ أنْباءُ حَقِيقَةِ ما كانُوا يَدْعُونَ إلَيْهِ مِن نَصْرِ الدّاعِي وهو الرَّسُولُ وأتْباعُهُ، وتَكْثِيرُ سَوادِهِمْ حَتّى يَظْفَرُوا بِمُناوِئِيهِمْ. ويَظْهَرُوا عَلى عَدُوِّهِمْ. وذَلِكَ بِأنْ تَدِبَّ إلَيْهِمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ دابَّةٌ عُظْمى تَمْلَأُ السَّهْلَ والرُّبا، تُزَلْزِلُ أرْكانِهِمْ وتَهْدِمُ بُنْيانَهم وتُقَوِّضُ خِيامَهم وتَدُكُّ أعْلامَهم. فَتُكَلِّمُهم حِينَئِذٍ بِلِسانِ الحالِ أوِ المَقالِ، بِأنَّهم إنَّما أُخِذُوا بِالعِقابِ، وحَلَّ بِهِمْ شَدِيدُ العَذابِ لِضَلالِهِمْ وإضْلالِهِمُ العِبادَ. وسَعْيِهِمْ في الأرْضِ الفَسادَ. فَإنَّ الإيمانَ دِعامَةُ الصَّلاحِ والإصْلاحِ. وقائِدُ الفَلاحِ والنَّجاحِ، وقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ لِعِبادِهِ المُرْسَلِينَ إنَّهم لَهُمُ المَنصُورُونَ، وإنَّ جُنْدَهُ لَهُمُ الغالِبُونَ. وقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وعْدَهُ. وأعَزَّ جُنْدَهُ.
والوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الدّابَّةَ حَيَوانٌ بِخِلافِ ما نَعْرِفُهُ. يَخْتَصُّ خُرُوجُها بِحِينِ القِيامَةِ، قالَ بَعْضُهُمْ: والمَعْنى إذا قامَتِ القِيامَةُ بَعَثَ اللَّهُ نَوْعًا مَخْصُوصًا مِن دَوابِّ هَذِهِ الأرْضِ، كَما يَبْعَثُ غَيْرُهُ مِن أنْواعِ الدَّوابِّ الأُخْرى. ويُنْطِقُهُ فَيُوَبِّخُ الإنْسانَ عَلى كُفْرِهِ، كَما يُنْطِقُ أعْضاءَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ أيْضًا. قالَ: فَلَيْسَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: "دابَّةً" الفَرْدَ، بَلِ النَّوْعَ. كَما في قَوْلِكَ: أرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دُودَةً أتْلَفَتْ زَرْعَهُمْ، أيْ: دِيدانًا كَثِيرَةً، مِن نَوْعٍ واحِدٍ مَخْصُوصٍ.
وقَدْ رُوِيَ فِيها أحادِيثُ وآثارٌ كَثِيرَةٌ، لَمْ يُصَحِّحِ البُخارِيُّ مِنها شَيْئًا، لِاضْطِرابِ مُتُونِها (p-٤٦٨٧)وضَعْفِ رِجالِها. وأمْثَلُ مَأْثُورِها ما أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: ««إنَّ أوَّلَ الآياتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، وخُرُوجُ الدّابَّةِ عَلى النّاسِ ضُحًى. وأيُّهُما ما كانَتْ قَبْلَ صاحِبَتِها، فالأُخْرى عَلى إثْرِها قَرِيبًا»» .
ومَعْلُومٌ أنَّ أُمُورَ الآخِرَةِ مِن عالَمِ الغَيْبِ. ولا يُؤْخَذُ فِيها إلّا بِما كانَ قَطْعِيَّ الثُّبُوتِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: نَقَلَهُ الرّاغِبُ في مُفْرَداتِهِ قالَ: وقِيلَ عَنى بِالدّابَّةِ الأشْرارَ الَّذِينَ هم في الجَهْلِ بِمَنزِلَةِ الدَّوابِّ. فَتَكُونُ الدّابَّةُ جَمْعًا، اسْمًا لِكُلِّ ما يَدِبُّ. نَحْوَ: خائِنَةٍ جَمْعِ خائِنٍ. انْتَهى.
ولَعَلَّ الآيَةَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٩٦] ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإذا هي شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا ويْلَنا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مِن هَذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٩٧] فَإنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ كالدّابَّةِ، لِما يُغَطِّي بِدَبِيبِهِ وجْهَ الأرْضِ- فَهو مَثَلٌ في الكَثْرَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَیۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَاۤبَّةࣰ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا لَا یُوقِنُونَ"}